الفصل الأول
عولمة الأخلاقيات النسوية
أليسون م. جاغار
على الرغم من صعوبات ومخاطر الخطاب الأخلاقي العابر للثقافات، فإنه ليس من
المستحيل أن يشارك دخلاء من الخارج في تقييم الممارسات الداخلية لثقافةٍ
أخرى.
جاغار
تطرح الدراسة الواردة مفهومًا نسويًّا للخطاب يختلف عن الخطاب الأخلاقي الكلاسيكي.
وإذا
أُقيمت الحجة على أن تفاوت القوة لافت في السياق العالمي أكثر منه في السياق المحلي،
ألاحظ
أن مجتمعًا للخطاب العالمي يبدو بازغًا بين النسويين، وأستكشفُ الدور الذي تمارسه مجتمعاتٌ
صغرى في محاولات المذاهب النسوية للتوفيق بين التعهد بالمناقشة المفتوحة من جانب، والاعتراف
بحقائق تفاوت القوة من جانبٍ آخر.
ليست التجارة العالمية والتبادلات العالمية أمرًا جديدًا، لكن التشديد الجاري عليهما
هو
غير المسبوق حقًّا.
١ ولم يحدث أن كانت المجتمعات المحلية مغلقة على نفسها تمامًا، ولكن الذي يحدث
الآن أن أصبحت حدودها قابلة للنفاذ حتى بات الناس يتحدثون عن تفكك وتحلل المجتمعات المحلية.
وقد أثارت هذه التطورات مشكلات جديدة في فلسفة الأخلاق وفلسفة السياسة وبالمثل في
الأخلاقيات النسوية.
إن النساء في مركز هذه التطورات المعاصرة، يشكلن قطاعًا عريضًا ومتناميًا من قوة
العمل في
البلدان حديثة العهد بالتصنيع، وكذلك في البلدان الصناعية، إنهن (بمعية أطفالهن) يمثلن
ثمانين في المائة من اللاجئين في العالم، ويجري تهريبهن في تجارة البغاء التي تمتد عبر
العالم بأسره، وأجسادهن مسرح الاقتحامات التكنولوجية، إما لزيادة النسل وإما لتحديده.
وفي
الآن نفسه، عادة ما يجري اتخاذ النساء كرمزٍ وكناية عن سلامة التكامل الثقافي، حتى بات
تعريف الثقافات المقيدة يؤخذ بوصفها ثقافات تحتفظ بالأشكال التقليدية للأنوثة، لا سيما
تلك
الأشكال التي تتكشف في الزي الحريمي التقليدي أو في ممارسات الزواج والجنس. هكذا وُضعت
النساء في قلب دوامة قوى اجتماعية متقابلة ومتنافسة: فمن ناحيةٍ، ثمة الاتجاهات المندفعة
في
تقدمها نحو العولمة.
٢⋆ والتكامل المتزايدين. ومن الناحية الأخرى، ثمة الاتجاهات المندفعة في تراجعها
نحو القومية والتجزؤ.
وتأتي النظرية الأخلاقية المعاصرة لتعيد إنتاج هذه التوترات، إذ تضع الخطاب العالمي
حول
حقوق الإنسان في معارضةٍ مع ما يقابله من مداخلاتٍ تؤكد المحلي وتُفسر غالبًا بأنها نسبوية،
من قبيل النزعة القُطرية ونزعة ما بعد الحداثة. وفي هذا السياق، نجد أن رفض الفلاسفة
المتزايد للنزعة الأسسية
foundationalism في الأخلاقية يجعل
من الصعب رؤية كيف يمكن إخضاع الأعراف والمعايير المحلية للنقد الأخلاقي المنهجي. إن
مشروعي
الأكبر، الذي ينبثق عنه هذا المقال، هو تطوير نظرة للعقل الأخلاقي العملي تبين كيف أن
احترام الاختلاف الثقافي يمكن أن يرتبط بالموضوعية الأخلاقية المتجاوزة للأعراف. وفي
تطوير
هذه النظرة، أقارب التقليد الحواري في النظرية الأخلاقية الغربية الذي يمتد من أفلاطون،
حتى
لوك وكانط وصولًا إلى رولز وهابرماس، وأولي اهتمامًا خاصًّا بالقيم الثانوية في هذا
التقليد، بما في ذلك قيم المساواة في الخطاب والانفتاح والشمولية. يحدوني هذا التقليد
الفلسفي، فضلًا عن أن تفهُّمي الخاص للخطاب العملي قد تشكَّل هو الآخر بالتأمل والتفكير
في
الممارسات الخطابية الأخيرة للقاعدة المحلية الناشطة للنسوية في أمريكا الشمالية.
٣
وكما أسفر الأمر في تطوره مع كارل-أوتو آبل ويورغن هابرماس، فإن أخلاقيات الخطاب
الكلاسيكي تعرف التسويغ الأخلاقي في حدود إجماع الآراء شريطة التواصل المتحرر من الهيمنة،
وكثيرًا ما كان هذا التعريف معرضًا للسخرية بوصفه طوباويًّا؛ وبالتالي محل شك إلى أبعد
الحدود، وذلك لحيثياتٍ لا تقتصر على الصعوبات العملية في تأسيس خطاب كوني عالمي، بل أيضًا
فيما يتبدَّى من عقباتٍ كئود في المبدأ ذاته، وعلى جه الخصوص في استحالة التحقيق الفعلي
لما
يشبه التواصل المتحرر من الهيمنة. ولكن، على الرغم من أن مثل هذه المشكلات تبدو في السياق
العالمي لافتة للأنظار أكثر منها في السياق المحلي، فإن بدايات خطاب المجتمع العالمي
تبدو
مع كل هذا بازغة بين النسويين. تبدو هذه البدايات كأوضح ما يكون في السبل الرسمية وشبه
الرسمية من قبيل مؤتمرات الأمم المتحدة العديدة حول المرأة منذ العام ١٩٧٥م وما رافقها
من
منتدياتٍ عقدتها منظمةٌ أهلية غير حكومية، وهي أيضًا بادية للعيان في العديد من التفاعلات
الجارية بين الجماعات التي تمثل القواعد الشعبية، مثل شبكة نساء الشمال والجنوب وشبكة
النساء العالمية لحقوق الإنجاب.
إن مفهوم الخطاب الأخلاقي العملي في النسوية يختلف عن مفهوم خطاب فلسفة الأخلاق الكلاسيكي
في مناحٍ عدة، منها أنه يتَّجه مباشرةً نحو مسائل المساواة في الخطاب ومسائل الانفتاحية،
وذلك في مواقف لا مناص من أن تكون القوة هي التي شكَّلتها. يستهل هذا المقال طريقَه
باستكشاف الدَّور الذي تمارسه المجتمعات الصغيرة في محاولات النسوية للتوفيق بين الالتزام
بالمناقشة المفتوحة من ناحية، وبين التعرف على تفاوتات القوة من ناحيةٍ أخرى.
(١) إلقاء الضوء على المشكلة
في تصوُّري الخاص، يبحث الخطاب الأخلاقي العملي عن إعادة بناء القواعد مسترشدًا
بالممارسات الخطابية لجماعات عديدة من نشطاء النسوية في أمريكا الشمالية تشكَّلت في
أواخر القرن العشرين. وكثيرًا ما عملت هذه الجماعات على تحديد الانفتاحية الخطابية
بطريقتين تتَّصل إحداهما بالأخرى. إحداهما هي تحديد جداول الأعمال: تتلاقى الجماعات
الناشطة بالشكل النمطي المعهود حول قناعاتٍ أخلاقية معينة، من قبيل مناهضة النزعة
العسكرية أو العنف ضد المرأة، وبدلًا من الدخول في مساجلاتٍ حول هذه الالتزامات
الأخلاقية الأساسية، فإنهنَّ يتكرَّسن لاستكشاف مضامينها. وفي داخل الجماعة يسلِّمن
تسليمًا بأن هذه الالتزامات أصبحت أساسية في المنظورات الأخلاقية للجماعات. والطريقة
التي كثيرًا ما تعمل بها الجماعات على تحديد انفتاحية الخطاب هي تقييد حدود الإسهام في
مناقشاتها، بإقصاء الأفراد اللائي لا يتقاسمن الالتزامات الأساسية للجماعات أو اللائي
ليس لهن وضعٌ ثابت فيها لأنهن من خارجها.
استبعاد الأفراد من الدخيلات اللائي هن من خارج الجماعة، أو إغلاق الأجندات
الأخلاقيات قد يكون في بعض الأحيان أمرًا واقعًا، لكنه في بعضها الآخر مسألة إصرار صريح
وعنيد. مثلًا بعض جماعات المومسات تشدِّد على رفض ما تقدمه نسوية الطبقة الوسطى من
تحليلاتٍ لوضع المومسات كضحايا للاستغلال الجنسي، والنساء الأمريكيات الأفارقة يقررن
أحيانًا أن ما يمارسه الرجال الأمريكيون ذوو الأصول الأفريقية من عنفٍ منزلي واغتصاب
في
المنزل، مسائل لا تستسيغها الأمريكيات ذوات الأصول الأوروبية. وبعض النساء السحاقيات
ينشدن استبعاد النساء ذوات الميول الجنسية السوية من مناقشة مسائل معينة في الممارسات
السحاقية. أما خارج أُطر الغرب، فسوف نجد بعض نساء شمال أفريقيا يعترضن على الانتقادات
التي توجهها النسوية الغربية لممارسات الختان وخفض الشفرتين. وثمة مناقشة حادَّة ثارت
بشكلٍ خاص حول مقال اشترك في كتابته امرأتان أستراليتان، إحداهما أنثروبولوجية تنحدر
من
أصولٍ أوروبية، والأخرى امرأة «تقليدية» من أهل أستراليا الأصليين. يعرض المقال معدلات
مرتفعة للغاية للعنف والاغتصاب، تتضمَّن عمليات اغتصاب متواترة ترتكبها عصابات من أهل
البلد الأصليين ضد نساءٍ أيضًا من أهالي البلد الأصليين. لم يكن صدق تلك الادعاءات محل
جدال، ولكن بعض أولئك النساء من الأهالي اعترضن بأنه من غير الملائم أن تفتح هذا
الموضوع امرأةٌ بيضاء، ولو حتى بمشاركة امرأة من الأهالي (Bell and
Nelson 1989; Larbalestier 1990; Bell 1990, 1991a, 1991b, Klein 1991; Huggins et
al., 1991; Nelson 1991). إن إغلاق باب بعض المساجلات، واستبعاد
البعض من التدخل في موضوعاتٍ معينة، يبدو وكأنه يسير برمَّته ضد مثال المناقشة الحرة
المفتوحة كما نفهمه في الفلسفة الأخلاقية الغربية. ومهما يكن الأمر، سوف أقترح أن
مفهومًا نسويًّا للخطاب الأخلاقي قد يستطيع تبرير مثل هذه الاستبعادات من دون أن ينكر
ذلك المثال، بل إنه باسم ذلك المثال يستطيع أن يبررها.
إن جماعات النساء اللائي ينشدن استبعاد حيواتهنَّ من دائرة فحصٍ نقديٍّ تقوم به
نسويات من الخارج يتقدمن بعدة حيثيات لهذه الرغبة. تجادل جماعات المومسات بأن النسويات
من الطبقة الوسطى يجهلن الظروف الحقيقية لحياة البغاء، وتجادل نساء شمال أفريقيا بأن
النسويات الغربيات لا يفهمن الدَّور الذي يقوم به استئصال البظر وخفض الشفرتين في
الثقافات الأفريقية. وفي كلتا الحالتين، نجد أن الجماعات التي لاقت ممارساتها تحديًا
ومناوأة من الخارج تزعم أن الناقدات تلقَّين صورةً خاطئة. وفي بعض الأحيان يعبِّرن
أيضًا عن انشغالهنَّ بأن المناقشة المفتوحة لمسائلَ معينة قد يكون لها عواقب ضارة
بمجتمعهنَّ المحلي؛ مثلًا بعض السحاقيات ينزعجن من أن لفت الأنظار إلى الممارسات
السحاقية المثيرة للجدل قد يزيد حدة الهجوم من أنصار الزواج بين الجنسين، وتخشى بعض
النساء الأمريكيات الأفارقة من أن مناقشة العنف الذي يمارسه الرجال الأمريكيون،
٤⋆ الأفارقة قد تؤدي إلى الفرقة في مجتمعهن المحلي.
