الفصل السابع
تشاندرا موهانتي وإعادة القيمة إلى «الخبرة»١
شاري ستون-مدياتور
أقاصيص الخبرة كانت حيوية في الواقع التاريخي النسوي في العالم الثالث.
شاري ستون-مدياتور
يبين نقد جوان سكوت بعد-البنيوي للخبرة أخطار السرديات الإمبيريقية
٢⋆ للخبرة. بيد أنه يترك النسويين من دون طريقة مفيدة للانشغال بالنصوص غير
الإمبيريقية المتجهة نحو الخبرة، النصوص التي تشكل الوسيلة الأساسية في أيدي نساءٍ كثيرات
لكي يتمكَّنَّ من السيطرة على التمثل الخاص بهن. وباستخدام تحليلات تشاندرا موهانتي لدور
الكتابة في المذاهب النسوية بالعالم الثالث، وضعتُ مفهومًا للخبرة يقوم على ضم وإدماج
استبصارات بعد-بنيوية، وفي الوقت نفسه يمكِّننا من قراءة سرديات النساء في العالم الثالث
قراءة أكثر استجابة ومسئولية.
على الرغم من أن النسويات، في وقتٍ مبكر، قد أيقظن الوعي النسوي وواجهن رؤى العالم
ذات
المركزية الذكورية بسرديات «خبرة النساء»، فإن ثمة اتفاقًا واسعًا بين النسويين الآن
على أن
تلك الأقاصيص عن «الخبرة» محاقة بالإشكاليات. وكما أشارت دونا هاراوي وساندرا هاردنغ
وآخرون، الالتجاء إلى الخبرة يحمل مخاطرة تطبيع مقولات مشروطة أيديولوجيًّا تشكل بنية
خبراتنا بالنفس وبالعالم. وقد صاغت جوان ولاش سكوت
J. W.
Scott أقوى صورة من هذا النقد في مقالها «الدليل من الخبرة»
The Evidence of Experience، الذي يجري الاستشهاد به
على نطاقٍ واسع. تحاج سكوت بأن صميم «الذوات» التي «لديها» خبرات، قد تشكلت خبراتها من
خلال
الممارسات الخطابية؛ ومن ثم فإن الأقاصيص عن خبرات الأشخاص المهمشين (السرديات الشخصية
والسرديات التاريخية القائمة عليها، معًا) تعيد إدراج ما يكمن وراء أشكال الخطاب المتاحة
من
فرضيات حول الهوية والاختلاف والذات المستقلة.
٣ وعلى الرغم من هذا النقد،
٤⋆ ومهما يكن من أمره، فإن شخصياتٍ مهمة من نصيرات النسوية بعد-الاستعمارية، أمثال
غلوريا آنزالدوا
Gloria Anzaldúa وبيل هوكس
bell hooks وميشيل كليف
Michelle
Cliff، واصلن كتابة النصوص المتجهة نحو الخبرة؛ لأن مثل هذه النصوص
تلعب دورًا رئيسيًّا في فضح تناقضات الديمقراطية الرأسمالية المعاصرة. إن بخس سكوت لقيمة
الخبرة يقطع سبيلنا نحو الانشغال بتلك النصوص انشغالًا مثمرًا. فإذا استبعدنا أقاصيص
الخبرة
بوصفها وضعية، فإننا بهذا ننكر على المنظِّرين الرواد للعرق والجنوسة — ومعهم أولئك
المستبعدون من إنتاج المعرفة الرسمية — القدرة على تقديم منظورات نقدية لعوالمهم عن طريق
سرد خبراتهم. قد نقوم بتحليل البنية البلاغية لنصوصهم، ولكننا نفقد أي معرفةٍ تحررية
يمكن
أن نتعلمها منها.
هذا المقال يبحث كيف نستطيع، من بعد نقد سكوت، أن نتجنب تطبيع الخبرة ونظل مع هذا
نمارس —
بشكلٍ منتج — القراءة والتعلم من أقاصيص «الخبرة المُهمشة» والدفاع عنها.
