الفصل الرابع
كيف نفكر تفكيرًا عالميًّا: توسيع حدود الخيال
لورين كود
ما نتمسَّك بأنه يمثِّل طبيعة المعرفة، ليس متحررًا من الثقافة، بل يتحدَّد
ويتعيَّن بالمنهجيات والمعطيات التي تجيزها الثقافات المهيمنة.
أوفيليا شوته
أناقش هنا بعض التساؤلات الإبستمولوجية التي تثيرها مشروعات محاولة
التفكير تفكيرًا عالميًّا، وذلك في ضوء استحالة تأكيد تماثل العالم. وعن طريق قراءة مقال
لتشاندرا تالبيد موهانتي، أُلقي الضوء على إحدى استراتيجيات الإبحار في مشروع، بيئي،
من هذا
القبيل. وأختم حديثي باقتراحٍ مفاده أن حدود الشمال-الجنوب بين كندا والولايات المتحدة
الأمريكية قد ولَّدت بضعًا من مسائل الغيرية الثقافية التي لم نعترف بها بعدُ.
إن الشعار «فكِّرْ عالميًّا وتصرَّفْ محليًّا» لَشعارٌ مُلهم للنسوية الغربية، ويمثِّل
تحدِّيًا في الأسئلة الإبستمولوجية التي يطرحها. إنه وليد التفاؤل واليأس. ما يمنحه من
تفاؤلٍ تتجلَّى آفاقه في التأثيرات التحولية للمشاريع التحررية التي تقع داخل نطاق المعرفة
المحلية المسئولة (بحدودها القابلة لأن تكون موضع تفاوض)، وفي خيال الممارسين، وفي قدرته
على الامتداد إلى أمكنةٍ أقل اتسامًا بسمة المحلية. تحمل الإنجازات المحلية تعزيزًا وصقلًا
للمعارف التي تَمُدُّنا بها الممارسة. إنها تقوِّي أو تعدِّل مضمون المفاهيم الحاكمة
للعدالة والحق، تَشِي بتفاؤليةٍ في مصلحة المجال العالمي للنسوية. ومع هذا تبقى مخاطر
المغامرة إلى ما هو أبعد: مغامرة اقتحام أقاليم — خطابيًّا أو جغرافيًّا أو ثقافيًّا
— حيث
نجد المنظِّرين والناشطين لا يعرفون ما يتحدثون عنه، وحيث اليقظة في مواجهة الإمبريالية
المعرفية والاستعمار المتجدد إلزامٌ ثابت. لذلك تكون التشاؤمية في الغالب أمرًا جيدًا
حين
يبدل المنظِّرون/النشطاء مواقعهم، يحاولون إعادة تمثيل أدوار النجاح المحلي على الصعيد
العالمي، يواجهون ضيق حدودهم، ويأسهم من عدم القدرة على الانتقال إلى مسائل أخرى شبه
محلية
وتأثيرهم فيما وراء الخيال الذي يمكن معرفته على المستوى المحلي. مثل هذه الأفكار مغروسة
في
الشعار «فكِّر عالميًّا وتصرَّفْ محليًّا»، الذي رفعه المؤتمر الدولي للتخصصات المعنية
بالمرأة في أديليد Adelaide في العام ١٩٩٦م، حيث تراوحت
المناقشات بين اليأس والتفاؤل.
وفي مؤتمر «الجمعية الفلسفية الأمريكية (
A.P.A.)» الذي
عقد في العام ١٩٩٧م، طلبت شعبة المحيط الهادي من المشاركين في ندوة «النسبوية الثقافية
والنسوية العالمية»، عبر خطابات الدعوة الموجهة إليهم، أن يعالجوا «المعضلة البادية التي
تطرحها المتطلبات المعيارية للنسبوية الثقافية حين تتصادم مع العقيدة الأخلاقية التي
يتمسكون بها بشأن ما هو عدل وحق» (التشديد من عندي)،
١⋆ وأن يقترحوا «نموذجًا نظريًّا» مستجدًّا لمواجهة التهديد الإمبريالي الثقافي
المتضمن في «الاستراتيجية العالمية المتفائلة للمقاربة النفعية … التي تدعمها العقلانية
الأخلاقية»، يلح هذا التهديد إلحاحًا خاصًّا على حياة النساء، حيث الالتجاء إلى النسبوية
الثقافية يزعم مناعة محلية في مواجهة النقد العالمي، كما في تحذيرات أصحاب النسوية الغربية
البيضاء الموسرة ﺑ «التراجع» عن إدانة ممارسات تفرض تدهور وضع الأنثى واستغلالها، في
المنزل
أو خارجه، وهو ما يختلف تمامًا عن «عاداتنا وتقاليدنا». ختان الإناث مثالٌ واضح — بل
هو
استشهاد صارخ — للممارسة الراسخة محليًّا التي تخرق مبادئ النسوية (الغربية)، وبشأنه
نجد أن
التعبير المكرور المبتذل «لحم إنسان سمٌّ لإنسان لآخر» يصعب ضغطه ليزعم براءة
سياسية.
وأنا أفترض، في هذه المناقشة، الحاجة الملحَّة لمعرفة من الذي يوضع «معتقده الأخلاقي
الذي
يشدد في التمسك به» على المحك في هذه المساجلات التي تخترق الخطاب السياسي الليبرالي
عن
التسامح. ولكني لا أفترض، ولا حتى بصورةٍ ضمنية (على نحو ما يبدو سؤال الندوة المذكورة)،
أن
الهدف هو الهروب من النسبوية الثقافية، على الرغم من طبيعتها المثيرة للجدل. وإذ نقرأ
التفاؤل العالمي بوصفه مشروعًا لإحراز الحد الأقصى من التجانس (الاقتصادي-الاجتماعي)
وكفاءة
الإنتاجية المادية بشكلٍ موحد عبر الموارد العالمية البشرية و«الطبيعية»، فإني أعتبر
هذا
التفاؤل متواطئًا حتمًا في تعزيز الإمبريالية الثقافية؛ وبالتالي في تطعيم حدود الخيال
المعرفي باليقينيات الذاتية للعالم الموسر. إني أضع تخطيطًا نظريًّا للتفاوض من داخل
الاختلافات التي تتَّخذها النسبوية الثقافية والنسوية العالمية منطلقات لهما بأشكالٍ
مختلفة: إنه نموذج بيئي نعتمده لأنه بارز على مستوى العالم في توسيع حدود الخيال (أو
الخيالات) تجاه الحساسية المحلية المستجيبة والمسئولة، سواء كانت قريبة من «الوطن» أو
بعيدة
عنه.
