الفصل السابع عشر
التعددية الثقافية كفضيلةٍ معرفية للممارسة العلمية١
آن. كد
إننا في حاجةٍ إلى الإتيان بقيمٍ أخرى لتُلقي بثقلها في الحكم على نظرياتنا
العلمية؛ قيم من قبيل الاتساق الداخلي والبساطة والتساوق مع معتقداتنا وقيمنا
الأخرى.
آن. كد
إني أقيم الحجة على أن العلم سوف يكون أفضل، وفقًا للمعايير الخاصة به، إذا اتَّبع
منوال
التعددية الثقافية، وأقصد بها التنوع الجنوسي والإثني لطائفة العلماء. وأحاج بأن الأقلية
والنساء من العلماء سوف يكون أقرب إليهم التعرف على الفرضيات الخاطئة والمنحازة حول العرق
والجنوسة التي تسري كالمرض في أعطاف النظريات. أما أنماط التغير التي ستطرأ على المجتمع
بفعل اتباع منوال التعددية الثقافية فسوف تساعد على كشف تلك الفرضيات المضمخة بالخطأ
لتغدو
سافرة أمام أعين العلماء من كل الأعراق ومن الجنسين.
مضى ما يقرب من عقدين من السنين على ظهور البحث الإبستمولوجي النسوي والكتابة النسوية
اللذين أحدثا تحولًا في المسار، وفترة مثلها على ظهور النقد بعد الاستعماري والعنصري
للعلم،
وعلى الرغم من هذا لا يبدو أن التيار السائد في الأدبيات الفلسفية قد استوعب بعدُ الدروس
التي يحملها هذا المعنى. وإني أرى هذا محبِطًا بشكلٍ خاص؛ بسبب الغارات التي شنَّتها
حركة
الإبستمولوجيا الاجتماعية التي يبدو أنها قد لحقت الآن بالتيار السائد في فلسفة العلم
والإبستمولوجيا. لا يكتفي فلاسفة التيار السائد بالحجج القوية، بل يطلبون أيضًا حيثيات
جيدة
مصوغة بمصطلحاتهم، وتتبع تقاليدهم. ولأنهم التيار السائد، فهم قادرون على المطالبة بذلك.
في
هذا المقال، سوف أُقيم الحجة بلغة التيار السائد من أجل الدروس المستفادة من النسويات
والآخرين المهمشين، وأصوغ الحجج وفقًا لتقاليد الفلسفة التحليلية. والدرس الذي أعتزم
أن
أنقله بشكلٍ خاص هو أن هيمنة الذكور الغربيين البيض على العلم تنال من العلم وفقًا للحدود
الخاصة به، وأن احتواء الآخرين المستبعدين سوف يهذب ويشذب مضمون العلم وصميم موضوعيته.
مجمل
القول: إن التعددية الثقافية فصيلة معرفية (ودع عنك مطلب العدالة) بالنسبة إلى
العلم.
(١) إنكار الأسس
النزعة الأسسية (Foundationalism) في نظرية المعرفة
هي الفكرة القائلة إن هناك بعض المبادئ الأولية التي يمكن تأسيسها لتكون بمنأى عن الشك،
وإننا بهذه المبادئ نستطيع تبرير كل ما يمكن أن نسميه معرفة. والأسسيون يعارضون الشكيين
فيما يتعلق بمعرفتنا بالعالم الخارجي، على أن أسسيين شتى يختلفون حول مصدر المعرفة
القصوى. مع هذا، يتفق كثيرون على أن معرفتنا الأسسية يجب أن تأتي إلى كلٍّ منَّا نحن
المفكرين والمدركين كفردٍ فريد، إننا لا نستطيع الالتجاء إلى المجتمع لتبرير المعرفة،
حتى وإن كنا في قلب المجتمع نتعلَّم أولًا أو نكتشف ما نحن بسبيلنا إلى معرفته. كتب
رينيه ديكارت في التأمل الأول من عمله «تأملات في الفلسفة الأولى» يقول، بعد أن بات على
وعيٍ بالأفكار الخاطئة التي تمسك بها منذ شبابه: «لقد تحققت من أنه يجب عليَّ مرةً
واحدة في حياتي الشروع في تقويض كل شيء، وصولًا إلى الحافة السفلية، لكي أستطيع أن أبدأ
من جديدٍ منطلقًا من الأسس الأولى إن كنت أريد حقًّا أن أقيم للعلوم أساسًا راسخًا
باقيًا، وإذ انسحبت إلى عزلة، فقد وطدت لنفسي وقتًا أنعم فيه بالرؤية والبال الرخي.
جملة القول إنني سوف أتكرس جادًّا غير هازل ومنفتحًا تمامًا لكي أقوض دعائم آرائي
السابقة على عمومها» (Descartes 1980, 57). وبالنسبة
إلى ديكارت، كان لا بدَّ من إنجاز هذا المشروع وإيجاد الأسس الأولى للعلم على انفرادٍ؛
لأنه مشروعٌ يتطلب تفكيرًا واضحًا، غير متحيز بفعل أفكار ومعتقدات الآخرين. ويريد
ديكارت الاحتفاظ بذهنه نظيفًا خاليًا من أي معتقداتٍ تقليدية في مجتمعه، فما يمكن
معرفته يمكن أن يكتشفه شخصٌ متوحد يتفكر من دون انحيازٍ يصنعه التأثير
الاجتماعي.
إن مذهب الأسس،
٢⋆ من هذه النوعية أو تلك، له باع طويل في الإبستمولوجيا. ومن الصواب القول
إنه كان النظرة الفاعلة النشطة في الجانب الأكبر من الفلسفة الغربية لما يربو على
ثلاثمائة عام بعد ديكارت.
وثمة سبب وجيه لهذا: إذا استطعنا امتلاك أساس راسخ لمعرفتنا، فسوف نستطيع حينئذٍ
أن
نبرر أفكارنا الواحدة تلو الأخرى، عارفين أن التبرير يلزم عنه أن تكون تلك المعتقدات
صادقة، حيث «الصدق» مطلق، مستقلٌّ عن سائر الراصدين، وفي كل زمان. على أنه في الأربعين
عامًا الماضية تداعت أركان النزعة الأسسية، واحتلت النظريات الضد-أسسية مكانها في
الإبستمولوجيا المعاصرة. توعز بعض من هذه النظريات بما ينبغي علينا حقًّا أن نفعله في
الإبستمولوجيا وعلم النفس المعرفي؛ يعوزنا أن نستجلي كيف تجمع أدمغتنا المعلومات
وتصنفها، وكيف تبدع النظريات، وتحسم البينة،
٣ وهذه المقاربة تطبيع للإبستمولوجيا.
٤⋆ وتقترح نظريات أخرى ضد-الأسسية أن ما ينبغي على الإبستمولوجيا فعله هو أن
تدرس كيفية نقل الأشخاص للمعرفة داخل الثقافات وعبرها، وكيف يتم تكوين الخبراء في
الإنتاج المعرفي، ولماذا لا نعتبر بعض أشكال المعلومات النسقية من قبيل المعرفة، وما
هي
معايير الموضوعية والعقلانية والمنهج الجيد التي لا تزال قيد الاستخدام؟ أحيانًا يطلق
على هذه المقاربة اسم البنائية الاجتماعية
social
constructivism. وأخيرًا، ثمة فئة ثالثة من النظريات ضد-الأسسية
تقترح أن ما نسميه إبستمولوجيا هو في حقيقة الأمر أيديولوجيا، وأنه لا يوجد شيء من قبيل
المعرفة الموضوعية، وأن كلمة «معرفة» مجرد اسم شرفي للرأي المعلن من جانب أولئك الذين
يملكون السلطة، وهذه هي ما بعد الحداثة. وأنا في هذا المقال أقيم الحجة من أجل صورةٍ
محافظة للبنائية الاجتماعية، وسوف أبين أنه من نواتج موقف البنائية الاجتماعية أن
التعددية الثقافية لديها حقًّا وفعلًا ما تقدمه للعلم وفقًا للشروط المعرفية الخاصة
بالعلم ذاته.
بادئ ذي بدء، نحن في حاجةٍ إلى مسحٍ شامل لصعود وهبوط النزعة الأسسية. وكانت أهم
نظرية أسسية في الإبستمولوجيا وفلسفة العلم إبَّان النصف الأول من القرن العشرين هي
التجريبية المنطقية أو الوضعية المنطقية. تمسك التجريبيون المناطقة بأن أساس معرفتنا
نجده في الخبرة الحسية، وأن خبرتنا الحسية يمكن تحليلها تحليلًا صارمًا بحيث تستبعد أي
عناصر مشكوك فيها أو منحازة. وهذا منهج يمكن إعماله عن طريق المفكر على انفراد؛ لأنه
لا
يتطلب إلا الالتفات إلى الملاحظة ويرفع لواء منهج منطقي صارم للتحليل. ولأن مناهج
التحليل منطقية؛ ومن ثم كونية عمومية، فهي مصونة لا تدانيها قيمٌ اجتماعية أو ثقافية
أو
أخلاقية. إن النظرية التجريبية للمعرفة الحسية اتجاهٌ ظاهري
phenomenalism؛ ذلك أنها الفكرة القائلة إن الأشياء
الفيزيقية بناءات ذهنية (منطقية) تخلقت عن المعطيات الحسية. تمسك لويس
C. I. Lewis بعنصرين في الخبرة الحسية: المسلم
given،
٥⋆ والمفهوم
concept. المسلم ليس استدلاليًّا.
إنه العنصر الحسي في المعرفة-المعطيات الخام. أما المفهوم فيتكون من الأحكام التي نخرج
بها من تلك المعطيات الخام.