٥ وأزعم أن الأكثر حذلقة من هذه السرديات إنما يتدخل في العمليات الأيديولوجية.
وعلى أي حال، فإن المفاهيم الجارية للخبرة — الإمبيريقية وبعد-البنيوية على السواء —
تكبل
بشكلٍ غير ملائم قراءتنا لتلك النصوص، وتجعلنا نراها محض تقارير لوعيٍ غير تأملي، وتلقي
سحب
التعتيم على الطرق الأكثر دهاء التي تنبثق عنها تلك النصوص، وتترك بها تأثيرًا في الخبرة
التاريخية. وبعد تلخيص نقد النظريات الإمبيريقية، سوف أتَّجه صوب استبصاراتٍ وحدود مفهوم
سكوت بعد-البنيوي للخبرة. وأحاج بأن سكوت تعيننا على تناول الخبرة تناولًا نقديًّا؛ ومع
هذا
تحبط في خاتمة المطاف الاشتغال الفعال بسرديات الخبرة الهامشية الأكثر دهاءً (بما فيها
مذكرات صمويل دلاني، وهو نص عن خبرة إنسان مهمَّش تعتبرها نموذجية) لأن مفهومها عن الخبرة،
بوصفها منتجًا خطابيًّا، يفرط في تبسيط العلاقات بين الخبرة واللغة.
سوف أتجه صوب تحليل تشاندرا تلبيد موهانتي
C. T. Mohanty
لكتابات «المرأة في العالم الثالث»
٦ لكي أبين إمكان إفساد أقاصيص الخبرة غير الإمبيريقية المختلفة بعض الشيء. وفي
مقالها «رسم خرائط النضال»
Cartographies of Struggle تنشغل
موهانتي، وفقًا لشروطها، بقصص حياة أولئك النسوة وشهادتهن والمقالات الشخصية. إنها تقرؤها
بوصفها استجابات إبداعية لتوترات الخبرة المعيشة وتناقضاتها، حينما تكون هذه الخبرة مشروطة
بممارساتٍ ثقافية محلية، جنبًا إلى جنب مع العلاقات السياسية والاقتصادية الخاضعة لتنظيمٍ
عالمي. بالاعتماد على هذا المقال، فضلًا عن عمل موهانتي في الآونة الأخيرة، أقترح تفسيرًا
بديلًا ﻟ «الخبرة» تفسيرًا لا يقوم بتطبيعها ولا بردها إلى الخطاب، بل يأخذ في اعتباره
تعقيدات الخبرة التاريخية والعلاقات المتبادلة بين الخبرة والكتابة. وأخيرًا، أبين كيف
أن
نظرية موهانتي الملهمة هذه تمكننا من قراءة سرديات الخبرة الهامشية الأكثر دهاء بطريقةٍ
تضع
مداخلات هذه السرديات في صدر خطاب الهيمنة، وتعترف بها كتحدياتٍ تواجه مخيلاتنا
التاريخية.
(١) نقد الخبرة
منذ ثمانينيات القرن العشرين يبذل النسويون مساعيهم المحاقة بالإشكاليات لإرساء
المعرفة أو السياسة على أساس خبرة النساء. ونتعلم من الإبستمولوجيا النسوية أن الخبرة
ليست حقيقة تسبق تمثيلات الخبرة التي تعرضها الثقافات، بل إن هذه التمثيلات، في واقع
الأمر، هي وسيط الخبرة. على سبيل المثال، أكدت هاراواي D.
Haraway اكتشافًا مفاده أن الخبرة البصرية ليست مجرد إدراك للواقع،
بل هي عملية نشطة تغذيها التوقعات، ولكن تظهر هذه الخبرة أمامنا كما لو كانت مجرد
انعكاس لواقعٍ خارجي. وعلاوة على هذا، فإن العالم الذي ندركه هو في حد ذاته قد أنتجته
قوى اجتماعية وتاريخية، غير أن الخبرة تميل إلى مواجهة الوجود التاريخي كمجرد واقعة.