إن استهداف أسئلة إبستمولوجية على طول خط طيف العالمي/المحلي، إنما يثير أسئلةً عفَّى
عليها الزمن بشأن النسبوية مقابل المطلقية. وفي قمة أوان الإمبريالية الثقافية سادت خرافةٌ
مفادها أن التبادل الحقيقي بين المحلي والعالمي كان ممكنًا، سادت على الأقل في مراكز
القوة
الاستعمارية؛ وبالتالي كانت مهيمنة على الأصوات المسموعة في تلك المسائل. كانت المعارف
المنتجة والصوابية الماثلة جميعها عليمة بمفاهيم للحق والعدل تزعم عمومية: كانت الرسالة
الاستعمارية هي مد نطاقها لتصل إلى الأقاليم غير «المستنيرة»، حيث سيتم بموجب ذلك الاعتراف
بهذه المفاهيم كحقيقةٍ واضحة بذاتها. وكانت إشراقة العلم الوضعي التجريبي في ذرا القوى
الاستعمارية تعزيزًا لذلك النموذج. ودعمت الصلاحية الكونية العامة البادية في جل العلوم
الطبيعية من قدرة العلم على الزعم بمواءمته عالميًّا؛ وبالتالي على أن يضرب عُرض الحائط
بالخزعبلات المحلية. وفي اقترانه بالفرضية الأولية الملحة بوحدة العلم، ألهب الاعتقاد
بأن
كل الحقائق المحلية — أي التي لا تنتمي إلى ذلك العلم الفيزيائي — تقيم مصداقيتها على
قدر
ما تبديه من مثولٍ يتجاوز نطاق الحدود المحلية فقط. على أن ارتباط العلم بالاستمرارية
يستحق
اهتمامًا جادًّا. إن نقاد النسبوية، على الصعيدين الثقافي والمعرفي، غالبًا ما يدعون
أن
النسبوية هي الأخرى فرضية أولية لأصحاب الامتياز الفائق الذين يرون أنفسهم في وضعٍ يستطيعون
معه تشكيل هذا العالم بصورةٍ جيدة، متجاوزين المعوقات المادية. ولكني أعتقد أن هذه الحجة
التي يطرحها المناهض للنسبوية حجة مثلومة، يطعن فيها الاعتراف المعارض بأن أصحاب الامتياز
الفائق هم — على وجه الدقة — الذين يزعمون أنهم يملكون مفاتيح القصة الواحدة الحقيقية،
مفترضين أن حديثهم يتجاوز حدود المكان وموجَّه للجميع، ويصادرون على استقلال المادة الذي
يعزِّز الوهم الموضوعيَّ، وباسم هذا الوهم توصم النسبوية بأنها لا عقلانية. أولئك فقط
هم
الذين يستطيعون تخيُّل أن العقائد التي نستمسك «نحن» بها هي نواتج مباشرة للعدل وللحق،
بألف
ولام العهد.
وإذ يزكِّي هذا استحالة تأكيد التماثل على مستوى العالم، ولا حتى تحت اسم التضامن
الأختي
بين النساء،
٢⋆ وبعد كل ما شكَّل الثقافة الغربية من مركزيةٍ إثنية ومركزية-ذكورية وطبقية
ومركزية-أوروبية ومركزية عقيدة الميل إلى الجنس الآخر، وما سوى هذا من «مركزيات»، ومع
الآثار القمعية الاختزالية للعلوم الاجتماعية النفعية-الوضعية التي تتعاون في تسويغ شرعية
«التفاؤل العالمي»، فإني أقترح أن التفكير العالمي المسئول لا يتطلب النسبوية الثقافية
فقط،
بل أيضًا نسبوية إبستمولوجية مخففة مرتبطة ﺑ «نزعة ارتيابية صحية»
٣ إني أعمل بمفهوم متقلص للنسبوية ينأى عن منع مقولة «كل شيء يصلح
anything goes»،
٤⋆ التي يكيل خصوم النسبوية ضدها الهجمات. إنها نِسبوية «مخففة» في اعترافها بأن
بنية المعرفة دائمًا كأي شيءٍ قديم الشكل أو الصنع تقيدها مقاومة الوقائع المادية
والاجتماعية-الإنسانية. ومع هذا يمكننا أن نستعير كلمات بيتر نوفيك
Peter
Novick بأن النسبوية هي الاعتراف «بتعددية معايير المعرفة، وإنكار
إمكان معرفة الحقيقة المطلقة الموضوعية الكونية» (١٩٨٨، ١٦٧)
٥ وفي هذا السياق تتجلَّى في النسبوية «نزعتها الارتيابية الصحية» في رد فعلها
ضدَّ مزاعم عالمية مفرطة وغير مسئولة، خضع إفراطها للمساجلة والمفاوضة بشكلٍ جماعي مع
المراعاة الواجبة للخصوصيات المحلية والمضامين العالمية.
والآن قلَّة من النسويات اللائي يتَّخذن مواقعهنَّ في مناطق سيطرة الثقافة
الأنجلو-أمريكية، يمكن افتراض أنهنَّ يتحدثن عن المرأة حيثما تكون، أو من ناحيةٍ أخرى
عن
نساء «مثلنا تمامًا»، خصوصًا وأنه ليس من السهل أن نحدِّد بدقَّة «نحن» و«نا» لنزعم
تجانسًا. وعلى معارضي النسبوية افتراض «أننا» جميعًا متطابقات في الهُوية، ولأغراضٍ
إبستمولوجية يتصادف للظروف المادية-المحلية أن تمارس فعلها في وضع بعض القيود؛ ذلك أن
مغزى
العالم يتحدَّد لنا جميعًا بالطريقة نفسها، و«المعرفة لها معنًى كوني عام يتوحد
إيقاعه»
٦ وأنا على أي حالٍ آخذ دعوى أوفيليا شوته مأخذ الجِد، وهي دعوى مفادها أن «ما
نتمسك بأنه يمثل طبيعة المعرفة متحررًا من الثقافة، بل إنه يتحدَّد ويتعيَّن بالمنهجيات
والمعطيات التي تجيزها الثقافات المهيمنة» (التشديد من عندي ١٩٩٨، ٥٥). وليس مأربي أن
أضمَّ
شوته إلى قائمة المشاركين في بدعة النسبوية، ولكن أن أوضح دوافعي، وبصحبة فييرآبند أجد
في
النسبوية «سلاحًا ضد الطغيان الفكري» (١٩٨٧، ١٩).
