الأخلاق الفلسفية، والأخلاق الدينيَّة
اشتُهر عند الباحثين من علماء الغرب أن قوانين الأخلاق الفلسفية تختلف اختلافًا بيِّنًا عن قوانين الأخلاق الدينية، وأن هذا الاختلاف بينهما يبدو من وجوهٍ شتَّى: من حيث موضوعهما (أي نوع العلاقات التي ينظِّمها كلٌّ منهما)، ومن حيث الواضع لهما (أي السلطة التي يصدر عنها الأمر الأخلاقي)، ومن حيث أساس التشريع (أي الأسباب التي يستند إليها)، ومن حيث بواعث العمل وأهدافه وجزاءاته، المقررة في كلٍّ منهما.
- (١)
من حيث الموضوع:
فالأخلاق الدينية في نظرهم مهمَّتها تنظيم الصلة بين الخالق والمخلوق، ولا شأنَ لها بأمور المعاملات الإنسانية، بينما الأخلاق الفلسفية ترسم الطريق لسلوك الإنسان في نفسه أو في المجتمع، ولا شأن لها بنظام الشعائر والعبادات، لا بمعنى أنها تقف منها دائمًا موقف الحِياد فحسب، أو أنها تتلقَّاها مسلَّمة من يدِ العُرْف الجاري في كلِّ مِلَّة، بل إنها قد تنكرها إنكارًا، كما زعم الفيلسوف الألماني «كانْت» حين قال إنه ليس على الناس واجبات قطُّ نحو خالقهم؛ لأنه ليس لهم حقٌّ قِبله، وكلُّ واجب لا محالة يقابله حقٌّ،١ وهكذا ينفصل موضوع الأخلاق الدينية والأخلاق الفلسفية انفصالًا تامًّا. - (٢)
من حيث واضع القانون ومُستنَده:
مهما تتنوع المذاهب الفلسفية في مصدر الإلزام الأدنى: أهو العقل، أم الوجدان الخلقي، أم ضرورة الحياة في المجتمع، أم غير ذلك، فإنها كلَّها تلتقي عند كلمة واحدة، وهي أنه مصدر إنساني، وأن مستنده في التشريع اعتباراتٌ إنسانية تبرِّر حكمه لدى العقل أو العاطفة. أما الإلزام في الدين فيقولون إن مصدره إلهي صرف، وإن مستنده هو محض تلك الإرادة العليا وقضاؤها المُبرَم، الذي لا يعنيه رَضِيَت النفس أم كَرِهَت، اقْتنَع العقل أم أبى.
- (٣)
من حيث بواعث العمل وأهدافه وأجزيته:
قالوا: وتنفصل النظرة الدينية عن النظرة الفلسفية من هذه النواحي أيضًا؛ ذلك أن الشرائع الدينية تضع لمن يمتثل أمْرَها أو يعصيه جزاءً أخرويًّا: مثوبة أو عقوبة، وتتخذ للترغيب في الفضيلة وللتحذير من الرذيلة وسائل، تستمدها من معدن تلك الأجزية، جاعلةً الهدف الوحيد للعامل هو نَيْل الثواب والنجاة من العقاب، وباعثه الوحيد على العمل هو الخوف أو الرجاء. وهكذا تصبح الاستقامة الخلقية عملًا حسابيًّا لموازنة الرِّبح والخسارة، وليست عملًا بريئًا من الأغراض، مُجرَّدًا عن الغايات النفعيَّة.
بينما قانون الأخلاق الفلسفية لا يفترض جنَّة ولا نارًا ولا حياة بعد الموت، بل لا يلوِّح بجزاء للفضيلة سوى نتيجتها الطبيعية، من رضى العامل وطمأنينته، وشعوره باستكمال إنسانيته، وارتياح ضميره بأداء الواجب. وإن لوَّح بشيء وراء ذلك: من تحقيق المصالح الإنسانية التي يثمرها العمل، أو الفوائد الاجتماعية التي تعود على العامل، كحسن السمعة وطيب الذكر؛ فإنما هي أجزية أدبية عاجلة في هذه الحياة.
