مستيزات في ماكيلادورا وسياسة نسوية للحدود: إعادة النظر في حجة آنزالدوا
إن التعبيرات عن الاختلافات في الواقع تعمل على دمج المجتمعات الحدودية.
يناقش هذا المقال بزوغ فتاة مستيزية جديدة مسيَّسة، وذلك على الحدود الثقافية الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة. إنها تشغل وظيفةً مرموقة في منشآت ماكيلادورا المتعددة الجنسيات، وتضع أمام عملية التنظير النسوي تحدياتٍ عديدة متعلقة بسياسيةٍ جديدة للحدود. ومن خلال عرض بحث أجري في إحدى منشآت ماكيلادورا، يبين المقال أن تفهم الحركية بين المكان المجازي والمكان المادي مسألة حيوية من أجل تصور سياسات نسوية على الحدود الثقافية.
(١) لنتصور الحدود
إنها تقارير عن انقسامٍ جغرافي عنيد متصلب يقف على طرف النقيض من رؤية آنزالدوا للوحدة الجيوسياسية، فيما لا تمثل بالضرورة عقبات لا يمكن تذليلها عند صياغة تصورات تتجاوز الحدود السياسية، وبدلًا من أن تكون عقبات، فإنها تلقي الضوء على الحاجة إلى تفهُّم خطابات الاختلاف الجغرافي وكيف تمارس فعلها في تجسيد الذوات السياسية ومجتمعاتها المحلية.
(٢) مكسيك على المياه
ثمة حفظ بوليسي للحيلولة دون الحراك الاجتماعي للمكسيكانة في «م. ع. م»، يتركز حول محال ظهورها في مكان العمل. وأُدرجت التوصيفات اللفظية للمصنع ذاته في «حدود» ذات صبغة قومية تفصل المناطق المكسيكية عن المناطق الأمريكية. إن الأبواب ولغة المراقبة والأزياء تصنع معالم لهذا الانقسام التصوري وتستجلب الحدود إلى صميم الحياة داخل فضاءات «م. ع. م»، ولا يمكن التسامح إزاء حضور المكسيكانة في النطاق الإداري إلا إذا كان مصحوبًا بمراقبةٍ مشددة.
في أثناء جولتي المبدئية في «م. ع. م»، شرح لي ستيف مدير المصنع، وهو رجل «من أصولٍ إنجليزية» جاء أخيرًا من جورجيا، كيف أن البنية الفيزيقية للمصنع منقسمة على طول خط قومي. وبينما نحن نتجول في الطابق التجاري راح يروي لي: «ها هنا نضع مستخدمينا المكسيكيين، ولدينا منهم الآن ما يقرب من خمسمائة، نحو نصفهم من الإناث. كان هذا أقل كثيرًا من منشآتٍ أخرى في ماكيلادورا؛ لأننا بدأنا كمتجرٍ للآلات. أما الآن فلدينا الكثير من الأعمال الكهربائية، تضطلع بها فتيات». واصلنا السير عبر قسم صنع المكربنات وعملية التجميع وتقريبًا سائر العمالة فيه من الذكور، فانتقل إلى وصف خططه لترقية بعض المستخدمين المكسيكيين لاعتقاده أن «المكسيك تستطيع إخراج مهندسين من نوعيةٍ جيدة، وأعتقد أننا ينبغي أن نشجع هذا».
ومع هذا، بينما كنا نواصل رحلتنا خلال العملية المتصلة بهذا وبلغنا مناطق للتجميع الكهربائي وقص الأسلاك وهي مأهولة أساسًا بالإناث، أدركت أن استبشاره بالقدرة الفنية المكسيكية لا يمتد إلى المكسيكانات. فحين سألته عما إذا كان ينتوي ترقية مستخدمات في أعمال التجميع الكهربائي، كان رده «لا أعتقد أن لدينا ترقيات كثيرة لهذا المكان»، «تكاد النساء المكسيكيات أن يفتقرن إلى تنشئةٍ ثقافية للمهن الصناعية. إنهنَّ هنا لكي يجدن قرينًا للزواج وإنجاب بضعة أطفال، قد يبدو هذا فظًّا، لكنه الواقع هنا». وحين اكتملت جولتنا في عمليات الإنتاج، توقفنا عند بابٍ معدني به نافذة غير شفيفة. وبينما كان يمسك بمقبض الباب ليفتحه، قال لي: «الآن هذه هي إدارتنا، المكان الذي توجد فيه مكاتب الأمريكيين. لدينا مديران مساعدان للمصنع، ومديرون للأقسام الأخرى؛ الهندسة، المخزن.»
عند عبوري من هذا الباب، لم أستطع إنكار إحساس ساطع بالانتقال من نطاقٍ ذي تصميم مكسيكي واعٍ إلى نطاقٍ أمريكي. لاحظت العديد من الملصقات على الحائط تعلن عن التجربة النابضة في صنع «م. ع. م» للزوارق الآلية. بعضها يشجع فريق العمل لإنتاجه عالي الجودة، كلها كانت بالإنجليزية. وأيضًا اللغة التي يمكن أن تسمعها في المنطقة الإدارية هي الإنجليزية. إنها مساحةٌ شاسعة مقسمة إلى عدة مكاتب على طول الجانبين وتمتلئ بالحجيرات في الوسط. تتناقض هذه المعالم المرئية والمسموعة مع معالم المنطقة المكسيكية، حيث تبث الأجهزة الصوتية ألحانًا شعبية تذيعها محطة سيوداد خواريز للإذاعة المحلية وترى إشعارات باللغة الإسبانية تُجمل السياسة العامة للشركة فيما يتعلق بالأمن والسلوك العام المرغوب. تكشف هذه المعالم عن جهودٍ متضافرة لإعادة إنتاج تراتبية هرمية [هيراركية] للمكسيكيين والأمريكيين في التنظيم الاجتماعي والمكاني للشركة. إنها عين التراتبية الهرمية التي تفصح عنها خطابات حدودية أوسع مجالًا.
