الاعتراضات على علم الأخلاق النظري، ومناقشتها
في القرن الماضي (التاسع عشر الميلادي) ظهرت في فرنسا مدرسةٌ فلسفيَّة جديدة، أسْمَتْ نفسها «المدرسة الاجتماعيَّة»، ومهَّد لها «أوجيست كونت» بفلسفته الواقعيَّة، وكان من أكبر دُعاتها «إميل دوركايم» و«ليسيان ليفي بريل»، اللذان حاولا هدم النظريات القديمة في الدين، والفلسفة، والمنطق، والأخلاق، قائلين إنها لا تهبط من السماء، ولا تنبُع من عقليَّة الفرد، بل هي وليدة العقل المشترك، الذي هو ضرورة من ضرورات الحياة الاجتماعية.
ولْنقصُر بحثنا هنا على الحملات التي وجَّهتها هذه المدرسة إلى علم الأخلاق، فقد ذهب «ليفي بريل» في كتابه الذي وضعه في أول هذا القرن «العشرين» تحت عنوان «الأخلاق وعلم الآداب العرفية» إلى أنه لا يُوجَد ولا يمكن أن يُوجَد علمٌ نظري للأخلاق، وأيَّد دعواه بأربعة أوجه، نوجزها فيما يلي:
(١) أن فكرة «فلسفة عملية» هي ذاتها فكرة متناقضة.
(٢) أنها على فرض إمكانها فإنها عبث ليس له جدوى.
(٣)، (٤) أنها مبنية على فرضَيْنِ غير مسلَّمين؛ أحدهما: أن الفطرة الإنسانية واحدة في الناس جميعًا، لا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، والثاني: أن الوجدان الخُلقي وحدة لا تتنازعها العوامل المتباينة، وأن الواجبات الأخلاقية مجموعة متماسكة لا تنافُرَ فيها ولا تعارُض.
وسنرى عند بَسْط هذه الاعتراضات أنها وإن كانت تتجه في شطرها الأول إلى إبطال القسم النظري وحده، إلَّا أن شطرها الأخير يهدف إلى إبطال القسمين: النظري، والعملي جميعًا. والواقع أن مهمة هذه الفلسفة محْوُ كلمة الوجوب من معاجم الأخلاق كليةً، بحجة أن السؤال «عما يجب أن يكون» لا محلَّ له في العلوم، وأن مطلب العلم إنما هو البحث «عما هو كائن» فالذي تُطلَب دراسته في الأخلاق هو: «ماذا يفعل المجتمع في الواقع؟ وماذا يترك؟» وهكذا يريدون أن يصبح علمُ الأخلاق فرعًا من فروع علم الاجتماع، يُسمَّى علم الآداب العرفية، أو علم الاجتماع الأخلاقي، وتقتصر مهمَّته على وصف سلوك الناس وأخلاقهم على ما هي عليه لا كما يجب أن تكون. فلْنَعُد إلى بسْطِ الاعتراضات الأربعة ومناقشتها:
تقرير الاعتراض الأول، وهو التناقُض في فكرة الفلسفة العملية
بيان ذلك أنَّ من طبيعة الفلسفة أو العلم النظري أنها تبحث عن الحقائق وتكشفها على ما هي عليه في الواقع، فلا بدَّ من وجود معلوم في الواقع يكشفه هذا العلم. لكن قضية كونِها عمليةً، أي تشريعية آمرة ملزِمة، أنها تطالب بتحصيل شيء يجب أن يكون ليس واقعًا بالفعل؛ لأن الأمر بالشيء إنما يكون قبل وقوعه، لا بعد وقوعه، ولا في حال وقوعه. وهكذا يكون موضوع هذه الفلسفة موصوفًا بوصفَيْن متناقِضَيْن: أنه واقع وأنه ليس بواقع، ويكون الحُكْم الواحد في هذا العلم يمتُّ إلى فصيلتين متباينتين أيضًا؛ لأنه باعتبار أنه وَصْف لموجود، يكون حكمًا وقوعيًّا، وباعتبار أنه طَلَبٌ لما ليس بموجود، هو حكم قيميٌّ مثالي، فيكون وقوعيًّا مثاليًّا معًا، أو إخباريًّا إنشائيًّا في آنٍ واحد، من جهة واحدة، أي من جهة حقيقته ومعناه، وهذا بيِّن البطلان. ولا يُقال إن ها هنا حكمين مُنفصِلين؛ أحدهما: وصفي وقوعي، والآخر: تشريعي قيمي، والثاني منهما تابع للأول ونتيجة له؛ لأن هذه محاولة مُحال، فإن الواقعة لا تلد مثاليَّة أبدًا، والخير لا ينتج إنشاء بحِيلة من الحِيَل.