- (١)
أما أن موضوع الأخلاق في الديانات ينحصر في مادَّة العبادة والشئون الإلهية، فهذه الخاصَّة إن صحَّت في دينٍ ما فما أبعدها عن أن تكون طابعًا لقانون الأخلاق في الإسلام. لا نكتفي بأن نقول إن هذا القانون لم يدع للنشاط الإنساني، في ناحيتيه الفردية والاجتماعية، مجالًا حيويًّا أو فكريًّا أو أدبيًّا أو روحيًّا، إلَّا رسم له منهجًا للسلوك وفق قاعدة معينة، بل نقول إنه تخطَّى علاقة الإنسان بنفسه، وعلاقته ببني جنسه، فشمل علاقته بالكون في جملته وتفصيله، ووضع لذلك كلِّه ما شاء الله من الآداب المرضية والتعاليم السامية. وهكذا جمع ما فرَّقه الناس باسم الدين وباسم الفلسفة، ثم كان له عليهما المزيد …
- (٢) وكذلك يرى الناظر في أسلوب الدعوة الأخلاقية في الإسلام، أنها مُنزَّهة عن ذلك الطابع التعبُّدي التحكُّمي الذي زعموه في الأخلاق الدينية، وأنها على العكس من ذلك تعتمد دائمًا على الحِكَم المعقولة المقبولة، مخاطبة الإدراك السليم، والوجدان النبيل، بالأسباب المقنِعة التي تبرِّر أمرها بما تأمر به، ونهيها عما تنهي عنه، تفصيلًا في ذلك تارة، وإجمالًا فيه تارة أخرى. اقرأ إن شئت في الأسلوب التفصيلي أمثال الآيات الكريمة: وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا، وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ، وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا، وفي الأسلوب الإجمالي: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ، فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ … حتى إنه في المواضع التي يذكر فيها الأمر مجردًا عن كلِّ تعليل، نرى النص يشفع ذلك الأمر بما يبيِّن أنه ليس أمرًا تعنُّتيًّا تُفرَض طاعته لمجرد أن صاحبه ذو سلطان قاهر واجب الطاعة؛ بل لأن هذا الأمر ذو علم واسع، وحكمة بالغة؛ فلا يأمر إلَّا بما يُصلِح البشرية ويهديها سواء السبيل: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ … وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، فَرِيضَةً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا.
بل ها هنا ما هو أعظم من ذلك خطرًا!
يفخر الحكماء بأنهم اكتشفوا للإلزام الأدبي مصدرًا آخر، غير الوحي السماوي؛ ذلك هو النور العقلي، أو الإحساس الأخلاقي الذي ينطوي عليه كلُّ قلب إنساني. ألَا فليعلموا أنهم لم يأتوا بجديد غريب عن الإسلام. فالقانون الإسلامي في رجوعه إلى العقل السليم والوجدان النبيل، يرجع إليهما لا باعتبار أنهما شهيدان له فحسب، يؤيِّدان حكمه ويشفعان له عند المخاطبين، كما بيَّنا آنفًا؛ بل إنه يقلِّدهما مقاليد الحكم، ويخوِّلهما حقَّ الأمر والنهي، في أطوار ثلاثة: قبل ورود الشرع، وفي أثناء نزول الشرع، وبعد انتهائه وتمامه.
أما قِبل الشرع فإن القرآن يقرِّر في أصرح عبارة أن النفوس كلَّها قد مُنِحَت بفطرتها قوة التمييز بين الخير والشر، والعدل والظلم، والتقوى والفجور: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ، ثم لا يكتفي بأن يجعل هذه البصيرة قوَّة كاشفة معرِّفة؛ بل يجعلها آمرة ناهية، وينعى على مَن يخالفها بأنه من أهل الضلال والطغيان: أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ هذه القضية المنفصلة لا تدع مجالًا للشك في وجوب الخضوع لأوامر الأحلام والعقول، متى اتضح أمامها طريق الحق والخير. وكذلك يقول صاحب الرسالة الباهرة صلوات الله عليه: «إذا أراد الله بعبد خيرًا جعل له واعظًا من نفسه يأمره وينهاه.»وبعد فما لي أراك ها هنا في شيء من الدهشة والاضطراب، كأنك تخشى أن نكون في هذه القضية قد أقدمنا على أمر خطير؟ لعلك سمعت بعض أهل العلم يقولون إن تحكيم العقول في حسن الأفعال وقُبْحها إنما هو مقالة أهل الاعتزال، وإن أهل السنة لا يرون للأفعال في نفسها حُسْنًا ولا قبحًا، وإنما الحسن ما أمر به الشرع، والقبيح ما نهى عنه الشرع!