ومع هذا، فعلى خلاف سلطات المهاجرين التي تراقب التخم الدولي على بُعد بضعة أميال فقط، فإن عبور الحدود الدولية داخل «م. ع. م» لا يعتمد على شهادة ميلاد. لا تُفحص مواطَنة المرء؛ وبدلًا من هذا كان أداء الهوية هو الذي يوضع موضع الاختبار. وأي أداء لامرأةٍ يمكن تأويله بأنه دلالةٌ على وجود مكسيكانة في الحيز الأمريكي يعد أمرًا خطيرًا.
مثلًا، على الرغم من وصف ستيف للمنطقة بأنها حكرٌ على الإدارة الأمريكية، كانت الأغلبية العظمى من الناس الذين يعملون في ذلك الجانب من الطاقم الإداري من المكسيك، وكلهن نساء. كثيرات هاجرن من أماكن مختلفة في شمال المكسيك ليجدن عملًا في ماكيلادورا، وهن الآن يساعدن في الأعمال المكتبية في «م. ع. م» ليعشن في مستوى الفقر، الحد الأدنى من الأجور. كان ثمة تسجيل دقيق لكل شيءٍ يتعلق بأدائهنَّ الوظيفي، من مدى سرعة كتابتهن على الآلة الكاتبة إلى كيفية ارتدائهن الملابس وطريقتهن في الكلام وكيف يقدمن أنفسهن، كل هذا في إطار جهد لإظهار التحكم الإداري للولايات المتحدة في المكسيكانة النافرة بطبعها من التحكم. وقد لاحظت أن خمس عشرة أو ما يقرب من هذا العدد من السكرتيرات والموظفات المكتبيات يرتدين الملابس نفسها — لباسًا يتكون من بذلةٍ مخططة ذات لون رمادي كالح مع بلوزة حمراء وأحذية رياضية مناسبة لهذا. فسألت: «هل يرتدين زيًّا موحدًا؟» وشرح لي ستيف أنه كان ثمة تعليمات بأن ترتدي النساء المكسيكيات في الإدارة زيًّا موحدًا، «وفي ذلك كان لا بد أن تشاهدي ما اعتدن أن يلبسنه. كان يشبه هذا الذي يُعرض للالتهام في أعماق خواريز أفنيو [حي بيوت الدعارة]، وليس هذا مريحًا لبعض الشبان.»
في أثناء بحثي في «م. ع. م» طَفَتْ على السطح أكثر من مرة الإشارة إلى البغاء عند مناقشة أمر الموظفات. مثلًا، حين طلبت من أحد مديري الإنتاج، وهو روجر، أن يصف قوة العمالة، قال: «بعض أولئك الفتيات لهن وظائف ثانية. أتعلمين، سمعت أن بعضهن يعملن في الحانات!» كانت الرسالة المبلغة أنك لا تستطيعين تمييز الفارق بين العاهرة والأنثى العاملة في ماكيلادورا، وهي رسالة شائعة في المقابلات التي أجريتها. قال مديرٌ آخر من مديري الإنتاج، وهو بيرت «نحن لا نعلم ما الذي تفعله أولئك الفتيات في أثناء الليل، ولكننا لا نريدهن أن يفعلنه هنا». أما المدير العام ستيف، فقد زاد على هذا التفسير في محاورةٍ لاحقة أنه «من المهم لعملائنا أن يشعروا إبَّان وجودهم هنا وكأنهم في مكتبٍ أمريكي. وأيضًا بما يجعل السكرتيرات أكثر حرفية، فلا تكون السكرتيرة مجرد فتاة أتت من الشارع.»
لقد صادفت مثل هذا التهديد حينما حاول اثنتان تصفان نفسيهما بأنهما مكسيكانتان أن يغيرا وظيفتيهما ويصعدا في سلم وظائف شركة «م. ع. م». كلٌّ من هاتين المرأتين وصفت نفسها لي بأنها مكسيكانة، وكلٌّ منهما واجهت تحدي الاضطرار إلى الإقلاع عن خطاب المكسيكانة لكي تضفي المشروعية على مطلبها بأن تحلَّ في مجال الإدارة الأمريكي، لكي تتقاضى راتبًا أعلى وتمارس سلطةً أكبر. في هاتين الحالتين، أن يكون المرء أمريكيًّا أو مكسيكيًّا، ذكرًا أو أنثى، امرأة من أصولٍ إنجليزية أو من أصولٍ مكسيكانية، إنما يتوقف على أداء موقف الذات على النحو الذي تُفهم به الذات في المجال الرمزي للتمثيل. وسوف نرى كيف أن المرأة التي ولدت وترعرعت في المكسيك تحول نفسها إلى أمريكية، بينما المرأة التي ولدت وترعرعت في الولايات المتحدة تتملص من مقاييس الشركة لتُرى كأنها تجسد صورة المكسيكانة. كلٌّ منهما صادفت خطابًا يعيد تكوين التمثيل التاريخي للمكسيكانات بشكلٍ عام، من حيث إنهنَّ عُرضة للطعن في سلوكهنَّ الجنسي ويمثلن خطرًا على الشركات الرأسمالية من حيث إن أجسادهن ولغتهن وطريقتهن في السلوك تعرض الدليل على المكسيكانة التي قد ترابض داخلهن. وكافحت كلٌّ منهما لتقدم دلالةً جديدة عن ذاتها داخل الخطاب المهيمن حول ما تكونه المكسيكانات وما الذي يستفزهن داخل جدران «م. ع. م» وخارجها.