وهذه الحجج في الأعم الأغلب لا تقنع النسويات من الخارج اللائي يلاقي تدخلهنَّ
رفضًا.
٥ وقد يكون ردُّهن بأنهنَّ يألفن الثقافات أو الثقافات الفرعية موضع البحث.
وقد تحاجَّ أخريات بأن الخبرة الأولية التي يمرُّ بها أهل هذه الثقافات لا تمثل سلطة
قاطعة، لافتات الأنظار إلى أن الضحايا عادة ما يلتمسن المبررات لانتهاكهنَّ، وبالمثل
«لاختياراتهنَّ» بأن يبقين في أوضاعٍ تسمح بانتهاكهنَّ. وأيضًا قد يعترض أهل الخارج على
ما يتصورنه خطأ في المجتمع المحلي ككلٍّ يدفع ثمنه بعض النساء فيه. بل إنهنَّ قد يجادلن
بأن تجاهل محنة مثل أولئك النساء لَيُعدُّ عنصريةً وتمركزًا حول العرق، على قَدْر ما
يوحي هذا بازدواجية المعايير الأخلاقية وفقًا للمستويات العالية من الانتهاك والاستغلال
التي تعدُّ «مقبولة ثقافيًّا» بالنسبة إلى بعض النساء وغير مقبولة بالنسبة إلى نساءٍ
أخريات.
وفي تقييم تلك المسائل العسيرة والمعقدة، من المهم أن نلاحظ كيف تتشارك تلك الأمثلة
جميعًا في بعض الملامح الدالة. في كلٍّ من الحالات السابقة، أولئك اللائي يبحثن عن
حماية حيواتهنَّ من الفحص والإمعان ينتمين إلى جماعاتٍ يصمها المجتمع بالعار، و/أو إلى
أقلياتٍ ثقافية، و/أو لها تاريخ استعماري، بينما تنتمي أولئك الأخريات المراد إقصاؤهن
إلى جماعاتٍ أقوى أو ذات سيادة. كلٌّ من الجماعات التي تقع ممارساتها تحت طائلة الفحص
والدرس، إنما تناضل تحت ضغوطٍ خارجية لكي تحتفظ بمغزى احترام الذات وسلامة التكامل
الثقافي، وكلٌّ منها كانت موضوعًا متواترًا لدراسات عالمات دخيلات من خارج الجماعة:
عالمات نفس واجتماع وأنثروبولوجيات، بل وحتى من المتخصصات في علم الجريمة. وأولئك
المتخصصات في العلوم الاجتماعية افترضن افتراضًا نمطيًّا مفاده أن دراساتهنَّ جعلت
منهنَّ خبيرات في حيوات أولئك اللائي يدرسونهن، بل وكثيرًا ما كُنَّ يقدمنهنَّ بوصفهنَّ
نماذج غريبة ومثيرة أو ضحايا أو حالات مرَضية.
في هذا السياق، نجد أن بعض المجتمعات المحلية حين ترفض وتقاوم جعل حياتها مفتوحة
أمام
بحثٍ نسوي نقدي يقوم به أفراد دخيلات من خارج المجتمع المحلي، فلا يمكن تأويل هذه
المقاومة بأنها محاولة وضع حدود أمام استقلالية خطاب الآخر. فالأحرى أنها دعوى لتأكيد
استقلالية خطابهنَّ هُنَّ أنفسهنَّ. إن النساء اللائي ينتمين إلى جماعاتٍ غير قيادية
لديهن سبب وجيه لافتراض أن حياتهنَّ إذا أصبحت موضوعًا للنقاش النسوي، فإن المنظورات
الخاصة بهن سوف تتماهى وتنخفض قيمتها، والأرجح أن تؤخذ وجهات نظر النسويات، اللائي
يحملن شهادات ومؤهلات مهنية، بوصفها أحكامًا سلطوية، لا سيما إذا نُشرت في مجلة علمية
محكَّمة، حيث يعَدُّ المؤلفون خبراء وتصبح تلك الدراسات «معلومات» والآراء محض معطيات
ليحللها الخبراء. وها هي الأنثروبولوجية الأسترالية البيضاء ديان بل
Bell Diane، تلاحظ واحدة من نقادها أن مقالها
المثير للجدل حتى لو كان بمشاركة امرأة من أهل أستراليا الأصليين، هي توبسي نابرولا
نلسون Topsy Napurrula Nelson، فإن كلمات هذه الأخيرة
قد كُتبت بحروفٍ مائلة في سياق ديباجة ديانا بيل، في حيلة تميز ما تقدَّمت به نلسون عن
«الصوت الأبيض السائد الذي يحكم شكل ونبرة هذا النص الأكاديمي»
(Larbalestier 1990, 147).
وليس من الضروري أن الاعتراضات على التدخل الخطابي لنسويات دخيلات من الخارج تعتمد
على أي فرضيةٍ خاصة حول دوافع هؤلاء الدخيلات. فربما ترغب أولئك الدخيلات في تزكية
صيتهنَّ المهني بأن يصبحن معروفات بوصفهن خبيرات في شئون جماعات معينة من النساء
المهمَّشات، ربما يستمتعن بوضعهنَّ كمنقذات لنساءٍ ضحايا، أو لعلهنَّ منشغلات انشغالًا
عميقًا بجودة حياة النساء اللائي يتحدثن عنهن. وبصرف النظر عن دوافع المتحدثات، فإن
بنية وسياق تدخلاتهن الخطابية قد ينجم عنهما وضع النساء موضوع خطابهن في منزلةٍ أدنى
وليست مساوية لهنَّ. في هذه الملابسات، نجد أن مناقشة بعض النسويات لبعض المسائل سوف
تُخْرِس صوت النساء الأخريات، ليس هذا فحسب، بل أيضًا توعز بأنهنَّ عاجزات عن التحدث
بالأصالة عن أنفسهن. ومن المفارقات أن التعرف على هذه الأنماط من ديناميكيات القهر كان
على وجه الدقة هو الذي دفع بالمرأة الغربية إلى تكوين الجماعات النسوية حيث تحاول تطوير
أشكال الممارسات الخطابية التي أُطلق عليها الآن اسم الحوار النسوي العملي.
إن التأمُّل في الأمثلة السابقة يُمِيط اللثام عن التضليل الخطير الذي يحمله الفهم
المؤمثل للخطاب العملي بوصفه تبادلًا للأفكار لا يحمل أضرارًا سياسية ويحدث في مجال لا
يحدُّه توقيت معين. ولكي تتَّجه النسويات صوب المسائل الأخلاقية والسياسية المحيقة
بالخطاب التجريبي، لا بدَّ لهن من إدراك أن المناقشات العملية هي أحداث تاريخية لها
عواقب حية معيشة لا يمكن التحكم فيها أو التنبؤ بها جميعًا. وفضلًا عن هذا، ينبغي ألا
ننسى البتة أن المناقشات التجريبية دائمًا تدفعها القوة والسلطة، يؤثر فيها القادر على
الإسهام ومن سوف يُستبعد، من الذي سوف يتحدث ومن الذي سوف يستمع، من الذي سوف ينصَت إلى
ملاحظاته ومن الذي سوف تهمَل تعليقاته، وأي موضوعات سوف تكون المقصد وأيها ليست هكذا،
ما الذي يوضع موضع التساؤل وما الذي يسلَّم به، حتى ما إذا كانت المناقشة ستحدث أصلًا
أم لا. ليس الانشغال بهذه الأوجه للخطاب الأخلاقي لزامًا على الممارسة النسوية فحسب،
بل
أيضًا على النظرية الفلسفية. مثلًا، يمكن أن يلجأ إليها الفلاسفة لتفسير السبب الذي
يجعل المشاركة الشاملة لكل الأطراف وجدول الأعمال المفتوح، في بعض الظروف، يخنقان
المناقشة غير المقيدة بدلًا من تزكيتها. وأيضًا تساعد مثل هذه الاعتبارات في تفسير أن
المجتمعات المغلقة حاجة لا يستغني عنها الخطاب أبدًا.
(٢) في أن المجتمعات المغلقة حاجة إبستمولوجية لا محيص عنها
أصبحت تيمة الصوت والصمت مسألة محورية في نسوية القرن العشرين الغربية، والآن توجد
أدبيات نسوية مكثفة تحلل هيمنة النساء على الخطاب أو إقصاءهنَّ منه. وإحدى المناقشات
الكلاسيكية تتمثل في مقال غاياتري تشكرافورتي سبيفاك «هل تستطيع الخانعة الحديث؟
Can the Subaltern Speak?» حيث تتناول المؤلفة
بالتفصيل كيف أن نساء العالم الثالث «الخانعات»،
٦⋆ يجري تمثيلهن في الخطاب بطرقٍ تطمس ذاتيتهن فيما تدعم مآرب مؤلفي النصوص
(
Spivak 1988). والمثال الذي تطرحه سبيفاك، هو
ممارسة الساتي؛ أي طقس التضحية بالأرامل الهنديات بإلقائهن في محارق جثث أزواجهن في
أثناء الجنازة، ما جعلهن يبدون أمام المستعمرين البريطانيين كضحايا يجب إنقاذهن من هذه
المذبحة الراجعة إلى «ممارسات متخلفة»، بينما يراهن بعض الرجال الهنود كبطلاتٍ مخلصات
للتقاليد الثقافية «الهندية».
٧ تتقدم الماركسية البنيوية والماركسية بعد-البنيوية كلتاهما بتفسيرٍ لوضع
هؤلاء الأرامل تغيب فيه ذاتيتهن. وفي هذا تقرر سبيفاك أن النساء الخانعات يلزمن الصمت
لأن المرأة ذاتها «لا يمكنها أن تعرف نص الاستغلال الأنثوي أو أن تتحدث عنه»
(
Spivak 1988, 288).
إن المرأة خانعة، والسبب الذي يجعلها لا تستطيع الحديث عن استغلالها لا يبدو للوهلة
الأولى سرًّا ملغزًا، وربما كان هذا هو أسلوب سبيفاك البلاغي في إفصاحها عن أن المثقفين
يعجزون عن سَبْر أغوار اللغة الأصلية لتلك المرأة، أو أنها لا تستطيع إنتاج «نصوص»
لأنها أمية. ولكن لماذا لا يمكنها أن تعرف شيئًا عن مجرد استغلالها؟ حتى لو كانت غير
مطَّلعة على النصوص الكلاسيكية التي تعرض لاستغلالها، من قبيل الماركسية، فلا بدَّ أنها
بالقطع على وعيٍ بأن ثمة شيئًا ما خطأ في موقفها. كيف تستطيع أن تقنع وترضى بقهرها؟
تتقدم النسوية الهندية أوما ناريان بإجابةٍ عن هذه الأحجية، فتقول:
كانت الفتيات (اللائي نشأن كجدتي) يُزوَّجن فور أن يدركهنَّ البلوغ، ولم
يكنَّ قد تدرَّبن على أي شيءٍ يتجاوز المهام المنزلية ورعاية الأطفال، وينتقلن
من الاعتماد الاقتصادي على آبائهن إلى الاعتماد الاقتصادي على أزواجهنَّ ثم على
أبنائهن حيث يتقدَّمن في العمر. وإن كنَّ سيُبدين أصلًا أيَّ انتقادات
لأقدارهن، فسوف يتم التعبير عن هذه الانتقادات في لغة تحول دون إبداء الرغبة في
أي تغييرٍ جذري. لقد اعتبرن أنفسهن تعيسات على المستوى الشخصي، غير أنهن لم
يضعن أسباب بؤسهن في سياق تنظيماتٍ اجتماعية أوسع (Narayan
1989, 267-68).