ألا فاعلم أنه ليس في الدنيا عاقل: أشعري ولا معتزلي ولا غيرهما، ينكر ما منحه الله للإنسان من ملكة التمييز بين الأفعال والحكم عليها بالحسن أو القبح، بمعنى أن بعضها يُعَدُّ صفة كَمال، وبعضها يُعَد صفة نَقْص، أو أن بعضها يقبله الطبع المستقيم، وبعضها يمجُّه الذوق السليم، أو أن بعضها يُمدَح فاعله، وبعضها يُذَم مرتكِبه … فلذلك كله ممَّا لا جدال فيه، وإنما الجدال الذي سمعت خبره بين الأشاعرة والمعتزلة كان في شأن آخر: وهو أن هذه الأحكام التي تُصدِرها عقولنا، هل تجزم بمطابقتها للواقع وبأنها هي حكم الله في نفس الأمر؟ وهل نعتقد أن الله كلَّفنا باتباعها، وسيحاسبنا عليها، ويجزينا بها مثوبة أو عقوبة، من قبل أن يُرسِل بها رسولًا من عنده، أو يُنزل إلينا بها كتابًا نقرؤه؟ أم أننا ينبغي لنا ألَّا نتخذ أحكامنا مرآة صادقة لأحكام الله، ولا نجترئ على القول بأنها مِقياس أمره ونَهْيه، إلَّا أن يبعث إلينا بسلطان من عنده، يُقِرنا عليها، ويلزمنا بقضيتها؟
هذا هو محلُّ الخلاف هناك. ولكنه ليس مجال بحثِنا هنا، وإنما الذي يعنينا في هذا المقام هو اتفاق الطرفين على أن الإسلام يُقرِّر للعقل سلطانًا أدبيًّا بالمعنى الإنساني الذي شرحناه آنفًا، وهو المعنى الذي زعم علماء أوروبا أنهم اكتشفوه في المذاهب الفلسفية خاصة. هذا السلطان الأدبي الذي يسمِّيه الفلاسفة «سلطان الضمير» يعترف الإسلام به على استقلاله وكماله في الفترة التي تسبق قيام الشريعة ووصولها إلى من وُجِّهت إليه، كما بيَّنَّا.
يبقى البحث في نظرة الإسلام إلى هذا السلطان العقلي، في أثناء نزول الشريعة السماوية وبعد تمامها: هل متى نزلت الشريعة وبَلَغَتْ أهلها أصبح أمرُها ناسخًا لأحكام العقل وأوامره، كما يبطل التيمُّم بحضور الماء؟
كلا، إن النور لا ينسخ النور، ولكنه إما أن يؤكِّده ويؤيده، وإما أن يغذيه ويرفده، وإما أن يكمله ويزيده.
وتفصيل ذلك أن شئون الإنسان على ثلاثة أضرب: منها ما للعقل فيه مجال واضح، وحكم حاسم. وهو الأصول التي لا تتعارض فيها الأنظار ولا يختلف فيها اثنان؛ كحسن الصدق النافع، وقبح الكذب الضار، ونُبْل الإحسان في ردِّ الإساءة، ولؤم الإساءة في جزاء الإحسان … فيجيء الشرع في هذه المواضع مُقرِّرًا لحكم الفطرة ومُؤكِّدًا. ومنها ما للعقل فيه نور ضئيل تغشاه الظلال، وتخالطه الأوهام. وهو مواضع الشبهات العقلية؛ كالخمر، والربا، والصدق الضار، والكذب النافع، واستبقاء الحياة المعذبة مع اليأس، والتضحية بها في سبيل الواجب مع القدرة على حِفْظها … فهنا يجيء الشرع إمدادًا لنور العقل، بترجيح جانب الحكمة والرشد فيه وتصحيح أخطاء الوهم التي تخالطه وتغشاه. ومنها ما لا مدخل للعقول فيه بإطلاق؛ كتفصيل أنواع العبادات وكيفياتها ومقاديرها … فيكون ورود الوحي بها مُكمِّلًا لما فات العقل إدراكه، ماحِيًا للظلمة التي تركها وراء حدوده. وهكذا يكون للفطريين الذين لا يتَّبعون إلَّا شريعة العقل، نورٌ واحد، ويكون لأتباع الشرائع السماوية نورانِ اثنان، كما قال سبحانه: نُورٌ عَلَى نُورٍ.ولا تحسبن أن نور الشريعة فيما لم يهتدِ إليه العقل بمفرده قد أصبح مُستغنِيًا عن نور الفطرة جملة، كلا، فإنه لا يزال في أشد الحاجة إلى رفده وعضده، من ثلاثة أوجه:- الوجه الأول: أن الشرع لا يزال يستند إليه عند مطالبته للمؤمنين بأداء واجباتهم الشرعية، لا باعتبار أنها أوامر إلهية فحسب، بل باعتبار أنها أصبحت أوامر أخلاقية بعد أن سبق تعهدهم بها تعهُّدًا كليًّا عامًّا، بمقتضى عقد الإيمان الذي ينطوي على التزام السمع والطاعة. ألا ترى إلى قوله سبحانه: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، وقوله: وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
- الوجه الثاني: أن أوامر الشريعة في معظم شأنها أوامر عامة كليَّة، يَكِل الشرع تفصيلها وتحديدها إلى تقدير الوجدان الخلقي، الذي أودعه الله في كلِّ نفس، وفي كلِّ جماعة بشرية. وكثيرًا ما يصرِّح القرآن بتفويض هذا الوجدان الشخصي أو الجماعي في تحديد مقادير الحقوق والواجبات وأساليبها: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ، رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ.