ومثل معظم الأسلحة، هناك حدود لفاعليتها، ولنأخذ القانون الذي سنَّته جماعة طالبان
في
أفغانستان، ويشترط أن تكون النوافذ السفلية محجوبة تمامًا بالستائر، والنوافذ العلوية
محجوبة بستائر لا تقلُّ عن ستة أقدام؛ كي لا تثير رؤية النساء مشاعر الرجال! النسبوية
التي
توجب التسامح التام لن تجد أساسًا للإدانة. وأظل غير نادمة في مواجهة التذكير بهذا، ليس
لكي
«نجعل آلاف الطغاة يزدهر طغيانهم»، ولكن لأنه حتى لو كانت النسبوية —النسبوية الثقافية
الحاسمة — تتطرق إلى ما هو ضد الحدود الخاصة بها في مثل هذه الظروف، فمن البيِّن أنها
أفضل
من البدائل الإمبريالية التي لا تعترف بحدود. وليست النسبوية التي أصدق عليها موقعًا
للتسامح التام: إنها حاسمة ومخفَّفة معًا. إن ثنائية النسبوية-المطلقية الفاصلة، مع
تحذيراتها ضد عجز التسامح أو السكون السياسي إزاء اللاحسم، ترتبط تاريخيًّا بالنواتج
الجانبية لموضوعية النزعة العلموية الوضعية. تلك الثنائية تنصب فخًّا من المفاهيم، تأثيره
في الخطاب أقوى من تأثيره في الممارسة الفعلية، وتطالب النسويات وسواهن من أصحاب الاتجاهات
بعد-الماهوية بالانخراط في طقوسٍ للتنازلات التي تصرف الانتباه عن الفطنة التأويلية الذكية
التي تفضي إليها النسبوية الحاسمة المدروسة جيدًا والحساسة للمحلية.
رجع صدى موقفي فيما تصدق عليه لوري شريغ Laurie Shrage
نصيرة النسبوية، وذلك في كتابها «المعضلات الأخلاقية للنسوية Moral Dilemmas
of Feminism» الذي هو عمل تأويلي على نحوٍ صريح. ولعلَّ أكثر مكوناته
فاعلية في هرمنيوطيقية الارتيابية التي تأخذ حذرها من الموضوعية ذات العمومية الكونية
والأوصاف المحايدة والأحكام. يقوم هذا العمل بشكلٍ أساسي على «المقارنات العابرة للثقافات»
التي تمكِّن من «النقد الحاسم» (Shrage 1994, 26-27).
وأعتقد أن النسوية في نهايات القرن العشرين يجب عليها أن تعمل في الأراضي الواقعة بين
المحلي والعالمي (ومع ذلك، ليس في منطقة وسطى ولا في السكون أو التسامح الذي تتساوى أمامه
كل البدائل). يبالغ مناهضو النسبوية في تأثرات «المنحدر الزلق» للتعاطف النسبوي، والذي
نادرًا ما يفضي منطقه إلى الهبوط بصنع — المعرفة إلى أغوار اللاعقلانية غير النقدية؛
ولذا،
فأنا أقل اهتمامًا بحل المعضلة المطروحة أمام المشاركين في ندوة مؤتمر شعبة المحيط الهادي
في «الجمعية الفلسفية الأمريكية»، وأهتم أكثر بأن أرى كيف يمكن أن يفيد هذا في إرشاد
إنتاج
المعرفة والممارسات الأخلاقية السياسية، بالعمل فيما بين المحلي والعالمي، النسبوي المطلق
والمطلق النسبوي.
ولكي أصطنع بؤرةً تتمحور حولها تحليلاتي منهجيًّا ومعرفيًّا، سوف أتقدم بقراءةٍ لمقال
تشاندرا تالبيد موهانتي (١٩٩٧) «العمال النساء».
٧⋆ وسيناريوهات الرأسمالية: أيديولوجيات الهيمنة والمصالح المشتركة وسياسات
التضامن
Women Workers and Capitalist Scripts; Ideologies of Domination,
Common Interests, and the Politics of Solidarity»، يشير عنوان المقال
إلى أنه يشتبك بتعدد الثقافات وبالعالمية، ويطرح موطئًا للولوج إلى المطالب الناشئة عن
إلحاح التفكير على الصعيد العالمي، لعدة أسباب: فأنا أقرؤه كعملٍ في أفضل أنماط
الإبستمولوجيا الطبيعانية، وأستصوب قدرته على توسيع حدود خيال قرائه ليس عن طريق التجنيس
أو
تجميع الغريب والمألوف، بل عن طريق التحديد الحذر الواعي للنواتج العالمية المستخلصة
من
رسمٍ مرهف لخرائط المحلية في مقارناتٍ نقدية عابرة للثقافات. تحدِّد موهانتي مجالًا مؤثرًا
للدليل الذي يبين الآثار القمعية للتفاؤلية العالمية، خصوصًا بالنسبة إلى عمل المرأة،
وأنا
أقرأ مقالها من حيث إنه يقدم إشارةً بيِّنة لكيفية المُضِيِّ قدمًا في تطوير جهاز إيكولوجي،
٨⋆ قُدَّ على قَدِّ النظرية مثل هذا الذي أعمل من أجل تنقيحه. لم أختر الانخراط في
نقد تفاصيل تحليلها هنا، ولا استجواب فرضياته النظرية، بل اخترت قراءته خِصِّيصى؛ لأنه
مطابقٌ لمقتضيات تطوير الاستراتيجيات المنهجية من أجل تفكيرٍ عالمي تؤطره البيئة
الطبيعية.