توعز كلمات ناريان بأن صمت المرأة الخانعة لا يضرب بجذوره فقط في الرضا بالعبودية،
بل
في عجزها عن صياغة الظلم الواقع عليها في إطار مفاهيم. وهذا التحليل شأنه شأن كل
تشخيصٍ، إنما يتضمَّن الوسيلة الملائمة للعلاج: ما تحتاج إليه المرأة الخانعة هو إطار
تصوري، ولغة قادرة على الإفصاح عن الأذى الواقع عليها وعن احتياجاتها وعن مطامحها. أما
ما هو مطروح من خطابٍ أو نصوص تعرض لاستغلالها فلا يحمل مثل هذه اللغة: وحتى إن حمل
وعدًا صريحًا بأن يحرر تلك الخانعة، فإنه يغفل الطبيعة المتميزة لقهرها. والحق أن
ادِّعاء هذه النصوص الظاهري بالحديث عن المرأة الخانعة، فيه مصادرة على سكوتها، إن
الإفصاح عن الاستغلال الواقع بشكلٍ خاص على المرأة الخانعة يستلزم خلق لغة خاصة
بها.
اللغة بنية عامة، وغيابها قصور عام وليس قصورًا شخصيًّا خاصًّا. وخلق لغة جديدة هو
في
حكم تعريفه مشروعٌ جمعي، وليس شيئًا يمكن أن ينجزه فرد بمفرده، تلك المرأة الخانعة إذا
بحثت عن الدخول في الخطاب العملي بمفردها؛ فالأرجح أن تظل خبرتها شائهة ومكبوتة.
وتستطيع أن تتغلَّب على صمتها فقط عن طريق التشارك مع نساءٍ أخريات خانعات لتطوير لغة
عامة تعبِّر عن خبرتهن المشتركة. لا بدَّ أن تصبح المرأة الخانعة عضوًا في جماعةٍ تضع
لذاتها تعريفًا صريحًا بأنها جماعة تتشارك في ظروف قهر مشتركة — بالمصطلحات الماركسية
هي جماعة تجعل من ذاتها طبقة في ذاتها وبالمثل من أجل ذاتها. لا بدَّ أن تطالب بهويةٍ
جماعية متميزة عن تعريف المرأة من حيث هي ابنةٌ لأبٍ معين أو زوجةٌ لشخصٍ معين أو أمٌّ
لآخرين بعينهم. وفقط عن طريق خلق هُويَّة جماعية مع نساءٍ أخريات لهنَّ أوضاع مماثلة،
ربما مع بنات وزوجات وأمهات أخريات، تستطيع تلك الخانعة أن ترى نفسها كخانعةٍ، وبهذه
الطريقة فقط تستطيع أن تحطم الحواجز التي تحول بينها وبين أن تتكلم. إن الإفصاح عن
الاهتمامات المتميزة للنساء يتطلب لغةً، واللغة بدَورها تتطلب مجتمعًا. ومن دون أيٍّ
من
هذين المطلبين يظل من المستحيل بزوغ منظورات أخلاقية مضادة للسلطة السائدة.
أصبحت المجتمعات الصغرى التي تعرف عضواتها جميعًا بعضهن بعضًا حاجة لا مندوحة عنها
لتطوير المنظورات الأخلاقية للنسوية الغربية. لقد جعلت النسوية الغربية قادرة على أن
تمنح فهمًا بديلًا لظواهر اجتماعية يجري التعبير عنها بمفرداتٍ متميزة تتضمن تعبيرات
من
قبيل «التحيز الجنساني» و«النزعة النسائية» و«التشيؤ الجنسي» و«الاغتصاب الداجن»
٨⋆ و«الأم البديلة» و«اليوم المزدوج» و«التحرش الجنسي» و«نهم النظرة الذكورية» و«المستيزية»
٩⋆ و«الشغل العاطفي». مثل هذه المجتمعات الصغرى تركز حول وجهٍ معين اتَّخذته
بوصفه تابعًا للمرأة ملازمًا لها، وسلمت تسليمًا ببعض المعتقدات، كما هي مطروحة داخل
تلك الجماعة. ربما قبلت التسليم بالخطأ في النزعة العسكرية أو في الاغتصاب أو في العنف
المنزلي أو في الفواحش والمصنفات الماجنة، أو ربما يقبلن التسليم بقيمة تشاور النظيرات
أو إنتاج المرأة للموسيقى والأدب المكشوف. وبافتراض أن بعض هذه المعتقدات أساسية
بالنسبة إلى الجماعة، فإن عضواتها يواصلن المسار لاستكشاف مضامين تلك المعتقدات ولتنقيح
منظور أخلاقي متميز؛ مثلًا حينما تقبل مشروعية السحاق، سوف تواصل السحاقيات المسير حول
السبب الذي يدفع بشرًا وخصوصًا من النساء لمضاجعة الجنس الآخر، وحول العواقب الاجتماعية
والسياسية لتقعيد هذه المضاجعة، وحول السبل التي عبرها أصبحت المفاهيم الغربية للجنوسة
تنطوي على مثل هذه المضاجعة، وحول التعريفات السائدة للجنس وللأسرة.
ليس النسويات أو حتى المفكرون الأخلاقيون هم فقط الذين تطورت منظومات أفكارهم في
سياق
مجتمعات شخصية مصغرة يتحد الواحد منها تحت لواء التمسك بمعتقداتٍ معينة أو مناهج محددة.
يحفل تاريخ العلم بذكر «معاهد غير مرئية» أو جماعات من العلماء يعملون من خلال افتراضات
مشتركة بينهم. أطلق ديفيد ل. هل على هذه الجماعات اسم «الديمات»،
١٠⋆ في مماثلة مع جموع الكائنات الحية التي تستكفي بذاتها فيما تقطنه من
مستعمراتٍ محلية تؤدي دورًا مهمًّا في التطور البيولوجي (
Hull 1988,
433-34). أمَّا مدارس الفنانين أمثال الباوهاوس فهي فكرة مألوفة
جدًّا، وكثيرًا ما عمل الفلاسفة في إطار جماعاتٍ من قبيل دائرة ينا (التي انتمى إليها
هيغل) ودائرة فيينا ومدرسة فرانكفورت وفلاسفة أكسفورد،
١١⋆ كلٌّ من هذه الجماعات الصغرى التي عادة ما يتقابل أفرادها جميعًا وجهًا
لوجه قامت بدورها كبوتقةٍ فكرية يجري فيها استكشاف وتنقيح منظومات من الأفكار.
تلاحظ هيلين لونغينو أن التقدم في العلم سيكون مستحيلًا ما لم يوضع صك الختام على
أسئلةٍ بعينها وعلى استمرار المساجلات حولها على الأقل بصفةٍ مؤقتة، تقول:
رسالة العلم في أن يمد نطاق المعرفة تستدعي تحجيم رسالته النقدية. وإذا لم
يتم التحكم في البعد النقدي للعلم، يغدو البحث العلمي مؤلفًا من اختباراتٍ لا
تنتهي، وما لا حصر له من الأفكار الجديدة والاقتراحات الجديدة سوف تقع تحت
طائلة الفحص النقدي الدقيق ويتم رفضها (Longino, 1990,
223).
وأيضًا تطوير منظومات الأفكار الأخلاقية والسياسية يتطلب أن تظل ثمة مقدمات معينة
ثابتة. وعن طريق الاتحاد حول فرضياتٍ معينة يتشارك فيها الجميع، تقدم المجتمعات
الأخلاقية والسياسية براحًا عقليًّا يتحرر فيه الأعضاء من الضغوط المتواصلة لدفعهم إلى
تعريف مقدماتهم وشرح مفرداتهم المهنية. ولأن عدد الأعضاء صغير بشكلٍ نموذجي ويعرف بعضهم
البعض معرفة شخصية، فإن التواصل في مثل هذه المجتمعات حري بأن يكون غير رسمي وسريعًا،
وربما يجري اختبار الأفكار التي لم تكتمل بعدُ، وربما تنمو وتتطور بفعل أعضاء يفكرون
معًا بمعنى الكلمة.
وهكذا في النسوية، تمنح مثل هذه المجتمعات عضواتها الدعم المعنوي والعقلي حينما تكون
الأفكار خرقًا لمعايير المجتمع الأكبر. وتقرر باتريشيا هل كولينز: «إن نطاقًا للخطاب
الآمن نسبيًّا، مهما كان محدودًا، شرطٌ ضروري للمقاومة التي تبديها النساء السوداوات»
(
Collins 1990, 95). أما التي تنشق وتعارض بمفردها
فالأحرى أن تعد مخبولة. إن لم تعدَّ خبيثة وشريرة، وفي غياب الدعم والتأييد حري أن
يتأدى بها الأمر إلى اعتبار نفسها شريرة أو مخبولة. وتلاحظ ماريا لغونز أنه «لو لم تكن
المقاومة نشاطًا اجتماعيًّا، فمصير التي تقاوم هو الفشل في خلق عالم جديد للمعنى، خلق
هوية جديدة، وعرق مستيزي. إن المعنى الذي لا يجد استجابة ويبحث عن استجابة، يفشل من حيث
هو معنى» (
Lugones 1992, 36). حين تتشارك الأخريات في
الرؤية التي تحملها من تقاوم ويؤيدن مناهجها، تتوافر شروط لتنمية هوية معارضة ثمة في
الأغلب تصديق على صحتها ومشروعيتها، بل وعلى أنها قوة محرِّرة. تقول سارة هوغلاند: إن
«ظهوري كسحاقيةٍ كان بالنسبة إليَّ هو الأوبة إلى المنزل. جربت الإحساس بأنني أقر في
بيتي وفي المركز. السحاق يلهمني، هو الذي يبثُّ الحياة في أعطافي …»
(
Hoagland, 1988, 3). قد تشعر المنشقة، في إطار
الأمن الذي يسبغه مجتمعٌ محلي تنتمي إليه، أنها ظفرت أخيرًا بالحرية في أن «تكون
ذاتها». لم تعد في حاجةٍ إلى الحماية أو إلى أن تتصنع وتنافق، إلى أن تتخفى. إنها
أخيرًا حرة في أن تكون «أصيلة»،
١٢⋆ في أن تقول — وبالتالي تكتشف — ما تفكر فيه حقًّا وفعلًا. على أي حال، قد
يبدو ثمة تناقض ظاهري في أن الملامح عينها التي تمكن المجتمعات الأخلاقية الصغرى من أن
تحرر تفكير عضواتها قد تعمل في الآن نفسه على وضع حدود تقيد ذلك التفكير.
(٣) المخاطر الأخلاقية والإبستمولوجية للمجتمعات المغلقة
ينعتق أعضاء المجتمعات المغلقة من الحاجة إلى الدفاع عن فرضياتهم الأساسية، وفي هذا
تحريرٌ لهم، بَيد أنه أيضًا يجعلهم منحصرين في حدود الأسئلة المثارة داخل المجتمع.