هذا هو تصوير الاعتراض.
ولكنَّا لو تأمَّلنا مليًّا لاكتشفنا ما فيه من المغالطات الخفيَّة؛ فإن كلمة «الواقع» في تعريفنا الفلسفة بأنها «البحث عن حقائق الأشياء على ما هي عليه في الواقع.» لا تعني الواقع في الزمن الحاضر، بل في الحقيقة ونفس الأمر، سواء أكان وقوعه في الماضي أو الحال أو الاستقبال، فتشمل ما كان وما هو كائن وما سيكون، وتشمل النهائي واللانهائي، بل تشمل المعدوم الذي لا يرى ضوء الوجود، وتشمل من المعدومات الممكن والمُحال، وتتخطَّى المباني إلى المعاني، وتتجاوز المُحَسَّات إلى المجردات. وبالجملة فإن التأمُّل الفلسفي يتناول كلَّ ما يتعلَّق به الفكر ويخطر بالبال، لمعرفة الحق فيه، بل يتناول الفكر نفسه وحدود عملِه ومنهاج سَيْره، وما فيه من مبادئ ثابتة أو مُتحوِّلة، وما يتطلع إليه من قِيم عالية أو نازلة. فلا عجبَ إذن أن يكون للأخلاق فلسفة، كما للعقائد فلسفة. ألَا وإن الفلسفة في كلِّ شأن تتناوله تردُّ الفروعَ فيه إلى أصولها الأولى وقواعدها العامة، وتزن كلَّ طائفة من المعاني بميزانها اللائق بها، فتزن الأحكام والأوامر الأخلاقية بميزان العدل والقسط، طبقًا لمنطق القضايا الإنشائية، كما تزن العقائد والقضايا الإخبارية بميزان الحق والصدق، الذي يقتضيه وضعُها العقلي.
وهكذا يتبيَّن بجلاء أن فلسفة الأخلاق فلسفة وصفيَّة تصويريَّة، كاشفة لأصول القِيَم الأخلاقية؛ ولكنها بتقرير هذه الأصول وإرسائها تبعث في النفس إيمانًا بعدالة تلك القِيَم، واقتناعًا بأنها تستند إلى حقائق ثابتة، وتنتسب إلى مقدَّسات سامية. ومن شأن هذا الإيمان بدوره أن يوحي إلى النفس أمرًا علويًّا بوجوب تحقيق تلك القِيَم الكُبْرى.
فها هنا إذن حكمان منفصلان لا اختلاطَ بينهما، ولا التباسَ في أمرهما. وإن أوَّلهما يستتبع ثانيهما حقًّا، لكنه لا يستتبعه استتباعَ المقدمات القياسية لنتائجها المنطوية فيها، حتى يُقال إن الخبر لا ينتج إنشاء، بل استتباع الأسباب لمسبباتها والوسائل لمقاصدها؛ فإن معرفة مبرِّرات القانون، والاقتناع بعدالته يجذب النفوس إلى امتثاله، ويُغرِيها بطاعته عن محبَّةٍ وطَواعِية.