وفي مقالٍ لي يستهدف المضامين النسوية للإبستمولوجيا الطبيعية لكواين وما بعد كواين
(
Code 1966)، أتمسك بأن المختبر ليس المكان الوحيد ولا
هو المكان الأفضل لكي يدرس الإبستمولوجيون المعرفة الإنسانية «الطبيعية» من أجل تنقيح
إبستمولوجيات تستمسك بتواصلٍ أوضح في الخبرات المعرفية — «المعارف الطبيعية» — بأفضل
مما
توضحه الإبستمولوجيات الأصولية …
٩⋆ المعيارية-الأولانية. وإني لأناصر تحويل الانتباه إلى كيفية صنع المعرفة
وانتشارها في مواقف سوف تترافق معها الدعوة الأكبر إلى عنوانٍ صعب المنال هو «الطبيعة»،
ينصبُّ اهتمامي على سبل جمع الدليل التجريبي وعلى الفرضيات المتعلقة بمجال الدليل من
حيث ما
يؤديه في النظريات التنظيمية. دعواي بإيجازٍ هي أن الدليل المأخوذ من مواقع أكثر دنيوية
لإنتاج المعرفة يمكن أن يهبنا نقاط انطلاق نحو البحث الطبيعاني أفضل، وإن تكن أقل تنميقًا
من تلك التي يهبنا إياها جُل الدليل المختبري؛ لأنه أكثر طواعية في التحول إلى نضدٍ تُسن
فيه مسائل المعرفة في حياة الناس وسياسات المعرفة. غير أن دليل الحياة اليومية جدًّا
هذا لا
يفضي إلى نواتج «وصفية محضة»، وهي تهمة اعتاد أعداء النزعة الطبيعانية توجيهها
(
Kim 1994). إن التوصيفات ورسم الخرائط والأحكام التي
تفصل الدليل عن الضوضاء العارضة دائمًا مشبعة بالقيمة، ناتجة عن محلٍّ ما وعن اختيار
شخصٍ
ما أو جماعة ما، وهي بالتالي، مثيرة دائمًا للجدل، الأوصاف الجيدة لا تفصح عن نفسها،
ولا هي
نهائية؛ لأن راسب أوصاف الحس المشترك المسلم بها تفتي بالتصورات اليومية والمهنية للعالم
وكيف يكون، وكيف يمكن «لنا» أن نعرفه.
١٠ وإذا كانت الإبستمولوجيات الأصولية تعمل بتوصيفاتٍ خاطئة للمعرفة «الطبيعية»
والذاتية المعرفية — وهذا ما أراه — فالتوصيفات الأفضل إذن مسألة حيوية. إنها محفزات
للنقد
الجيد، المبادئ المعيارية تُطعم خامتها، وهي أسس نسوس عليها ونعمل.
في مقال موهانتي أمثلة تطلعنا عليها التجربة، وتخضع لتحليلٍ تأويلي، وأنا آخذها كمثالٍ
نموذجي للبحث الطبيعاني المحلي الذي يستطيع تمكين المعارف العالمية (في تميزها عما هو
محلي)، وفي داخله النسبوية الثقافية مصانة حقًّا؛ ومع هذا تجعل الاستراتيجيات العالمية
ذاتها نابضة ماثلة. محور اهتمامات موهانتي عمل المرأة، وخصوصًا المرأة في العالم الثالث،
ترسم خرائط الاستراتيجيات والممارسات عبر مواقع أربعة توجد فيها المرأة منخرطة في العمل
الإنتاجي، في المنزل أو في «الخارج»، غرضها تبيان كيف يتم تمثيل عملها وقوتها الفاعلة
ككادحة، في كل موقع، داخل إطارٍ تصوري يكشف أيضًا عن راسب تصورات «الطبيعي»، الذي يطبع
الاجتماعي ويطبع القسمة المنزلية للعمل في مواقف تختلف بقدر اختلاف مصانع وادي السيلكون
عن
صناعة شرائط الزينة «في المنزل» في نارسابور، ومواقف المهاجرات العاملات في
بريطانيا.
إني أستخرج وضعًا معرفيًّا أجده متضمنًا في حجة موهانتي، من حيث هي مثال لممارسة
الإبستمولوجيا التطبيعية. إنها تبين كيف أن التصورات التي نتلقاها عن المعرفة ثاوية في
«التاريخ الطبيعي للبشر»، وهي جزءٌ لا يتجزأ منه، تعرض الدور المتفاوت الذي تقوم به جماعاتٌ
اجتماعية مختلفة [عديدة] في تشكيل وتدعيم اقتصاد اجتماعي-سياسي مجنوس إلى حدٍّ كبير،
وترفع
النقاب عن «الطابع الأيديولوجي لنسق القيمة» الذي يضمن هذا الاقتصاد من وراء مثول الموضوعية
والصحة الكونية العامة.
١١ تورد موهانتي دليلًا تم تحجيمه برهافة، لتبين أن هؤلاء العمال النساء يمكن أن
يعرفن، ويعرفن بالفعل، عن أنفسهن وعن عملهن وعن الأسرة وعن النظام الاجتماعي والذكورة
والأنوثة داخل الصورة الاجتماعية المهيمنة التي تكبل إمكان انطلاق الخيال إلى ما يتجاوزها،
تقترح موهانتي روابط، وتنطلق من عالم عامة الناس لترسم نقاطًا تحدد كيف أن «منطق الرأسمالية
على الساحة العالمية المعاصرة» (١٩٩٧، ٢٨) يستغل نساء العالم الثالث ونساء العالم الأول
معًا، غير أنها تشدد على أن الطريق الأوحد لفهم الخصوصيات المحلية هو أن «نولي الانتباه
لاشتراك واختلاف التواريخ العامة، عندنا/عندهم» (٢٨). يعارض مقالها صراحة «الأفكار
اللاتاريخية عن الخبرة المشتركة والاستغلال، أو صلابة نساء العالم الثالث وما بين نساء
العالمَين الأول والثالث، وهذا يسهم جميعه في تطبيع المقولات المعيارية للنسوية الغربية
عن
الأنا والآخر» (٢٨). وهكذا تعمل موهانتي بحذقٍ وبراعة داخل النسبوية الثقافية والنسبوية
العالمية، من دون أن تسلم بقوةٍ خطابية متجانسة. ولكن تبين كيف أن النسبوية في فعاليتها
الرهيفة إزاء الفوارق عبر الحدود تستطيع رسم خريطة للمعارف المتفاوتة لتؤسس الروابط وصلات
القربى والعموميات، ولا تكون أبدًا مطلقة بل قابلة دومًا للتفاوض.