(٣) روزاليا
حين قابلتُ روزاليا كانت مديرة العاملين من المكسيكيين. وقد عملت في ماكيلادورا اثني عشر عامًا، بدأتها كعاملة للهاتف، ثم ارتقت من موظفةٍ إلى سكرتيرة، وأخيرًا إلى منصب المدير المساعد لشئون الموظفين في منشأة ماكيلادورا التي عملت بها. كانت تربي طفليها بمفردها وحصلت من فورها على شهادةٍ جامعية في إدارة الأعمال بعد سنواتٍ من الدراسة المسائية. كانت المرأة المهنية الوحيدة في عائلتها المباشرة، وتعبر عن فخرها بما أنجزته. حين طلبت منها أن تسرد لي تاريخها المهني، أخبرتني بأن «كثيرين يقولون إن المرأة لا تستطيع الحصول على مهنة. تسمعين هذا عن النساء المكسيكيات خصوصًا، لكنه غير صحيح، قد ترغبين في هذا، لكن عليك أن تنجزيه.»
حين دار هذا الحوار كان مكتب روزاليا يقع في إحدى الحجيرات المصممة للطاقم الإداري المكسيكي في منطقة الإنتاج. ولم يحدث في تاريخ «م. ع. م» أن ارتقت أي امرأةٍ مكسيكية لما يعلو على هذا المنصب؛ ومع هذا استطاعت روزاليا في غضون شهرين من الوقت الذي استغرقه إجرائي البحث أن تتلقى عرضًا بالترقية، ليس هذا فحسب بل باتت أول مكسيكانة تشغل مكتبًا في منطقة الإدارة الأمريكية، وأصبح لها سلطة على عاملين أمريكيين. وبعد شهرٍ من هذه الترقية، طلبتُ من روزاليا أن تصف لي الأحداث التي أحاطت بترقيتها. قالت: «كان واضحًا أن ستيف يحتاج إلى شيءٍ من المساعدة مع الموظفين الأمريكيين. كنت أقوم فيما سبق بأعمال التأمينات … أخبرته بأنني أستطيع النهوض بأعباء الوظيفة. أريته دفاتري عن قانون العمل في الولايات المتحدة … يعلم أنني مهنية. أنا لست مجرد واحدة مكسيكانة.»
أما ستيف فشرح لي قراره بهذه الطريقة: «عرفت أنها كانت مبادرة ضخمة في نقل روزاليا إلى هذا المكتب، لكني عرفت أيضًا أنها الأفضل لهذه الوظيفة. إنهم ينظرون إليها ويرونها مجرد امرأة مكسيكية أخرى. لكني أعرف روزاليا، وأعرف أنها صارمة كالسيف وطموحة، وسوف ينتهي بها المطاف بأن تبين لنا جميعًا أنها بما تحمله في رأسها ليست مجرد امرأة مكسيكية، وسوف تتوافق مع الأمريكيين.»
مع ذلك، حين أعلن ترقية روزاليا، اندفع أربعةٌ من المديرين الخمسة للخروج من الاجتماع غاضبين احتجاجًا على ترقيتها.
واحدٌ من مديري الإنتاج، وهو روجر راح يزمجر في أثناء خروجه من المكتب قائلًا: «هذا اعتداء على خصوصيتي.» وحين كان مدير إنتاج آخر، وهو بيرت، يخرج من غرفة اجتماع الطاقم الإداري، سألته: «ما الخطأ؟» وفي أثناء سيره متجهًا إلى مكتبه الذي يقع في القاعة على الجانب الآخر من مكتب روزاليا، أجاب «إن روجر مستاءٌ من روزاليا. وأنا أيضًا، لا أفهم لماذا ينبغي أن تحتل مكتبًا هنا. الوضع الذي كانت فيه هو الأفضل لها». في خارج القاعة سألت روجر عما يجعله منزعجًا هكذا من ترقية روزاليا، قال: «لا أريد أن أبدو متعصبًا، والسبب أنني لا أشعر بأي شيءٍ ضد الشعب المكسيكي. بَيد أنها امرأةٌ مكسيكية جدًّا، والمرأة في تلك الثقافة لا تعرف ماذا يعني أن تخوض في لعبةٍ قاسية جدًّا.»
واصلت الحديث قائلة: «وما علاقة هذا بالخصوصية؟»
صرخ روجر، «اسمعي. إنها ليست مؤهلة تمامًا لمتابعة شئوننا. أقسم بالمسيح إنها مجرد سكرتيرة. ربما توجد علاقة يلعنها الرب بينهما»، وسرعان ما تدخل بيرت قائلًا: «هل ننتظر منها أن تباشر مطالباتنا بالتأمينات أو بأرصدة العمال؟» وأضاف متهكمًا: «إنها لا تعلم حتى ماذا يعني هذا». في داخل القاعة، كان التبرم والتذمر من قِبل العاملين الأمريكيين الآخرين أكثر دهاءً، لكن لا يزال مسموعًا، فاقتربت من سينثيا، وهي واحدة من مهندسي الجودة، قالت: «ما الذي تعرفه امراةٌ مكسيكية عن التحرش الجنسي؟ إنها مكسيكانة مكسيكانة». مكسيكانة مكسيكانة، كما يفترض أنني أفهمها، تعني أن روزاليا تحديدًا مكسيكية مكسيكانة، فيتلاءم وضعها مع أدنى الصفوف في التراتب الهرمي السياسي والاقتصادي لأهل «م. ع. م».