تقرير الاعتراض الثاني، وهو أن بحوث الأخلاق النظرية جهود ضائعة
ذلك أنه كان المنتظر، عند الاختلاف في المبادئ النظرية العامة، أن يُستنبَط من كلِّ مبدأ قواعد عملية تناسبه، مخالفة للقواعد الأخرى. غير أننا إذا استقرأنا الفلسفات الأخلاقيَّة على تنوُّعها وتنازُعها نراها تتلاقي عند قواعد عملية متشابهة بل متماثلة، حتى إن أنصار المذهب النفعي ينادون — كغيرهم — بمبدأ «أحِبَّ عدوَّك كما تحب أخاك. وأحِبَّ أخاك كما تحب نفسك.» وأنصار المذهب الحيوي التطوُّري يوافقون الواجبيِّين على التَّزمُّت الصارم الذي لا قيدَ فيه ولا استثناء. وهكذا نرى القواعد التطبيقية تسير مُستقِلة تمام الاستقلال عن المبادئ النظرية. ويا ليت أمر الفلسفة الأخلاقية وقَفَ عند حدِّ خلوِّها عن النتائج العملية، وبقيت لها فائدة نظرية تمسُّ عقائد المجتمع وآراءه؛ ولكننا بينما نرى الفلسفات العلمية والفلسفات الدينية تترك أثرها في المجتمع، وتلاقي من رجال الأديان حركةً قوية في تأييدها أو معارضتها، نرى هذه النظريات الأخلاقية تسير على حافَّة الحياة لا يحسُّ بها أحد، بل يحدث التطوُّر في آداب المجتمع بعيدًا عن التأثُّر بها إطلاقًا. وهكذا نراها عاطلة عن كلِّ فائدة تشريعية أو اجتماعية.
ونحن نجيب عن هذا الاعتراض بشِقَّيه، فنقول: أما دعوى اتفاق أصحاب النظريات الأخلاقية كلهم على قواعد عمليَّة واحدة فهي دعوى غير صحيحة؛ فهناك مثلًا مذهب القوة الذي يتنكَّر لكلِّ القواعد الأخلاقية المعروفة، ويرى أنها ما وُضِعت إلَّا لاستغلال الضعفاء والسيطرة على الجماهير، وأن القوة هي التي تجعل الحقَّ حقًّا والباطل باطلًا. وهناك مذهب المتعة والمسرَّة، الذي يُوصِي باغتنام اللحظة الحاضرة، واقتناص مشتهياتها، دون حساب للماضي ولا للمستقبل … نعم يبقى السؤال عن الفائدة في دراسة المذاهب الأخرى، المختلفة في نظرياتها، المتحدة في تطبيقاتها. وجوابه أن تضافُر النظريات المختلفة على قاعدة واحدة، كترادُف الأدلة المتنوِّعة على الدعوى؛ فهي بمثابة التحريض بمختلف الوسائل على العمل بتلك القواعد، كأنها تقول لنا: مَن كان همُّه طلب الكمال الإنساني لذاته فعليه بالتحلِّي بالفضائل، ومَن كان همُّه المتعة الروحية الحقيقية فعليه بالتحلِّي بالفضائل، ومَن كان همُّه المصلحة للفرد أو الجماعة فعليه بالتحلِّي بالفضائل، وهكذا … وأما قولهم إن قافلة الحياة الاجتماعية تسير غير مبالية باختلاف الفلاسفة في المبادئ العليا للأخلاق، فنقول إن المجتمع طبقتان: طبقة العامة والجماهير، ذوي الحياة الكادحة، الذين ليس لهم من الفراغ ما يتلفَّتون فيه نحو هذا النور؛ وطبقة الخاصة المثقفين، الذين لا يكتفون بمعرفة الطرق العملية، حتى يضموا إليها براهينها النظرية، ومبادئها الكلية. ولكلِّ طائفة من هؤلاء المثقفين مشرب في الاستدلال، وغرض يُسعَى إليه في الحياة. فهؤلاء يعنيهم أشد العناية أن يستعرضوا هذه النظريات، ليختار كلٌّ منهم أقربها لاقتناعه، أو يتزوَّدوا من جملتها ويتسلَّحوا بمختلف أسلحتها، للانتصار على مذاهب الهدم ونزعات التشكيك في حقيقة القانون الأخلاقي.
بسط الاعتراض الثالث
إن جميع النظريات الأخلاقيَّة تدَّعي وجود قانون عامٍّ للإنسانية كلها؛ ووجود قانون عام كهذا يفترض وجود طبيعة إنسانية متشابهة، لا تختلف باختلاف الأمم والمدنيات، ولا باختلاف الأقطار والعصور، لكن الواقع أن هذه الفطرة الواحدة لا وجودَ لها؛ ذلك أن الناس صنفان: بدائيُّون ومتحضرون. فأمَّا البدائيُّون فلا محلَّ في عقولهم لفكرة القانون الأخلاقي؛ لأنهم لا يعرفون سوى الفوضى المطلقة التي لا رادعَ فيها من ضمير ولا قانون؛ وأما المتحضِّرون فإنهم وإن عرفوا فكرة القانون، إلَّا أنهم يعرفونها في صُوَر متناقضة: فالأخلاق في الشرق غير الأخلاق في الغرب، والأخلاق عند الأمم القديمة غيرها عند الأمم الحديثة، الخير هنا شرٌّ هناك، والعدل هناك ظلم ها هنا.