ولكي نتبين الفارق بينهما نتخيل كرة التنس. عنصر المسلم هو ذلك الجانب من الإحساس
الذي يفرض نفسه علينا. إنه هنالك بالنسبة إلى المدرك الذي لم يعرف في حياته التنس ولا
كرات التنس، وبالمثل تمامًا بالنسبة إليك وبالنسبة إليَّ. يزعم لويس أن «المسلم» لا بد
أن يوجد، وإلا فإن خبرتنا الحسية «غير مقنعة وتعسفية» (Lewis 1929,
39). المفهوم هو الحكم «إنه كرة تنس». وهو أيضًا الحكم «ثمة شيء
جامد ومستدير مجعد وأصفر مخضوضر». يقول لويس إن المفهوم له أهمية مساوية؛ لأنه «إذا لم
يوجد تأويل أو بناء يفرضه العقل ذاته، يغدو الفكر نافلة ويصبح من غير الممكن تفسير
الخطأ، وتحيط بالتفرقة بين الصادق والكاذب مخاطر الخلو من المعنى»
(Lewis 1929, 39). وبينما يمكن للمفهوم أن يختلف
باختلاف المدركين، فإن المسلم لا يمكن أن يختلف؛ لأنه مسلمٌ من الأشياء ذاتها، على
الرغم من أننا قد نخفق في الانتباه إليه بسائر تفاصيله.
وقد تمسك آير A. J. Ayer هو الآخر في كتابه الصادر في
العام ١٩٤٠م «أسس المعرفة التجريبية» (Foundations of Empirical
Knowledge) بنظرةٍ ظاهرية للإدراك. بَيد أنه على خلاف لويس، رفض
مسعى الفصل بين المسلم والمفهوم. ويجادل أن الحديث عن المسلم يفضي بنا إلى دمج المدرك
والإدراك، الشيء المادي والمعطى-الحسي. واقترحَ بدلًا من هذا أن نحتفظ بذلك التمييز عن
طريق لغة متخصصة. إنها «لغة المعطى-الحسي»؛ لغة المظهر، تصف المدرَك كما يظهر للملاحظ.
بالنظر إلى كرة التنس، قد نقول، بلهجة المعطى-الحسي: لدي إحساس برتقٍ مستدير أصفر
مخضوضر ومجعد في مجال رؤيتي البصرية. لغة المعطى-الحسي لا تفرض وجود أشياء تناظر
مدركاتنا، بل تشير فقط إلى تلك الخبرة التي يمر بها الملاحظ فعلًا. وعلى هذا فإن «كل
ما
يظهر في مجال المعطيات-الحسية حقيقي» (Ayer 1971 [1940]
123). إن مسألة كيفية تأويل الخبرة الحسية، بالنسبة إلى آير مسألة
لغة وليست مسألة واقع.
وقد حاول رودولف كارناب R. Carnap في كتابه الصادر في
العام ١٩٢٨م «البناء المنطقي للعالم» (The Logical Construction of the
World) (وسوف نشير إليه لاحقًا بالرمز ب. م. ع) أن يقدم منهجًا
لإقامة النظريات العلمية على أساسٍ منطقي هو معطيات الإدراك. يزعم أن الحديث العلمي
المشروع يمكن رده إلى حديثٍ عن الخبرات والبناءات المنطقية من هذه الخبرات، وأن كلًّا
منا يمكنه أن يفعل هذا لنا، شريطة أن يكون لدينا توصيف تفصيلي كافٍ للروابط المنطقية
الداخلية التي تسلمها النظرية العلمية، أما الوحدة الأساسية لتأييد النظريات العلمية
فهي «جملة البروتوكول»، التي هي وصف ظاهري لخبرة الملاحظ. واقترح كارناب طريقةً لرد
النظريات العلمية إلى جمل البروتوكول المؤيدة إياها. أما في اختبار نظرية ما، فإن
العالم سيكون عليه أن يستنبط من النظرية فئة من الملاحظات التي ستظهر أمام الباحث حال
توافر فئة معينة من الشروط الأولية. إذا استطاع الملاحظ التثبت من جمل البروتوكول، فإن
النظرية قد تأيدت بدرجةٍ ما، على هذا يمكن تحديد صدق نظرية ما، على الأقل لدرجةٍ معينة،
عن طريق مواءمتها التجريبية. أما اللغة الظاهرية فإن كارناب فيما بعدُ أحل محلها
الأوصاف الفيزيقية للنقاط الزمانية-المكانية الكمية المحددة. واعتبر هذه اللغة أفضل
لأنها تزودنا بوصفٍ فريد لكل الإحساسات وكل الملاحظين، لكن من المهم أن نرى أن هذه
الأوصاف الفيزيقية إنما هي مسلم تمامًا مثل الأوصاف الظاهرية التي حلت محلها، وكل الذي
تغير هو شكل الوصف فحسب.
لقد شُيدت هذه النظريات للنزعة الأسسية من أجل تفسير النظريات العلمية وإعادة بنائها
عقلانيًّا. إنها تصنع تمييزًا بين سياق الكشف؛ أي العمليات التي يحط بها العالم كفردٍ
على فروضه. وسياق التبرير؛ أي المنهج التجريبي والمنطقي لتأييد أو دحض النظريات. وما
يمكن للفلسفة أن تسبر غوره هو التبرير وليس الكشف. وبهذا التمييز، يدعي أولئك الأسسيون
أن العلم يمكن أن يكون خلوًا من القيمة وينبغي أن يكون هكذا؛ ذلك أن القيم الأخلاقية
والاجتماعية ليس لها أن تمارس دورًا في تبرير النظريات العلمية.
ومع أعمال سلارز
W. Sellars وكواين
W.
V. O. Quine أواسط القرن واجهت نظريات النزعة الأسسية للعلم
والمعرفة الحسية صعوبات خطيرة. أوضح سلارز في مقاله المنشور في العام ١٩٥٦م «التجريبية
وفلسفة العقل»
Empiricism and the Philosophy of Mind،
أن فكرة عنصر المسلم في الخبرة خرافة. يمكن شرح المشكلة التي تراءت له في المسلمية
givenness بالحجة التالية. أولًا، من الواضح أن
الشيء الواحد لا يمكن أن يكون في الوقت الواحد معرفة استدلالية ولا-استدلالية، وفقًا
لقانون الوسط الممتنع. إن فئة «المعطيات الخام» اللا-استدلالية، وهي ما نفترض أننا
نتلقاه من دون صياغته في مفاهيم، لا يمكن أن ينشأ عنها في حدِّ ذاتها استدلالات؛ لأنها
لم تصنف بعد، وهي بالتالي ليست لغوية.
٦ أما العنصر الاستدلالي في الإدراك فهو جانب من المعطيات-الحسية مُحمل
بالحكم. وبينما نستطيع أن نشتق الاستدلالات منه، فإنه بيانات مُنظرة بالفعل، وليس
معطيات خالصة. إذن إما أن المسلم لا-استدلالي، وفي هذه الحالة لا يمكن أن تنشأ عنه
معرفة مبررة، وإما أنه استدلالي، وفي هذه الحالة لا يمكن أن يكون معرفة أسسية خالصة
بمنأى عن الشك. وبأيٍّ من هذين الطريقين، تبين الحجة أن الظاهرية لا يمكن لها أن تفضي
بنا إلى أسسٍ في المعرفة التجريبية. وعلاوة على هذا توعز الحجة أنه لا يمكن أن توجد
معطيات حسية خالصة محصنة من انحيازاتنا الخاصة؛ ومن ثم تغدو تلك الأحكام المسبقة في حد
ذاتها موضوعات شائقة للبحوث الإبستمولوجية. أما الالتجاء إلى «حديث الرؤية» (كما في
«ربطة العنق هذه تُرى خضراء») أو لغة المعطى-الحسي، فلا يجدي فتيلًا هنا، تبعًا لسلارز؛
لأن المرء لكي يقول إن شيئًا ما يراه أخضر، ينبغي عليه أولًا أن يمسك بزمام الدعوى
القائلة إن الشيء أخضر في ظل فئة من الشروط المعيارية للرؤية، وأن يعرف كيف يمتنع عن
التصديق على هذه الدعوى حينما لا يكون متيقنًا مما إذا كانت الشروط معيارية. معنى هذا
أن المرء عليه أولًا افتراض أن الهوة بين المعطيات-الحسية والأشياء ذاتها من حيث المبدأ
هوة يمكن عبورها، وهذا تحديدًا ما تنكره حجة سلارز.
ويعرض كواين في مقاله المنشور في العام ١٩٥٣م «عقيدتان جازمتان للتجريبية
Two Dogmas of Empiricism»، حجة أخرى كارثية
بالنسبة إلى الأسسية التجريبية. العقيدتان الجازمتان اللتان يشير إليهما العنوان هما،
أولًا هناك تمييز قاطع لا يعتمد على نظرية نضعه فاصلًا بين العبارات التحليلية
والتركيبية، معنى هذا أن هناك نوعين مختلفين من الجمل، أحدهما تكون معاني الكلمات فحسب
هي التي تجعله صادقًا أو كاذبًا (وهذا ما أسماه آير مسألة لغة). والنوع الآخر تعتمد
شروط صدقه على الوقائع التجريبية (وهذا عند آير مسألة واقعة). أما العقيدة الجازمة
الثانية فهي الردية reductionism؛ أي الفكرة القائلة إن
النظريات الفيزيائية يمكن ردها إلى عبارات الملاحظة ومبادئ رابطة تحليليًّا تمثل جسرًا
وهي المبادئ التي تربط بين تقارير الملاحظة والكيانات النظرية والقوانين، وهذا بالضبط
هو مشروع كارناب في كتابه «البناء المنطقي للعالم».