أعربت سينثيا بوضوحٍ عن هذه المسألة: «هل تعرفين أنها الآن رئيسيتي؟ إنها تحصل على نقودٍ أكثر مني. هذه إهانة.» جانب من هذا الاعتراض كان من نصيب ستيف، فقد عطل الناموس الاجتماعي حين سمح لروزاليا أن تنتقل بلحمها وشحمها إلى الفضاء الاجتماعي الأمريكي. خافوا من تدنيس النطاق الأمريكي بحضور مكسيكانة فيه. أوجز بيت وروجر هذا الشعور حين اشتكى كلاهما قائلًا: «رؤساؤنا في إلينوي، ماذا تحسبينهم سيقولون حين يجيئون إلى مكاتبنا ويرونها؟» كانت سينثيا هي الأخرى معنية بهذا التصور: «لا تعرف روزاليا كيفية التصرف مع الناس في هذه الشركات. تبدو كأنها من خارج هذا المكان، وليس ذلك من قبيل المصادفة.»
علمت روزاليا بأمر هذه الهواجس، وسرعان ما التحقت بدورةٍ مكثفة للغة الإنجليزية، واشترت ملابس جديدة من محالِّ ديلارد في إل باسو، وملأت استمارات الحصول على البطاقة الخضراء. كانت ستنتقل إلى الإقامة في إل باسو. وفي غضون شهرٍ واحد، راجعت مدارس إل باسو من أجل مدرسة لطفليها واختارت الحي السكني الذي ستعيش فيه. سألتها عن سبب انتقالها، وكانت إجابتها: «لا بأس، الوظيفة أمريكية، وهذا يعني ضرورة حصولي على البطاقة الخضراء.»
لكي تتأهل روزاليا لمنصب إدارة الموارد البشرية، على نحو ما كان عليه في الشركة، لا بدَّ لها أن تصبح مقيمة أمريكية حاملة للبطاقة الخضراء. كان منصب إدارة الموارد البشرية في هيكلته منصبًا أمريكيًّا، راتبه بالدولار الأمريكي، وتُستحق عليه ضرائب للحكومة الأمريكية، ويحكمه قانون العمل الأمريكي. وليس أقل من هذا دلالة، أن مرتبته تعلو مرتبة مناصب أمريكية عديدة، من ناحية الأجر والمنزلة والقوة في الشركة. كانت روزاليا تُظهر أن هذه المديرة للموارد البشرية لن تكون من العمالة المكسيكية، بل بالأحرى من العمالة الأمريكية.
طرحتُ المسألة على هذه الصورة: «في منشآت ماكيلادورا، يجب على المرء فهم الفارق بين أن يكون مكسيكيًّا وأن يكون أمريكيًّا. يقولون في وجهي صراحةً: إن المكسيكانة لا تستطيع النهوض بأعباء هذه الوظيفة؛ ذلك أنني لا أفهم التحرش الجنسي أو لا أستطيع أن أفض إضرابًا. أنت تشهدين، أنا مكسيكانة لكن لدي حس الأعمال الأمريكي، وهذا يعني أنني على درايةٍ بالجانبين معًا.» وإذ تبين روزاليا أنها تستطيع الإقامة في الولايات المتحدة، عملت على انتزاع الاستعارة المجازية للحدود الدولية خارج الشركة. وذلك لكي تعيد التفاوض بشأن وضعها في مواجهة الحدود داخلها. كانت تلقي بمكسيكانيتها وراء ظهرها، تتأمرك. وليس أدل على هذا من أنها كانت تعمل على إثبات اختلافها عن أغلبية المكسيكانات، فهي ليست مرتبطة ثقافيًّا بالفوضى الجنسية.
ذات يوم أخبرني ستيف في أثناء تناول الغداء، «أنها في الواقع أثارت دهشة الكثيرين حين جاهرت بهذا، أحسبهم تصوروا أنها لن تستطيع مغادرة المكسيك. ولكنك تعلمين أنني أحسبها قد وضعت نصب عينيها التعيين في وظيفةٍ دولية. إنها جادة، تريد أن تُعامل كأمريكيةٍ ومهنية حقيقية … أعتقد أنها تستطيع أن تصل إلى هذا.»
على أي حال، يكشف توصيف روزاليا ذاتها لهذه النقلة عن أنها قد اعتبرت نفسها مكسيكانة من نمطٍ جديد، تتفهم كيف تتفاعل الحدود بوصفها مجازًا بمعية التنظيم المادي للسلطة ورأس المال والنفوذ في المناطق الحدودية السياسية. وحين سألتها عما إذا كانت ستفتقد المعيشة في سيوداد خواريز، قالت: «سأظل دائمًا مكسيكانة. بَيد أني أحتاج أيضًا إلى تفهُّم الأمور الأمريكية، هنا أنا أمريكية، أمثِّل العمالة الأمريكية في الشركة، أترجم السياسة؛ لذلك أريدك أن تعرفي ماذا يعني عبورك الجسر كل صباح، أن يكون أطفالك في مدرسةٍ أمريكية وتحاولين سد طلباتهم، أجل أنا مكسيكانة، ولكني لست من الصورة التقليدية للمكسيكانة.»
وأيضًا أثبتت روزاليا وجودها خارج جدران «م. ع. م»، فبعد ترقيتها بعامٍ واحد، عُينت في وظيفةٍ مرموقة برابطة تجارة ماكيلادورا في سيوداد خواريز، وأفصحت عن أملها في فتح الباب لمديرات مكسيكانات أخريات ليلتحقن بالمجموعة.