١٣⋆ في المجتمعات العلمية، غالبًا ما تظل الفرضيات المشتركة مطمورة ولا يجابهون
إلا العقائد التي تميز شخصًا بعينه (
Longino, 1990,
223). ويصدق هذا أيضًا على مجتمعات اليمين واليسار والوسط في الأخلاق
وفي السياسة، وجميعها تلتجئ إلى قيمٍ مؤسِّسة للمجتمع، غالبًا ما يسود الاعتقاد بأنها
قيمٌ محفوظة في وثائق لها وضع سلطوي، من قبيل الإنجيل أو بيان الحزب الشيوعي أو دستور
الولايات المتحدة الأمريكية. ويتبع هذا أن أي خلافٍ ينشب داخل الجماعة يؤخذ حرفيًّا
بوصفه مساجلة حول كيفية تأويل القيم المؤسسة للمجتمع أو تأويل نصوص.
على الرغم من أن تطوير أنساق الأفكار الأخلاقية والسياسية سيغدو في حكم المستحيل
ما
لم يكن ثمة فرضيات أولية تم التسليم بها في المدى الزمني المعني؛ فإن تلك الفرضيات إذا
كانت لا تتعرض البتة للمساءلة والاعتراض سوف تصبح الأنساق المؤسسة عليها شكلًا من أشكال
العقائد الإيقانية القاطعة dogma. ويجد أعضاء المجتمع
أنفسهم مجبرين على التعبير عن شكوكهم وعن عدم اتفاقهم مع الجماعة بأسلوبٍ ملتوٍ، أو
ربما يكبحون الرغبة في التعبير عن هذا كلية، أو على أحسن الفروض يفصحون عنه بلغةٍ تنشد
القبول أو مفرطة في التنميق والإتيان بالنصوص الشواهد. أما من هم خارج المجتمع فقد
يعتبرونه مجتمعًا معبرًا عن عواطف ومعتقدات، خصوصًا إذا كانت الأفكار التي يلتزم بها
هذا المجتمع لها طابع هرطقي أو خارج عن الأصوليات.
كل المجتمعات تمارس ضغوطًا على أعضائها ليسايروا التأويل السائد للفرضيات والقيم التي
يجتمعون عليها. والأرجح أن تكون هذه الضغوط مكثَّفة خصوصًا في المجتمعات الصغرى
المعارِضة المحاصَرة بضغوط المجتمع الأكبر. ولأن مثل هذه المجتمعات تخشى أن يستوعبها
أو
يهزمها المجتمع الأكبر، فإنها تعتبر التوافق الداخلي شرطًا ضروريًّا لبقائها، وفي هذه
الملابسات قد تبدو المعارضة والاختلاف خيانة. وأيضًا من الأرجح أن تكون مقاومة
المجتمعات للمساءلة والاعتراض وللتغيير أكبر حين يكون الأعضاء المنشقون بحكم تعريفهم
لأنفسهم قد انضموا أساسًا للمجتمع كأعضاء مؤسسين، طالما أن المنشق يتحدى الأعضاء الأكثر
أصولية في المجتمع لكي يغير معتقداته الأثيرة ويهدد قيمًا أساسية في تكوين شعورهم بما
يكونونه. وحين يعتبر الأعضاء هُويَّتهم جزءًا لا يتجزأ من ماهية المجتمع الصغير، فقد
يخشون أيضًا من أن يؤثر تغير في قيم هذا المجتمع على صورته في أذهان من هم خارجه، بل
ويخشون أيضًا من انعكاس التغير على الأعضاء شخصيًّا. وإذا كان للمجتمع قائد أو قواد،
فقد ينتابهم التوجس من أن المنشقين قد يمثلون تهديدًا لسلطتهم. وإذا كان عملهم مع
المجتمع المعني أساسيًّا في نشاطهم الحياتي تتزايد احتمالات مواجهتهم لهذا التحدي
خصوصًا.
معظم المجتمعات الصغيرة تشجِّع التوافق من خلال جزاءات رسمية وغير رسمية، حتى ولو
كان
هذا لا يتجاوز استقبال أفكار معينة استقبالًا باردًا أو السخرية منها. وأيضًا، كثيرًا
ما تبحث مثل هذه المجتمعات عن تقوية ولاء المجموعة عن طريق تنمية الشعور بالسيادة
والأفضلية، وذلك من حيث العلاقة مع المجتمع الأكبر. تحفز أعضاء المجتمع الصغير على
اعتبار أنفسهم نخبة مستنيرة، وعلى نبذ أولئك الذين لا يتَّفقون معهم بوصفهم مخطئين أو
جهلة أو ضحايا لوعيٍ زائف. لعل هذا التصور مفيد في تبرير اختلاف معايير السلوك تجاه
أولئك الذين هم داخل المجتمع وأولئك الذين هم خارجه. يمثل التهديد بطرد العضو السلاح
الأمضى في يد المجتمع لدفع الأعضاء إلى التوافق، ويشحذ من حدَّة هذا السلاح ذلك الإحساس
بأنه مجتمعٌ متماسك يضم أعضاء ذوي حيثية خاصة، ينعمون داخله بمنظورٍ أسمى للدين أو
للعلم أو للسياسة أو للأخلاق. المنشق الذي لن يتوافق مع الجماعة لا يهدده الإقصاء منها
فحسب، بل أيضًا وصمه بأنه ليس جديرًا بالانتماء إليها. يوضع في زمرة المُنشقِّين عن
العقيدة أو الكفرة أو الدجالين الأفاقين، أو الخائنين المرتدِّين أو القائمين بالثورة
المضادة، لم تعد العضوة نسوية مخلصة أو لم يعد العضو شيوعيًّا مخلصًا، أو لم يعد
أمريكيًّا بحق.
في معظم المجتمعات الصغيرة، يمثِّل النبذ والإقصاء العقوبة القصوى التي تفرض التوافقَ
مع المجتمع، أمَّا عن مدى نجاح هذه العقوبة في قمع المنشقين فإنه يعتمد على توعية
المجتمع موضع النظر، وعلاقته بالمجتمع الأكبر، وعلى استطاعته تلبية احتياجات أعضائه،
ومقدار ما يشعر به الأعضاء من انتماء لهذا المجتمع واتِّكال عليه. إذا آمن أعضاء مجتمع
ديني بأن الحرمان الكنسي ينتج عنه الخلود في نار جهنم فسوف يتوافر لديهم دافع في غاية
القوة للتوافق مع المجتمع. وبالمثل تمامًا حال الأعضاء في تنظيم مهني، الذين ينتج عن
طردهم وإقصائهم حرمان من امتيازات شغلهم لمهنتهم. وعلى العكس من هذا، نجد مشهد الإقصاء
من عضوية نادي السباحة قد يكون غير سار لكنه ليس مثيرًا للخوف؛ لأن عضوية النادي لا
تمثل الطريقة الوحيدة التي يستطيع بها الأعضاء المران والانتماء والاجتماعي.
حين يكون الانتماء لمجتمعٍ معين مسألة مركزية بالنسبة إلى إحساس العضو بهُويته، فمن
المرجَّح أن يتضخَّم التهديد بالإقصاء والطرد ويتَّخذ صورةً مبالغًا فيها وتتجاوز
المألوف. قد تمثل مغادرة المجتمع فقدانًا للتواصل مع القيم الدينية أو الأخلاقية أو
السياسية أو الثقافية التي تهب حياته المعنى. قد يمثل هذا فقدانًا للموئل العاطفي
والإحساس بالانتماء، وفقدان الزملاء والرفاق والأصدقاء والأحبة. تتزايد هذه المخاوف
بشكلٍ خاص بالنسبة إلى أعضاء المجتمعات العرقية/الإثنية والمجتمعات المعارضة؛ لأنه ليس
من المحتمل أن توجد بدائل متاحة. وهذا أحد الأسباب التي تجعل الولاء للمجتمع وانضباطه
أقوى بشكلٍ خاص بين الأقليات العرقية والثقافية، وفي كلا التيارين اليميني واليساري في
المشهد السياسي.
قد تختار بعض المجتمعات أن تتَّخذ مسبقًا إجراءات ضد التحديات التي تواجه معتقداتها
وقيمها، وذلك عن طريق تحجيم التفاوت بين أشخاص الذين تقبلهم في عضويتها، واستبعاد الذين
يحملون فكرًا قد ينطوي على أفكارٍ أو قيم مثبطة، بل واستبعاد الذين لهم هيئة غير
مقبولة. قد ترفض الأقليات الإثنية أو الثقافية قبول من ينتمون إليها نصف انتماء أو من
تم «تغريبهم». وجماعات السحاقيات قد ترفض المخنثات. وقد تستبعد مجتمعات المثليين
اللواطيين الذين يحتفظون بميلٍ نحو الإناث. إن سياسات الاستبعاد الواعية تعمل على تعزيز
التوجه نحو تجانس الثقافة الذي يوجد في كل مجتمعٍ صغير يعتمد أعضاؤه على بعضهم في نَيل
الدعم العاطفي، وبالمثل الدعم الفكري (Young 1990,
235). وتسييس حدود المجتمع يخدم في صون «نقاء» معتقداته وقيمه عن طريق
الحيلولة بين أعضائه وبين التحديات التي يمثلها الفكر البديل (Phelan
1989).
وثمَّة عدد من الأخطار الإبستمولوجية والأخلاقية وثيقة الصلة تقبع في المجتمعات
المغلقة. إنها تتضمن أخطار الكبت وإنكار الاستقلالية والإيقانية القطعية والنفاق وخداع
الذات والنخبوية والتحيز. ولهذه الأسباب أزعم هنا أن المجتمعات المغلقة، على الرغم من
أنها ضرورة ولا محيص عنها من أجل تطوير بدائل نسقية لتلك الأنساق التي تفرضها القوى
المهيمنة، فإن ما تنتجه من بدائلَ لا بدَّ أن يخضع في النهاية لتقييمٍ أخلاقي أوسع، ومن
أجل رفع درجة تسويغ الاتفاق الأخلاقي حول المجتمع المصغر، فإنه يلتزم بالضرورة بأن يضع
التزاماته الأساسية تحت طائلة الفحص النقدي من قِبل من هم خارجه.
(٤) عولمة الخطاب النسوي
بالنسبة إلينا في النسوية الغربية المعاصرة، لكي نجعل التزاماتنا الأساسية مفتوحة
أمام الفحص النقدي، لا بد من اعتبار، أو إعادة اعتبار، منظورات كنا حتى الآن نستبعدها.
ربما يعني هذا أن علينا إعادة النظر في ذلك الاتجاه الغربي المعادي للنسوية الذي يؤكد
أن المرأة مكانها المنزل وأن مسائل الاغتصاب الداجن أو التحرش الجنسي إنما هي تلفيقات
اختلقتها خيالات نسوية مصابة بالبارانويا. وأيضًا قد يعني هذا أننا نأخذ في اعتبارنا
منظورات غير غربية، خصوصًا تلك التي تتجاهلها وسائل الإعلام الغربية أو تعمل على تشويه
سمعتها. وعلى أي حالٍ، فإن المطلب المُلِحَّ والعاجل هو أن تتعلم النسويات الغربيات كيف
يُنصتن باحترامٍ واهتمامٍ للنساء غير الغربيات مما نسميه بالعالم الثالث، بمن فيهن من
نسوةٍ جرى إسكات أصواتهن، حتى في داخل أوطانهن.
