ما الذي يجب أن يفعله البِيض
خيانة البياض إخلاص للإنسانية.
أستكشف في هذا المقال محاولات البيض للتحرك نحو موقفٍ يناصر الفعل والإنجاز ضد العنصرية ليصلوا بذلك إلى ما هو أكثر من النقد الذاتي، وذلك عبر الطرق الثلاث الآتية: تثمين المساجلة داخل المذهب النسوي حول علاقة النساء البيض بالبياض، ومناهج «مران الصحوة البيضاء» التي تطورت بفضل جوديث كاتز وسياسات «ناكث العرق» التي تطورت بفضل إغناتيف وغارفي، ثم دراسة حالة للمراجعية البيضاء وهي محاولة تجري حاليًّا في جامعة ميسيسيبي.
في الفيلم السينمائي «الراقص مع الذئاب» (١٩٩١)، يلعب كيفن كوستنر دورَ جنديٍّ أبيض في الاتحاد مرابط على الحدود الهندية ويمر بعملية تحول سياسي. لقد توصَّل إلى إدراكٍ مفاده أن ميليشياته تنتوي قتل سكان أصليين اتَّضح له أنهم على خلاف الصورة المرسومة لهم، فليسوا همجًا غير متحضرين، وأنهم في الواقع أصحاب حضارة غنية تتفوق من نواحٍ عديدة على حضارته، وهكذا يدرك أنه يقاتل في الجانب الخاطئ، البقية الباقية من الفيلم السينمائي ترسم تطورًا زمانيًّا لنضاله في تحديد هذا الذي أدركه وماذا يعني بالنسبة إليه.
إن السرديات الشوفونية التي نصدق جميعًا عليها ترسم صورةً للمجتمعات القائمة على أساسٍ أوروبي بوصفها الطليعة التقدمية للجنس البشري، وهي تنتج دعمًا غير مرئي تقريبًا لبنية تقدير-الذات الجماعي لكل أولئك الذين قد يستطيعون الزعم بتلك الهوية الأوروبية. في النصف الأول من القرن العشرين، تلقَّت المعقولية البادية لتلك السرديات ضربةً قاصمة بفعل العنف المدفوع بمغانم مادية في الحرب العالمية الأولى وجرائم الإبادة الجماعية المنظمة بفعل التكنولوجيا في الحرب العالمية الثانية، وكرد فعل على خيبة الأمل تلك، تطورت سردياتٌ جديدة، قائمة على نبذٍ شامل للأحقاد الإثنية والطاعة السياسية العمياء في «العالم القديم». إن السرديات التي تحظى بالتصديق العام في «العالم الحديث» أو «الجديد» تجاهر بأن المجتمعات القائمة على أساسٍ أوروبي قد قادت العالم في تعظيم النزعة الفردية والحريات المدنية والرخاء الاقتصادي، والتي يفترض أنها أعلى الخيرات البشرية. بطبيعة الحال، يستطيع العديد من غير البيض أن يساهموا في هذه السرديات وأن يروا أنفسهم ممثلين إلى حدٍّ ما لجانبٍ من جوانب الطليعة التحررية، ولكن لأن هذا التقدم قد استلهم واسترشد بالتقاليد الثقافية والمناهج الاقتصادية لأوروبا والولايات المتحدة، فقد احتلَّ البيض بشكلٍ طبيعي المركز والصدارة، جنبًا إلى جنب مع حلفاء من غير البيض بيد أنهم كانوا في الخلف.
ومرة أخرى في النصف الثاني من القرن العشرين، انبثقت بشدةٍ خيبة أمل جوانية في هذه السرديات التي تضع البيض في الطليعة، مبدئيًّا بسببٍ من حركة الحقوق المدنية وحرب فيتنام، بل وأيضًا في ضوء أحداثٍ وقعت في جنوب أفريقيا وأيرلندا، والآن في وسط أوروبا، وهي أحداث تولَّد عنها الريبة في أن العرق الأبيض قد يكون أقل عنفًا أو أقل في عدم التحضر أو أكثر ديمقراطية، من أيٍّ سواه، وكنتيجةٍ لهذا، تصدعت الآليات الثقافية التي تدعم تقدير الذات بين البيض وتنامت الردة عنها كرد فعل لذلك التهديد النفسي.
على أي حال، ليست الردة وحدها هي الاستجابة البيضاء المعاصرة لانهيار المعقولية الظاهرة في سرديات تفوُّق البيض، ويستكشف هذا المقال أنواعًا أخرى من استجابات البيض، جميعها بطريقةٍ أو بأخرى تعلو على الطليعية التقدمية للبيض وتتجه صوب موقع يناصر العمل الفعال ضد العنصرية الذي سوف يصل إلى ما هو أكثر من مجرد النقد الذاتي.
ولكن، ما هو اعتراف المرء ببياضه؟ هل هو الاعتراف بأن المرء يرتبط ارتباطًا متأصلًا ببنيات الهيمنة والقهر، وأنه لا رجعة عن وجوده في الجانب الخاطئ؟ بعبارةٍ أخرى، هل يمكن أن يُنتج الاعتراف بالبياض نقدًا ذاتيًّا فقط، أم ينتج كذلك العار وكراهية الذات؟ والشعور بأن المرء أبيض هل يمكن أن يكون شيئًا على ما يرام؟
وإني لأزعم أن كل فردٍ في حاجةٍ إلى الشعور بارتباطٍ مع المجتمع المحلي ومع التاريخ ومع مشروعٍ إنساني أوسع من حياته/أو/حياتها الخاصة. ومن دون هذه الارتباط، نحن مجردون من الانشغال بالمستقبل ومن الاستثمار في مصير مجتمعنا المحلي. العدمية هي النتيجة، وإننا لنرى وفرةً من بوادرها تحيط بنا، من جنونٍ استهلاكيٍّ بلا رادع يتجاهل عواقبه المحتملة على المدى البعيد إلى نزعةٍ تحررية فوضوية تتفشى في شراكات الولايات المتحدة على كل المستويات ولا تصنع قيمة إلا للرغبات الفردية الفورية.