يبدو من المعقول افتراض أن ثمة مكونًا من اللغة ومكونًا من الواقع متضمنَين في تحديد
صدق الجمل، وأنه ينبغي لهذا أن يكون ثمة متصل مما يمكن أن يبلغه كلٌّ منهما في الجمل
المختلفة؛ وبالتالي في بعض الجمل يكون المكون الواقعي صفريًّا. على أي حال، بين كواين
أنه لا توجد طريقة دقيقة لا تصادر على المطلوب
nonquestion-begging لرسم الخط الفاصل بينهما. وقد
بيَّن ذلك أنه أخذ في اعتباره وبشكلٍ شامل مستوفٍ إمكانيات تعريف التحليلية والتصورات
ذات الصلة، مبينًا في النهاية أنها جميعًا تعرف من حيث علاقة كلٍّ منها بالآخر، وأنه
لكي نعرف أيًّا من هذه التصورات علينا افتراض تفهُّم بعض التصورات الأخرى على الأقل؛
وبالتالي خلص إلى أن تمييز التحليلي-التركيبي مقولة ميتافيزيقية اعتقادية.
بالنسبة إلى كواين، نوع الردية المطروح للنقاش هو النظرة القائلة إن كل عبارةٍ يمكن
ترجمتها إلى عبارةٍ عن الخبرة الفورية. وفي الوقت الذي كان كواين يدوِّن فيه هذا، كان
كارناب يتخلى عن الاتجاه الظاهري من أجل النزعة الفيزيقية، وبدلًا من جمل البروتوكول
راح يستعمل جملًا لها الصورة «الخاصية ك تكون في س، ي، ز، ت»، حيث س، ي، ز، ت تعريف
لنقطة في الزمان-المكان. وحينئذٍ بيَّن كوين أن البرنامج الردي عند كارناب وآخرين يتطلب
عنصرًا غير مُعَرف لا يمكن استبعاده. في مثالنا، التعبير «تكون في» لا بد أنه الأولي
غير المعرف الذي يشير إلى مسلمية الموضعة. ويجادل كواين بأن المشكلة القصوى في الردية
هي افتراضها أن كل جملةٍ على حدةٍ يمكن تأييدها أو دحضها. وعلى العكس من هذا، يقترح
كواين نظرةً كلانية لتأييد العلم سوف تعرف فيما بعد باسم أطروحة دوهيم-كواين: «عباراتنا
عن العالم الخارجي حين تواجه محكمة الخبرة الحسية لا تكون كل عبارةٍ على انفرادٍ بل
تواجهها كهيكلٍ متكامل» (Quine 1980, [1953]
41).
إن العقيدتين الجازمتين مترابطتان ترابطًا وثيقًا، بل يزعم كواين «أنهما متطابقتان
في
جذورهما»؛ لأن كلتيهما تعتمد على أن صدق العبارة بجملته يقبل التحليل إلى مكونٍ واقعي
ومكون لغوي. (وكما لاحظنا، يتاجر آير بهذا التحليل). تهتم الردية بشروط الصدق في المكون
الواقعي، وبتحليلية المكون اللغوي. في كلتا الحالتين، تنشأ المغالطة عن فكرةٍ مفادها
أن
وحدة الدلالة التجريبية هي العبارة أو الحد، في حين أن الوحدة في واقع الأمر هي الخبرة
ككل. على هذا النحو، حين نواجه خبرة تناقض معتقداتنا أو نظرياتنا فأمامنا عدة اختيارات
ممكنة: يمكن أن نرفض المعتقد أو النظرية، ويمكن أن نعيد تعديل بعض من معتقداتنا الأخرى
لتفسر الخبرة التي تشذ عنها. ومع هذا، حين نقبل الكلانية نصل إلى رؤيةٍ مفادها أن
الملاءمة التجريبية لا تنفرد بفصل القول في صدق نظرياتنا. إن المعطيات الحسية تأتينا
وقد طعمتها نظرياتنا بالفعل، وليس كمعطيات خام، ونحن نعيد تفسير الخبرة في ضوء نسق
معتقداتنا ككل. وعلى هذا، لا خبرة منفردة تقدم في حد ذاتها تقريرًا ضد نظرية أو في
مصلحتها من دون كل أنماط الفرضيات في خلفياتنا. ومع مثول تعديلات كافية في نسق
معتقداتنا، نستطيع أن نستبقي أي نظريةٍ في ضوء أي خبرةٍ. معنى هذا أن الدليل التجريبي
الذي نملكه لنظرياتنا إنما يمثل تحديدًا ناقصًا لها. إننا في حاجةٍ إلى الإتيان بقيم
أخرى لتلقي بثقلها في الحكم على نظرياتنا العلمية، قيم من قبيل الاتساق الداخلي
والبساطة والتساوق مع معتقداتنا وقيمنا الأخرى.
على هذا النحو تميز تاريخ الإبستمولوجيا في النصف الأول من القرن العشرين بتفاؤلٍ
عظيم في الأسسية التجريبية القائمة على تحليلٍ منطقي للغة والنظريات، ثم بما تلاه من
رفضٍ لهذه النزعة الأسسية. أما الكلانية أو البرغماتية الناجمة عن هذا فقد تركت
الإبستمولوجيين يبحثون عن معايير جديدة لمواءمة النظريات أو الدعاوى المعرفية. وما لم
يتمسك المرء بأن المعطيات تبوح بالفروض ذاتها، فستكون ثمة فجوة إبستمولوجية بين الدليل
المأخوذ من المعطيات والفروض. هذه الفجوة تملؤها فرضيات الخلفية التي تتضمن القيم،
بعضها قيم نظرية مثل البساطة والتساوق يتمسك بها العلماء عن وعيٍ يزيد أو يقل، وبعضها
قيم تتوارى عن أعين العلماء.
(٢) الإبستمولوجيا بغير أسس: البنائية الاجتماعية
بانقشاع مذهب الأسس التجريبية، أصبح الفلاسفة بإزاء مهمة هي صياغة مقاربات مستجدة
لتشكل المعتقد وتبريره. بَيد أن التمييزات بين عملية تشكُّل المعتقد؛ أي بين سياق الكشف
وسياق التبرير، غائمة الآن. لا يمكن النظر إلى التبرير كمبتغى منطقي خلو من سياق
العلماء؛ لأن خلفياتهم بما فيها من فرضياتٍ شكَّلتها الثقافة تساعد في تحديد طرق جمعهم
وتأويلهم الدليل وتقويم النظريات. معنى هذا أن التبرير يغدو أقرب شبهًا بتشكل
المعتقدات؛ وبالتالي خاضعًا للدوافع نفسها العارضة والمُحَملة بالنظريات وبفرضيات
الخلفية مثله مثل الكشف.
لهذا ركزت فلسفة العلم بعد-الوضعية أكثر وأكثر على عملية الكشف وممارسات اختبار
النظرية والتحليل؛
٧⋆ في محاولةٍ لأن تموضع في قلب هذه الممارسات بعض المعالم المحددة للنشاط
المعرفي. وتحاول الإبستمولوجيا بعد-الأسسية أن تبرر الثقة في ذلك النشاط كمصدرٍ
للمعرفة. وسوف أذود عن إحدى الإبستمولوجيات البعد-أسسية المهمة ألا وهي البنائية
الاجتماعية. إنها الأطروحة القائلة إن المعرفة في جوهرها بناء اجتماعي؛ ذلك أن إنتاج
المعرفة محكومٌ بمحكاتٍ اجتماعية لها ما يبررها داخل المجتمع الأصغر للعارفين، ولكن لا
يمكن تبريرها خارج نطاق سائر المحكات الاجتماعية والمجتمعات الصغرى. إذن، تصبح المعرفة
نسبوية؛ أي بالنسبة إلى المجتمع الذي أُنتجت وأُجيزت فيه. على أن البنائية الاجتماعية
لا تتخلى عن الفكرة القائلة إن إنتاج المعرفة يمكن أن يكون موضوعيًّا. تعرض هيلين
لونغينو
H. Longino في كتابها «العلم بوصفه معرفة
اجتماعية» (
Science as Social Knowledge 1990) صورة من
صور فلسفة العلم التي يمكن أن تناظر قراءة محافظة للبنائية الاجتماعية فيما تسميه
لونغينو تجريبية سياقية.
يتمسك أصحاب التجريبية السياقية بأن العلاقة بين النظرية والبينة تنطوي على فجوةٍ
منطقية، لا تتأتى البينة على نظريةٍ ما حاملة لبطاقة تشرح ما هي المعطيات، أو ما الذي
كشفت عنه، الاعتقاد بغير هذا وقوع في أسر الالتجاء إلى خرافة المسلم. إن تفسير المعطيات
على أنها بينة في مصلحة أو ضد نظرية معينة يتطلب بعض الفرضيات في خلفيتنا. مثلًا، عدتُ
إلى المنزل نحو الساعة الخامسة، وضعت دراجتي في مرآب الدراجات ورأيت فيه ثلاث دراجات
أخرى. ومن هذا أستدل على أن قريني لا بد بالمنزل. ثلاث دراجات في المرآب لا تعني بشكلٍ
طبيعي أنه بالمنزل. وقد استنتجت هذا لأن لدي فئة معينة من معتقدات الخلفية: إنه يذهب
إلى الأماكن بدراجته، وليست لديه عادة التريض سيرًا بمفرده في المساء قبل عودتي إلى
المنزل. وإذا وجب عليه أمرٌ غير عادي في هذا المساء كان لا بد أن يخبرني، وهلم جرًّا.