هذه الحجة قديمة، كان يروِّجها سوفسطائية اليونان، ثم تجدَّدت في عصر النهضة الأوروبية بقلم بعض مشاهير كتَّابها، أمثال «مونتيني» و«باسكال»، ثم انتحلتها هذه المدرسة الاجتماعية وتوسَّعت في سَرْد شواهدها نقلًا عن الرحَّالة والسائحين، القدامى والمُحدَثين.
ونحن لا نُطِيل النقاش في قيمة هذه المصادر وضعف الثقة العلمية بها، لكثرة تناقُضها، وقلَّة تحرِّي كتابها، وضعف خبرتهم بالناحية الأخلاقية؛ ولأن ولوعهم بالغرائب إرضاءً لشهوة قرَّائهم يدفعهم إلى ترْكِ معالم التشابُه والاتحاد بين الأمم، وتتبُّع المفارقات والشواذ منها لعرضها في صورة قواعد عامة؛ ولكننا نكتفي بأن نقول في صميم الموضوع: إن ما نسبوه إلى الجماعات البدائية من خلوِّها من كلِّ قاعدة للسلوك هو على طَرَف النقيض من الواقع الذي تضافرت عليه كلُّ الدلائل؛ وهو أن هذه الجماعات تبالِغ في تشدُّدها وتضييقها في أسلوب الحياة والمعاملات إلى حدِّ التزمُّت أو الخرافة، وإن ما نسبوه إلى المتحضِّرين في الصين مثلًا، من رمي الأمهات أطفالهن إلى الحيوانات المفترسة تخلُّصًا منهم — إن ثبت — فإنما يحدث في أوقات الضرورات القصوى، التي تُبِيح كلَّ محظور، حتى في أرقى المدنيَّات، وليس من المعقول أن تكون عاطفة الأمومة في الإنسان أشد قسوة وتحجُّرًا منها في الحيوان، الذي قال في شأنه الرسول الرحيم: «جعل الله الرحمة مائة جزءٍ، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءًا، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا؛ فمن ذلك الجزء تتراحم الخَلْق، حتى إن الفرس لترفع حافِرَها عن ولدها خشيةَ أن تصيبه.»
على أنه ينبغي لنا عند اقتباس الشواهد الأخلاقيَّة أن نفصل بين أعمال الناس وأحكامهم؛ فالذي يدلُّ على خلوِّ النفوس من قانون أخلاقيٍّ ليس هو وقوع الظلم، ولكنه استساغة الضمائر له وعدم استنكارها إيَّاه. أما مجرد وقوعه فمعناه أن القانون لم يُطبَّق ولم ينفذ. أرأيت لو أن رجلًا أوروبيًّا جاء إلى بلاد الإسلام في عصرنا هذا، فأخذ يستقي قانون الإسلام وتعاليمه من واقع سيرة أهلها، أيكون حُكْمُه صحيحًا؟ فالذي يأتي المُحرَّم عالمًا بحرمته شاعرًا بتأنيب ضميره لا يُقال إنه لا يعرف للأخلاق قانونًا، ولكنه يعرفه ويخالفه. نعم لو وجدنا في أمةٍ ما قانونًا يُبِيح لها القتل والسرقة مثلًا؛ فأصبحنا أمرَيْنِ مستباحَيْنِ عندها بلا استهجان ولا نكير من ضميرها، إذن لساغ لنا أن نقول بفقد قانون الأخلاق عندها. وما يُذكَر عن قدماء الرومان من أن ربَّ الأسرة كان له حقُّ الموت والحياة على زوجه وأولاده، يقتل مَن يشاء ويستحيي من يشاء، لا نستطيع أن نفهمه على معنى أن قلوب الآباء في هذه الأمة كانت مُجرَّدة من الرأفة على أهليهم، ولكن على معنى أن القانون خوَّل لربِّ الأسرة فيها سلطة القاضي في العقاب والتأديب لمَن يستحق. وكذلك ما يُقال عن قانون إسبارطة، من أنه كان يُبِيح الاختلاس والنهب في بعض المواسم، نفهمه على أن ذلك كان نوعًا من اللهو أو التدريب على أساليبهم في الغزوات والحروب، عن تراضٍ منهم …