إنها عملية اطِّلاع على المعرفة، والمعارف التي تنتشر في هذه العملية تفتح الباب
لمقارناتٍ مطلعة ونقد عليم، من الناحية الإبستمولوجية ومن الناحية الأخلاقية-السياسية
معًا،
عبر هذه الروابط التي لا هي استيعابية ولا هي انشقاقية. تبين موهانتي كيف أنه، مع اختلافات
المواقف المحلية، «يتم تعريف النساء بعلاقتهن بالرجال والاقتران الزواجي»، وأن العمل
«يؤسس
على الهوية الجنسية، في تعريفاتٍ عينية للأنوثة والذكورة والميل إلى الجنس الآخر» (١٢).
إنها تخرج بدليلٍ دامغ لتبين، مرة أخرى بشكلٍ مخالف، «استغلال أجساد النساء وكدحهنَّ
لتوطيد
أحلام عالمية ورغبات وأيديولوجيات للنجاح وللحياة الطيبة» (١٠). إن رسم موهانتي لتلك
الخرائط «يصوِّر بدقةٍ العلاقات التبادلية بين الجنوسة والعرق والإثنية وأيديولوجيات
العمل
التي تموضع النساء في سياقاتٍ استغلالية معينة» (١١). إنها تفضح أطر مفاهيمية تجعلنا
«نستطيع تَفهُّم المواراة النسقية للأعمال المنزلية» (٢١)، وتقرر أن النساء يقولبن في
داخل
… هويات تعرِّفهنَّ … بأنهنَّ لسن عاملات (١٤). العرضية وإمكان الاختلاف، والذرائعية
المحلية لتلك التعريفات «التطبيعية» للعمل والعاملات تنبثق من تحليل موهانتي، برفقة آثار
الجهاز الأيديولوجي المعقد الذي يجند لدعم بنيات استغلالية تزدهر على أكتافهن.
تتواتر هذه الأقاصيص التي تُمعن في التفاؤلية، بقدر ما تمعن في التشاؤمية. تؤكد موهانتي
على «محنة النساء العاملات الفقيرات وخبراتهن في البقاء وفي المقاومة، من أجل خلق أشكال
تنظيمية جديدة لكسب لقمة العيش وتحسين حياتهن اليومية … وهذا يمنح إمكانات جديدة للكفاح
وللفعل» (٢٣). وتومئ الخرائط التي ترسمها إلى منهجيةٍ مقارنة تقوم على «مرسى جغرافي»،
وهي
تعتقد أنها منهجية تبين لنا أن «المحلي والعالمي يتواصلان حقًّا، من خلال علاقات التوازي
والتقابل، وأحيانًا الميل إلى التقارب … وهي علاقات تضع النساء في مواقعهن كعاملاتٍ بشكلٍ
يختلف أو يتماثل»
١٢ وتغدو هذه التماثلات والتباينات الخطوط المتقاطعة للتقويمات النقدية للمعرفة
المتداولة التي تهجر الاستنباطية من أجل نسبوية استقرائية
١٣⋆ معتبرة، رهيفة للتفاصيل بقدر ما تتجنب الاختزالية، لكي تناصر تعددية التحليلات
والمناهج.
هكذا يساهم مقال موهانتي أيضًا في مشروعٍ نظري أكبر يبين أن النسبوية في مقابل المطلقية،
من حيث هي إطار إبستمولوجي تنظيمي، ثنائية مفروضة أكثر من أن تكون «طبيعية»، وعن طريق
الأمثلة المضادة تبين لماذا يكون العمل داخل قيود هذه الثنائية مناوئًا للمناقشة المعقولة
«لما هو عدلٌّ وحق»، ولماذا يكون اختيار أي «طرف» من طرفيها يستهل طريق السقوط إلى منحدر
الظلم. وعلاوة على هذا، تكشف دراساتها عن التفاؤل العولمي باعتباره واحدًا من طرق نحو
العدالة والحق ولعله الطريق الأقل قابلية للتطبيق، وذلك على وجه الدقة بسببٍ من اختزاليته،
التي لا تتطلب أية حركة تتجاوز حدود الخيال الضارب بجذوره في إمبريالية الوهم بالتماثل
مع
الذات، وذلكم هو أمضى اللمحات النقدية في المقال.
أما في البعد الإبداعي للمقال، فرسوم الخرائط تلك مماثلة لسرديات المناطق-الحيوية
١٤⋆ التي هي جزء لا يتجزأ من المراجعات المجازية للإبستمولوجيا المصبوبة في قالبٍ
إيكولوجي. مثل هذه الإبستمولوجيا، التي أعمل في الوقت الراهن على تطويرها، سوف تتجنب
عالي
وسافل الخطاب البياني
١٥⋆ للتمكن والهيمنة الذي يستمسك بثنائية النسبوية-المطلقية في المكان، كأنه الرقيب
المتمكن: الخطاب البياني الذي يدعم حلم (ولنقرأه: كابوس) التفاؤل العالمي، تلعب سرديات
المناطق-الحيوية دورًا بنائيًّا في التفكير الإيكولوجي؛ لأنها بتعبير جيم تشيني
Jim Cheney، ترسو على أساس الجغرافيا، وليس على أساس
السردية الخطية للذات التي تتخذ شكلًا ماهويًّا؟ (١٩٨٩، ١٢٦). إن سرديات المناطق-الحيوية
ترسم خريطةً للعلاقات الإيكولوجية المحلية عن طريق كشف الشروط، الفيزيقية والخطابية معًا،
التي تدعم و/أو تهدد الحياة البشرية وفاعليتها داخل خصوصيات الموائل والمؤسسات والمناطق
والبيئات والمجتمعات، وعلاقاتها المتداخلة التي نتتبعها على انفصالٍ ونرسم معالمها، وتتمثل
صلابتها في رهافتها السياقية، في قدرتها على عرض الظروف الجينالوجية
١٦⋆ (مواطن القوة) في صنع المعارف وانتشارها، وعرض الظروف المماثلة عبر المناطق
المتاخمة والمناطق الأبعد. أما مخاطرها ففي اجتذاب ضيق أفق التفكير وتخاطر بالانبثاق
عنه،
شأنها في هذا شأن كل خطابٍ محلي: إنها تخاطر بالتصديق على الرومانتيكية والنرجسية الجمالية،
سرديات موهانتي تتفادى هذه المخاطر، حين تشير إلى التفكير الإيكولوجي الواعد.