ولو كانت لديَّ الآن معتقدات مختلفة بعض الشيء، لكان لي أن أستدلَّ على فرضٍ ما آخر؛
مثلًا أنه لم يركب دراجته في الذهاب إلى عمله في ذلك اليوم. إن الفجوة المنطقية بين
المعطيات والبينة، وبين البينة والنظرية، مملوءة بمثل هذا من فرضيات الخلفية. وفضلًا
عن
ذلك، ترشدنا اهتماماتنا إلى تساؤلاتٍ معينة وقضايا معينة. ربما أكون قد استدللت من
الدراجات الثلاث في المرآب على شيءٍ ما بشأن العدد ثلاثة، شيء عن عدم وجود لصوص
للدراجات في الحي السكني، أو عن مقدار المساحة المتروكة في المرآب لمعداتٍ أخرى تستخدم
خارج المنزل، على أني لم أكن مهتمة بهذه الأشياء، كنت آنذاك معنية فقط بمن يمكن أن أجده
في منزلي. هذه الفرضيات الخلفية والاهتمامات التي تحدد كيف تكون المعطيات مطابقة لمقتضى
حالنا، لا تقبل التعيين والتحديد التفصيلي، ولو من حيث المبدأ.
٨
ما أنماط الأشياء التي نعتبرها فرضيات الخلفية؟ الإجابة السيكولوجية هي أن كل شيء
يصلح، القيم السياسية، القيم الأخلاقية، والانحيازات والمعتقدات السببية، الفرضيات
المسوغة وغير المسوغة من كل الأنماط. ليست هناك حدود. أنواع الأشياء التي اعتقد
الوضعيون أنها تؤثر في سياق الكشف فحسب تعود هنا لتؤدي دورها في الممارسات التبريرية
الحاسمة في إيجاد البينة وفي اختبار النظريات. ومع هذا، ليس من المعتاد أن يكون اهتمام
الإبستمولوجيين الأول منصبًّا على الإجابة السيكولوجية، إنهم يريدون أن يعرفوا ما هي
التأثيرات المشروعة.
إن معتقدات الخلفية التي تؤدي دورها ونظائرها لا يمكن أن تكون جميعها شفيفة واضحة
أمام الباحث المستقصي؛ وذلك لأن معتقداتنا ليست جميعها شفيفة واضحة أمامنا، وأي منها
يمكن أن يؤدي دورًا. من الصعب إعطاء أمثلة من نظرياتٍ علمية راهنة تتضمن مثل هذه
المعتقدات المتوارية؛ لأني إذا كنت أستطيع أن أسميها فإنها ليست متوارية تمامًا بأي
حال، لكن لدينا أمثلة تاريخية عديدة، لنأخذ مثلًا الكيميائيين في القرن السابع عشر.
واحد من معتقداتهم الخلفية (التي لم يكونوا على وعيٍ بها) أن أي شيءٍ نستطيع أن نراه
لا
بد أن يكون جوهرًا، ألسنة اللهب لا بد أن تكون جواهر. ولهذا تفرض وجود الفلوجستون.
وبسببٍ من التأثيرات التي لا يمكن تفاديها لمعتقدات الخلفية والتي هي غير مرئية بالنسبة
إلى العالم، فإن المعرفة العلمية تكون نسبية؛ أي بالنسبة إلى معتقدات المجتمع العلمي،
التي هي بدَورها متأثرة بالمجتمع الأوسع.
إنها لمشكلةٌ إذا اعتقدنا أن هدف العلم التثبُّت من الصدق بمغزى نظرية التناظر في
الصدق. يعتبر التجريبيون السياقيون الهدف الداخلي للعلم هو أن تمتد نظرياته التفسيرية
إلى نظامٍ أوسع من الظواهر، وأن تكون متساوقة مع ما يأخذه المجتمع العلمي على أنه
الحقائق المعروفة. يتميز العلم بأنه مسعًى لتأويل الظواهر التجريبية من خلال اختبارات
التجربة أو ما يماثلها من مواجهاتٍ مع المعطيات. إن الصدق قد لا يمكن التثبت منه. بَيد
أن الأمر مع هذا قد يكون واضحًا حين تفضي التفضيلات الشخصية أو الانحيازات الاجتماعية
إلى نظرياتٍ كاذبة غير متساوقة؛ لهذا لا بد أن يهدف العلم أيضًا إلى استبعاد التفضيلات
الشخصية والانحيازات المفسدة التي تعرقل تعقبه للتفسير التجريبي المتساوق
المثمر.
العلم في النظرة السياقية نشاط اجتماعي أساسًا بثلاثة معانٍ على الأقل؛
٩ الأول: أن العلم إنتاج بشر كثيرين يعملون معًا، وإنتاج جماعات مختلفة من
البشر تعيد وتنقد وتعدل نظريات بعضها البعض. وقد أشار جون هاردويغ إلى أن تجارب عديدة
في الفيزياء، تتطلب الآن فيالق من العلماء المتزاملين، لا واحد منهم يستطيع أن يفهم
كليةً سائر تفاصيل التجارب أو الاستنتاجات المأخوذة منها (
Hardwig
1991). إنها في جوهرها مشاريع المجموعة، وكذلك يكون قبولها وفهمها
بواسطة العلماء. والثاني: يخضع العلماء لعمليةٍ تعليمية مشتركة، إنهم يتدربون على
منظومة الأمثلة والحلول عينها، يتشاركون في الأدبيات نفسها والمعتقدات والقيم
الإبستمية
١٠ ذاتها. علاوة على هذا، خضعوا جميعًا لتنشئةٍ اجتماعية مطابقة في داخل
الثقافة نفسها أو ثقافة مشابهة، وهم بهذا يتشاركون في فئةٍ من الاهتمامات وفي قيم
الخلفية الثقافية. والثالث: العلم اجتماعي بمعنى سياسي واضح؛ لأنه يعتمد على دعم
المجتمع الأكبر في تمويله، يصدق هذا في عصرنا أكثر مما كان عليه الوضع في قرونٍ أسبق،
منذ أن أصبح اعتماده على التقانة يتزايد أكثر وأكثر؛ وبالتالي تزايدت نفقاته أكثر
وأكثر. إن العلم مدعومٌ من قبل الحكومة والصناعة، وإلى حدٍّ أقل من قبل التبرعات
الخاصة. جماعاتٌ كبرى من البشر تنفق قدرًا كبيرًا من الوقت لتقرر ما هي مقترحات البحث
المفيدة؛ وبالتالي ما هي الأسئلة التي سوف تُطرح، وما هي التجارب التي سوف تجرى، وما
هو
مجال الرصد الذي سوف يراقب، وما هي التقنيات التي سيتم إكمالها، ومتى سيأخذ برنامج
البحث مساره؟ إن فرضيات الخلفية واهتمامات العلماء على السواء كلاهما تولَّد بشكلٍ
اجتماعي، ويتم التعبير عنه بشكلٍ اجتماعي من خلال قرارات التمويل.
ومع التسليم بهذه الملامح الاجتماعية للمشروع العلمي، عطفًا على الاتفاق المشترك على
أن تمويل العلم مصلحةٌ عامة، وأن العلماء يؤدون مثل هذا الدور الحاسم في تقدم المجتمع،
يتضح أن العدل يتطلب منا كمجتمعٍ أن نمنح فرصةً متساوية للأشخاص من سائر الأعراق ومن
الجنسين ليبدعوا ويؤثروا في توجه العلم. ومع هذا الذي أقوله، فإن مشروعي هنا هو تبيان
أن العلم يجد منافع معرفية في التعددية الثقافية. وأزعم أن العلم، بصميم الأهداف
الداخلية الخاصة به، سوف يكون في وضعٍ أفضل إذا ما اتبع المجتمع سياسة التعددية
الثقافية في داخل العلم وسياسة المساواة العرقية والجنوسية في المجتمع ككل. وبينما
استطاع الوضعيون أن يتفقوا على أن العدل يتطلب من المجتمع أن يتبع سياسات تختلف فيها
جموع العلماء، فقد لا يتفقون حول ما إذا كان هذا يجدي فتيلًا في الأهداف الإبستمية
للعلم. ولكي نرى كيف يبرر التجريبي السياقي الدعوى القائلة إن هذا يفيد فعلًا، نحتاج
الآن إلى أن نبحث خاصية العلم أكثر وأكثر.
اعتقد الأسسيون التجريبيون أن الموضوعية مضمونة بفعل الالتزام بمعايير دقيقة لاختبار
الفروض اختبارًا صارمًا عن طريق البينة، إذا كانت النظرية وصفًا كاذبًا للواقع، تكشف
التجربة المكذبة عن هذا إن عاجلًا وإن آجلًا، وكل ما على العلماء أن يصمموا تجارب تكشف
عن حال الصدق وتكون مفتوحة لتأويل المعطيات بشكلٍ صحيح. في نظرة التجريبيين السياقيين،
لا توجد مثل تلك العلاقة قاطعة الدقة بين النظرية والبينة، وبدلًا من هذا الخاصة
الاجتماعية للعلم يمكن أن تجعله موضوعيًّا. ولأن التجريبيين السياقيين يقرون بأن
المعرفة نسبوية سوسيولوجيًّا أو تاريخيًّا، فإنهم لهذا لا يقرون بأن المعرفة العلمية
ذاتية، أو أن معتقدات أي شخصٍ في الجودة ذاتها كمعتقدات أي شخصٍ آخر. ولكي نرى هذا
نحتاج إلى التركيز على عمليات تشكل المعرفة أو ممارسات البحث العلمي.