والمسألة كما طرحتها هاردنغ S. Harding أن «خبرتنا تكمن
فينا»، تتمثل كسلوكٍ طبيعي حددته الثقافة وكترتيباتٍ اجتماعية شيَّدها التاريخ (١٩٩١،
٢٨٧). الذات التي تمرُّ بالخبرة تواجه العالم من خلال عدساتٍ صقلتها الأيديولوجيا، ليس
هذا فقط، بل أيضًا نجد المنظِّرين الذين يجعلون الخبرة هي خبرة فئة اجتماعية معينة
يخاطرون بتطبيع تعريفات حصرية لتلك الفئة.
النقاد النسويون لسياسات الهوية، مثل إليزابيث ويد E.
Weed وموهانتي، اتَّجهوا صوب مخاطر بناء سياسات حول «خبرة المرأة»،
يشير أولئك المنظِّرون إلى أنه عندما تؤخذ «خبرة المرأة» كأساسٍ للمصلحة العامة، فربما
نستطيع أن نقلب التسلسل الهرمي، ونضع فئةً مختلفة كموضوعٍ للمعرفة وللسياسة، بَيد أننا
نترك تصنيفات تحديد هُويَّة الفئة على حالها، واستبعاد من تستبعده تلك التصنيفات، ونترك
البنيات الأوسع للهيمنة والاستغلال.
وبينما جعلت هذه التحليلات النسويين حذرين من الالتجاء، غير النقدي للخبرة، تتحدى
سكوت مشروع سرد الخبرة بجملته. لا يستطيع كاتب النصوص المتجهة نحو الخبرة أو قارئها أن
يتجنب التساؤلات التي أثارها نقد سكوت الجذري، بالاعتماد على فوكو ولاكان، تزعم سكوت
أنه فقط بحكم الممارسات الخطابية التي تميِّز وتنظِّم الموضوعات يبلغ المرء الوعي
بهُويَّته ورغباته ومصالحه، والمجالات المتمايزة للوجود. تُعمِل سكوت أيضًا تصور دريدا
للخطاب كمنظومةٍ ديناميكية متغيرة تخلق المعنى من خلال التمايز (١٩٩١، ٧٩٣). في ضوء هذه
النظريات وتحليلات سكوت ذاتها للقوة التاريخية للبنيات الجنوسية، تقترح سكوت أن الخبرة
«ظاهرة [ظواهر] إبستمولوجية» (تنتظم وفقًا للخطاب في سياقاتٍ أو تشكلات معينة) (١٩٩١،
٥). يتَّفق تصوُّر سكوت للخبرة ﮐ «حدث لغوي» (١٩٩١، ٧٩٣) مع الناقدات النسويات
المذكورات آنفًا، بقدر ما يؤكد على التحيزات الثقافية التي تؤثر في الخبرة، غير أنه
تصورٌ يذهب أبعد من ذلك، فيوعز بأنه لا خبرة على الإطلاق خارج الخطابات التي تحدد
الهويات، وتجعل الرغبة طبيعية وتفصل الشخصي عن السياسي، جملة القول إن الخطابات هي التي
«تبني» الذوات القابلة لتحديد الهوية وللوعي بالذات وللمعرفة.
سعى آخرون للبحث عن وجوهٍ للخبرة أكثر تعبيرًا أو أكثر ثراءً
٧ وعلى أي حال تزعم سكوت أن صميم فرضية أن للأفراد حقائق جوانية مرَّت
بخبرتهم يعزز العمليات الأيديولوجية التأسيسية للذاتية، وبالمثل يعزز فرضيات صنع خبرة
داخل أساس مفترض للمعرفة.
٨
تركز سكوت على سُبل ترسيم التأريخ بفعل الإبستمولوجيات القائمة على الخبرة. وفقًا
لسكوت، نجد بحث المؤرخين عن توثيق خبرات فئات دون مستوى التمثيل إنما يعامل الخبرة ﮐ
«مفهومٍ تأسيسي»، مقولة يتم عن طريقها الإفصاح عن المعرفة بيد أن صميم ظهور الخبرة
كمقولةٍ للتحليل لا يكسبها دلالتها، ومع الإخفاق في استنطاق منزلة الخبرة، ينظر هؤلاء
المؤرخون إلى الخبرة البصرية والخبرة بأعماق الجسد ودواخله، مثلما كان المؤرخون
السابقون ينظرون إلى الوقائع التاريخية؛ أي بوصفها حجر الزاوية لواقعٍ سابق على
الخطاب.