وفيما كانت روزاليا تعبُر تقسيمات تفصل بين المكسيك والولايات المتحدة، فإنها تعاود تأكيد ذاتها في «م. ع. م»، أصبحت مكسيكانة مهنية لبيبة حين أفصحت عن المغزى في أن تكتسب معارفها بوصفها مكسيكانة، وفي لغتها والرؤية السياسية الخاصة بها. لقد تعاملت مع الحدود بوصفها تعبيرًا مجازيًّا عن الانقسام لكي تقتطع لنفسها مكانًا بوصفها نمطًا خاصًّا من المكسيكانة لها حراكها عبر انقسامٍ بين الدولتين. افترضت سياسة للانقسام الجغرافي. وكانت حركتها داخل الفضاء الأمريكي تعني وضع مسافة تفصلها عن أغلبية المكسيكانات العاملات في الشركة. بَيد أنها ظلَّت تعرِّف نفسها بأنها مكسيكانة، لديها القدرة على صنع روابط بين الحدود، وعلى أن تطرق اتصالات سياسية وأن تقوي وضعها من خلال وعيها الذاتي بنفسها بوصفها فاعلة سياسية. إنها ليست ذلك النوع من المستيزة الجديدة التي تتصورها آنزالدوا، بل هي من نمطٍ أصبح أكثر بروزًا في الفضاء الراهن الذي هو المنطقة الحدودية بين الولايات المتحدة والمكسيك.
جنبًا إلى جنب مع جهود روزاليا من أجل الترقية، كانت ثمة واحدة من زميلاتها الأمريكيات، هي سينثيا، تبذل هي الأخرى المساعي للحصول على مقعدٍ في الإدارة. كانت روزاليا الجهة التي عينتها الشركة لإدارة ذلك الأمر، وعالجته بما يكشف عن رؤيتها في أن الإخفاق في إدراك سياسة الاختلاف الجغرافي في منشآت ماكيلادورا مسألة كارثية للمكسيكانة التي تطمح إلى تحسين وضعها المادي.
(٤) سينثيا
حين قابلت سينثيا لأول مرة في سبتمبر من العام ١٩٩٣م، كانت تعمل مهندسة جودة تراقب إنتاج أنظمة الوقود. التوصيف المهني لهذه الوظيفة ينطوي على إدارةٍ أكثر مما ينطوي على هندسة، فكان دورها متابعة اتصال الإدارة بمهندسي التصنيع في الطابق التجاري، وكلهم رجال مكسيكيون. كانت سينثيا حاصلة على شهادةٍ جامعية في الهندسة والكيمياء، أمضت معظم سنوات الدراسة مع أسرتها، والتحقت بفصولٍ دراسية مسائية بجامعة تكساس في إل باسو لاستيفاء متطلبات الحصول على درجة الماجستير في الهندسة الصناعية. وعلى الرغم من أن والديها كانا الجيل الأول كمهاجرين مكسيكيين، قالت إنها تعلمت أن تتحدث الإسبانية بطلاقةٍ في مدرسةٍ مسائية. التحقت بالعمل في «م. ع. م» قبل إجراء بحثي بعامين، وذلك حين حسمت أمرها بأنها وإن كانت من أوهايو فإن جذورها تمتد على جانبَي الحدود. قالت لي: «أتعلمين، أسرتي بأسرها عمال مهاجرون، جامعو محصول الطماطم. جاءت أمي ذات يوم لتخبر أبي بأنها لا تكاد تتحمل منظر الطماطم مرةً أخرى، فارتحلا إلى أوهايو، وافتتحا متجرًا لبيع بانادريا (الخبز المكسيكي). وفيه عملت وأنا طفلة.»
تصف سينثيا نفسها بأنها طموحة، تتحدث عن مشاركتها في جماعةٍ ثقافية موالية لقطاع الأعمال وهي لولاك (رابطة مواطني أمريكا اللاتينية المتحدين)، وفي دوائر سياسية في إل باسو. ومنذ لقائنا الأول أخبرتني بطموحاتها في الانتقال إلى الإدارة. «إنني مديرة كفء، وأفضل من يكتب في هذا المكان بأسره. أنا أكتب التقارير كلها، أكتبها حتى نيابة عن رجالٍ آخرين. وأنا الآن أحيانًا أكتبها نيابةً عن ستيف»، صدَّق ستيف على هذا: «سينثيا تكتب التقارير جيدًا. إنها موهوبة، لكنها تدخل دائمًا في نزاع. ويا له من وقتٍ طويل أنفقناه في محاولة تحديد ما هي «مشكلة سينثيا».
وإن هي إلا أيام قليلة في «م. ع. م»، وأتت البيِّنة على هذا. خلال واحدٍ من الاجتماعات الأسبوعية للمديرين، بعد ترقية روزاليا بفترةٍ وجيزة، ورد اسم سينثيا حين أقر روجر، بلهجةٍ آمرة، «لا بد أن يتحدث أحدٌ مع سينثيا».