أقصد بالممارسات كل شيء، من تعليم الطلبة قبل تخرجهم إلى المختبر والإجراءات
الميدانية التي يمارسها العلماء النظراء، وصولًا إلى قرارات التمويل التي يتَّخذها
المراجعون النظراء. أول شيء نلاحظه أن الخاصة الاجتماعية للعلم تجعل منه معرفة عامة
بمعنيين؛ الأول: أن فرضياته النظرية ومناهجه، حتى فرضيات الخلفية، متاحة لأي فردٍ يضطلع
بالتدريب نفسه وبالانغماس ذاته في العلم. والثاني أن البينة في العلم وتفسيرات العلم
قد
تخضع للمراجعة والنقد من قِبل كل أولئك الذين تلقوا هذا التدريب وتلك الخلفية. لا يمكن
أن نقول هذا الشيء نفسه عن الخبرات الصوفية أو العاطفية. ومن الواضح أنها خبرات ذاتية.
إن العلم ناقد لذاته، يواصل مسيره عن طريق المراجعة النقدية للفروض وملاءمة البينة
للفروض، وبهذا الطريق الأخير، على وجه الخصوص، تتكشف فرضيات الخلفية وتستجوب وفي بعض
الأحيان تعدل.
تستخدم لونغينو مثالًا مثيرًا للشجون من تاريخ الفيزياء لكي توضح هذا الاستجواب
لفرضيات الخلفية وما يلحقه من تقدمٍ في العلم. قبل الأخذ بنظرية آينشتين، اعتقد
الفيزيائيون أن الضوء ينتشر عبر وسطٍ أسموه «الأثير» (فقد اعتقدوا أن كل الموجات يجب
أن
تنتشر عبر وسطٍ ما). وكان المقصود من تجربة مايكلسون-مورلي أن تقيس السرعة النسبية إلى
الأرض في الأثير عن طريق الاختلاف في سرعة شعاعين ضوئيين مقذوفين بحيث يبعد الواحد
منهما عن الآخر تسعين درجة.
١١⋆ يمكن الاستدلال على الاختلاف من التغيرات في تداخل هدب الشعاعين الناتجة في
مقياس التداخل (الإنتروفيروميتر). لكن لم يحدث أي تغيرٍ ملحوظ في تداخل الهدب. بعض
الفيزيائيين فسَّروا هذه النتيجة الصفرية بأنها تأييد فرض الانكماش الذي قال به
العالمان فيتزجيرالد ولورنتز. وعلى أي حال، فإنه بنقد فرضية الخلفية بوجود الأثير كان
فيزيائيو النسبية قادرين على ترك الفرضية وإحداث تقدم مهيب في النظرية الفيزيائية.
وغالبًا ما يتقدم العلم بهذه الطريقة؛ أي بالطعن في فرضيات الخلفية التي لم تهدف
التجربة أصلًا إلى اختبارها (الفصلين ٣ و٤،
Longino
1990). غالبًا لا تأتي هذه الطعون من العالم الذي يطور التجربة، بل
تأتي من الآخرين، الذين يستطيعون رؤية فرضيات الخلفية المباطنة ولكنهم لا يشاركون فيها.
المسألة أن موضوعية العلم تأتي من أنه ممارسةٌ عامة، مشتركٌ بين الذوات ومراجعة نقدية.
ولكن كيف يستطيع العلماء أن يتقدموا بالتقويم النقدي لفرضياتهم الجماعية لكي يستأصلوا
شأفة التفضيل الشخصي والانحيازات الضارة التي تعرقل التقدم في العلم، حينما تكون تلك
التفضيلات والانحيازات ذاتها متأثرة بالمجتمع ويُبقي عليها المجتمع؟
(٣) منظورات المقهورين
تشرح لونغينو بشكلٍ جيد كيف أن فرضيات الخلفية يلزم في بعض الأحيان رفضها لكي نتقدم
نحو نظريةٍ تفسيرية أفضل، أكثر تساوقًا وأكثر إثمارًا. وتقيم الحجة في كتابها على أن
انحيازات مناهضة للمرأة قائمة على أساس الثقافة دفعت العلماء مثلًا إلى فرضياتٍ حول
الهيمنة الذكورية وأنها كونية عامة، وهي فرضيات لا يقتصر أمرها على أنها باتت كاذبة
بفعل فحصٍ مباشر، بل أيضًا تتسبب في تفسيرات خاطئة للمعطيات وبناء نظريات رديئة. ومع
ذلك، لا ينبئنا هذا كيف أننا نستطيع بشكلٍ عام أن نؤثر على العلم ليكشف فرضياته
المتوارية القائمة على الانحياز الاجتماعي.
تساعدنا هنا فكرة ساندرا هاردنغ عن الموضوعية القوية. إنها تسمي الفكرة الوضعية عن
الموضوعية «مذهب الموضوعية»، وتجاهر بأن المشكلة الرئيسية فيها أنها تخفق في التعرف على
أنه حين ينفرد قطاعٌ سائد في المجتمع بالانخراط في ممارسة العلم أو في المؤسسات الأخرى
لإنتاج المعرفة، سوف يتغاضون عن الملاحظات ذاتها والمشاكل القائمة في النظريات، التي
قد
يميل الممارسون إلى عدم الالتفات إليها. ولا تقتصر النتيجة على علمٍ رديء، بل أيضًا
مزيد من القمع واللبس لما تكونه المعرفة وكيفية إنتاجها. وتحاج هاردنغ بأن الحل في
البدء من تلك الملاحظات التي هي غير مرئية أمام النخبة السائدة، لكي نصوغ برامج بحث
جديدة وربما منهجيات جديدة، تقول في كتابها «علم من؟ معرفة من؟» Whose
Science? Whose Knowledge? «في المجتمع الذي تشكلت بنيته عن طريق
التراتبية الجنوسية، «انطلاق التفكير من حيوات النساء» يزيد من موضوعية نتائج البحث عن
طريق استجلاب الملاحظة العلمية وإدراك الاحتياج إلى التفسير ليلقيا بثقلهما على
الفرضيات والممارسات التي تبدو من منظور حيوات الرجال في الجماعات المهيمنة محايدة أو
غير ملحوظة» (Harding 1991, 150). ينبغي أن تبدأ المرأة
العالمة من حياة المقهور لتظفر بفهم أفضل للظواهر، والمرأة الإبستمولوجية هي الأخرى
ينبغي أن تفعل المثل من أجل فهم أفضل لعمليات تشكل المعرفة.
رُبَّ معترض على هذا بأنه يؤدي إلى مذهب الضحوية،
١٢⋆ حيث يكون أغلبية المقهورين لهم أصفى موقف إبستمي متاح. ولكي ندرك أن مثل
هذا الموقف من شأنه أن يكون خلفًا مستحيلًا تمامًا، لا يعوز المرء إلا أن يأخذ في
اعتباره المغزى المتضمن في أن كهلة ملونة ملحدة وسحاقية ومصابة بالإيدز لا بد أن تكون
أفضل طبيبة. على أن هاردنغ لن تقع فريسةً لهذا الاعتراض، فهي تعرف أنه ليست أي ملاحظاتٍ
سوف تكون مفيدة لمجرد أنها من حياة المقهورين. تحاج هاردنغ بأن المرأة الإبستمولوجية
أو
العالمة التي «تنطلق من حيوات المقهورين»، وهي تقصد بهم أي شخصٍ يدرك الطبيعة
الاجتماعية للقهر، لديها صورة للواقع أقل تشوهًا من الصورة التي لدى البقية الباقية
منا. وتبعًا لهاردنغ، «خبرات النساء في حد ذاتها» لا تقدم بالضرورة أسسًا موثوقًا بها
لدعاوى المعرفة. على هذا تميز بين الانطلاقات من «حيوات النساء» والتسليم ﺑ «خبرات
النساء».
إن الانطلاق من حيوات النساء لا يعني التسليم بما تقوله النساء عن حيواتهن؛ فالأحرى
أن نفحص وضع النساء منطلقين من فهمٍ نظري نقدي للبطريركية والعنصرية والإمبريالية؛ أي
من موقفٍ استشرافي نسوي تعددي الثقافات. وكمثالٍ على هذا، تذكر هاردنغ فهمنا للاغتصاب
داخل الزواج، وقبل الحركة النسوية لم يكن ممكنًا أن يأتي ذكره من النساء اللاتي اعتقدن
أن الاغتصاب داخل الزواج يستحيل طرحه كتصورٍ حتى وإن كن يعانين منه، وفقط حين استطعنا
أن ننظر إلى النساء كمقهوراتٍ خلال الزواج، وأن لهن حقوقَ الإنسان رغم وجودهن داخل هذه
المؤسسة، حينئذٍ فقط استطعنا أن ننظر إلى الاغتصاب الزوجي من حيث إنه يمكن تصوره. وإذا
أخذنا على محمل الجد الفكرة القائلة إن كل الملاحظات محملة بنظرية، وقبلنا بأن بعض
الأشخاص المقهورين لديهم نظريات خاطئة أو متخلفة عن حياتهم؛ أدركنا أن ثمة طرقًا أفضل
وأسوأ لتفهُّم خبرات المقهورين. ونحن، على أي حال، ننتبه بالمثل تمامًا إلى خبرات
المقهورين فقط حين نلاحظ حيوات المقهورين بحساسيةٍ تجاه قهرهم. يتطلب منا هذا أن نلاحظ
من منظورات المقهورين. ومن الصواب تمامًا أن أعضاء الجماعات المقهورة سوف يكونون أنجح
من بقيتنا في صنع علم يأخذ في اعتباره منظورات المقهورين. وبناء على هذا تكون ثمة محصلة
مستصوبة لحجج هاردنغ مفادها أن العلم ينتفع من الدخول الفعلي للشخص المقهور إلى حلبة
العلم. إن مفهوم هاردنغ عن الموضوعية القوية يبني فوق السياقية، مطالبًا بأن منظورات
المقهورين تتوسط بين ثنايا النظرية. بهذه الطريقة تتفادى التورط في صورةٍ من تعددية
الثقافية هي شكل من أشكال خرافة المسلم عن طريق أخذ معطيات المقهورين وكأن لها دلالة
فورية طبيعية.