٩ وتحاج سكوت بأن مشروعهم لإلقاء الضوء على هذا «الواقع»، يمكن أن يعرض لوجود
اختلاف أو لوجود قمع، ولكن «يحول دون فحص نقدي لأعمال المنظومة الأيديولوجية ذاتها»
(١٩٩١، ٧٧٨).
تعرض سكوت لهذه الحجة مصحوبة بالإشارة إلى مذكرات صمويل دلاني Samuel
Delany «حركة الضوء في المياه» The Motion of Light
in Water (1988). إنها تركز على فقرةٍ يحاول فيها دلاني التواصل مع
ما «يراه» في دورة المياه للمثلي، وتزعم سكوت أن «مرتكز توصيف دلاني، والحق مرتكز كتابه
بأسره، هو توثيق وجود تلك المؤسسات [كالمثلي الذي لا يزال خفيًّا مخفيًّا]»
(Scott 1991, 775). وتقول إن هذا يمنعه من إضفاء
صفة الاستشكال على فرضياتٍ تغذي «رؤيته»، وتفضي به إلى تطبيع هوية المثلي ورغبته، جنبًا
إلى جنب مع «الاقتصاد القضيبي»، حيث لا يمكن أن يكون «المثلي» إلا عكسًا للنزوع إلى
الجنس الآخر. تقول سكوت إن مشروع الكتابة ذاته هذا بغية تقديم تقرير عن الخبرة البصرية،
و«على قدر ما تكون رسالة المؤرخين هي توثيق حيوات أولئك المنبوذين أو الذين جرى التغاضي
عنهم في حسابات الماضي» (١٩٩١، ٧٧٦). أولئك المؤرخون، مثل دلاني، يتصورون تحديهم
للتاريخ السائد بأنه «تصويب للسهو الناتج عن رؤيةٍ غير دقيقة أو غير كاملة»
(Scott 1991, 776). لقد افترض دلاني قبلًا أن هوية
المثلي يعوزها الاقتصار على كشف النقاب عنها؛ وذلك لكي تكون مفهومة، وبالمثل تمامًا وضع
مؤرخو «خبرة النساء» أو «خبرة العمال» تلك الهويات والمنطق الكامن خلف الكتابة عنها
خارج دائرة الفحص الدقيق. وبناء على هذا، كما تحاج سكوت، لا تكون سرديات الخبرة
الهامشية غامضة فقط، ولكنها أيضًا — عن غير قصد — تطيل أمد العمليات الخطابية «المنتجة»
للذوات التي تمر بالخبرة.
ما الذي يمكن أن يتبقَّى، بعد نقد سكوت، من مشروع الكتابة والقراءة والدفاع عن سرديات
الخبرة الهامشية؟ استجاب البعض لسكوت من خلال الموافقة على نقدها للسرد الإمبيريقي،
لكنهم يعتبرون أن العديد من سرديات الخبرة الهامشية في الآونة الأخيرة ليست إمبيريقية.
مثلًا المؤرخة الاجتماعية إليني فاريكاس
E. Varikas
تستشهد بتاريخٍ نسوي يسرد خبرة النساء، وكذلك تحلل العمليات الثقافية التي تتم عن طريق
بناء تعريفات الجنوسة، تتحدث فاريكاس عن نقاطٍ كثيرة وهي تبدي ملاحظاتها بشأن نقد سكوت
الذي يغطي تواريخ الخبرة، وأنه «يخاطر بإلقاء الطفل مع مياه الاستحمام» (١٩٩٥،
٩٩).