إذا صح هذا التحليل، ووجد كل فردٍ في نفسه الحاجة إلى شعورٍ ما بالارتباط مع مجتمعه المحلي بماضيه ومستقبله على السواء، فما الذي يجب أن يفعله البيض في أمريكا الشمالية؟ هل ينبغي عليهم، كما يُحاج دعاة العصر الجديد، استيعاب الثقافات غير الأوروبية بقدر المستطاع، مثلما فعل الكابتن جون دنبار في «الراقص مع الذئاب»؟ هل يجب أن يصبحوا، كما يُحاج نويل إغناتيف وجون غارفي، ناكثين للعرق يتنصلون من سائر مزاعم وارتباطات البياض؟ والتبرؤ التحرري من الهوية العرقية والتنصل من — التعامي عن — الألوان، هل يمكن أن ينجم عنهما الوعي بامتياز البيض الذي تستوجبه مناهضة العنصرية؟ هل تستطيع النزعة الفردية الناقضة للعرقنة أن تقدِّم مغزًى التواصل التاريخي الذي يبدو أن الفعل الأخلاقي يستوجبه؟
وقبل أن أواصل المسير قدمًا، أريد أن أقول شيئًا ما عن هُويتي الخاصة بي، وهي مركبة عرقيًّا كشأن هوية آخرين في هذا البلد يتزايد عددهم. في بعض الأماكن بالولايات المتحدة، ينظرون إليَّ على أني «بيضاء» وأفترض أنني بيضاء، في تلك السياقات، يعني هذا أنني بيضاء بمغزًى ما، وبناء عليه لديَّ معرفة بامتياز البيض مستقاة من داخل جماعات البيض. فضلًا عن هذا، فعلى الرغم من مولدي في بنما، نشأت وترعرعت في جنوب الولايات المتحدة (فلوريدا). حيث ساد طوال الشطر الأكبر من طفولتي أوضاع جيم كرو للتفرقة العنصرية بشكلٍ رسمي أو غير رسمي، أمي وزوج أمي من البيض الجنوبيين، بكل ما يمكن أن يتضمنه هذا. على أن أبي كان من اللاتين يحمل في أعطافه ميراثًا إسبانيًّا وهنديًّا وأفريقيًّا. أما عائلته، وبالتالي تلك الناحية من عائلتي لم تغادر بنما قط، وكان حلوله بصفته الخاصة هنا كطالبٍ جامعي. وإذ نشأنا، أختي وأنا، في فلوريدا، فقد كان يتم تقديمنا بشكلٍ عام للوافدين على أننا «الابنتان اللاتينيتان» لأمي؛ وبالتالي عرفت أيضًا شيئًا عن الشوفونية البيضاء، أغلبه ذو نكهة ثقافية (مثلًا، «يجب أن تكوني ممتنة لوجودك في هذا البلد»، وغير ذلك من افتراضاتٍ تصنيفية لا أساس لها).
(١) النساء البيض والهوية البيضاء
تطرح ريتش نقدًا عميق التبصر للتعامي عن الألوان، وعلى خلاف نسوياتٍ راديكالياتٍ أخريات، تعترف بمغزى عنصرية النساء البيض. على أي حال، تواصل ريتش طريقها لتضع التحيز الجنساني في مركز حياة النساء جميعًا، ولكي ترسم صورةً للنساء البيض بوصفهن أساسًا ضحايا للعنصرية ولسن فاعلات يساعدن في دعمها. تزعم ريتش أن النساء البيض لا يصنعن النزعة العنصرية، ولكنهن مدفوعات دفعًا إلى خدمة المؤسسات العنصرية، وأن أولئك اللاتي يتصورن أنهن مستفيدات من العنصرية مخدوعات. في رأيها، النساء البيض يتلمظن غيظًا لأنهن بلا سلطة ولا قوة، وعنصريتهن متنفس لهذا الغيظ ضل طريقه. وهذه الرؤية مراجعة يسيرة لرؤية فايرستون. وفي تفسيرات ريتش، العبودية أدق وأحق من تفوق البيض في أن توصف بأنها مؤسسة بطريركية، وإلقاء اللوم على النساء البيض هو إعاقة لعملية تشكيل الروابط السياسية والوجدانية بين النساء البيض والنساء غير البيض. أما ما يبدو من حمايةٍ تسبغها البطريركية على بعض النساء البيض فإنها تهبط بمنزلتهن وتفرض عليهن الطفولية وقلة الحيلة؛ ومن ثم تكمن المصالح الحقيقية للنساء البيض في صنع التحالف مع النساء الأخريات، وليس مع الرجال. يوعز هذا التحليل بأن «بياض» النساء البيض ليس البتة هو ذاته «بياض» الرجال البيض.
ماذا يعني عمليًّا أن «نصبح غير مخلصات؟» بالنسبة إلى فري وريتش، من الواضح أنه لا يمكن أبدًا أن يعني شكلًا ما من أشكال التعامي عن اللون أو عن الفردية، وهذا لن يفعل إلا حجب امتياز البيض والمنظورات البيضاء المتضمنة. إذن، كيف يستطيع البيض أن يكنَّ غير مخلصات للبياض بينما يعترفن بمغزى هويتهنَّ العرقية الخاصة بهن.