بدلًا من المفكر الجالس بمفرده بجوار المدفأة، نجد تشبيهًا مجازيًّا أنسب
للإبستمولوجي معتنق البنائية الاجتماعية، وذلك في تشبيهٍ مجازي للذي وضعه نويراث
بالقارب الذي يجب أن يعيد المرء بناءه باستمرارٍ بينما يطفو به على سطح الماء،
وبالتوازن الانعكاسي عند رولز بين النظرية والتطبيق العملي، يجب أن يأخذ البنائيون
الاجتماعيون بمنظور المقهورين على أن يعيدوا تكوين المعطيات مستخدمين النظرية
الاجتماعية النقدية. وفي مواجهة دليل معارض بما يكفي، يجب عليهم أيضًا أن يبدلوا
نظريتهم لتكون متسقة مع ملاحظاتهم للمقهورين. إنهم يعيدون بناء قاربهم، محاولين
الاحتفاظ بالتوازن بين النظرية العلمية والملاحظات الشخصية للمقهورين، وهذا يجعل رؤيتهم
للعالم أقل تشوهًا وأقل انحيازًا من رؤى الآخرين. ولكي نعيد صياغة الفقرة المنسوبة
لديكارت في ضوء هذه الدروس الإبستمولوجية، ندرك أننا لا نستطيع أن نقوض كل شيءٍ في
حيواتنا وصولًا إلى أعمق الأعماق، حتى نبدأ مجددًا من أولى الأساسيات. إذا أردنا تأسيس
أي شيء ليكون راسخًا وباقيًا في العلوم، فعلينا أن نجتمع معًا بكل اختلافاتنا على سبرٍ
نقدي لفرضياتنا الخلفية الجماعية. مجمل القول، إننا يجب أن نكرس أنفسنا بجديةٍ وإنتاج
لتقويض عموم أفكارنا السابقة حينما تنقلب، كما نستطيع أن نرى الآن، إلى فرضياتٍ تؤدي
إلى نظرياتٍ غير متساوقة.
إذا صحَّت هذه النظرة للموضوعية، ففي داخلها تأثيران نجد فيهما ما يمكن أن تهبه
التعددية الثقافية للعلم؛ الأول: حين يتبع العلم سياسات اجتماعية تستجلب الناس الملونين
والنساء، فإن الفرضيات الكاذبة القائمة على انحيازاتٍ مناهضة لهذه الجماعات سوف تغدو
ظاهرة للعيان وخاضعة للاستفسار النقدي. على هذا النحو نجد التعددية الثقافية من حيث هي
مشروع اجتماعي لتأكيد التنوع والمساواة سوف تؤدي في حد ذاتها إلى علمٍ أفضل. الموضوعية
القوية لا تتطلب أن يكون المرء عضوًا فعليًّا في جماعةٍ مقهورة لكي ينطلق من الموقف
الاستشراقي للمقهورين؛ لذلك فإنه تحت تأثير التعددية الثقافية يرجح أن يظفر جميع
العلماء تقريبًا بفهمٍ أفضل للدوافع الأيديولوجية لنظرياتهم. والثاني: سيكون أولئك
العلماء الذين هم أعضاء في الطبقات المقهورة أدنى إلى المساءلة والتقويم النقدي لفرضيات
الخلفية التي تحط من قدر أعضاء طبقتهم أو تفتري عليهم أو تلحق بهم الضرر بشكلٍ آخر.
وبالتالي، فإن التعددية الثقافية باعتبارها أوسع تمثيل للخبرة البشرية في العلم، سوف
تؤدي إلى علمٍ أفضل.
السؤال المهم في هذه النقطة عن موقع الاختلاف الذي سوف تحدثه التعددية الثقافية:
هل
ستحدث اختلافًا في الفيزياء، في الكيمياء الحيوية، في أسس النظرية الثقافية؟ أم أنها
سوف تُحدث الاختلاف فقط في تلك النظريات التي تتعامل مباشرة مع العرق أو الجنس
والجنوسة؟ كاد العلماء والفلاسفة يشرعون في العمل الشاق لتبيان من أين تكون البداية
بحيوات المقهورين مفيدة، وأين لا تكون هكذا. ولا آمل إلا قليلًا في إجابةٍ عامة على هذا
السؤال. ويبدو من الأرجح أنه سوف يتحول إلى سؤالٍ تجريبي في كل حال.
١٣ وإذا لم يتحول هكذا، فنحن إذن في حاجةٍ إلى النظر إلى عملٍ يسعى إلى بناء
نظريات جديدة من منظورات المقهورين. وإذا صح الخط العام للحجة المعروضة في هذا المقال،
فقد وُجدت بعض النواتج ذات الأهمية في كل العلوم الاجتماعية والبيولوجية وفي فلسفة
العلم. كانت التأثيرات في مداها أوسع كثيرًا من أن تكون مجرد نظريات حول العرق أو حول
الجنس والجنوسة، برغم أنني أبادر بإضافة أنه مع التسليم بسلامة الاهتمامات والتوجهات،
فإن هذه النظريات بمفردها يمكن أن تشكل قطاعًا مهمًّا من العلوم الاجتماعية
والبيولوجية. وثمة مثالان من العلم الذي آلَفُه أكثر من سواه، وهو الاقتصاد، يمكن أن
يبينا كيف أن تفعيل حضور التعددية الثقافية وحساسيتها قد غيرا النظرية.
(٤) الاقتصاد النسوي للأسرة
على الرغم من أن كلمة «علم الاقتصاد»
economics جاءت
من الكلمة الإغريقية «إيكونوميكا»، التي تشير إلى إدارة شئون المنزل، فإن النظرية
الاقتصادية في الماضي غالبًا ما أهملت الأسرة. وحتى يومنا هذا لا نزال نرى قوائم
المؤسسات الاقتصادية المهمة في كتبٍ دراسية تتغاضى عن الأسرة (
Ferber
and Nelson 1993, 5). في التاريخ النظامي نستطيع أن نرى ثلاثة
نماذج للأسرة: نموذج الأب-ديكتاتورًا، ونموذج الشئون الأسرية المجمعة، وأخيرًا تحت
تأثير الاقتصاد النسوي والحركة النسائية بشكلٍ عام ثمة نموذج الفاعل-المنافس — لكن —
اللامتكافئ، يمكن تتبع أصول النموذج الأول وصولًا إلى هوبز على الأقل، ولكن لعلَّ جيمس
مل قدَّم أفضل إيجازٍ له:
هناك شيء واحد واضح تمامًا؛ ذلك أن كل أولئك الأفراد الذين تكون مصالحهم
متضمنة قطعًا داخل مصالح أفراد آخرين يمكن ضربهم من دون أن يكون في ذلك شيء
مزعج. في ضوء هذا ننظر إلى الأطفال جميعًا، وصولًا إلى سنٍّ معينة، حيث إن
مصالحهم متضمنة في مصالح الوالدين. وكذلك يمكن في ضوء هذا أن نعتبر النساء
جميعهن هكذا، فمصالح كل النساء تقريبًا متضمنة إمَّا في مصالح آبائهنَّ أو في
مصالح أزواجهن (مقتبسة في Folbre and Hartmann 1988,
188).
يفترض هذا النموذج أن النساء في حاجةٍ إلى حمايةٍ من قِبل سيادية الرجال، وأن الرجال
سوف يسبغون هذه الحماية من دون أنانيةٍ لا موجب لها. وهذا يجعل الاهتمام بالأسرة غير
ضروري من الناحية النظرية، ويمكن للنظرية الاقتصادية افتراض أن الأفراد ذكور. أما مسالة
ما إذا كان الذكر له زوجة وأسرة فمسألة غير ذات صلة.
في ستينيات القرن العشرين، بدأت النظرية الاقتصادية تنظر إلى احتياجات المنزل فيما
سمِّي «اقتصاديات المنزل الجديدة»، وفي العام ١٩٩٢م مُنحت جائزة نوبل في الاقتصاد لمؤسس
علم اقتصاد الأسرة الجديد، وهو غاري بيكر من جامعة شيكاغو. كان دافع بيكر هو محاولة
تطبيق النظرية الاقتصادية على كل أنماط السلوك التي أغفلها التيار السائد في الاقتصاد:
الجريمة وسلوك الحيوان وتعاطي المخدرات، وغير هذا. يجادل بيكر بأن الأسرة تسترشد
بالإيثار، وأنها تعمل على تعظيم المنفعة المنزلية الكلية. في البداية يمنح بيكر كل عضوٍ
في الأسرة دالة فردية في تحقيق المنفعة المنزلية التي يسعى الفرد ذكرًا أو أنثى نحو
تعظيمها. ثم يبين بنظرية الطفل الفاسد،
١٤⋆ أنه إذا كان ثمة فرد إيثاري في الأسرة — ويقصد به عضوًا دالة منفعته تتضمن
منافع عضو آخر في الأسرة كما في الحجج — فمن المعقول إذن بالنسبة إلى أعضاء الأسرة
الأنانيين أن يعظموا بالمثل منفعة الأسرة (
Becker
1981). وعلى هذا يقدم الأسرة البطريركية بوصفها منتجًا مباشرًا لعملٍ
غير مرئي من كل فردٍ يتعقَّب مصلحتها.