١٠ وفي سياقٍ مختلف، تجاهر إليزابيث ويد أيضًا باهتمامها ﺑ «إنقاذ» سرديات
معينة للخبرة. تقول ويد إنه على الرغم من الارتباط بين «الخبرة» والتصورات التقليدية
للذات، فإن بعض النسويين مع هذا استخدموا الخبرة «ليس لوضع اليد على حقيقة الذات
الفردية، وإنما كجهدٍ نقدي لفضح التناقضات الأيديولوجية» (
xxv,
1998). توحي مثل هذه الملاحظات بأن سكوت جعلت ثقوب شباكها واسعة
جدًّا، وتعمم الحكم بأن جميع قصص الخبرة وضعية، وتتغاضى عن التفرقة بين النصوص
الإمبيريقية وغير الإمبيريقية.
إنني أتفق مع الجهود الرامية إلى الحدِّ من نطاق الاتهامات التي توجهها سكوت، لتقتصر
على نصوصٍ إمبيريقية معينة. ومع هذا أعتقد أيضًا أن نقد سكوت يمثل تحديًا أبعد لأنصار
سرديات الخبرة الهامشية. تعمِّم سكوت — بسهولة — حكمًا بأن أمثال هذه السرديات جميعها
إمبيريقية، وهذا ما يدحضه ظاهرة إعاقة القراءة الفعالة حتى للنصوص غير الإمبيريقية؛ أي
غياب نظرية في الخبرة مؤاتية لما تعبر عنه سرديات الخبرة الهامشية الأكثر دهاء. ومن دون
مثل هذا الاعتبار للخبرة وللسرد، ستستمر قراءة وتقويم مثل هذه السرديات في حدودٍ
استشكالية هي إمبيريقية.
١١ إذن، يعوزنا بعد نقد سكوت أن نوضح: سرديات الخبرة الهامشية الأكثر تعقيدًا،
كيف تعالج الخبرة على وجه التحديد، فإذا لم تكن هذه السرديات أدلة، فكيف نقرؤها وندافع
عنها من دون الالتجاء إلى «إكمال صورة» إبستمولوجيا إمبيريقية؟
(٢) حدود «الخبرة» بعد-البنيوية
لكي نجيب عن هذه الأسئلة يعوزنا تعيين حدود مفهوم سكوت «بعد البنيوي» للخبرة، لكي
يكون متَّجهًا صوب هذه المسائل. ومما لا شك فيه، أن سكوت تشير إلى مجالاتٍ مثمرة للبحث
التاريخي. وعن طريق إكساب الدلالة للغة بوصفها ميدانًا تخضع فيه المعاني للتداول
وتنبني، فإنها توجِّه انتباهنا نحو الاستعارات، والمقابلات، والاستثناءات التي عن
طريقها تكتسب تمثيلات الخبرة مغزاها (بالنسبة إلى الذوات التي تمرُّ بالخبرة وبالنسبة
إلى المنظِّرين)، وعن طريقها يجري اعتبار بعض الأشياء (دون سواها) كخبرة. وإذا كانت
سكوت تعيننا على اقتفاء خطى «الخبرة» وصولًا إلى بعض العمليات الأيديولوجية الكامنة
وراءها، فإن مقاربتها — على الرغم من ذلك — تصبح محاقة بالإشكاليات حين تؤخذ بوصفها
«تعريفًا ﻟ «الخبرة» التي تمارس فعلها عند المؤرخين» (Scott 1991,
773n). حين تعرِّف سكوت الخبرة بأنها ظاهرة إبستمولوجية قابلة
للتحليل في حدود الآليات البلاغية، فإنها بهذا تغادر زمرة المؤرخين من دون أدنى فكرة
عن
الوجود الذاتي المتميز عن تمثيلات الوجود. والواقع أن سكوت في جهودها ﻟ «رفض الفصل بين
«الخبرة» و«اللغة» (Scott 1991, 793)» تحذف التمييز بين
الاثنتين؛ إذ تتقوض دعائم الخبرة لتهوي في قلب اللغة.