(٢) المران على مناهضة العنصرية
يعزو «الصحوة البيضاء» مسئولية واسعة النطاق عن العنصرية على كاهل البيض. وكاتز، مع ذلك شديدة الانتقاد لتثبيت الذنب على البيض؛ لأن هذا تقوقعٌ في الذات، وتشرح لنا كيف أن مثل هذه الانتقادات جعلتها تنتقل من جماعة التقاء البيض-السود إلى جماعاتٍ كلها من البيض. وكذلك تتجنب استخدام أناسٍ ملونين في إعادة تثقيف وتعليم البيض؛ لأنها كما تقول وجدت هذا يدفع البيض إلى التركيز على نوال القبول والغفران من مدربيهم غير البيض.
تأخذ هذه المشكلة مغزى مضاعفًا نظرًا إلى أن مناهضة العنصرية والمران الحساس صناعة نامية في شركات الولايات المتحدة الآن، وهي الشركات نفسها التي تواصل ثقافتها استخدام العنصرية والشوفونية الثقافية كذريعةٍ لدفع أجور أدنى كثيرًا للملونين عن طريق بخس قيمة عملهم الذي هو في واقع الأمر ذو قيمة مضاهية أو لعله عملٌ أشق. لا تشير كاتز إلى الاستغلال أو إلى الحاجة لإعادة توزيع الموارد، وبدلًا من هذا تعالج العنصرية كمرضٍ نفسي يمكن مداواته من خلال تعديل السلوك. وعلى الرغم من أن العنصرية بلا جدالٍ توهن من عزائم البيض بطرقٍ عديدة، فلن نستطيع أبدًا استجلاء ما يعوزنا فعله للتغلب عليها من دون تحليل لهذا الذي يستفيد من العنصرية ويعمل على إذكائها.
على أي حال، يقوم كتاب «الصحوة البيضاء» بتطوير فعَّال لعملياتٍ يمكن أن تسمح بالاستكشاف الجماعي للوعي العنصري الأبيض والتفكير النقدي فيه. إنه يبني على معرفة البيض أنفسهم الضمنية بالعنصرية، وبالتالي يزكي التفكر في شأنها، يعزز ثقة البيض في قدرتهم الخاصة على الفعل وعلى مواجهة مقاديرهم، وبشكلٍ معين حقًّا يقر بأرجحية استجابات البيض الانفعالية من قبيل الغضب والشعور بالذنب والمقاومة، من دون النظر إليها كمؤشرٍ دالٍّ على عنصريةٍ لا يمكن التغلب عليها. وبدلًا من هذا، يعمل على تطوير عمليات المجموعة والبيئات الداعمة التي يمكنها بث هذه الاستجابات الانفعالية، والعمل من خلالها والتعالي عليها. ولديَّ على أبسط الفروض تقارير تحكي أن هذا الكتاب جرى استخدامه بشكلٍ فعال في سياقات التنظيم السياسي لتلقين البيض مبادئ استكشاف الطبقات العديدة للعنصرية وفرضيات تفوقهم وسيادتهم الكامنة في صلب تفاعلاتهم، والتأمل فيها.
على أن الكتاب لا يقدم أي عونٍ في تحديد ما يمكن أن تكونه تلك الجوانب الإيجابية. وبالنظر إلى سياقه، لا بد أن يجد القراء صعوبةً في أن يخمنوا كيف يمكن أن تطرح كاتز تحديدًا موضوعيًّا للبياض، اللهم إلا في حدود العنصرية والامتياز غير العادل.
في العام ١٩٩٢م، إبَّان الاحتفال بمرور أربعة قرون على فتح كولومبوس، شاركتُ في سيراكوزا مع المنتدى الإيطالي الأمريكي المحلي المناصر في مساجلةٍ عامة حول المعاني السياسية لذكرى كولومبوس. وزعموا أن الأمريكيين ذوي الأصول الإيطالية يعانون من تمييزٍ مكثَّف ومتواصل في هذا البلد، وأن الاحتفال بذكرى كولومبوس بالغ الأهمية لأنه تصعيدٌ لكبرياء هذا المجتمع المحلي وغرس للاعتراف بالإسهامات المهمة التي قام بها الإيطاليون. وأنا أوافق على توصيفهم للموقف والحاجة إلى رموزٍ ثقافية إيجابية. بَيد أني أتساءل: لماذا لا تكون الرموز المستخدمة ليوناردو دافينشي ومايكل أنجلو أو حتى ماريو كومو بدلًا من رجلٍ مسئول عن جرائم إبادة جماعية عابرة للقارات واستعباد لسكان أمريكا الأصليين؟ لدى الإيطاليين ثروة خاصة من قادة الثقافة المستحقين للإعجاب؛ لذا أجد إصرار المنتدى المستمر على الاحتفال بكولومبوس يوعز إليَّ بأن المرمى أكثر من مجرد تحقيق المساواة للجماعة.
إذا كان للهوية البيضاء أن تتحول، فإنها في حاجةٍ إلى ما يفوق إعادة البناء الجوهرية، بما فيه من مراجعةٍ للسرديات التاريخية والمرتكزات الثقافية. الجزءان التاليان حول محاولتين أحدث لإحداث التحول في البياض، وكلٌّ منهما له اشتباك مع المقاربة الليبرالية.