حسنًا، ليست هناك محاجة رياضية، ولكن كيف سنفسر نظرية الأسرة تلك؟ ثمة ثلاث فرضيات
حاسمة تتخفى إلى حدٍّ ما في المعالجة الرياضية. الأولى: لا يتم توزيع الثروة أو الدخل
بشكلٍ متساوٍ؛ وبالتالي يستطيع الإيثاري أن يعيد توزيع الدخل لتعظيم دالة منفعته (وأنا
هنا أستخدم ضمير المفرد المذكر لأن بيكر يفترض بوضوحٍ تام أن الإيثاري هو الأب).
الثانية: تفترض النظرية أن الأنانيين في الأسرة (ومن بينهم زوجة الإيثاري) ليس أمامهم
خيار أفضل من الخيار الذي يعطيهم إياه الإيثاري. الفرضية الثالثة: استخدام مصطلح
«إيثاري» المحمل بالأخلاقيات الإيجابية يفترض قبلًا أن دالة منفعته ينبغي تعظيمها.
وبهذا يؤيد بيكر النظرة الاقتصادية الأقدم للأسرة بوصفها وحدة، فردًا منفردًا، يمثله
رأس الأسرة الإيثاري، وبذلك يبين أنه لا حاجة من الناحية النظرية إلى البحث في داخل هذه
الأسر. في مثل هذا الموقف، لا حاجة إلى أن يتطفل القانون على الأمر، ولا ينشأ ما يسميه
رولز «حيثيات العدالة» circumstances of justice؛ لأنه
في النهاية لا يوجد تنافس على الموارد، ينبغي إشباع رغبات الأب البطريركية، والمساواة
ليست مطروحة.
يعتقد بيكر أن الزواج نشأ كاتفاقٍ لحماية النساء، ويبدو نموذج الأسرة لديه مؤيدًا
لهذه النظرة. يمكن النظر إلى النساء بوصفهنَّ يصنعن نمطًا من المثال الهوبزي: يتعاطين
وعدًا بالأمن مقابل الخضوع للسلطة السيادية. على أي حال، لفت النسويون الانتباه إلى أن
الدليل التجريبي على الدعوة الزاعمة أن الزواج يحمي النساء لا يتوازن مع الدليل
التجريبي على أن الزواج يستغلهنَّ ويقمعهن؛ مثلًا، مضى حينٌ طويل من الدهر حيث كان
الاعتداء على الزوجة مباحًا اجتماعيًّا. وحتى وقتٍ حديث نسبيًّا، كانت المرأة المتزوجة
ممنوعة من الملكية، وتخضع لقوانين طلاق غير عادلة، ويؤثر فيها عددٌ لا يُحْصَى من
قوانين أخرى وقواعد تشكل كيلًا بمكيالين للرجل المتزوج والمرأة المتزوجة.
وإذا كان عمل بيكر مُثْقَلًا بالخطأ على هذا النحو، فكيف نفسِّر حصوله على جائزة
نوبل؟ إن نظريته ممَّا يروق تمامًا للتيار السائد بين الاقتصاديين (من حيث النظرية ومن
حيث الالتزامات السياسية على السواء): تمتد في هذا العمل مقاربة اقتصادية من الكلاسيكية
الجديدة لتشمل نطاقًا مستجدًّا؛ الأسرة. بَيد أنه يبدو دفاعًا عن التقليد القديم في
التغاضي عن نظر المسائل الاقتصادية داخل الأسرة، فيما يبرر الوضع السياسي القائم
للعلاقات بين الجنسين. على هذا النحو نجد الأيديولوجيا السياسية القائمة على التحيز
الجنسي والتمييز بين الجنسين والمريحة للاقتصاديين، إنما تضفي على النظرية سلطة معرفية
غير جائزة من الناحية العلمية.
منذ الثمانينيات يعمل فريقٌ متزايد من الاقتصاديات النسويات على كشف الفرضيات
المتوارية والمصالح المستترة خلف النظريات الاقتصادية عن الأسرة.
١٥ وعن طريق الاهتمام بأشكال عدم المساواة في الزواج وما يتبعها من ضررٍ يلحق
بالمرأة، كنَّ قادرات على تطوير نظريات تستطيع إرشاد السياسة الاجتماعية للتوجُّه صوب
هذه المضار. وكانت النماذج التي طورتها أولئك الاقتصاديات صورًا ممَّا أسماه أمارتيا
سن
نموذج الصراع التعاوني
the cooperative conflict model.
في هذا النموذج، كل شخص يعظم منفعته — أو منفعتها — المتوقعة، مدركًا المغانم التي
يجنيها من تعاونٍ ما، ومدركًا في الوقت ذاته صراع المصالح بين الذوات الفاعلة. كلٌّ من
القرينين يحاول تعظيم منفعته أو منفعتها الخاصة، هناك مجموعة هائلة من الحاجيات لكي
تُخصص، ومع مواجع انهيار العلاقة، لا بد أن يوافق كلٌّ منهما على التخصيص. قد يعترض بعض
القراء بأن هذا النموذج ينظر إلى الأسر على أنها مواقع للصراع بدلًا من أن تكون مواقع
للتعاون، بيد أن هذا الاعتراض يفتقد نقطةً مفادها أن كل تعاونٍ في النهاية تدفعه وتبرره
مصالح كلٍّ من الجانبين المتعاونين. إذا لم تكن ثمة مثل هذه المصالح لأيٍّ من أعضاء
الجماعة المتعاونة، فحينئذٍ قد يتصرف ذلك العضو ضد مصلحتها؛ أي إن المرأة يجب استغلالها
أو قمعها. يكشف هذا النموذج عن درجة إشباع مصالح كل شخص؛ وبالتالي يتيح المقارنات بين
الزوجين. ومع إضافة ملامح عامة متعلقة بالجنوسة، يكشف هذا النمط من النموذج عن مؤسسية
عدم مساواة بين الجنسين في المجتمع.
المسألة في هذا المثال هي إيضاح كيف أن فرضيات الخلفية المتوارية حول الجنوسة
واهتمامات الاقتصاديين إنما تؤدي إلى نظرياتٍ مختلفة. في النماذج الأسبق، افترض
الاقتصاديون أن الرجال من شأنهم أن يترأسوا الأوضاع المنزلية، كأفضل تنظيمٍ لكل
المعنيين بالأمر. وأتاح هذا للاقتصاديين أن يتغاضوا عن الظلم في الأسر، بل أن يفترضوا
أن الأسر مؤسسات اقتصادية لا تثير اهتمامًا. الاقتصاديات النسوية والحركة النسائية،
التي أثارت الحساسية الاجتماعية تجاه مسائل عدم المساواة بين الجنسين، كشفا النقاب عن
زيف تلك الفرضيات. علاوة على هذا، فإن النساء من علماء الاقتصاد لديهن اهتمام مباشر
بكشف الظلم بين الجنسين، وكانت المحصلة نظرية أكثر دقةً عن الأسرة تتلاءم أكثر مع
المعطيات عن الجنوسة، فيمكنها إرشاد سياسة اجتماعية تتعلق بالأسرة.
(٥) عن الأسر وسيرة حياة أمارتيا سن المهنية
منذ القرن الثامن عشر لم تكن المجاعة من الاهتمامات الكبرى لعلم الاقتصاد، حتى ظهر
في
مستهل سبعينيات القرن العشرين عمل لعالم الاقتصاد والفيلسوف الهندي أمارتيا سن قوض
الأسس. حتى ظهور هذا العمل كانت العقيدة الجازمة بين الاقتصاديين هي أن المجاعات تحدث
بسبب العجز في الغذاء أو التزايد الرهيب للسكان، وأن آليات السوق الحرة، إذا تركت من
دون أن تعرقلها تدخلات الحكومة، يمكنها أن تحل المشكلة بأن توفر الغذاء الكافي للإقليم
وللمناطق التي يتزايد فيها الطلب. وعن طريق البحث الإحصائي، بيَّن لنا أمارتيا سِن،
الذي شاهد وهو طفل المجاعة الكبرى في البنغال في العام ١٩٣٤م، أن المجاعات تحدث أحيانًا
حيث يتضور الناس جوعًا من دون أن يعاني الإقليم عجزًا في الغذاء، وأن المجاعات تحدث في
أوقات الانتعاش الاقتصادي (وكانت مجاعة البنغال الكبرى مثالًا على هذا) مثلما تحدث في
أوقات تدهور الاقتصاد (Sen 1981). وكان سن قادرًا على
أن يبين من الناحية النظرية كيف أن آليات السوق يمكنها أن تحبط الجهود المبذولة لسد
المجاعة. والحق أنه خلال مجاعاتٍ كثيرة كان يمكن مشاهدة تصدير الغذاء من الإقليم
الموبوء بالمجاعة. ويحدث هذا لأن الناس الذين يحتاجون إلى الغذاء لا يستطيعون أن
«يطلبوه» بالمغزى الاقتصادي للطلب؛ ذلك يعني أنهم لا يملكون استحقاقًا قانونيًّا بهذا
لأنهم لا يملكون دفع ثمنه (Sen 1981, 161). نظرية سن في
المجاعات هي أنها إخفاقاتٌ في الاستحقاقات، وليست عجزًا في الغذاء.