وفي صباح اليوم التالي أتت سينثيا إلى مكتبي وأغلقت الباب. «هل تعلمين ماذا قالوا لي؟ أولئك الملاعين … إنها فيونكاتي. قالوا إنني لا أستطيع وضع الفيونكات في شعري». استلَّت من شعرها فيونكة أرجوانية لامعة وعرضتها عليَّ. «أعطتني أمي إياها في عيد ميلادي … وكانت روزاليا هي التي أخبرتني بذلك … «لتخفف من نبرتها»؛ فأولًا هذا شعري أنا. دعاني ستيف إلى مكتبه وقال إنه يريد أن يراني أبدو أكثر بوصفها مهندسة أمريكية. قال إني أصبحت أقرب شبهًا بالمكسيكية. ليذهب إلى الجحيم، ألا يعرف إلى من يتحدث؟»
وعلى مدار سلسلةٍ من الحوارات، شرح لي ستيف كيف أن سينثيا التي تتبوأ تلك الوظيفة، ببساطةٍ لا تبدو مهنية محترفة، «لا أدري هل هي هنا لتكتشف جذورها أم ماذا؟ لست أبالي، كل ما أريده أن يسلك المهندسون لديَّ سلوك المهندسين. لا أستطيع أن أرى رئيسة عمل عندي تهبط إلى هنا من أجل مناقشة مسائل تتعلق بأنظمة الوقود والفيونكات المبهرة اللامعة تتماوج على رأسها … قد يبدو هذا سيئًا للغاية، بل كيف يمكن أن يحدث مثل هذا أصلًا. إذا أرادت أن تكون مديرة، لكان من الأفضل لها أن تعمل على تخفيف حدة مثل هذه الأشياء المكسيكية.»
لم تنحنِ سينثيا أمام هذه الضغوط. ذات يوم جاءت مرتدية ثوبًا بنفسجيًّا فاقعًا بأزرارٍ من حجر الراين اللامع وفيونكة تتناسب معه. وعند المدخل أخبرتني: «لديَّ الجرأة على أن أقول لهم أي شيء.» وحين سألت سينثيا عما إذا كان شيء لا يغريها لبذل جهد من أجل تخفيف التوتر، أعربت عن غضبها وقالت: «انظري، أنا لست فتاة بيضاء مثلك. ولست أخجل مما أكونه، أنا أعرض ذاتي، أنا امرأة، وأعرض هذا، أنا مكسيكانة، وأعرض هذا. في الخارج أرتدي الجينز الأزرق أما هنا فأنا مهنية وهذا ما أعرضه، إذا لم يعجبهم هذا، فعليهم اللعنة.»
في غضون هذا كانت قد تلقَّت مذكرات مكتوبة لا تتعلق بملابسها تفيد بتعبيراتٍ عامة غير محددة عن أنها لا تقوم بواجباتها الوظيفية. وحصلت في واحدٍ من التقارير على درجاتٍ منخفضة في السلوك الوظيفي، وفهمت سينثيا أن هذا تمهيدٌ قانوني لفصلها من العمل. عبرت روزاليا عن الصراع بهذه الكلمات: «هنا ينبغي أن يكون المرء هذا الشيء أو ذاك. فإما أن يكون مكسيكيًّا أو أمريكيًّا، لا مكان هنا للأمريكي المكسيكي.»
ومن المفارقات حقًّا إهدار ساعات من عمل الهيئة الإدارية في النزاع حول مظهر سينثيا، فيما كان أداؤها كمهندسة جودة، بمقاييس عيوب المنتجات وموثوقيتها، يحصل على درجات الإثابة في الشركة، وعلى مستوى العالم بأسره. منحتها الشركة ووالديها تذاكر طيران إلى ميامي لحضور حفل توزيع جوائز، ومع ذلك، لم تحُلْ هذه الإثابة من دون إجبارها على تقديم استقالتها بعد هذا بفترةٍ وجيزة.
في الأيام القليلة التي سبقت استقالتها، أعلن ستيف أنه قام بترقية رجل مكسيكي إلى وظيفة مدير هندسي، وهي الوظيفة التي كانت تطمع فيها سينثيا. وفي تفسيرٍ لهذا القرار أخبرني: «لا أعتقد أن منشآت ماكيلادورا قد تأهبت بعدُ لسينثيا». «هذا الشاب يسلك سلوك المهندس، وأعرف من أين أتى». وبهذا فهمت أنه كان معجبًا بالحضور الذكوري الصارم، بارتداء رابطة العنق، وتفهُّم لا يشوبه تردد أو تضارب للفارق بين المجال المكسيكي والمجال الأمريكي في «م. ع. م».
سألت روزاليا تفسيرًا لأن يمثل المظهر الذاتي لسينثيا مثل هذه المشكلة، ويستحق مثل هذا الاهتمام في حين أن عملها يقدم للشركة فائدةً جليلة صريحة؟! فراحت تبرر الاهتمام بمظهر سينثيا عن طريق مناقشة الحدود الدولية وكيف تمارس فعلها: «لا بأس، قد يبدو هذا غير ذي صلة بالموضوع، بَيد أن مظهر الناس وكيف يسلكون مهم حقًّا لكي ينتظم عمل كل شيء؛ ذلك يشبه الحدود، يجب أن تُظهري أوراقك، ولا يتوقف الأمر على من تكونين. إذا لم تسلكي السلوك الصحيح، فلن يجعلوك تعبرين؛ فلديهم قواعد صارمة، وكذلك نحن. لم ترغب سينثيا في قبول هذه القواعد، فلم تبدِ مهنية وضايقت كل شخص. والحق أنها لم تعرف تمامًا من تكونه هنا، وتلك هي مشكلتها الكبرى.»