(٣) ناكثو البياض
محررَا الجريدة نويل إغناتيف وجون غارفي مناهضان للرأسمالية، ويؤمنان بأننا يجب أن نرحب بدعوى نزع السلاح. ولعل أفضل تصنيف لسياستهما هو الفوضوية التحررية، وهذه لها جرائد فوضوية أخرى كثيرًا ما تعيد نشر مواد من جريدة «ناكث العرق» أو تشير إليها. يستبسل المحرران من أجل منظورٍ سياسي قوي للطبقة العاملة، وقد تمكنا من تطوير احتواء الطبقة في صفوف كتاب الجريدة، وهذه خاصية نادرًا ما تتصف بها جرائد يسارية من أي نوع. وبشكلٍ مثير للاهتمام، قليلًا ما بذلا الجهد لصنع التحالف بين النسويين أو النشطاء المثليين؛ ربما لأنهما يريان هذه المسائل غير ذات اتصال مركزي بتفوق البيض. وهذا ما نتج عن تحليلٍ يتواتر بانتظامٍ في الجريدة مفاده أن «تفوق البيض» كان إلى حدٍّ كبير أيديولوجيا استخدمها الأثرياء والأقوياء لخداع البيض الفقراء، فيجعلون ولاءهم للعرق أقوى من ولائهم للطبقة، وهكذا يعمونهم عن مصالحهم الخاصة. وعلى أي حال، يمكن كما رأينا اصطناع حالة مماثلة بالنسبة إلى النساء البيض وكذلك بالنسبة إلى المثليين البيض.
لم يقتصر الأمر على أن تواجه الطالبات معارضةً عنيفةً، بل إن إدارة المدرسة أوقفت قيدهنَّ بحجة «انتهاكاتهن للزي المدرسي». حظي هذا المثال بتغطيةٍ إعلامية واسعة في برنامج المنوعات «ويليام مونتل شو». ومن الواضح أنه نوعٌ من التمرد التلقائي الذي «ينطلق في وجهك»، وهو ما تصبو جريدة «ناكث العرق» إلى تشجيعه، وكان تعليق المحررين: «تكشف هذه الحادثة عن القوة الهائلة لثقافة العبور المحلي في تقويض تضامن البيض وسلطة الذكور معًا.»
من الواضح أن مثل هذا التفكير الاستراتيجي يمثِّل رجعَ الصدى لحساسيات ما بعد الحداثة لدن الشباب الراديكالي الآن، وفيما أعتقد يفسِّر جانبًا من جوانب الاهتمام المتزايد بالنظريات الفوضوية في التغير الاجتماعي. هذا يعني أن ما بعد الحداثة والفوضوية، كليهما، يقدمان تبريرًا نظريًّا للاعتقاد الراهن بأن «حروب المواقف» من الطراز القديم الذي يتخذ شكل المواجهة بين فريقين ميئوس منها في تغيير تضاريس القوة الرأسمالية، حيث إن مصادر هذه القوة ذاتها لا تتمتع بأي شكلٍ من أشكال الثبات، سواء من حيث مركزها أو من حيث توزيعها الجغرافي. ويمكن أن نأمل في أن تكون أحداث كافية على شاكلة حدث موروكو، هي المحفز الذي نحتاج إليه، في موقفٍ لا يمكن فيه رسم خريطة للقوة السياسية، وتوجد القوة الاقتصادية من دون قاعدةٍ تنظيمية راسخة، ولا تتميز العلاقات السببية بين السياسة والاقتصاد والثقافة بأي ثبات.
ولكن ما هي الأنماط الأخرى من خيانة الأبيض التي يمكن أن ينخرط فيها المرء الآن؟ يرفض الأفراد البيض في حركة الحقوق المدنية تضامن البيض وفقًا لقوانين جيم كرو، جلسوا لتناول الغداء في مواجهة الأمريكان الأفارقة، وركبوا في مؤخرة الحافلة، وساروا في معارضةٍ مفتوحة لمجتمعاتهم المحلية. كانت هذه بلا ريب أفعالًا سياسية من أفعال الخيانة الاجتماعية. وقد استفزت ردود فعل عنيفة تماثل في وحشيتها ردود الفعل التي يعاني منها السود أنفسهم. وفي غياب حركة اجتماعية من هذا القبيل، ثمة أفعال أخرى يمكن أن يتَّخذها البيض قد لا تكون درامية هكذا، لكنها تبعث رسائل مماثلة، من قبيل ارتداء ملابس كالأزياء التي اختارتها جماعة «حرة في أن أكون أنا» في موروكو، أو في اختيار المدارس والأحياء السكنية، وأفعال أصحاب العقارات وغيرها من الخدمات والأعمال. على أي حال، قليلًا ما يمكن التنبؤ بمعانٍ مثل هذه الأفعال خارج سياق حركة سياسية واسعة الانتشار إعلاميًّا، بل ويمكن أن تكون لها نتائج غير متوقعة وضارة، كما يحدث عند اختيار حي أقلية من البيض تساعد فعلًا في تجميله وترميمه. وفي حالة موروكو، تعرض واحدٌ من الطالبين الأسودين للتهديد والتحرش، وهاجم رجلان من البيض أمه حين كانت تتسوق في المدينة وأوسعاها ضربًا. هكذا واجهت الأسرتان السوداوان في المدرسة الجانب الأكبر من العنف، وهما أسرتان لم يستشرهما أحدٌ وربما لم تستعدا للهجوم. وإذ نفتقد التحكم الشامل في مدلولات وآثار أفعالنا، ومع غياب حركة سياسية ﻟ «خيانة الأبيض» تتمتع بالانتشار الإعلامي الواسع ويمكنها تداول المعاني، تظل النتائج الفعلية لأفعال الأفراد غير مؤكدة.