١٤ وبمزيدٍ من التخصيص، يجب أن نتتبع الحجَّة النقدية التي تتقدم بها عضوات
المجتمعات غير الغربية اللائي يشاركننا بعضًا من التعهدات الأساسية الخاصة بنا، بَيد
أنهنَّ قد لا يوافقننا في منظورات بعض المسائل أو يتمسكن فيها بمنظوراتٍ مخالفة. إنها
مجتمعاتٌ يوحد بيننا وبينها اختلافات معينة لكي نظل نتشارك في بعض المسائل الأساسية،
والحوار النقدي مع عضواتها حريٌّ بأن يكون ذا فائدة فورية في تزكية إعادة تقويمنا
وتنقيحاتنا لوجهات النظر الخاصة بنا، وذلك أكثر كثيرًا مما يحققه الحوار مع عضواتٍ لهن
تعهدات ورؤى
١٥⋆ للعالم (
worldviews) تبعد وتنأى تمامًا عن
تعهداتنا ورؤانا. وأيضًا نجد الحوار مع أولئك اللائي يشاركننا الكثير من قيمنا
وتعهداتنا لضرورةٍ عملية لا غنى عنها لكي يحدث التغير الاجتماعي في سياقاتٍ
ديمقراطية.
البعض قد يعارض إمكان الحوار النسوي العالمي على أساس أن النسوية ليست حركة عالمية.
مثل هذه النظرة قد تتمسك بها حتى بعض النسويات الغربيات، اللائي يفترضن أنه يمكن تحسين
أوضاع جموع من النساء غير الغربيات من خلال طرح أفكار النسوية الغربية. تلاحظ تشاندرا
تالبيد موهانتي أن النسوية الغربية كثيرًا ما تتصور «المرأة العادية في العالم الثالث»
على أنها «تخوض حياةً منقوصة نقصانًا جوهريًّا يقوم أساسًا على جنوستها الأنثوية»
(تُقرأ: مقيدة جنسيًّا) وعلى أنها منتمية ﻟ «العالم الثالث» (تُقرأ: جاهلة، فقيرة غير
متعلمة، مقيدة بالتقاليد، محصورة في الأسرة، ضحية، وما إليه). تضع موهانتي مقابلة بين
هذا التمثيل للنساء غير الغربيات وبين المطمور من تمثيلٍ لذات النساء الغربيات «بوصفهن
مُتعلمات، عصريات، يمتلكن التحكم في أجسادهن وفي حياتهن الجنسية، وينعمن بالحرية في
اتخاذ القرارات الخاصة بهن» (Mohanty 1991b,
56).
كثيرًا ما توسم النسوية، من قِبل غير العربيات ومن قبل الغربيين على السواء، بأنها
حصريًّا ظاهرة غربية، تلاحظ كوماري جاياوردنا:
إن مفهوم النسوية … بات مصدرًا لكثيرٍ من الخلط والإرباك في بلدان العالم
الثالث. وبأساليب مختلفة كثيرًا ما يزعم أهل التقليد والمحافظون السياسيون، بل
وحتى بعض أهل اليسار أن النسوية من منتجات الرأسمالية الغربية «المنحطة»؛ أي
القائمة على ثقافةٍ أجنبية لا تلائم النساء في العالم الثالث؛ أي إنها
أيديولوجية نساء برجوازيات موضعها في الغرب، وأنها لهذا تجعل النساء يغتربن عن
ثقافتهنَّ أو يخرجن عن مسارها، عن الدين والمسئوليات الأسرية من ناحية. ومن
الناحية الأخرى عن أشكال النضال الثوري من أجل التحرر القومي ومن أجل
الاشتراكية (Jayawardena 1986, 2).
ومن المفارقات أن المُعادين للنسوية من غير الغربيين وكثيرات من النسويات الغربيات
يتشاركون معًا في الاعتقاد بأن النسوية أساسًا ظاهرة غربية، وهذا في الواقع اعتقادٌ
خاطئ. تتقدَّم كوماري جاياوردنا بالوثائق التي تثبت كيف أن النساء في آسيا وفي الشرق
الأوسط منذ القرن التاسع عشر فصاعدًا قد حاربن متضامنات ضد خضوعهنَّ وخنوعهنَّ، على
الرغم من أن النساء غير الغربيات يتخلَّفن كثيرًا عن المرأة الغربية في تكوين منظمات
مستقلة للمرأة، ويفقنها في التعبير عن أنوثتهن في سياقات النضال القومي وفي حركة الطبقة
العاملة وهبَّات تمرد الفلاحين (Jayawardena 1986).
وكتبت أوما ناريان تقول إن الألم الذي يدفع النزعة النسوية الهندية التي تنتمي إليها
«كان سابقًا على التعليم وعلى «التغريب»، وكانت الدعوة إلى التمرُّد ذات جذورٍ مختلفة
وأكثر أولية، ولم تكن مسألة تصورية أو مسألة إنجليزية، بل مسألة مصوغة باللغة الأم»
(Narayan 1997, 7).
وتلاحظ تشاندرا تالبيد موهانتي أنه ليس من الممكن أن توجد نسوية غير متعارضة أو
«خالصة» (Mohanty 1991a, 20). والآن نجد العالم الواقع
فيما وراء الغرب الصناعي يعمل على تكاثر الجماعات الكبيرة والصغيرة معًا، والتنظيمات
الحكومية والتطوعية كليهما، المكرسة جميعها لتحسين وضع المرأة، ونجد أن معتقدات تلك
الجماعات، في السياق الغربي وغير الغربي معًا، تخفِّف من حدَّة التوتر بين الأفكار
المحافظة والأفكار الراديكالية. مثلًا، بعض الحركات غير الغربية التي يُفترض أنها تحمل
بطاقة «النسوية» قد فشلت في التصدي لأشكال من الهيمنة تؤثر في حيوات النساء الفقيرات
والقرويات، أو في الطعن في أيديولوجيات الأسرة من الطبقة المتوسطة، بينما توجد جماعاتٌ
غير غربية أخرى تُعنى بزيادة اعتماد المرأة الفقيرة على ذاتها وبتوسيع مجالات الخيارات
المتاحة أمامها. بَيد أنها تُحجم عن تحدِّي السيادة الذكورية بشكلٍ مباشر
(Newland 1991, 130)، أو تتجنب الكُنية «نسوية»
لأنها تتصورها كحركةٍ للنساء البيض من الطبقة الوسطى يمكن تعريفها تعريفًا يقصرها على
أن تكون كفاحًا ضد التمييز بين الجنسين (Johnson-Odim 1991,
313). في كل أنحاء العالم، تتعرض النسوية للمعارضة وللضر
والأذى.
عددٌ لا يُحصى من الجماعات خارج العالم الغربي، سواء كانت تقبل أو لا تقبل الكنية
النسوية، تعمل الآن من أجل رفع شأن ما أسمته ماكسين مولينو «مصالح الجنوسة» النسائية.
وضعت مولينو تعريفًا لمصالح الجنوسية بأنها «تلك التي تستطيع النساء (أو يستطيع الرجال
فيما يخص هذا الأمر) تطويرها بفضل ما تعزوه الجنوسة لهنَّ (أو لهم) من موضعٍ اجتماعي»
(
Molyneux 1985, 232). وتفرِّق مولينو في مصالح
الجنوسة بين المصالح العملية والمصالح الاستراتيجية. تنشأ مصالح الجنوسة النسائية
العملية مباشرة عن المواقف العينية في حياتهنَّ وتشمل الضرورات التي يلح إشباعها الفوري
من قبيل الطعام والحماية والماء والدخل والرعاية الصحية ووسائل الانتقال. تلاحظ مولينو
أن المطالبة بها «لا تتحدى بشكلٍ عام … الصور السائدة للخنوع على الرغم من أنها تنشأ
عنه مباشرة» (٣-٢٣٢، ١٩٨٥). والحق أن التوجُّه لمصالح النساء الجنوسية العملية يمكن
أيضًا أن يعزز القسمة الجنسية للعمل عن طريق تعزيز الفرض القائل إنه من مسئوليات النساء
توفير التموين لأسرهن. وعلى العكس من ذلك يجري تعريف مصالح الجنوسة الاستراتيجية بوصفها
ضرورة التغلب على خنوع النساء. ووفقًا لما تقوله مولينو، فإن هذه المصالح الاستراتيجية
يمكن أن تضم كل ما هو آتٍ أو بعضًا منه:
إلغاء القسمة الجنسية للعمل، التخفيف من عبء الأعمال المنزلية ورعاية
الأطفال، إزالة الأشكال المؤسساتية للتمييز من قبيل حقول امتلاك الأراضي
والعقارات، أو الحصول على القروض والائتمان، تأسيس المساواة السياسية، حرية
الاختيار في إنجاب الأطفال، واتخاذ معايير ملائمة لمواجهة عنف الذكور وتحكُّمهم
في النساء (Molyneux 1985, 233).
إن رفع شأن المصالح الاستراتيجية الجنوسية لهو من عمل الجماعات التي يرجح كثيرًا
تشاركها في التعهدات الأساسية التي تتمسك بها كثيرٌ من النسويات الغربيات.
١٦ أما جماعات القواعد الشعبية المحلية المتكرسة لمخاطبة الاحتياجات
الاستراتيجية الجنوسية للنساء في العالم الثالث، فإنها وبسببٍ ما نتوقعه فيها من طبيعةٍ
متحدية، لا تلقى دعمًا، لا من الحكومات القومية ولا من وكالات العون التي تعمل بين
حكومتين (
Moser 1991, 10–109). قد ينظر إلى هذه
الجماعات بوصفها مجتمعات للمقاومة يمكن مقارنتها من زوايا عديدة بمجتمعات النسوية
الغربية، ومثل بعض جماعات النسوية الغربية، التي قد تفتح مراكز لرعاية صحة المرأة أو
لتسيير العربات أو ورش الصيانة المنزلية، رأت جماعات غير غربية عديدة أنها يمكن أن تطور
مهارات وحوافز ضرورية لمخاطبة مصالح المرأة الجنوسية الاستراتيجية عن طريق العمل الفوري
من أجل المصالح الجنوسية العملية. من الأمثلة على هذا منتدى مناهضة قهر النساء، الذي
عُقد في العام ١٩٧٩م، بدأ حملاته الدعائية في بومباي بجذب الانتباه إلى مسائل من قبيل
الاغتصاب وحرق العروس، ولكنه سرعان ما غير هذا ليدور حول الإسكان، الذي كان مشكلة خاصة
ملحة لنساءٍ تعرَّضن للهجر أو سوء المعاملة من أزواجهن في ثقافةٍ لا تسمح تقاليدها
للمرأة بحق امتلاك مسكن خاص بها، وحين جرى تنظيم المنتدى حول مسألة اللامأوى، فإن هذا
أثار الوعي بالانحياز إلى الذكور، وبالمثل في تأويل حقوق السكن. وقد حمل هذا أقصى تأكيد
لوضع الاحتياجات الجنوسية الاستراتيجية للمرأة المتصلة بحقوق السكن في صميم الأجندات
السياسية للتيار السائد (
Moser 1991, 109).
وحتى إذا سلَّمنا بأساسٍ ذي مغزى للتماثل بين تعهداتٍ للنسوية الغربية وما تتعهد
به
نساءٌ غير غربيات من أجل دفع وتطوير مصالح جنوسية استراتيجية للمرأة، فسوف تنشأ عقبات
أمام الخطاب القائم على مساواةٍ حقيقية والشامل حقًّا.
١٧ ولا يزال من المستطاع التغلُّب على هذه العقبات فيما يختص بإمكانية الخطاب
النسوي العالمي.
(٥) من الذي يمكن أن يساهم في الخطاب النسوي العالمي؟
إذا كانت الشمولية تعهُّدًا تلتزم به النسوية، يمكن للمرء أن يستنتج بصورةٍ معقولة
تمامًا أن كلَّ معنيٍّ بإنهاء تبعية النساء مؤهَّلٌ للمشاركة في خطابٍ نسوي عالمي. وعلى
أية حال، فإن الخروج بهذا الاستنتاج يعني أن نتغاضى عمَّا اعترفنا به سابقًا من أن
الخطاب ليس تجريدًا لا تاريخيًّا، بل هو سلسلة من الالتقاءات المتميزة بين أفرادٍ
محددين تحدث في أمكنةٍ معينة وأزمنة محددة، وهم أفراد يقابلون بعضهم وجهًا لوجه في
علاقاتٍ اجتماعية معينة بما في هذا علاقات السلطة. وحتى لو جادلت بأن المساواة
والانفتاحية والشمولية إنما هي معايير محورية للخطاب الأخلاقي النسوي، فقد رأينا أن هذا
لا يتعارض مع الحد من دخول البعض في مناقشة بعض المواضيع في بعض المناسبات.