- الوجه الثالث: وهو أعم وأدق، أن الإسلام لا يطلب، ولا يرضى، أن تُنفَّذ أوامره تنفيذًا آليًّا، خضوعًا لصولة حكمه، بل لا بدَّ قبل كلِّ شيء أن تسري أوامره إلى أعماق الضمير، حتى يتشرَّبها القلب، ثم تفيض عنه بعد أن تكون قد تحوَّلت فيه إلى أوامر ذاتية انبعاثية … ذلك أن أول خطوة في امتثال الواجب هي الإيمان بوجوبه وعدالته؛ والخطوة التي تليها هي أن يُحمَل هذا الإلزام إلى النفس على كفِّ الضمير، مشفوعًا بصوت مُنبعِث من أعماقه، يناديها: «أيتها النفس! إن الله يأمرك أن تفعلي، وأنا آمرك أن تُطِيعي أمره؛ فإنه حقٌّ وعدل، وإنه لا خيرة لك في ردِّه.» فإن لم ينبعث من الأعماق هذا التبليغ، ولم يرتفع فيها هذا الصوت الداخلي، ترديدًا لصدى ذلك الصوت السماوي، كان العمل كله هباء عند الله وفي نظر قانون الأخلاق.
القلب (أو الضمير) إذن هو بريد الشرع، الذي لا سبيل إلى الامتثال إلَّا عن طريقه. وكفى بهذا رفعًا لمكانته في غضون أحكام الشريعة.
وبعد، فإن الشريعة نفسها، بعد أن بيَّنت الحلال الصريح، والحرام الصريح، تركت المنطقة التي تختلط فيها الأوصاف، ويشتبه فيها الحكم، وفوَّضت لكلِّ امرئ أن يستفتي فيها قلبه، ويتحرى فيها طمأنينة نفسه، أخذًا بالأحوط والأسلم. هكذا قضى الرسول الحكيم حيث يقول: «الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثيرٌ من الناس، فمَن اتَّقى الشبهات فقد استبرَأَ لعرضه ودينه.» ويقول: «استفتِ قلبك واستفتِ نفسك، البِرُّ ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاكَ في النفس، وتردَّد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك.»
وأخيرًا فإن سلطان الضمير في نظر الإسلام لا يقف عند هذا الحدِّ، ولا ينتهي بانتهاء هذه الحياة، بل إن له دورًا هامًّا عند المحاسبة في دار الجزاء، حيث يتقدَّم بين يدي فصل القضاء، ويصدر حُكْمه على صاحبه قبل أن يصْدُر عليه الحكم الأعلى. اقرأ إن شئت قوله تعالى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا. - (٣) وأما الحديث عن الأجزية والبواعث والأهداف، ودعوى اختلاف طبائعها في نظر الدين عن نظائرها في نظر الفلسفة، فإنه إن سلم في بعض الأديان الأخرى فهو أبعد ما يكون عن وجهة النظر الإسلامية، وهو في جملته أكثر انطباقًا على المسيحية منه على اليهودية (إن صحت نسبة كتبهما المعروفة إليهما)، فقد كان الترغيب والترهيب في التوراة بوعود وإيعادات كلُّها عاجلة في هذه الدنيا، وتكاد تستأثر بها النزعة المادية الخالصة: الصحة، والرخاء، وكثرة الأولاد، وهزيمة الأعداء، للمطيعين، وأضدادها لأضدادهم،٢ ثم جاء الإنجيل على العكس من ذلك يحوِّل أنظار مُعتنِقيه من مُلْك الأرض إلى ملكوت السماء، ويبشِّر الخيِّرين بما أعدَّ لهم في الآخرة، من جزاء القرض الحسن بأحسنَ منه …٣
هذا هو تحقيق الحق في شأن الأجزية الدينية والفلسفية.