وعلى أي حال، تظل المشكلة الكبرى في اقتراح جريدة «ناكث العرق» هي أن البيض، بمعنًى ما له أهميته، لا يستطيعون التنكر للبياض. ومظهر المرء من حيث هو أبيض، يمارس فعله في منحه الامتياز بسبلٍ عديدة لها أهميتها، والمجاهرة بالخيانة لا تجعل البيض غير حاملين لتلك الامتيازات حتى لو بذلوا الجهد الجهيد لتجنبها. وفي مقالةٍ كتبها إدوارد إ. بيبلز للجريدة، نجده يعاود تفسير حادثة صغيرة حدثت له أمام حامل لعرض الصحف في ريتشموند العام ١٩٧٦م. حين أراد أن يبتاع جريدةً من جرائد الأمريكيين الأفارقة، نظرت إليه البائعة البيضاء وراحت تشرح له: «أنت لست في حاجةٍ إلى هذه الجريدة، إنها جريدة ملونين.» فكان أن رد عليها بيبلز بصوتٍ عالٍ بما يكفي ليسمعه آخرون في المحل: «لا بد أنك تفكرين في أنني أبيض!» وهو يشرح ما حدث بعد ذلك:
لا يخامرني شكٌّ في أن هذه الفعلة في الجنوب مثَّلت فتنة عميقة. ولكن مثل هذه الممارسة لا يمكنها أن تستبعد تمامًا عملية الامتياز الأبيض، للأسباب التي سبق ذكرها. وبعض البيض «الغدارين»، أصحاب الامتيازات البيض التي لا تزال تمارس فعلها إلى حدٍّ كبير، قد يشعرون حينئذٍ بأن من حقهم فك الارتباط بالبياض من دون الشعور بأي صلةٍ بالمسئولية عن فظائع العنصرية البيضاء في الماضي، أو ربما يعتبرون المجاهرة بأنهم «ليسوا بيضًا» حلًّا كافيًا للعنصرية من دون هموم الفعل النظامي أو الجماعي. وقد يصل هذا الموقف إلى نهايةٍ غير مريحة مماثلة لاتجاه «التعامي عن اللون» الذي يتظاهر بتجاهل هوية المرء الخاصة به البيضاء ويرفض تحمل المسئولية.
ترتبط هذه المخاوف بملمحٍ آخر من الملامح التي أجدها في جريدة «ناكث العرق»، ألا وهو الميل إلى التأكيد على أن الأغلبية العظمى من البيض لم ترتكب أعمال العنف العنصري (انظر؛ مثلًا ١٦-١٧). طور الكاتبان استراتيجيةً بلاغية مقصدها تزكية عدم الارتباط وعدم التوحد بين البيض (خصوصًا من الطبقة العاملة) وبين المؤسسات العنصرية، في الواقع يعني هذا أن نقول: «ليس هذا هو تاريخك الحقيقي، فلماذا تدافع عنه؟» من ناحية، تقوم هذه الاستراتيجية على روايةٍ لتاريخ الجنوب أدق من الرواية التي تعلمتها أنا نفسي في صفوف المدرسة: لم يخبرني أحدٌ البتة بأن هناك عددًا كبيرًا من البيض الفارين والمنشقين إبان الحرب الأهلية. في أوساط البيض في الجنوب، كان القول الشائع خلال حركة الحقوق المدنية أن البيض الذين انشقوا عن التضامن العنصري وناصروا «غوغائية-الرعاع»، أمثال الدكتور مارتن لوثر كنغ، كانوا شماليين (من اليانكي!) بالإضافة إلى اليهود. إن المراجعة الدقيقة للتاريخ الأبيض يمكن أن تكون استنارةً وتشجيعًا للبيض ذوي التوجهات المناهضة للعنصرية.
غير أن ثمة خطرًا في فك ارتباط العمال البيض بماضي العنف العنصري: بعض العمال البيض شاركوا فعلًا في مثل هذا العنف. ومع الطبيعة السرية لنشاط كو كلوكس كلان، من الصعب معرفة عددهم. أمَّا الحكم انطلاقًا من البلاغات العامة الموثقة ومحافل الإعدام خارج نطاق القانون، كما هو الأمر حين يصف دوبويس بأسفٍ بالغ تمرير أصبع سوداء مقطوعة معروضة على الجمهور حين كان في طريقه للعمل في أطلانطا، فعلينا أن نستنتج، كما فعل سكان ألمانيا إبَّان فترة الحكم النازي، أن الناس البيض من الطبقة العاملة في الجنوب وفي كل مكانٍ كانوا يعرفون عن الفظائع ويوافقون عليها إلى حدٍّ كبير.