وحين نضع مثالَي الانفتاح والشمولية موضع الممارسة، فمن الضروري أن نتذكر كلًّا من
التشكيل الاجتماعي للعقلانية الخلقية والتفاوتات الشاسعة في القوة حاليًّا بين العالم
الغربي والعالم غير الغربي. تُفضي النقطة الأولى إلى أنه من المعقول تمامًا أن نستبعد
من مناقشاتٍ أخلاقية معينة أولئك الذين لا يبدو أنهم يتقاسمون الاعتقادات التي يمكن أن
تقوم المناقشات العقلانية على أساسٍ منها، والحق أن أولئك الناس هم الذين يستبعدون
أنفسهم. أما النقطة الثانية فتوعز بأنه قد يكون معقولًا في بعض الأحيان بالنسبة للمجتمع
الأخلاقي المحصور أن يستبعد أعضاء مجتمعات أخرى أقوى، خصوصًا حين يكون مقصد المجتمع
المحصور متجهًا إلى مسائل معينة داخلية أو أهلية، من قبيل المثال المذكور آنفًا بشأن
العنف ضد المرأة من قبل مواطنيها من الأهالي الأصليين. قد لا يرغب أعضاء الجماعات
الخانعة التابعة في أن يناقشوا مع أعضاء مجتمعات أخرى أقوى مشاكل تؤثر على مجتمعاتهم،
خصوصًا إذا كانت المجتمعات الأقوى تزعم فعلًا التفوق الثقافي. ولعلَّه شكل من أشكال
الخيانة أن يستمع المرء إلى نقد ممارساته الثقافية من جانب دخلاء من الخارج، وحضور
الدخلاء الذين يُنظر إليهم باعتبارهم أقوى قد يثبط المناقشة بين أعضاء المجتمع. إن مثال
الخطاب المنطلق غير المقيد قد يسمح في بعض الأحيان — بل يتطلب — باستبعاد أعضاء
الجماعات المهيمنة من مجال خطاب الجماعات الخانعة، ولا يُفضي هذا بطبيعة الحال إلى أنه
من المشروع بالمثل لأعضاء المجتمعات المهيمنة أن يستبعدوا من مناقشاتهم أعضاء الجماعات
التابعة، خصوصًا حين تكون الجماعات المهيمنة بصدد مناقشة ممارسات لها تأثيرات بالغة على
الجماعات الخانعة.
ولكن حتى لو كانت ثمة أسباب وجيهة لاستبعاد أعضاء الجماعات المهيمنة من مناسباتٍ
معينة للخطاب، فإن عناية الدخلاء بوضع المرأة في ثقافاتٍ معينة ليست بالضرورة أمرًا غير
مشروع. وحين يعتنق النِّسبوية الثقافية من هو نسبيًّا أقل قوة وسلطة وأقل ثراء، فقد
يكون هذا الاعتناق وسيلة للتعبير عن مقاومة الإمبريالية الثقافية. أما حين يناصره من
هو
أكثر ثراء وقوة، فمن الأرجح أن النسبوية الثقافية، من ناحيةٍ أخرى، تعبر في هذه الحالة
عن غطرسةٍ إمبريالية من حيث هي إصرار من قبل مركزية-إثنية على الأفضلية المطلقة لمعايير
الثقافة الأكثر ثراء. على سبيل المثال، هي قطعًا وقاحة من جانب النسويات الغربيات أن
يفترضن أنهنَّ يدركن بالفعل المشاكل التي تواجه النساء خارج نطاق الغرب، أو أن لديهن
بالفعل الخبرة بكيفية حل المشاكل. بَيد أنه لا يبدو أمرًا ثقافيًّا خطيرًا أن نفترض من
دون نقاشٍ أن النساء غير الغربيات قانعات وراضيات بتلك الحياة التي تراها المرأة
الغربية حياةً مقيدة منهوكة أو منحطة. وفي المقابل، من المشروع بالمثل للمرأة غير
الغربية أن تتساءل عن مشروعية ممارسات تتقبلها النسويات الغربيات على نطاقٍ واسع،
ممارسات قد تشمل العمل في مجال الجنس أو التحاق النساء بالجيش. تتطلب النسوية العالمية
العناية بأمر النساء في مجتمعاتٍ محلية أخرى وأمم أخرى. وتختلف إثارة التساؤلات بشأن
التسويغ الأخلاقي للممارسات الأجنبية اختلافًا كبيرًا عن الإدانة القاطعة لتلك
الممارسات، ودع عنك التدخل من جانبٍ واحد لتغييرها.
وفي مناقشةٍ شيقة للمزايا والعيوب النسبية للأهلين والدخلاء الذين ينخرطون في النقد
الاجتماعي، يحاج ديفيد كروكر بأن الأهلين ليسوا بالضرورة أصحاب امتياز حصريًّا لتقييم
أخلاقيات ثقافاتهم. يتمتع الأهلون بأفضلية فهم المعنى الثقافي لممارسات مجتمعهم،
والقادرون على التعبير عن تقويماتهم بلغةٍ مفهومة في مجتمعهم المحلي، ويمتلكون للانشغال
بنقد مجتمعاتهم موقعًا لا نزاع فيه ولا غبار عليه. غير أنهم يعانون أيضًا من قصوراتٍ
لافتة؛ منها مثلًا الجهل المحتمل بطريق بديلة لرؤية الأشياء أو للفعل، وإمكانية تعرضهم
لضغوطٍ اجتماعية قد تكبح حريتهم في التعبير عن انتقاداتهم، أما الغرباء من الخارج
فيعانون من قصوراتٍ تتمثل في أن المعاني الثقافية غير مألوفة لهم، وإمكانية الغطرسة
الإثنو-مركزية أو عكسها، وإضفاء الصبغة الرومانتيكية على الثقافة موضع النظر. بَيد أنهم
يتمتعون أيضًا بأفضليات المنظورات الخارجية، التي قد ترفع النقاب عن أشياء محجوبة عن
الأهلين في الداخل، وأن الأفكار الأخلاقية الجديدة مألوفة لهم، ويتمتع الدخيل بحريةٍ
اجتماعية نسبية في قول ما يريد أن يقوله (Crocker
1991).
وعلى الرغم من صعوبات ومخاطر الخطاب الأخلاقي العابر للثقافات، فإنه ليس من المستحيل
أن يشارك دخلاء من الخارج في تقييم الممارسات الداخلية لثقافةٍ أخرى. ولهذا فإن اللائي
يناصرن المصالح الجنوسية الاستراتيجية للمرأة في الغرب وفي العالم الثالث معًا لن
يعتبرن تساؤلات وانتقادات النظيرات للممارسات الخاصة بثقافتنا [الغربية] هي بالضرورة
وقاحة وتطاولًا، بل الأحرى أن يعتبرنها مرجعيات أخلاقية. وبالنسبة للنسوية، فأن تصبح
عالمية لا يعني أن النسويات الغربيات ينبغي أن يعتبرن أنفسهن مبشرات حاملات رسالة
الحضارة إلى أراضي البدائيين والهمج، ولكن عالمية النسوية لا تعني أيضًا أن المعنيات
بأمر تبعية وخنوع النساء في الثقافات الخاصة بهن تلغي تعهُّد النساء في الثقافات الأخرى
بهذا. بالنسبة للمستوى الأخلاقي على الأقل، تعني النسوية العالمية أنه يجب على النسويين
في كل ثقافةٍ أن يعيدوا فحص واختبار التعهدات الخاصة بنا في ضوء منظوراتٍ تخلقت في
ثقافاتٍ أخرى، فنستطيع أن نتعرف على بعض الحدود والانحيازات في المعتقدات والفروض
الخاصة بنا. وبطبيعة الحال، يجب أن تكون التقييمات الأخلاقية لأية ممارسةٍ ثقافية
دائمًا «منغمسة» فيها وليست «منفصلة» عنها، تأخذ في اعتبارها ممارسات الثقافة
ومدركاتها، بل وعواطفها (Nussbaum and Sen 1989, 308).
لقد اقترحتُ في مواضع أخرى أن المفهوم النسوي للخطاب، بتأكيده على الاستماع والصداقة
الشخصية والاستجابة للعواطف واهتمامه بأن يتجه إلى تفاوتات القوة، ملائم على وجه الخصوص
لتيسير أمر مثل ذلك التقييم المنغمس.
وقد رأينا بالفعل أن أكثر الأعضاء التزامًا في أي مجتمعٍ من الأرجح أن يتحدَّوا منزلة
المنشقين من حيث هم أهلون. وفي سياقٍ ينتمي إلى العالم الثالث، بُذلت بعض المحاولات
أحيانًا لإضعاف الثقة في أصوات النسويات الأفارقة أو اللاتي تلقين تدريبًا غريبًا يتعلق
بوظائف الخدمات الطبية، حين هببن لمناهضة ممارسات تقليدية من قبيل جراحة الختان، وذلك
عن طريق عرض انتقاداتهن بأنها صادرة عمَّن لم يعدن عضوات أصيلات في مجتمعاتهن المحلية.
لكن عضوية المجتمع المحلي تكون من بعض الجوانب، وليس من جميع الجوانب، مسألة
تعريف-ذاتي، ونادرًا ما يتَّضح من الذي يحق له تعريف الآخرين بوصفهم من داخل أو خارج
المجتمعات المحلية الخلقية، أو تعريف العملية التي يتم بها هذا. كل المجتمعات تتغير،
ولا يوجد سبب لتعريف مجتمع من خلال أشد عناصره محافظة أو لافتراض أن الأفراد الذين
ينشقون عن بعض المعتقدات الأخلاقية لمجتمعهم هم ناقضون لعضويتهم في ذلك المجتمع.
إن الاعتراف بإمكانية — والحق بحتمية — الاختلاف داخل المجتمع وبالمثل بين المجتمعات
الأخلاقية إنما يضفي تعقيدًا على نموذجنا البسيط المأخوذ به حتى الآن لأهل الداخل
وللدخلاء من الخارج. مثلًا، إذا كان علينا أن نضع تحديدًا مفاده أن المسائل التي تبدو
اهتمامًا لجماعةٍ واحدة فقط إنما يمكن أن يضطلع بتقييمها أعضاء تلك الجماعة وحدهم، حتى
إن العاهرات فحسب هنَّ اللائي يقوِّمن أمور البغاء، والنساء الأفارقة فقط هنَّ اللائي
يستطعن مناقشة استئصال البظر وخفض الشفرتين، فسوف تواجهنا على الفور مشاكل مستجدة حول
الهوية والسلطة والمشروعية: من التي لها الحق في أن تتحدث باسم الجماعة بكامل هيئتها،
ومن أين أتت بسلطتها؟
١٨ هل تستطيع من هي خارج عالم البغاء أن تتحدث باسم العاهرات اللائي يعملن في
البغاء الآن؟ والمرأة الأفريقية التي تلقَّت تعليمًا غربيًّا، هل تمثِّل النساء
الأفريقيات الأخريات تمثيلًا عادلًا؟ لا مبرر لافتراض أن الأفريقيات أو العاهرات أو
السحاقيات أو الأمريكيات الأفارقة، يفكرن جميعهن بطريقةٍ متماثلة على حدٍّ سواء، وأن
النساء اللائي يزعمن التحدث باسم الجماعة بكامل هيئتها يمكنهن إسكات المنشقات عن تلك
الجماعات. ومن المهم ملاحظة كيف أن النساء الحضريات من الأهالي الأصليين اللائي شاركن
في مناظرة بيل قد عملن على الحط من مشروعية صوت توبسي نابرولا نلسون عن طريق وسمها
بأنها «تقليدية»، على الرغم من أنه من الممكن جدًّا إقامة الحجة على أن نلسون مؤهلة
للحديث باسم نساء الأهالي الأصليين الأخريات بشكلٍ أفضل من منافساتها المتعلمات تعليمًا
غربيًّا، وذلك تحديدًا بفضل هويتها التقليدية. بعض النساء من الأهالي الأصليين اللائي
لم تتح لهن الفرصة للمشاركة في مساجلةٍ منشورة قد يكنَّ متفقات مع نلسون في الترحيب
بتدخل غريبة من الخارج تجعلها شهاداتها المهنية قادرة على أن تجعل صوتها مسموعًا، بينما
يتم تجاهل الأصوات الخاصة بهن.