ما عرضته سينثيا في «م. ع. م» كان صورة متنافرة، أقرت بأنها امرأة «أمريكية مكسيكية»، صورة معينة من صور المكسيكانة، في سياقٍ كان الانقسام القاطع فيه هو الناموس. ومع رفضها الاعتراف بالحدود بوصفه تعبيرًا مجازيًّا عن الانقسام، كانت تمثل تهديدًا لنظامٍ اجتماعي انبنى على تفرقةٍ عنصرية أممية داخل انقسام للعمل. كانت تتحدى بشكلٍ مباشر الخطاب السائد للمكسيكانات بوصفهن غير مهنيات، وكان هذا جهدًا في إعادة صياغة الدلالة، ليس فقط دلالة ذات الفرد الأخرى، بل دلالة التأويل الرمزي للمكسيكانة بشكلٍ عام. وعلى خلاف روزاليا، لم تقم بتعديل مظهرها الخاص ليناسب الإطار الرمزي السائد للمكان وللذوات. وبدلًا من هذا اصطدمت بالتمثيل ووضعت في تصورها فضاء للمكسيكانة وواجهت معارضةً قوية. إنها مثل آنزالدوا، تخيلت بشكلٍ أو بآخر توحيدًا ممكنًا بين الجانبين المكسيكي والأمريكي. حاولت التفاوض مع الغموض الاجتماعي، عاملة على إدراج ما هو مكسيكي فيما هو أمريكي، والأنوثة في السلطة، في سياقٍ يلقي بمثل هذه الاضطهادات الخطابية والمادية في خانة المستحيل.
على أن تعبيرات سينثيا عن الوحدة الاجتماعية عبر جغرافيا يعاد وصلها تعبيرات لا تطعن في التقسيمات الطبقية، وهي تقسيمات مفطورة في انقسام العمل الذي يفصل المكسيكانات المهنيات عن المكسيكانات من عمال اليومية الكادحين عبر الحدود الأممية. وفي إشارةٍ إلى الإناث من العمال الشغيلة الذين رأستهم، تفسِّر وضعهن بأن «هؤلاء الفتيات محظوظات بالحصول على مثل هذا العمل وهن لا يعرفن حتى هذا. والواقع أن الثقافة المكسيكية لم تعلمهن كيف يحترمن عملهن. أسرتي مكسيكية، ولكن حين يتعلق الأمر بالعمل، يكون علينا أن نتحلى بأخلاقيات العمل الأمريكية». ربما هددت سينثيا نظامًا اجتماعيًّا يدور حول استبعاد مظاهر معينة للمكسيكانات من الإدارة الأمريكية، لكنها أعربت عن إخلاصٍ متين للحدودية الأممية والجنسية للتقسيمات الطبقية، التي حافظت على العملية الرأسمالية وسلامتها. مثلًا، حين عرفت أنني حضرت ملتقًى عماليًّا في سيوداد خواريز، اتصلت بي تليفونيًّا في المنزل، وسألتني: «هل أنت واحدة من الذين تنزف قلوبهم من أجل البشر الشغيلة الكادحين؟» وحين أخبرتها بأنني لا أفهم ماذا تقصد، أبلغتني بأنها لا تستطيع أن تخاطر ولن تتحدث معي مرةً أخرى، وحينئذٍ تلقيت مكالمةً من ستيف الذي سألني عما إذا كنت «أتجسس لمصلحة العمال».
على الرغم من مشكلات سينثيا مع «م. ع. م»، فإنها لم تتركها وهي في موقف ضعف، بحثت عن الدعم والمشورة من المجتمع القانوني الواسع في إل باسو وسيوداد خواريز كلتيهما. ولأن ستيف تخوَّف من رفع دعوى قضائية، أذن بصرف مكافأة مادية لها مشفوعة بتوصيةٍ مشددة لشركات أخرى راحت تعمل فيها، وبعد هذا بفترةٍ وجيزة، ذُكر اسمها في مجلةٍ صناعية تجارية واسعة الانتشار بوصفها من صفوة النساء العاملات ومن المهندسين ذوي المكانة العالية في صناعات ماكيلادورا. أرجعت الكثير من نجاحها إلى تجربتها بوصفها امرأة تعرف جيدًا الثقافتين الأمريكية والمكسيكية معًا الموجودتين في البيئة الحدودية.
وكما قالت لي قبل إقالتها: «أحسب أن أولئك الرجال البيض تدهشهم المفاجأة. هناك جمعٌ غفير منا، ونحن نعلم ماذا ينبغي أن نفعل. هذا واحد من أماكن قليلة تستطيع فيها المكسيكانة أن تفعل شيئًا مذكورًا في مجال الصناعة، يخافون منا لأننا نعرف دخائل الجانبين معًا هنا.»