وهكذا، فإن مسألة المواءمة نفتقدها للأسف في هذه النقطة. وربما يكون إغناتيف على صواب، فيما يتعلق بالأفعال العنصرية التي يتم تحديدها بشكلٍ واضح على أنها مرتكبة عن نيةٍ ووعي. بَيد أن هذا التصور يمكن أن يتعايش مع فكرةٍ مفادها أن إحساس الناس البيض بكينونتهم في العالم، وخصوصًا في هذا البلد، يعتمد اعتمادًا عميقًا على التفوق الأبيض. وهذا الاعتماد بدَوره قد يقوم في الأعم الأغلب لأنهم هم أنفسهم تحديدًا مقموعون؛ معنى ذلك أن علاقات المهاجرين كانت شديدة التواضع وخلوًا من أي مصادر ثقافية أخرى يمكن من خلالها تحديد معنًى للاستحقاق. قد يكون التفوق الأبيض هو كل ما يمكن أن يتمسك به البيض الفقراء. كي يحتفظوا بمغزًى لحب الذات، وصميم جينالوجيا البياض كانت منذ بدايتها متشابكة مع تراتبيةٍ هرمية عنصرية، يمكن أن نجدها في كل سرديةٍ ثقافية كبرى من كريستوفر كولومبوس إلى المصير البيِّن وصولًا إلى سباق غزو الفضاء وثورة الحاسوب. كثيرًا ما يكون البقاء في الطليعة غير مُوَاتٍ، فأن تظل في «المقدمة» يتطلب حروبًا وتضحيةً جسيمة. ومع ذلك يظل الناس دائمًا يتعقبونه، تحديدًا لأنه ضروري من أجل إمكانية حب-الذات، هكذا نجد المأزق ها هنا: لا بد أن نبلغ بالقصة الكاملة للعنصرية البيضاء بكل تعقيدها، ولا يمكن فك أضابير هذا التعقيد من خلال التحليل الطبقي الذي يعزل الذنب وكأنه مقتصر على الأغنياء. غير أن مواجهة واقع الجريرة الأخلاقية للبيض يهدد صميم قدرتهم على التمسك بالأخلاقية الآن؛ لأنه يهدد قدرتهم على تصور أنفسهم كأصحاب علاقات اجتماعية مترابطة بماضٍ وبمستقبل يمكن أن يشعر كل فردٍ بأنه مشدود إليه.
هذه المسألة تُلقي الضوءَ على الصعوبات في تحويل الأبيض. فمتى يتلاشى التعالي على الشوفونية الثقافية في خضم الاستيلاء الثقافي؟ في المجتمع الاستهلاكي على وجه الخصوص لب امتياز البيض هو القدرة على استهلاك أي شيءٍ وأي شخصٍ بأي طريقة، والرغبة في العبور التحويلي في حدِّ ذاتها لها حدود مشتركة مع الرغبة الاستعمارية في الاستيلاء وصولًا إلى حصار الذات الاجتماعية.
أحيانًا تقدم الموسيقى المعاصرة نموذجًا مثاليًّا للعولمة، فسرعان ما يتم الاستعارة منها وفي اتجاهاتٍ متعددة، حتى إن مفاهيم «الأصل» و«الهوية»، وكذلك «الملكية الفكرية» تفقد وضوح معناها. وليس يعني هذا أن صناعة الثقافة تعلو على التراتبيات الهرمية في الاقتصاد السياسي الكائن، والأصول المهجنة للأشكال الثقافية لا ينجم عنها توزيع مناظر للنجاح الاقتصادي. وعلى أي حال، حين نحاول التغلب على التوزيع غير العادل للموارد المالية أو فرص الدخول في مجال الإنتاج الثقافي، فليس من الواقعية افتراض تفرقة عنصرية ذاتية تنمُّ عن إرادةٍ حرة، أو مثلًا أن البيض سوف يتمسكون بالموسيقى البيضاء. إن الأصول المهجنة؛ وبالتالي العبور التحويلي، قوة لا يمكن إيقافها. والعنصرية، بشكلٍ عام، لم تعمل على إبطاء التهجين الثقافي. وهذا يعني أن التهجين الثقافي ليس علة كافية لمناهضة العنصرية ولا حتى مؤشرًا ضروريًّا عليها.
كان سارتر مشهورًا بتشاؤمه بشأن المساواة الممكنة في العلاقات الإنسانية. وقد عرض لخيارين يمكن الأخذ بهما حيال الآخر. الأول يتضمن محاولة للعلو على تعالي الآخر، أو سلب الحرية الخاصة بالآخر، لا سيما الحرية في إصدار الحكم وفي القيمة. وهذا النمط مميز للكراهية وللسادية. وينطوي النمط الثاني على محاولةٍ للاندماج في تعالي الآخر؛ وهذا يعني أن يكون لك حب الآخر. بَيد أنك في حلٍّ من اختياراته، وتلك هي مفارقة الحب: نحن نريد الآخر ليحبنا بطريقةٍ تكون مطلقة ثابتة موثوقًا بها، ولكننا نريد أن يكون حبه معطًى بحريةٍ من دون إجبار. ومن ثم نريد أن يكون الحب لا مشروطًا ومشروطًا في آنٍ واحد. يضع سارتر تشخيصًا لهذا بأنه الرغبة في إدماج حرية الآخر داخلي، حتى إن احتياجاتي ورغباتي تظل في المركز ويوجد الآخر فقط كجزءٍ من عالمي المرتب من دون استقلالٍ ذاتي حقيقي.
ربما تقع محاولات البيض للاستيلاء على ثقافة السود في هذا التصنيف، من حيث هي استراتيجية لا تبحث عن تشتيت نظرة السود أو قمعها في خواء الخضوع وبدلًا من هذا تبحث عن دمج نظرة السود في داخل ذات الأنا. بعبارةٍ أخرى، محاولات البيض لاستيعاب السواد استيعابًا كاملًا قد تكون مدفوعة بالرغبة في جعل نظرة السود — أو ذاتية السود وهي ما تدلُّ عليه النظرة — تنعم بسلامٍ داخلي وبالتالي لا تمثل تهديدًا للأنا. إن الاعتراف باختلافٍ غير قابل للرد، اختلاف يحاول العبور التحويلي أن يتغلب عليه، قد يتمسك بنقطة الافتراق الخاصة بالآخر، فضاء الحكم المستقل الخاص بالآخر، وبالتالي إمكانية الاعتراف المتبادل حقًّا بالذاتية الكاملة.