بالتركيز على تفاصيل الذاتيات والأيديولوجيات والممارسات والقيم، وعلى الروابط والقواصم
التي تفصل وتربط بينها، يبتعد التفكير الإيكولوجي عن الأنا-وحدية الفردانية التي تأتم
بها
الإبستمولوجيات والأخلاقيات في التيار الفلسفي السائد. وفي حين تقبل فرضيات التماثل
المتجانس ذلك المعتقد الذي ذكرته أنا فيما سبق؛ أي إن كل ما هو محلي يمكن أن يقوم بوظيفته
ليحل محل ما هو عالمي، فإن التفكير الإيكولوجي يحترم الحدود، غير أنه يتحمس لعبور الحدود
في
اهتمامه بتفهم الصلات، معترفًا بالتمزقات، وينقل المعاني عبر الاختلافات المحلية نقلًا
مسئولًا ليحافظ على المعنى ويمد نطاقه في الوقت نفسه.
مجمل القول إن دراسات موهانتي لعمل المرأة تمنح قراءها، بعد كل شيء، سبلًا لتخيل
كيفية
التفكير والفعل محليًّا وعالميًّا معًا. وعلى الرغم من التشاؤمية التي سادت مناقشتي هنا،
فإن مقصدي، أيضًا، أن أهيب بضرورة التفكير العالمي. تسهم المقارنات المحلية-العالمية
إسهامًا حاسمًا في الانعكاسية التي تميز التفكير في أواخر القرن العشرين، وتسلط الضوء
على
العرضية والغرابة فيما هو مألوف ومحلي، وحتى وهي تفتح إمكانات لم تصبح بعدُ موضوعًا للتفكير
فإنها تتوارى بفعل افتراضات وممارسات محلية راسبة. وحتى أدق أشكال التفكير في المحلي
وأكثرها تفصيلًا تخاطر بفقدان استبصار آثارها القمعية، وكيف أنها غالبًا ما تكون، في
واقع
الأمر، عالمية في توجيهها لقواها نحو الاستغلال. وهكذا يكون التفكير العالمي جوهريًّا
لنفهم
كيفية الحفاظ على السلطة والامتيازات من جانب الشركات والأنظمة والعمليات والأجندات التي
هي
بلا جدال محلية خالصة، تُذكرنا غان جريمشو Jean Grimshaw ﺑ
«الآثار العميقة على حياة النساء» من جانب «الشركات المتعددة الجنسية التي هي في العادة
قصية نائية عن خبرة الحياة اليومية» (١٩٨٦، ١٠٢)، يجب تتبع واستجواب هذه الآثار في الأدوار
الإقليمية الواسعة الاختلاف لتلك الشركات.
إن السرديات الإقليمية-الحيوية المسئولة تتمتع بتعدد المناحي وبالنقد الذاتي، لا
واحدة
منها تبرز كخبرٍ نهائي أوحد؛ ومن ثم فإن تركيزي على تحليل موهانتي لا يعطي إلا تخطيطًا
عامًّا لكيفية عمل مثل تلك السرديات، وإذ تنبني من كشوف مشاريع عديدة، فإنها مستمرة،
مفتوحة
لإعادة التقويم المتواصل، متأهبة لاستهداف المراجعات التي تتطلب كشف التنافر. ليس الهدف
تركيبًا نهائيًّا، ولا هو التقارب في نهاية المطاف، بل هو تمهيد الأراضي لسردياتٍ أفضل
يمكن
اتخاذها في العودة إلى الموقع، وإعادة بناء الموقع إذا لزم الأمر، ولكن من دون إيقاف
الفعل
في الوقت نفسه. إن استخدام هذه السرديات كفرضياتٍ يُظهر فعاليتها ويظهر قصورها، ويمكن
أن
يبدو كمطلبٍ غير معقول. بَيد أن الخاصية التجريبية المستجيبة للأدلة لمثل هذه «الممارسة
العميقة التفكير» (
Heldke 1992) تشهد على
إمكانياتها.
١٧
إن النسوية العالمية عند موهانتي تتجاوز حدود التنظير للاختلافات بين «النساء» في
وسطهن
وداخل عوالمهن، وتعمل، أيضًا بشكلٍ مختلف، منطلقة من «سياسات الاختلاف» في التأكيد على
القيم والسلطة والمعاني داخل مواقع انتظمت في شكل تراتب هرمي، مواقع ذاتيات العامل و/أو
المستهلك. وباقتفاء خطى بارنت Barnet وكافانا
Cavanagh، ترسم خرائط الساحة العالمية عبر أربع «شبكات»
متداخلة: بازار الثقافة العالمية، والسوق التجارية العالمية، ومكان العمل العالمي، والشبكة
المالية العالمية (١٩٩٧، ١٠)، في كلٍّ منها تعمل أيديولوجيات الذكورة والأنوثة والجنس
على
تأبيد الحرمان النفسي والاجتماعي للنساء. هذه الرسوم الخرائطية التي تتَّسم بسمةٍ إيكولوجية
أولية بدائية تتبع عددًا محدودًا من الخيوط عبر الممارسات والأيديولوجيات للكشف عن شبكة
عمل
الفواصل والروابط، كلاهما يمارس الفعل بشكلٍ جزئي، غير أن قوته التفسيرية — ربما — تكون
مرنة بما يكفي لتمتد إلى ما يتجاوز حدود صورها الخيالية التي تكونت مبدئيًّا.