(٥) السياسة النسوية ومستيزة ماكيلادورا
أما عن رؤية بتلر لإعادة صياغة الدلالة في انطباقها على هذه المستيزة الجديدة، فإن روزاليا وسينثيا يطرحان أمام المستيزية التساؤلات الآتية: هل نستطيع اعتبار إعادة صياغة الدلالة تدميرًا جزئيًّا، أو بمزيدٍ من التوجه إلى صلب الموضوع، نعتبرها حتى إعادة صياغة راديكالية لتتلاءم مع ظروف الوضع القائم وأشكال الخضوع لها؟ تعاد صياغة الدلالة لمستيزة ماكيلادورا لتصل إلى مدى لم يتوقع منها أحد أن تبلغه، وتظل مثيرة للدهشة حين تبلغه. لكن إعادة صياغة دلالتها بوصفها ذاتًا حدودية جديدة إنما تتزامن مع تعزيز مكانة السيناريو الذي تتبعه الشركة، وهو نحت هويات العمالة على أساسٍ من علائم الجنس والقومية والثقافة، تلك المجلوبة إلى الأماكن والمواضع في ساحة العمل بالشركة. كل امرأةٍ تعبر عن هجينٍ ثقافي سيرتد صداه في رؤية آنزالدوا للمستيزية، فيما نجد كل امرأةٍ تعمل بجديةٍ إنما تحافظ على حدود الانقسام الطبقي الذي تزدهر فيه صناعات ماكيلادورا. وبينما تتأمرك روزاليا وتصنع سينثيا لنفسها اسمًا مذكورًا في مجال الصناعة، تكدح أغلبية المكسيكانات في ماكيلادورا من أجل الحصول على أجورٍ تبقيهن تحت خط الفقر. كثيرات يعشن في ظروفٍ مرهقة اقتصاديًّا، قلةٌ قليلة لا تمثل نسبة يعتد بها هي التي تتاح أمامها فرصة للترقي في الصفوف الوظيفية. إن نجاح روزاليا وسينثيا يطرح سؤالًا هو: هل يمكن أن تتراكب الصورة التي تضعها آنزالدوا للمستيزة الراديكالية مع مستيزة ماكيلادورا الموالية لقطاع الأعمال، وذلك في سياسةٍ نسوية للحدود؟
إن روزاليا وسينثيا يثيران هذا التساؤل من حيث يعطلان فاعلية بعض شفرات تأويل مواقفهما الذاتية، وهي شفرات تظل ثابتة بالنسبة إلى الأخريات. مستيزيتهما الجديدة تتجلى في هجنتهما وفي إظهارهما نفسيهما بوصفهما امرأتين عارفتين بكلا الجانبين للحدود وكذَاتَين تقطنان تلك الأماكن. ولكن يُستبعد من مستيزيتهما الاختلاط بالمكسيكانات غير المهنيات، أو حتى الاختلاط بعضهم مع بعض بالمغزى الاجتماعي، إلا في أن كلتيهما تساند اتحادات ماكيلادورا التجارية، وكلتيهما ناشطة في بعض جماعات مجال الأعمال السياسية المحافظة. علاوة على هذا، أضفتْ كلتاهما على أجواء المؤسسة تنوعًا. وقد مثلتا دليلًا في يد مديري الشركة على التزام المؤسسة بترقية النساء والأقليات إلى وظائف أعلى. أما في البحث عن طريقةٍ لدخولهما في إطار رؤية آنزالدوا للمستيزة الجديدة، فمن المفيد معالجة الطريقة التي تبدو بها كلٌّ منهما مختلفة عن الأخرى، وإلى أي مدى كانت مفاوضاتهما بشأن الاختلاف تتولد عنها تأثيرات مشتركة.
من الناحية الأخرى، ترفض سينثيا أن «تتصرف بوصفها أمريكية». وفقًا لسردية شركة «م. ع. م». إنها ليست مثل روزاليا التي هاجرت أخيرًا إلى أراضي الولايات المتحدة، بل تفصح عن هويتها بأنها «أمريكية» ذات ميراث مكسيكي طويل ولها حق الإقامة هنالك؛ وتبعًا لهذا تكافح في «م. ع. م» لأنها تتحدى رؤية الشركة للمكسيكانة كذاتٍ موحدة متجانسة تمثل عمالة غير مهنية، حاولت «تهريب» نمطها المكسيكاني إلى داخل النطاق الأمريكي، حيث المكسيكانة محظورة صراحة، وسرعان ما أجبروها على إخلاء مكانها، بَيد أن قصتها ليست مأساة، وبعد أن جربت التحرش الجنسي والعرقي السمج في «م. ع. م»، وجدت عملًا في مؤسسةٍ أخرى وواصلت احتلال مكان مرموق — بوصفها مكسيكانة — في صناعات ماكيلادورا المكسيكية.
وعلى الرغم من أن روزاليا وسينثيا تعبِّر كلٌّ منهما عن مستوًى ما من ازدرائها للأخرى، فإن كلتيهما مارست فعلها في سحب صورة المكسيكانة من المناطق الخلفية في مكاتب الموظفين بماكيلادورا وعنابر الإنتاج فيها لتضعها في الصدارة والمركز فيما يتعلق بمراكز القوة في تلك المؤسسات. وهما لهذا مستيزتان جديدتان، وفقًا للمغزى الذي أسهبت فيه آنزالدوا. وعلى قدر ما أعادتا تشكيل نفسيهما كامرأتين لهما قوة ونفوذ ينبعث مرتكزهما من تراثهما الثقافي ومن معرفتهما بعالمين رُسما بفعل الحدود والمناطق الحدودية؛ ومع هذا، من الواضح أنهما ليستا ذلك النمط من المستيزات الذي تفكر فيه آنزالدوا؛ ذلك أنه في إعادة تشكيلهما لذاتيهما، أو إعادة خلق الدلالتين، عملت التأثيرات المشتركة أيضًا على استبعاد المكسيكانات الأخريات من حصد المغانم المادية والاجتماعية المستحقة للمديرين في ماكيلادورا.
توضح روزاليا وسينثيا ما هو على المحك في صياغة الذوات الحدودية حول جغرافيا للاختلاف؛ وبالتالي ما الذي يجب أن تتحداه سياسة نسوية موضعها هو المناطق الحدودية. في مسار جهودهما رأينا كيف تعمل جغرافيا للاختلاف على دمج الطبقة في داخل صياغة الذوات الحدودية والانقسام السياسي، ورأينا كيف أن رمز الانقسام يتردد رجع صداه في أعطاف المناشط اليومية. وسوف يتعين على السياسة النسوية الساعية إلى توحيد قواها عبر هذه الجغرافيا أن تتصدى لمدارك الاختلاف وكيف تندمج في المناشط اليومية، التي تبث الحياة في أعطاف المناطق الحدودية وفي المناشط الحدودية وسكان الحدود من أمثال مستيزة ماكيلادورا.