لا يتطلب مثل هذا التحليل رفضًا بالجملة للعبور التحويلي، بيد أنه ينصح بالتدقيق الحذر في مواقف العبور التحويلي التي ستسعى لمحو الفارق. وثمة مثال لمثل هذه المواقف، في واحدٍ عرضَّه غارون لمنظار النقد، وهو النظرة القائلة إن أنغام البلوز شكل ثقافي عابر للأعراق، سهل المنال على مستوى العالم. ثمة عدم ارتياح وتخوف بشأن ما يمكن أن تدل عليه التعبيرات عن معاناة السود خصوصًا بالنسبة إلى مستمعين بيض، وربما كان هذا هو الدافع إلى إنكار أن أنغام البلوز من خصوصيات السود، بمعية الحجة القائلة إن المعاناة مطروحة عبر الأعراق. ليست المعاناة العمومية اتهامًا. أما معاناة السود فهي اتهام صريح، بمجرد الإشارة إلى تاريخهم. ومن ثم، فإن إدماج البلوز كشكلٍ ثقافي ملائم للحياة الأمريكية المعيشة من دون خصوصية عرقية يفيد في تشتيت معنى تعيين البلوز بأنها سوداء … المعنى بالنسبة إلى البيض. وليس يفضي هذا إلى أن البيض المناهضين للعنصرية ينبغي ألا يطربوا أبدًا لأنغام البلوز، أو أنهم لا يستطيعون تطوير أشكال جديدة من البلوز. بَيد أن سواد البلوز أو على الأقل أصول نشأتها الثقافية، لا يجوز رفضه باعتباره غير ذي صلة.
(٤) تقاليد جديدة في ولاية ميسيسبي
إذا كانت المشكلة الرئيسية مع كتاب كاتز «الصحوة البيضاء» هي افتقاده سياقًا اجتماعيًّا وتاريخيًّا أو تحليلًا طبقيًّا، فإن جريدة «ناكث العرق» تتقدم بتحليلٍ طبقي من دون العناية الكافية بالعمليات الثقافية لتشكيل الهوية. والمثال الأخير للأبيض المضاد للعنصرية الذي سوف أناقشه هنا جاء بصورةٍ واعية أكثر ليحتل موضعه في سياقٍ معين ويهدف إلى تحويل الفهم الذاتي عند البيض.
على أن كتاب «التقاليد والتغيرات» له حدود لافتة؛ فهو لا يقدم تحليلًا طبقيًّا، ولا هو يستكشف أي مسألةٍ من مسائل جبر الضرر أو إعادة توزيع الموارد الاقتصادية. مشروع المصلحة المشتركة يطغى على الفوارق الطبقية الحقيقية التي يرجح أن تستمر لتظل موزعة بشكلٍ غير متكافئ بين البيض والسود، حتى لو كان بيض كثيرون من فقراء الولاية. إنه على أي حال مقرر دراسي لطلبةٍ مستجدين في جامعة ميسيسبي ومهمته تحريك الطلاب عن موقفٍ ينطلقون منه مبدئيًّا، وهي مهمة محدودة نسبيًّا.
من الشائق حقًّا ملاحظة اختلاف الاستراتيجيات المطروحة هنا والمطروحة في «ناكث العرق». هذه الأخيرة تهيب بالبيض عن طريق المحاجة بأن الممارسات العنصرية في حقيقة الأمر لا تخدم إلا الأثرياء، وإنها على هذا تستخدم قراء البيض المغفلين في دعم العنصرية، وعلى الرغم من أن هذه الاستراتيجية تزودنا بتحليلٍ طبقي لتاريخ العنصرية، وهو تحليل مطلوب؛ فإنها لا تساعد البيض ليتفكروا في طريقة التغلب على ارتباطهم الخاص بماضٍ عنصري. كل ما تفعله أن تقول لهم: «في الواقع أنتم لا ترتبطون بالماضي العنصري.» بَيد أن الثقافة البيضاء، في الجنوب، كانت داعمة على نطاقٍ واسع لممارسات عنصرية من قبيل التفرقة العنصرية والتمييز والرموز العنصرية مثل أعلام التمرد و«ديكسي». وبخلاف المنافع الاقتصادية، اغتنم البيض منافع أخرى من العنصرية، مثل الحس الجماعي بالتفوق والاستحقاق. أما الحجة الاختزالية التي تصور هذا على أنه مجرد حيل برجوازية فلا معنى لها إزاء واقع معقد.
وفيما يتعلق بهذه المسألة، يثير اهتمامنا أن جريدة «ناكث العرق» وكتاب «التقاليد والتغيرات» يرفض كلاهما التعددية الثقافية. يضع هارينغتون تعريفًا للتعددية الثقافية بأنها ما يسمح بأن تكون «كل الاختلافات الثقافية متساوية في القيمة»، واضعًا إياها في تقابلٍ مع التنوع الثقافي الذي يزكي «التسامح إزاء الاختلافات الثقافية، ويترك السؤال مفتوحًا حول أي الثقافات هي المرغوبة أو المتفوقة» (١٩٩٦، ٣٨). إن المناهض للعنصرية في ولاية ميسيسبي لا يستطيع أن يقيم الحجة على الحقوق المتساوية للتقاليد الثقافية المختلفة من دون تفنيد القدرة على إقامة الحجة ضد التبجيل المستمر لأعلام التمرد.