إنني أتصور إبستمولوجيا قُدت على قدِّ البيئة الطبيعية، وسوف تعمل بشكلٍ مماثل: لا
يمكن
أن تسفر عن مجرد ترسيم عشوائي لخرائط غير مميز يهدف إلى تسجيل كل المعروف عن موقعٍ محلي
معين. وهي بهذا لا تكون قبل وقوع الواقعة محايدة إزاء ما تبحث عنه: فرضياتها وأطر مشاريعها
— سياقها للاكتشاف وللتبرير — مفتوحة على السواء أمام الفحص الدقيق. وبينما ترسم موهانتي
خرائط لعمل المرأة، وأسواق استغلال العمالة والفقر، ثمة ترسيم آخر للخرائط يكون قد بدأ
من
مكانٍ مختلف. بَيد أن الإقرار بمثل هذا يستدعي النقد فقط من جانب المنظِّرين الذين يعتقدون
أنه يمكن أن يكون ثمة أجندات متحررة من الاستعلام. في هذا المشروع التنقيحي لا نهدف إلى
أجنداتٍ متحررة من جمع الأدلة ومن التأويل. غير أننا حين ندرك أن الدافع المحرك للأجندات
هو
البحث والاستقصاء فإن هذا يلزمنا بالحذر من السماح بترسيخ هذا التخطيط، وتشكيل حدود صارمة،
حيث إنه يكبل حدود التساؤل على قدر ما يتيحه. وواحدٌ من التحديات المنهجية يتمثل في الحفاظ
على التساؤلات مطروحة على «خط السير»، وفي هذا نجعلها مفتوحة مع المفاجآت التي يمكن أن
تتحدى الأجندة أو تزيحها جانبًا.
إن ما أحببته في جدول عمل موهانتي هو طريقة التساؤل، تموضع صوت المتسائل، وكيف يدع
الدليل
يتحدث — على الرغم من أنه لا يدع الدليل يتحدث بأسلوبٍ ساذج أو من دون مجادلة، ولا هو
يدفع
الدليل دفعًا إلى صناديق جاهزة. إنها أجندة تفترض المستمع المسئول، وتقترح روابط ووقفات
قصيرة من الآخرين، وتتطلَّب اليقظة لمواجهة دفع الحدود إلى آمادٍ بعيدة، حتى لو كانت
حدود
المعرفة الخيالية. وقد يبدو هذا مثل تحذير يأتينا من الحس المشترك. بَيد أن مثل هذا
الاستماع اليقظ الحذر لا يمثل خاصية تميز الاستراتيجيات النفعية للتفاؤل العالمي، التي
تُظهر قدرًا ضئيلًا من الاهتمام بالآثار الإيكولوجية، سواء كانت محلية أو عالمية، حَرْفية
أو مجازية. مثل هذه الآثار تدخل في نسيج النموذج الذي أقوم بتطويره: إنها تقيم الحجة
بقوةٍ
وفعالية ضد الإمبريالية الثقافية.
وما الذي يمكن أن تفعله هذه الأفكار لي أو «لنا» من أجل إتاحة الحديث عن أنشطة، من
قبيل
أنشطة طالبان التي تشربك بعنف هذه الصورة المحمودة؟ من الصعب الاعتقاد أن «نحن» و«هم»
نستطيع الدخول في حديثٍ غربي يضم الهنود الحمر لنولد تفاهمات عابرة للحدود يتطلبها التفكير
العالمي. لماذا قد يرغبون هم في تبرير أفعالهم لنا؟ بيد أن الحدود أقل صرامةً مما تبدو،
هناك تواصلات لافتة بين إضفاء السمة الجنسية على النساء — «الولع الهستيري بأجساد النساء»
(
Foucault 1978, 104) — الذي يغذي تحريمات طالبان، وبين
المنزع العالمي نحو إضفاء السمة الجنسية على حيوات النساء وعملهنَّ الذي تورد موهانتي
تفاصيله.
١٨ وحتى في ثنايا توثيق موهانتي لعمل المرأة الخفي والفقر المدقع، تتمسك بترددٍ —
أنا أحييه — في الزعم بعالمية الحقائق الأخلاقية-السياسية وصرامة الموقف الأخلاقي. ولكن
هل
يصل هذا التردد إلى حدوده بالإشارة إلى مثل تلك الأشكال من التطرف؟ يجب أن تكون الإجابة
نعم، ولا. نعم، بسبب قسوة تحريماتهم، وأهوال الرجم حتى الموت، واستحالة مجرد تخيل
استراتيجيات للمقاومة كتلك التي تصفها موهانتي في مواضع محلية أخرى. ولا، بسبب التواصليات
التي يعرفها جيدًا منظِّرو النسوية، وما بعد الاستعمارية، ليس فقط في أماكن قصية من العالم،
لكن أيضًا في محلياتٍ محلية جدًّا حتى يصعب تخيلها بارتياح. ولا؛ لأن هناك آليات عالمية،
مهما كانت قواها محدودة: التنظيمات القادرة على الضغط — غالبًا بنجاح — ويجب عليها أن
تكون
في مكانٍ ما وتفكر عالميًّا، مهما كنا «نحن» سننظر إلى فعاليتها نظرة تفاؤلية أو محبطة.
أنا
أتذكر، إذن، الوقوع في أحابيل المعضل الذي حدد أطر الندوة: الاقتناع بأن ثنائية النسبوية
—
أو — المطلقية لا تمثل إلا حاجزًا في وجه المساجلة المنتجة. غير أن ثمة اقتناعًا أيضًا،
يبدو أن موهانتي تأخذ به، وهو أنه حينما تتعرض التفاؤلية لاختبارٍ عسير، فإن اليأس العنيد
لا يمكن أن يكون استجابة «لسياسات الأمل والتضامن» التي تتميز موهانتي بالوجود في
غمرتها.