وبعد فإن الناس كثيرًا ما يلتبس عليهم الأمر بين أجزية العمل وثمراته من جهة، وبين أهداف العامل وغاياته، من جهة أخرى. وهكذا يخلطون بين الغاية الفعليَّة بمعنى طرف الطريق وآخره، والغاية المقصودة بمعنى نيَّة العامل وهدفه؛ ظانِّين أن وضع إحداهما هو وضعٌ للأخرى، حتى كأن الإسلام يلوح للمؤمنين أن يقصدوا بأعمالهم تلك النتائج كلها، أو بعضها على التخيير. كلا إن الأمر ليس كما زعموا؛ فأنواع الأجزية التي قرَّرها القرآن للفضيلة والرذيلة لا تُحصَى كثرة؛ ولكنَّ الهدفَ الذي وضعه نُصْب عَيْن العامل هدفٌ واحد لا تعدُّدَ فيه ولا تردُّد؛ هو وجه الله محضًا خالصًا. وهذا كما ترى تعبير روحي عن معنى أداء الواجب لذاته. وهو معنًى نجده في القرآن في أكثر من ألف موضع، كلها تحثُّ على الفضيلة لِما لها من قيمة ذاتية، بغض النظر عن كلِّ آثارها. على أن تلك الأجزية الكريمة التي وعد الله بها المتقين، إنما وعد بها مَن كانت غايته من عمله هو وجه الله وحده، فهو الذي أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، وهو الذي جَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ، وهو الذي كان عمله فِي سَبِيلِ اللهِ، وقد سُئِل النبي عليه السلام عن الجهاد بدافع الحمية، أو لطلب الغنيمة، أو بقصد حسن الذِّكْر، فأوْمَأ إلى أن شيئًا من ذلك ليس في سبيل الله، قائلًا: «من قاتَلَ لِتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.» أما ما وراء هذه النية من مطامح ومطامع، فهو في نظر الإسلام إما رِجس وفسوق من عمل الشيطان؛ كالرياء والسمعة ونحوهما، وإما عبَثٌ وضرْبٌ من المباح لا قيمة له ولا ثواب، ومن هذا الضرْبِ الأخير أن يكون هدف العامل هو الجنَّة وما فيها من نعيم.
فلينظر كلُّ امرئ أين يضع نفسه، وأين يوجِّه قصده؟ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ.
وكذلك نرى الوصية عينها تتكرَّر على لسان تلاميذ المسيح، ويؤكدونها في كتبهم ومراسلاتهم.
هذه النصوص كان يفهمها المسيحيون الأولون على حقيقتها، ولكنهم أخذوا بعدُ في تأويلها وجعلها ضربًا من التمثيل؛ اتقاءً لاعتراضات الملاحدة. والعجيب أن علماءهم لا يزالون مع ذلك مُجمعِين على أن البعث في المعاد بدنيٌّ وروحي معًا، كما أنهم لا يزالون يقرِّرون بأن عذاب النار يتناول الجسم والروح، وفقًا لما دلَّت عليه نصوص الأناجيل، مثل قول عيسى لأصحابه: «لا تخشوا أولئك الذين يُهلِكون الجسم ولا يستطيعون أن يُهلِكوا الروح. ولكن خافوا ذلك الذي يقدر أن يهلك الروح والجسم في جهنم» (الفقرة ٢٧ من الفصل ١٠ من إنجيل متى)، وقوله: «إن الذين يرتكبون الظلم سيُقذَفون في النار الحامية التي سيكون لهم فيها العويل وصريف الأسنان» (الفقرة ٤٣ من الفصل ١٣ من إنجيل متى).
ترى أي حجة عقلية أو نقلية جعلتهم هكذا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض؟!