معظم الناس ينتمون في واقع الأمر لأكثر من مجتمعٍ واحد، فيما بات العالم يسير بخطًى
متسارعة نحو أن يصبح كلًّا متكاملًا من خلال التجارة الدولية وهجرة السكان والاتصالات
الإلكترونية، والمجتمعات بالمثل يتسارع توافقها معًا، ويتسارع تغير الأفراد نحو أن
يصبحوا متعددي الثقافات واللغات. ولدت الشاعرة مينا ألكسندر Meena
Alexander في الهند، وتعلمت في شمال أفريقيا وبريطانيا، وتعيش الآن
في مدينة نيويورك، وتصف نفسها بأنها امرأة «انفلقت بفعل هجراتٍ متعددة».
كل شيء يأتيني إنما يأتي موصولًا بوصائل. امرأةٌ شاعرة، امرأةٌ شاعرة ملونة،
امرأةٌ شاعرة من الجنوب الهندي تكتب أبياتًا بالإنجليزية، تتحدث لغةً
بعد-استعمارية، بينما تنتظر الضوء الأحمر لتبديل العملة في برودوي. امرأةٌ
شاعرة من العالم الثالث، تأخذ ما تراه حقًّا لها داخل مدينة في مانهاتن، وتنظم
القصائد حول المآزق الكريهة في خط مترو الأنفاق … (Nair 1991,
71).
وحتى النساء اللائي لا يبرحن أبدًا مجتمعاتهن المحلية في مواطنهن الأصلية؛ فالأرجح
لهنَّ في ظروف العالم المعاصر أن يعملن على تقييم حياتهن في ضوء ما يعرفنه عن وضع
النساء في الثقافات الأخرى؛ وإن كان يظل صوابًا أنه من الأرجح للنساء غير الغربيات أن
يعرفن عن الثقافات الغربية أكثر مما تعرفه النساء الغربيات عن الثقافات غير الغربية،
وعندما تمارس المؤثرات الخارجية فعلها عبر استجابةٍ محلية لأشياء تعلمنها في أي مكان،
نجد نسباوم ومعه سن
١٩⋆ يقيمان الحجة على أن تقييم ممارسات الثقافة المعطاة يظل أقرب إلى أن يكون
داخليًّا وليس خارجيًّا. وهما يجادلان بأن «نقد وضع النساء — لنقل مثلًا في إيران اليوم
بالإشارة إلى الحرية التي تستمتع بها النساء في أي مكانٍ آخر — لا يعد أمرًا خارجيًّا
أكثر مما تعد الإشارة إلى وضع النساء في ماضي إيران ذاتها أمرًا خارجيًّا»
(
Nussbaum and Sen 1989, 321).
على الرغم من أن المجتمعات الثقافية ليست أوهامًا، فإنه يتعاظم وضعها في سياقٍ عالمي
أوسع حيث المتمسكات بالأخلاق التقليدية كثيرًا ما ينُحن ويولولن من استحالة إبعاد
المؤثرات الخارجية أو الأجنبية. لا يقتصر الأمر على وجود أشكالٍ عديدة من التدخلات
الاقتصادية والسياسية المباشرة، بل كذلك حين تكون الاتصالات العالمية بمثل هذه السرعة
والكثافة، فإن مجرد مثول طرق بديلة للحياة يصبح في حدِّ ذاته تدخلًا أخلاقيًّا. مرة
أخرى يجب ملاحظة أن الضغوط الخارجية للتغيير أقوى كثيرًا على الثقافات غير الغربية منها
على الثقافات الغربية، وأن الاقتصادات والثقافات الغربية سوف تقوض حتمًا بعض جوانب
الثقافات غير الغربية بينما تعزز جوانب أخرى؛ ولأنه لا يبدو أن ثمة ما يحول دون هذه
الاحتمالات، فإنه ذو أهمية خاصة للنسوية الغربية أن تبحث عن سبل تجعلها متحالفة مع
النساء غير الغربيات الباحثات عن الاضطلاع بتلك التطورات حتى يستطعن تحسين — بدلًا من
تقويض — المصالح الاستراتيجية الجنوسية للمرأة في مجتمعاتهن المحلية.
(٦) ما الذي تتضمنه أجندة النسوية العالمية؟
كثيرًا ما افترضت النسويات الغربية أن الأولوية في الخطاب النسوي العالمي يجب أن تعطى
لما يتصورنه ممارسات غير غربية مهولة، مثل: تعدد الزوجات، والإجهاض الانتقائي للأجنة
الإناث، وعزل الإناث، وزواج الأطفال، والزواج المتفق عليه، والطلاق من جانبٍ واحد، دفع
ثمن للعروس، وحرق العروس، ووأد الإناث، ويفوق هذه الموضوعات جميعًا في وقتنا الراهن ما
يسمى بختان الإناث أو الاستئصال الجراحي لأعضاء الأنثى التناسلية. وهذا الموضوع الأخير
على وجه الخصوص، أصبح الآن مثالًا صارخًا في المناقشات الغربية الدراسية للكونية
الخلقية مقابل النسبوية الثقافية، وتولَّد عن الاهتمام بهذه المسألة أدبيات هائلة في
موضوعات من قبيل اللامقايسة الخطابية والنسبوية الخلقية.
من الطبيعي أن تمتعض النساء غير الغربيات مما يعتبرنه تركيزًا غربيًّا حسيًّا على
أشكال العلاقة الزوجية والممارسات الجنسية غير الغربية.
٢٠ وتستند المناقشات الغربية النمطية إلى افتراض أن ختان الإناث غير مبرر
أخلاقيًّا؛ وبالتالي يتم تأطير القضية بوصفها قضية تحقيق التوازن بين تهديداتٍ لصحة
وجودة حياة النساء في العالم الثالث في مواجهة شرور أمومية أو إمبريالية ثقافية. ويتصل
بهذا مشكلة مفادها أن التركيز الزائد على هذه الممارسات يشجِّع النسويات الغربيات على
اعتبار أنفسهن مبشِّرات ينشرن الرسالة الحضارية النسوية، على حين يضعن في الآن نفسه
النساء غير الغربيات في موضع المتخلفات والهمج والضحايا. وأخيرًا، فإن المناقشات
الغربية لجراحة ختان الأنثى وللممارسات غير الغربية المماثلة تؤدي كثيرًا إلى تجانسٍ
مضلل بين المجتمعات غير الغربية وتتجاهل وجود أشكال للانشقاق بين الأهالي الأصليين
فيها.
٢١
وبصرف النظر عن الظروف التي قد تُضفي مشروعيةً على إقحام الدخلاء لأنفسهم في شئون
أهلية خاصة بمجتمعٍ آخر أو مجتمع محلي آخر أو أمة أخرى، فإن عالمنا المعاصر الذي يتزايد
تكامله وتوحده لا تنقصه المسائل التي تؤثر على النساء بشكلٍ أكثر اتِّسامًا بالسمة
العالمية. البعض يتحلَّق حول ظاهرة تنتشر في أرجاء العالم بأسره وهي العنف المجنوس ضد
النساء. وقد تم استكشاف هذه الظاهرة في محاكمةٍ عالمية أقامتها منظمات نسائية غير
حكومية التقت في فيينا في العام ١٩٩٣م بالتزامن مع المؤتمر العالمي الثاني لحقوق
الإنسان؛ ليحاجوا بأنه تم الاعتراف بأن العنف ضد النساء انتهاك لحقوق الإنسان، وكذلك
لتسليط الضوء على الصلات بين القتل والتعذيب والإكراه الجنسي وسوء معاملة النساء وضعفهن
الاقتصادي. وثمة مسائل أخرى عديدة معالجتها مرهقة أكثر للنسويات الغربيات، ما دامت
المناقشات قد تكشف عن أن معظم الغربيات على الجانب الخاطئ وليس على الجانب الصائب من
القسمة الخلقية. وفي مركز هذه المباحث غير المريحة مسألة عدالة النظام العالمي ذاته،
وهذا سؤال تناولته بشكلٍ مباشر قلة من النسويين الغربيين، وخصوصًا النسويين
الفلاسفة.
هناك طرق عديدة تجعل ما يحدث في أحد جانبَي العالم يؤثر على النساء في الجانب الآخر،
وحتى لو كان قهر نساء العالم الثالث لا يمكن رده إلى الإمبريالية، فإنه مع هذا يوجد في
سياق هيمنةٍ اقتصادية توطدها التدخلات العسكرية الغربية، إما بشكلٍ مباشر وإما بالتفويض
والوكالة. ولهذا نجد المسائل التي تهتم بها النسوية الدولية لا تشمل فقط المسائل
الجنوسية صراحة، من قبيل جهود الوكالات الغربية لكي تضم «التنمية» تحت لوائها نساء
العالم الثالث أو التحكم في خصوبتهنَّ عن طريق ربط ما يسمَّى بالمساعدات بحظر الإجهاض
أو التأكيد على استعمال وسائل منع الحمل، بل تشمل أيضًا مسائل أقل إيضاحًا عن هُويتها
الجنوسية، مسائل عن طبيعة التنمية والقوى التي تحددها في الوقت الراهن.
وفي خضمِّ كل هذا، لعلَّ المسائل الضاغطة أكثر من سواها هي مسائل ديون العالم الثالث
للغرب، إبَّان أواخر الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، حين كان معدل الفائدة
منخفضًا، انهمك العالم الثالث في تلقِّي قروض ضخمة لتمويل التنمية الاقتصادية
والاجتماعية. وفي نهاية السبعينيات، مع ارتفاع معدلات الفائدة، تفاقمت مصاعب العالم
الثالث في دفع فوائد قروضه، ونشأت أزمة الديون العالمية. ومنذ العام ١٩٨٢م بدأت مؤسسات
المال الغربية المهيمنة تفرض سياسات «الإصلاح الهيكلي» القاسية على دول العالم الثالث،
مؤسسات مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، همها الأول وشغلها الشاغل أن تضمن خدمة
الديون المستحقة للبنوك الغربية، وتصرُّ هذه المؤسسات على تنمية توجهها الصادرات إلى
العالم الثالث، وتنطوي على اختزال حاد للوظائف الاقتصادية ووظائف الرفاهة الاجتماعية
في
دول العالم الثالث، وجاء نتاج هذا في وقتٍ مبكر هو العام ١٩٨٦م، متمثلًا في تدفق نقدي
صافٍ من العالم الثالث إلى الغرب بلغ حجمه ما يساوي ثلاثة أضعاف سائر المعونات التي
تلقاها العالم الثالث من مصادر غربية. وهذا الاستنزاف لثروات العالم الثالث أدى إلى
عواقب كارثية محتومة انصبَّت على مستوى معيشة غالبية نساء العالم الثالث، وإن كانت
النُّخبة فيه قد استفادت منها.