(١) حاشية
أعود إلى شعار «فكِّر عالميًّا» لكي أختم حديثي بملحوظةٍ تتعلَّق بصوت المتسائل
هذا-وهو صوتي أنا. أكتب من أجل مؤتمرٍ فلسفي في الولايات المتحدة الأمريكية، بوصفي
ناطقة بالإنجليزية الكندية، وبالتالي بوصفي عضوة في ثقافة وفي مجتمع، غالبًا ما يبدوان
للعالم الواقع خارج أمريكا الشمالية، كأنهما لا يتميزان عن ثقافة ومجتمع الولايات
المتحدة الأمريكية، وجدت نفسي في موضعٍ غير مريح، على الجانب «الآخر» من حدود
الشمال-الجنوب المختلف عن الجانب الذي تشير إليه أوفيليا شوته (١٩٩٨). أتحدث لغة
المتعلمين البيض في الولايات الأمريكية بطلاقةٍ تجعلها كأنها لغتي الأم، تقريبًا في كل
موضعٍ (على قدر ما لا أجاهر بأنني «من خارجها» أو «من حولها»)، وتحديدًا بسبب من طلاقتي
الكاملة-تقريبًا في اللغة، يصعب تبيان «الغيرية» التي تكبح حديثي عن النسوية العالمية،
وهذه الطلاقة الثقافية واللغوية تجعل الإشارة إلى الاختلافات، والصياغات بشأنها، تبدو
مجرد تكلُّف وتصنُّع. ومع هذا لا يفاجئنا، فيما أعتقد، أن هذا المغزى للغيرية يقتحم
بإصرارٍ خطابات النسوية العالمية، التي تحمل إليَّ لكنة أجنبية، لكنة لغة تطمر يقينًا
موضعيًّا لا يمكن أن أساهم فيه. إنها تعارضات لا يدركها الحس من ظواهر الأمور، وتبدي
مقاومة، حتى في مجرد تسميتها باسم «عابرة للثقافات»، لدرجة أن الجهاز المفاهيمي للتعامل
معها صعب المنال، إنها لا تصنع ذلك الاختلاف اللافت بمساندة الظلم، كما تفعل الاختلافات
التي تتولد عن اللون والعرق والطبقة والجنس والعمر والقدرة، وفي كثيرٍ من الظروف لا
تصنع اختلافات ملحوظة على الإطلاق. وهكذا مرة أخرى نجد أن جذب الانتباه لها مدعاة إلى
الإصرار العجول على أن التماثلات طاغية، حتى إنها تمحو أي اختلافات، وأن وضعها في قالب
«عبر-الثقافات» هو بالمثل مغالاة، إنها غالبًا ما تكون مجرد تغايرات في الوتيرة
الثقافية أو الإيقاع الثقافي أو النبرة الثقافية، وفي أحيانٍ أخرى تهيب بالانقسامات
العميقة في التاريخ التي جعلت كلًّا من هاتين الأمَّتين على ما هي عليه، محليًّا
وعالميًّا معًا.
إن الشفافية الواضحة المتبادلة في الحوارات النسوية الكندية-الأمريكية تخلق انطباعًا
بأنه لا وجود لمثل هذه الانقسامات، حيث «إننا» جميعًا نواجه المسائل عينها، ونتمسك
بصلابةٍ بالمعتقدات الأخلاقية عينها. غير أن الأمور، من الناحية الفينومينولوجية، لا
تجري في وهادٍ منبسطة على هذا النحو. وأعتقد أن ثمة مغزًى لكوني لا أستطيع تحديد هويتي
كجزءٍ من ثقافةٍ ومن أمةٍ تعد لاعبًا على المستوى العالمي؛ إما لأن هذا يسبب انزعاجًا،
أو لا يتَّفق مع الرضا عن النفس. لست أحيا أو أفكر داخل صورةٍ تخيلية لمجتمعٍ لا شك في
أنني، ولو على مستوى اللاشعور، جزءٌ من أحداثه فقط، بفضل مكاني في ذلك المجتمع ذي
المردود العالمي. ليست كندا قوة عالمية، على الرغم من أن عضويتها في النافتا
١٩⋆ تمنحها وضعًا وصوتًا أقرب إلى المنزلة العالمية، تمنحها هذا بسهولةٍ تفوق
سهولة مجالسة معظم الكنديين. وعلى الرغم من تصاعد اتِّخاذ كندا أوضاعًا «محايدة» في
الأحداث العالمية، في الدور الذي تضطلع به في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة
(٩)؛ ومن ثم تضطرب كنديتي، وهي من الناحية الوظيفية قريبة هكذا من النقطة التي لا
يدركها الحس من ظواهر أمور المساجلات النسوية، تضطرب في إصرارها المتعلق بالنسوية
العالمية، يجب أن يكون تفكيري عالميًّا وأكثر تحفظًا، وأقل وضوحًا في تواصله مع حياتي
كمواطنةٍ في بلد يلعب على الساحة العالمية دورًا أصغر وأقل تأثيرًا من الدور الذي تلعبه
الولايات المتحدة الأمريكية، التي لا يجادل أحدٌ في منزلتها كقوةٍ عالمية، حتى لو كان
جميع مواطنيها، بأي حالٍ من الأحوال، لا يتشاركون على قدم المساواة في هذا
المركز.
ليست كندا ثقافة مهيمنة عالميًّا بنفس طريقة أو درجة الولايات المتحدة الأمريكية،
وليست العلاقات بين كندا والولايات المتحدة الأمريكية علاقة بين طرفين متماثلين، كما
هو
واضح من استحالة تخيُّل انعكاس بسيط لوضعي الرئيس-المرءوس. إذن، في أسئلةٍ من هذا
القبيل لا نتوقع من الكندية الاعتقاد بأنها تحتاج إلى أن يكون «معترفًا بها في لغة
ومناورات المعرفية» (Schutte 1998, 60) لثقافةٍ مهيمنة،
منطلقها المعرفي يطمر ضمنيًّا معرفة-الذات كقوةٍ عالمية. ومن ثم، فإن التفكير عالميًّا،
بالنسبة إليَّ مشروع مبدئي وأكثر مبدئية مما يتبدى في نظر كثيرٍ من الأمريكيين البيض
المتعلمين الموسرين: مجرد مسألة للمساهمة في جانبٍ من جوانبها وللصوت غير
المؤكد.
إنها أوجهٌ لعدم التطابق، ولست أقصد تعيينها كمثالب، ولا المطالبة بأفضليةٍ في أن
يكون المرء كنديًّا، ولكن لكي أستبقي مكانًا لفكرٍ جديد من كل زواياه، وهو أن صميم فكرة
النسوية العالمية يجب تصريفها تصريفًا مختلفًا حين تكون المحلية (في هذا المثال كندا)
التي تمعن النظر في هذه الفكرة يمكن اعتبارها مستعمَرة خفية للقوة الاستعمارية الجديدة،
وحين تخاطر تلك المحلية بالاختفاء في أعطاف التفاؤل العالمي الذي يقتحم أجندة ثقافة
أمريكا الشمالية المهيمنة، كيف يمكن لهذه الأفكار أن تعيد تشكيل الإلزام بالتفكير
عالميًّا والتصرف محليًّا؟ أي تجديدٍ تتطلبه في مَدِّ حدود الخيال؟ هذه هي الأسئلة التي
تطرحها على مقبل أبحاثي هذه المحاولة للتفكير في تلك المسائل.
هوامش