وبعدُ فإننا حين ندِّعي أن حاسَّة التمييز بين الخير والشر مُودَعة في كلِّ ضمير، حتى في ضمائر الأشرار والمجرمين، كما قال الله تعالى: بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ، وكما قال: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، لا نزعم عصمة العقول والضمائر من الخطأ في تحديد الحسن والقبيح والخير والشر، ولو في بعض الأحيان، ولكننا نستطيع أن نقرِّر مُطمئنِّين أن هذه الأخطاء إنما تكون حيث يجتمع في الفعل الواحد جهتا خيرٍ وشرٍّ، فتختلف الأنظار في ترجيح أيهما، أو حيث تكون الإصابة في الحكم بحاجة إلى شيء من التروِّي البعيد عن الهوى، أو حيث تنطمس معالم الصواب في بعض الشئون ويخفى طريقه، حتى تعجز العقول عن الاهتداء إليه ما لم يمدَّها نور من الوحي السماوي. ومن أجل ذلك أُرسِلَت الرُّسُل، وأنزلت الكتب، إيضاحًا لمعالم الحق، وتكميلًا لمكارم الأخلاق.
شرح الاعتراض الرابع
قالوا إن وجود قانون عام للأخلاق لا يفترض وجود طبيعة إنسانية عامة متشابهة في الجماعات والمدنيَّات فحسب، بل إنه يستلزم قبل كلِّ شيء أن يكون هذا القانون نفسه مؤلَّفًا من واجبات متسانِدة متعانِقة لا تناقُضَ بينها، وأن يكون الوجدان الأخلاقي الذي ينبع منه القانون مُؤلَّفًا هو أيضًا من عناصر مُؤتلِفة غير متضاربة … لكن كلا اللازمين باطل؛ فالقانون الأخلاقي مجموعة متنافرة من الواجبات الفردية والأسرية والمهنية والوطنية والإنسانية، والحياة نفسها مجموعة متعارضة من المطالب البدنية والعقلية والسياسية والدينية، بل الوجدان الخلقي عند كلِّ واحد منَّا هو مجموعة أحكام متناقضة: بعضها من محاكاة البيئة، وبعضها موروث من عصور متفاوِتة: دينيَّة أو قوميَّة أو أجنبيَّة.
هذا هو الاعتراض الرابع والأخير.
ونحن لا نشغل أنفسنا بمنع ما يحويه من المُقدِّمات، ولكننا نسلِّم جدلًا وجود تلك المفارقات في أحكامنا، وتلك المعارضات في واجباتنا، ونجيب بأن الفيلسوف في استنباطه للقانون الأخلاقي العام، لا يستفتي هذه الوجدانات الفردية المعقَّدة المتناقضة، بل إنه يسمو عن الجزئيات إلى المجردات، ويرجع إلى طبيعة الإنسان من حيث هي، ليعرف مقتضياتها وحقوقها العامة، ومتى استنبط لها هذا القانون الكلي أصبح هذا القانون بحيث يفرض نفسه فرضًا على الوجدانات الفردية، وكان عليها أن تسمو هي إليه، لا أن ينزل هو إليها … وإذا كانت الواجبات قد تتزاحم وتتنافس، فالأصل أن يبذل كلُّ امرئ جهده في طلب التوفيق بينها؛ لإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، فإن بلغ التزاحُم فيها مبلغ التعارُض، كان من تمام مهمَّة المشرِّع أن يضع لكلِّ واجب رتبته تقديمًا أو تأخيرًا، زيادةً أو نقصًا، ليبدأ العامل بالأهمِّ قبل المهم، وبالمهم قبل غير المهم؛ فيجعل الضروري قبل الحاجي، والحاجي قبل الكمالي، ويضحِّي بالأدنى في سبيل المحافظة على الأعلى. وهكذا يستقيم الأمر جملةً وتفصيلًا، تشريعًا وتنفيذًا.