وكنتيجةٍ لعمل سن في المجاعات، وبالمثل لاهتمامه الأوسع بنظرية الاقتصاد الجزئي،
١٦⋆ قام بتوضيح نظرية تفاصيل نظرية في الكفاءات القابلة للتطوير لتنافس نظرية
المنفعة المتوقعة التي يقوم عليها اقتصاد الكلاسيكية الجديدة الراهن
(
Sen 1987, Nussbaum and Sen 1993). وبينما تكون
المنافع في جوهرها تعبيرًا عن التفضيلات الذاتية، فإن الكفاءات القابلة للتطوير تقيس
قدرات الأفراد الموضوعية على تحقيق الفائدة.
إن مسيرة الحياة المهنية لأمارتيا سِن كفيلة بأن تحلِّق به إلى أعلى عليين. أنجز
إسهامات أصيلة ومهمة في مجالاتٍ متنوعة من نظرية الاختيار الاجتماعي واقتصادات الرفاهة
واقتصادات التنمية واقتصادات الأسرة ونظرية الاقتصاد الجزئي.
١٧ وكان عمله يماثل عملًا جاريًا في اتساع مداه، وأعمق منه من نواحٍ عديدة.
وعلاوةً على هذا، سِن بلا جدال الأثقب بصرًا وأهم فيلسوف بين الاقتصاديين. ذاع صِيته
على نطاق واسع كاقتصادي وفيلسوف معًا. إلا أنه حتى كتابة هذا المقال لم يظفر بجائزة
نوبل في الاقتصاد، وأعتقد أن هناك سببين لهذا؛ الأول: أن له نظرة تعددية ثقافية، جرى
التعبير عنها من خلال اختياره مجالات المشاكل واختياره للزملاء. والثاني: أن عقله
الفلسفي اللبيب قاده إلى مساءلة فرضيات أساسية في النظرية الاقتصادية. وقد أثار نفور
علماء اقتصاد كثر، خصوصًا بنقده لنظرية المنفعة، لا سيما كشفه عن نمط التفضيل فيها.
نظروا إلى القطاع الأكبر من عمله على أنه يغوص في توجهاتٍ رياضية لا يمكن التطرق إليها،
وهذا ينحرف كثيرًا عن المزاج الراهن حيال الرياضيات في الاقتصاد. وعلى الرغم من أن هذه
الحيثيات لا ترتبط مباشرة بكونه ليس أبيض (من بين الفائزين سابقًا بجائزة نوبل في
الاقتصاد، كان الفائز في العام ١٩٧٩م ليس أبيض، وهو السير آرثر لويس
Sir
Arthur Lewis). فإنني أعتقد بوجود علاقة غير مباشرة؛ بمعنى النظر
إلى عمله على أنه لا ينضم إلى التيار السائد. والأحرى أنه باستثناء عمله في نظرية
الاختيار الاجتماعي، تنحرف أعماله بعض الشيء عن الاهتمامات الأساسية لعلم الاقتصاد،
ويشعر المرء بإغراءٍ للبوح بأنها إثنية جدًّا، وأرى شيئًا من السخرية في أن المجاعة
والجوع أخفقا في أن يكونا من الاهتمامات الأساسية لعلم الاقتصاد.
إن عمل سن في المجاعات والكفاءات القابلة للتطوير يبين كيف أن نظرة التعددية الثقافية
العامة وخبرتها يمكنهما أن تفضيا إلى مجالاتٍ مستجدة ومنتجة للبحث وإلى نظرياتٍ جديدة
في ساحاتٍ قديمة. وطبعًا، قد يكون ثمة من يجادل بأن سن مجرد عبقري، وأن العبقري من أي
خلفيةٍ ثقافية ومن أي من الجنسين، سوف يوجد عملًا مثمرًا وجديدًا. أجل قد يصدق هذا، ومع
ذلك؛ فالذي لا شك فيه أيضًا أنه في حالة سن أفضت به خبراته المباشرة بالاستعمارية
والمجاعة إلى تحليلاته للمجاعات بوصفها ناتجة عن بنياتٍ سياسية وقانونية بدلًا من أن
تكون ناتجة عن قصوراتٍ وعجز في الغذاء.
(٦) اعتراضات
أريد أن أتوجه في الخاتمة إلى نوعين من الاعتراضات؛ الأول: هو ما أسميه «اعتراض الهمج
عند البوابة». تنحل البنائية الاجتماعية إلى نسبويةٍ ذاتية؛ تلك التي ترى أن المعرفة
بجملتها منحازة إلى شخصٍ ما أو مجموعة من الأشخاص، وأنه ليس ثمة أمل حقيقي في
الموضوعية. أفضل ما يمكننا إحرازه هو التعرف على الانحياز في نظرياتنا. إن «المعرفة»
مصطلحٌ يستخدمه أولئك الذين يملكون السلطة لكي يخصوا معتقداتهم ورغباتهم بالامتياز؛
وبالتالي لكي يبرروا استمرار سلطتهم على الآخرين. و«العلم» بالمثل مجرد اسم يُطلق على
الممارسات التي يستخدمونها لحصد نصيب من المغانم الاجتماعية يفوق ما يحصل عليه الآخرون،
ولتطوير التقانة التي تخدم مصالح أصحاب السلطة. وأنا على أي حال، جادلت في أنه من
الممكن التمسك بتجريبيةٍ سياقية وأنه يجب ألا نتخلى عن المجاهرة بأن العلم يواصل طريقه
بموضوعية، على الرغم من أنه ليس الشك الأوحد من البحث الذي يفعل هذا. يقترح النسبوي أن
ما يعوزنا أن نفعله هو دعم كل دعاوى المعرفة، أن نجد عن طريق الربط بين أعلى مصادر
المعطيات حقيقة جزئية على الأقل. بَيد أن هذا يجعل كل الاختلاف الإبستمي ينصبُّ على ما
نفعله بمعطياتنا في هذا الشأن: ما الذي نأخذه بوصفه معطيات، وما هو مقدار ثقل كل معطى
من هذه المعطيات، وكيف يمكن التوفيق بين المعطيات التي تبدو في ظاهرها غير متسقة؟ أوافق
على أن الإجابات عن هذه التساؤلات مسائل نظرية عسيرة، وأن هذه التساؤلات تلقت إجاباتها
في الماضي بطرقٍ تزيد من قهر جماعاتٍ معينة، لكن لا بد من الإجابة عنها بطريقةٍ تحقق
استفادة أصلًا. إن صورة البنائية الاجتماعية في التجريبية السياقية تتقدم بمثل هذه
الإجابة: العلماء أنفسهم يتخذون القرار في مساجلاتٍ مفتوحة بشأن البساطة والمواءمة
التجريبية والتساوق في النظريات الناتجة، والسؤال حول الانحيازات الثقافية أو الطبقية
أو الجنوسية لا يُستبعد من الساحة.
الاعتراض الثاني هو ما أسميه اعتراض «ثم ماذا؟» إنه الدعوى أن نظرتي بشأن ما يمكن
أن
تقدمه التعددية الثقافية للعلم مجرد أمر عملي بشأن إنجاز العمل في العلم، وليست أمرًا
إبستميًّا. وهنا لديَّ ردان؛ الأول: من الخطأ أن نسميها مجرد أمر عملي. العلم يتشكل إلى
حدٍّ بعيد عن طريق ممارساته. أما القول إن ممارساته تحتاج إلى تغييرٍ لأن هذا سوف يصنع
اختلافًا في حدود النظريات التي سوف نقبلها، فإنه يبدو لي أمرًا جللًا؛ وبالتالي يكون
لي أن أطعن فيما يتخفى في هذا الاعتراض من قسمةٍ ثنائية للقيم إلى إبستمية وعملية.
وثانيًا، هذا الاعتراض لا يستطلع المكاسب الإبستمولوجية بشكلٍ ملائم، والحجة التي
أقمتها هي أن القيم الاجتماعية والثقافية ومصالح الجماعة ذات الصلة تؤدي دورًا في توجيه
البحث وفيما نعتبره واقعة. وهذه النقطة الأخيرة على وجه الخصوص تستحق تشديدًا. إذا كان
ما نعتبره واقعة؛ أي ما نعتبره ظاهرة من الملائم أن تفسرها النظرية، إنما يحدده جزئيًّا
الجماعة الاجتماعية التي أُتيح لها أن تكون هي العلماء. إذن، فإن ما يعتبر نظريةً جيدة
مؤيدة سوف يعتمد أيضًا على أولئك العلماء ومن يكونون، وإني لأفشل تمامًا أن أرى كيف
يمكن ألا يكون هذا أمرًا إبستمولوجيًّا.
وفقًا لمعايير العلم ذاته، سوف تؤدي التعددية الثقافية إلى علمٍ أفضل من هذا العلم
الذي ينتجه مجتمعٌ من العلماء يستبعد العرق والجنوسة. وأحاجُّ بأن هذا يصدق لسببين؛
الأول: أن العلماء من الأقليات ومن النساء أنفسهم هم الأقرب إلى التعرف على الفرضيات
الخاطئة والمنحازة بشأن العرق والجنوسة الرابضة في الخلفية التي تقود خطى العلماء وهم
يؤولون الدليل ويشيدون النظريات. والسبب الثاني: أن هذه الأنماط من التغيرات التي تطرأ
على المجتمع وهو يحتذي حذو التعددية الثقافية سوف تساعد في كشف النقاب عن تلك الفرضيات
المضمخة بالخطأ، وفي تغيير اهتمامات العلماء من كل الأعراق ومن كلا الجنسين. الاهتمام
بالصدق والاهتمام بالعدالة يأتيان جنبًا إلى جنب في المطالبة بالتنوع في العلم.
هوامش