٢٢ (
George 1988, 1992). إن القضايا المتَّصلة
باهتمامات النسوية العالمية تشمل نقل مواطن الوحدات الصناعية للشركات المتعددة الجنسيات
من الغرب إلى العالم الثالث، واستنزاف متعدد الجنسيات لموارد العالم الثالث، ولعل الأعم
من كل هذا هو المفهوم الغربي للتنمية وأنماط الاستهلاك (
Mies 1986,
Shiva 1988, Mies et al 1988, Enole 1990, Mies and Shiva 1993, Scott
1996). يزودنا هذا بسياقٍ لمناقشة مسائل من قبيل الاضمحلال البيئي
في العالم الثالث والغرب كليهما (
Shiva 1988)، تهريب
الهيروين والكوكايين (
George 1992)، والنزعة العسكرية
(
Enloe 1990)، والسياحة، بما فيها سياحة جنسية
(
Enloe 1990)، والحد من الانفجار السكاني
(
Hartmann 1987, Jacobson 1990, Dixon-Muller
1993)، والتجارة الدولية غير المشروعة في النساء.
التغيرات المحدثة في نظام الاقتصاد العالمي لا تترك التأثيرات نفسها على نساء الغرب
ونساء العالم الثالث: وبشكلٍ عام تكون التأثيرات معاكسة أكثر لأوضاع النساء في العالم
الثالث، وتستفيد من هذه التغيرات قلةٌ قليلة من نساء العالم الثالث ونسبة أكبر كثيرًا
من نساء الغرب، على الأقل في بعض الجوانب، على أن النساء الأشد فقرًا يعانين أكثر وأكثر
في كلا «العالمين». وفضلًا عن هذا، تترك البنية المعاصرة للنظام الاقتصادي للعالم،
تأثيراتها على حياة النساء في كلا «العالمين»، بشكلٍ مختلف عن تأثيراتها على حياة
الرجال، وبصفةٍ عامة يكون من نصيب النساء التأثيرات الأكثر فظاظة وخشونة. ولهذا السبب
نجد هذه المسائل التي تبدو للنظرة السطحية غير مجنوسة هي المشاغل النسوية الأكثر
إلحاحًا.
(٧) هل ثمة مجتمع للخطاب النسوي العالمي؟
كثيرٌ من التقارير الغربية عن العقلانية الأخلاقية تستدعي مفاهيم مؤمثلة للمجتمع
الأخلاقي.
٢٣ تهبنا المؤمثلات نماذج نظرية تلقي مزيدًا من الضوء، بيد أنها قد تضللنا
كذلك. ومشروعي الخاص لتطوير مفهوم نسوي للخطاب الأخلاقي العملي مدفوع باقتناعٍ مفاده
أن
المجتمعات المؤمثلة التي يصادر عليها كثيرٌ من فلاسفة الأخلاق في الغرب إنما تحجب
الكثير من المعالم المميزة للخطاب الأخلاقي التجريبي التي تشمل الاعتبارات الخاصة
بالقوة الاجتماعية.
بعض الكاتبات اقترحن ضرورة تفهُّم النسوية العالمية في حدود «مجتمع متخيل»
(Mohanty 1991, 4; Ferguson 1995). أصبح هذا
التعبير جاريًا في المرحلة الراهنة بفضل كتاب بندكت أندرسون «المجتمعات المتخيلة
Imagined Communities»، وهو كتاب يصف الأساطير
والممارسات التي يستخدمها بناة الدول القومية الحديثة ليخلقوا معنًى للهوية القومية
الجماعية وللوطنية بين بشر يتباينون (Andersron, 1983).
يرى أندرسون أن كل المجتمعات ترتبط معًا بفعل تشاركها في تصورٍ لتاريخها وتقاليدها
وأفكارها وقيمها. ومن هذا الاستبصار تخرج آن فيرغسون بتخطيطٍ يوعز بأن التفكير في
النسوية العالمية في حدود مجتمع متخيل قد يلهم النسويات كأفرادٍ بأن ينظرن إلى أنفسهنَّ
كأعضاء في أختيةٍ عالمية. وتؤكد فيرغسون على أن مثل هذا التحديد يجب أن يكون أكثر من
خيال، وتطالب بالانخراط في طقوسٍ فعلية تصنع المعنى والقيمة للنساء اللائي لا ينتمين
إلى أصلٍ قومي واحد (Ferguson 1995, 385). بَيد أن
مارغريت ووكر تتخوف من مخاطر تخيل مجتمع نسوي عالمي. «تخيل المجتمعات يغوينا لأنه
يسلمنا إلى راحةٍ نفسية ملموسة، ومشاعر عارمة بالانتماء والاهتمام بالأمر، المجتمعات
المتخيلة غير ملائمة أو خطيرة لأنها تصرف انتباهنا عن المجمعات الفعلية»
(Walker 1994, 54).
كثيرًا ما نغفل معالم المجتمعات الفعلية وما تتَّسم به من سيولةٍ وعدم تجانس داخلي.
حدود المجتمع التجريبي تتغير وتتبدَّل ويمكن اختراقها، المجتمعات التجريبية يتنازع
بشأنها المنشقون وعادة ما ينتمي أعضاؤها إلى جماعاتٍ شتى. وتجاهل هذه الجوانب في
المجتمع التجريبي يشجع ما أسمته أوما نارايان «مذهب الماهوية الثقافية»؛ أي مذهب الصور
المتخيلة لسياقاتٍ قومية وثقافية ﮐ «غرف مغلقة»، بحيث تكون منيعةً أمام التغيير، ذات
فضاء متجانس «داخلها»، يسكنه «الداخل الأصلاء» الذين يملكون جميعًا تفسيرًا موحدًا
ومتَّسقًا لمؤسساتهم وقيمهم (Narayan 1997, 33).
وكثيرًا ما جرى استخدام «الماهوية الثقافية» لخدمة الأغراض الاستعمارية، بيدَ أن
نارايان تلاحظ أن النسوية الغربية الآن تتَّخذها أحيانًا دون تمحيص في جهود ذات مضمون
نبيل هو التعرف على «الاختلاف» والاعتراف به. تحاج نارايان بأن الماهوية الثقافية
متأشكلة، ليس فقط لأنها غير مواتية تجريبيًّا، ولكن أيضًا لأنها تزكي التقابلات الحادة،
والتقابلات مثل كل الثنائيات تبالغ في الإعلاء من قيمة قطب بينما تبخس قيمة القطب
الآخر. الماهوية الثقافية مطابقة لرسم التناقض الحاد بين الثقافة الغربية والثقافات غير
الغربية. إحدى صورها تعهد إلى «الغرب» الالتزام بقيمٍ من قبيل الحرية والمساواة، على
الرغم من أمثلةٍ لا حصر لها على القهر وعدم المساواة بين الغربيين، بينما تصور مثل تلك
الممارسات المروعة لكن الاستثنائية من قبيل طقس الساتي على أنه مركزي في الثقافة
«الهندية» (Narayan 1997). وثمة صور أخرى للماهوية
الثقافية تتقبَّل رسم الثقافات غير الغربية في شكلٍ رومانتيكي بوصفها ثقافات روحانية
ومتناغمة، فيما تمثِّل الثقافة الغربية بوصفها حصريًّا مادية وتعمل على الإبادة
الجماعية للثقافات الأخرى. إن الماهوية الثقافية تُشيِّئ الاختلافات بين «الشرق»
و«الغرب»، وإذ تفعل هذا فإنها تغالي في صعوبات الخطاب بين النسويات في كلٍّ من هذين
«العالمين».
وثمة مخاطر أخرى تحيط بتخيل مجتمع للخطاب النسوي العالمي، تتضمن الإغراء بتخيل معارضة
ما تحملها النسوية العابرة للقوميات ضد ما هو شعبي جماهيري، وفي داخل هذه المعارضة ثمة
حكم فاصل على التأويلات المحلية المتباينة لتبعية النساء. ولعلَّ هذا يشجِّع على قَبول
نموذج للعقلانية الخلقية، تبعًا له تولِّد المجتمعات المحلية منظوراتٍ خلقية متميزة قد
يجيزها المجتمع العالمي ولعلَّها تتلقَّى التصديق النهائي بإجماع النسويات كافة على
قبولها. مثل هذا النموذج قد يكون بسيطًا وآليًّا بطريقةٍ مضللة، وذلك بالاعتماد على
تفرقة الوضعيين الجدد بين «الكشف» و«التبرير»، فيما يجري تجاهل الطابع المؤقت الذي لا
محيص عنه لما تتفق عليه النسويات. وأخيرًا، فإن فكرة المجتمع المتخيل قد تلهي النسويات
عن إدراك التفاوتات الحقيقية والمستمرة للسلطة داخل المجتمعات وبينها معًا، تلاحظ ووكر
مخاطر:
الاستجابة لمجتمعٍ (دولي أو عالمي) متخيل للنساء أو للنسويات، في حين نفشل في
أن نأخذ في اعتبارنا، أو أن نتحمل مسئولية، أن مجتمعاتنا القومية والثقافية
الفعلية وعبر طرقٍ عديدة تجعل المجتمعات المتخيلة استحالة محضة، وأن التوسل بها
غير ملائم، ولعله يزيد الطين بِلة (Walker 1994,
54).
وعلى الرغم من المخاطر الفعلية للمجتمعات المتخيلة، أقترح ألا تؤخذ هذه المخاطر
بوصفها اعتراضاتٍ نهائية على أي تخيلٍ للمجتمع النسوي، بل هي بالأحرى تحذيرات ضدَّ
تلفيق يوتوبيات خطابية تضفي عليها الرومانتيكية. وإذا كانت كل المجتمعات متخيلة، بمعنى
أنها تعتمد على مفهومٍ ذاتي يجري التشارك فيه، فسوف تصبح إعادة اختراع وإعادة تخيل
مجتمعات هي مهمة سياسية حاسمة تضطلع بها النسويات، على المستويات المحلية والقومية
والعالمية (Narayan 1997). وعلى أية حال، فإننا حين
نتخيَّل مجتمعًا للخطاب النسوي العالمي، يجب علينا أن نتحاشى توليد صور نسوية من
المؤمثلات الساذجة اللاسياسية التي يجري إنتاجها في التيار الأساسي السائد للنظرية
الأخلاقية؛ مثلًا يجب أن نتجنَّب مصادرات الأختية العالمية التي لم تنضج بعد. وبدلًا
من
هذا، يجب علينا معرفة كيف أن مجتمعات الخطاب النسوي العالمي ليست خيالات فلسفية أو
سياسية، بل كيانات حقيقية بدأ تواجدها الفعلي. عدد لا يُحصى من النسويات ينخرطن فعلًا
في مناقشة مسائل تعبر حدود القوميات ويتزايد تعاونهن في العمل من أجل استهداف تلك
المسائل. ليس مجتمع الخطاب النسوي العالمي مجتمعًا واحدًا منفردًا؛ لأن الخطاب النسوي
العالمي يجري في شبكاتٍ متعددة ومتداخلة من الأفراد والمجتمعات، ووَفق أجندات شتى
ومتباينة. والحق أنه مجتمعٌ قيد التشكيل، وهو — بهذا المغزى — ليس فقط مثاليًّا
وخياليًّا فقط بل أيضًا يُعاد تخيله باستمرار. إن التخيلات النسوية تعطي مُثلًا لنطمح
إليها. إنه تخيل مجتمع للخطاب النسوي العالمي، دائمًا ننشد أن يكون أكثر شمولية
وانفتاحًا وينفع كموجهٍ مساعد على كشف الخطاب النسوي الأخلاقي، وبالمثل ينفع كأساسٍ
للفعل النسوي السياسي.
هوامش