وعلى هذا أجد كتاب «التقاليد والتغيرات»، على الرغم من محدوديته، يطرح نموذجًا مفيدًا للاعتراف بتورط البيض في جريمة العنصرية والحاجة إلى التبرؤ من جوانب رئيسية في الهوية البيضاء، وذلك في إطار مشروع وشامل للسعي نحو تطوير تحول جماعي إلى هويةٍ بيضاء لاعنصرية. وبالانتفاع من التقاليد الإيجابية في التفكير النقدي المنفتح والديمقراطي، تهدف الدراسات الجامعية ١٠١ وكتابها المدرسي إلى خلق سلسلة من المناقشات مفتوحة النهايات تجعل الطلبة البيض يساهمون في تحول جامعتهم ومجتمعهم المحلي، وفي هذه العملية يتحولون هم أنفسهم.
لقد أردت أن أوعز بأن كفاحًا مستمرًّا يعتمل بين البيض، نادرًا ما يتم تسميته، جاء نتيجة لحركات التحرير وتداعي المعقولية الظاهرية في السرديات التفوقية للبيض. ويحتاج المنظِّرون المناهضون للعنصرية إلى الاعتراف بأن الكفاح لا يجري قط حول ما يتعلق بالخيارات الواعية والمصالح الاقتصادية التي يمكن تعيينها بموضوعية، بل يجري أيضًا فيما يتعلق بالعملية النفسية لتكوين الهوية، التي تعني أن الحجج العقلية ضد العنصرية لن تكفي لصنع حركة تقدمية. ويمكن لحالةٍ من القلق الشديد والهيستريا والإحباط أن تنتج عن فقدان البيض منزلتهم الاجتماعية النفسانية، والعمليات الإيجابية لبناء الهوية التي خرجت عن مسارها. وبطبيعة الحال، يبدو أن الحل المرجح لهذه المشكلة سوف يكون في عملياتٍ جديدة لتنمية المستهدف المقتصر على التبديل لكي يخلق تصنيفات جديدة لتواضع الشأن، من خلالها يعلو تقدير الذات الجماعي، وذلك ما يحدث بالفعل في إحياء النزعة إلى الموطن الأصلي والقدح في الهجرة غير الشرعية ورعاية الدولة لرفض المثلية الجنسية، وهلم جرًّا.
والحق أن الهُوية البيضاء ربما يعوزها تطوير صورتها الخاصة من «الوعي المزدوج»؛ هذا إن كان لنا أن نسمي المغزى مزدوج-الجانبين بماضيه ومستقبله الذي يمكن أن نجده في ثنايا الأعمال التي نوقشت في هذا المقال. ليس الوعي الأبيض المزدوج هو التحرك بين ذاتيتَي الأبيض والأسود أو منظورَي الأسود والأمريكي، على نحو ما طور دوبويس الفكرة. وبدلًا من هذا يتطلب الوعي المزدوج، بالنسبة إلى البيض، اعترافًا ماثلًا دومًا بالميراث التاريخي لبناءات الهوية البيضاء في البنيات الملحَّة للامساواة والاستغلال، وكذلك يتطلب استنهاض الذاكرة من جديدٍ لنتذكر الكثيرين من ناكثي البياض فيما يحمله من امتيازٍ للبيض، أولئك الذين ناضلوا للإسهام في بناء مجتمع محلي يتميز بشموليته الإنسانية فيه. يقف حملة لواء مايكل أنغلو بجوار حملة لواء كريستوفر كولومبوس، يتلوهم حملة لواء نعوم تشومسكي وصولًا إلى حملة لواء بات بوكانان. ميراث الثقافات القائمة على أساسٍ أوروبي ميراث معقد. وأن نتناوله من خلال تحليل ذي جانبين، فذلك أفضل من الحجية التي تطمس إما جانبه الإيجابي أو جانبه السلبي. ويجب حينئذٍ أن تكون تمثيلات الأبيض داخل التعددية الثقافية جدلية على هذا النحو، تزيل العتمة التي ترنو على كواهل التاريخ الأبيض المناهض للعنصرية حتى وهي تقدِّم وصفًا تفصيليًّا للنزعة الاستعمارية وآثارها الثقافية. إذن، ذلكم هو التحدي: تحويل أساس احترام-الذات الجمعي من نزعةٍ طليعية عنصرية إلى التزامٍ مخلص بالقضاء على العنصرية.
هوامش
وقد تفيد الإشارة إلى أن الماركسية قد اشتُهرت باستعمال هذا المصطلح، وبات يعني تهمة وإدانة لكل ماركسي تراوده الرغبة في مراجعة مبادئ الماركسية وتعريضها لشيءٍ من النقد. نذكر في هذا الصدد المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي A. Gramsci (1891–1937) الذي تعدُّ فلسفته من أسبق المعالم التجديدية في الفلسفة الماركسية، خصوصًا من حيث إنها توهن من حدة مقولة الصراع الطبقي. في العام ١٩٢٦م اعتقله موسوليني بتهمة المراجعية؛ بمعنى إعلان الولاء للماركسية للتسلل إلى صفوف الطبقة العاملة من أجل إشاعة التشكيك في المبادئ الماركسية والعمل على تقويضها، وبهذه التهمة ظل غرامشي في السجن، حيث كتب مؤلفاته الضخمة، حتى وفاته في ريعان العمر شهيدًا من شهداء الإخلاص للماركسية. [المترجمة]