وفي خاتمة المطاف، تشكِّل المقاربة الإمبيريقية للخبرة، ومقاربة سكوت بعد-البنيوية
قطبي موقفين متقابلين. الموقف الإمبيريقي يفترض أننا من خلال الخبرة نستطيع الولوج إلى
واقعٍ يسبق الخطاب، أما الموقف بعد-البنيوي فيفترض أن بحوثنا لا يمكن أن تتجاوز حدود
الخطاب، فكل ما نستطيعه هو تحليل آليات الخطاب. تنتقد سكوت المقاربة الإمبيريقية عن حق.
بَيد أن مقاربتها هي الأخرى لها حدودها، وحين تساوي بين الخبرة وتمثيلات الخبرة، تغفل
الدور الذي تلعبه الخبرة الذاتية في دفع وتشكيل ما يتداخل مع ممارسة التمثيلات.
مشكلات الخبرة بعد-البنيوية مع سكوت تبرز على السطح في محاولتها لإعادة قراءة دلاني
من هذا المنطلق. في القراءة الثانية، تعرِّف تأكيد دور المياه لدِلاني على هُويته
المثلية بأن هذا «حدث خطابي»؛ أي إنه ليس كشف النقاب عن ذاته الحقيقية بل «إبدال تأويل
بآخر» (
Scott 1991, 794). ومهما يكن من أمر هذه النظرية
فإنها لا تتلاءم مع ما تسفر عنه فعلًا عناية سكوت المكثفة بآليات الخطاب. وعلى الرغم
من
أن سكوت لا تضع تنظيرًا لهذا، فإن قراءتها الثانية تشير إلى علاقاتٍ بين خبرة دلاني
وكتابته؛ علاقات مناقضة لذاتها، كلٌّ منها مغذٍّ للآخر. إنها علاقات تجعل هذا النص أكثر
من مجرد نتاج خطابي في خضم النتاجات الخطابية الأخرى. في تلك القراءة نجد تناقضًا لا
حل
له يكشف عن عدم قدرة سكوت على مواجهة مضامين قراءة أخرى لها. من ناحية، تؤكد سكوت أن
خبرة دلاني في «دورة المياه» الخاصة به تنبني في تأويله للحدث. الإشارة إلى دورة المياه
بضوءٍ أزرق قاتم لا تعني شيئًا، وهي تقول إن ما يسميه دلاني رؤيته هو في واقع الأمر
تأويل لانكسارات الضوء الأزرق المتكثرة، وهو تأويل يغذيه خطاب مطروح عن المثلية
الجنسية. من الناحية الأخرى، يتضمَّن تفسيرها مع ذلك خبرة متميزة عن اللغة تدفع دلاني
إلى تفضيل أشكال معينة من الخطاب دون سواها، وأن يستخدم ذلك الخطاب بطريقةٍ إبداعية
واعية بذاتها. فهي تلاحظ؛ مثلًا، أن «صفاء إدراك الذات» عند دلاني مكَّنه من أن يجعل
من
دورة المياه إعادة تأويل لهُويته المثلية (
Scott 1991,
794). علاوة على هذا، تشير سكوت إلى أن خبرة دلاني تدفع إلى
استجواب تصنيفات اجتماعية كانت حاسمة في كتابته الإبداعية؛ في هذه التأملات يجد دلاني
أن «التصنيفات الاجتماعية المتاحة لا تكفي ﻗﺼﺘ[ﻪ]
١٢⋆ (
Scott 1991, 795).
إعادة قراءة سكوت لدلاني تخلِّف وراءها هذه المفارقة: انبنت خبرة دلاني إبَّان تأويله
للخبرة. بَيد أن خبراته وتأملاته في هذه الخبرات كانت دليلًا هاديًا لهذا التأويل. حين
تصف سكوت المذكرات بأنها «منتَج خطابي للمعرفة بالذات»، فإنها تعترف بأحد جانبَي
المفارقة، وهو الدور البنائي للغة. ولكنها تتغاضى عن الخبرة التي مكَّنت دلاني من
استخدام اللغة بالطريقة المعينة التي اتبعها. عدم عناية سكوت بالخبرة الدافعة وانصرافها
عنها دليل على إخفاقها في تنضيد «صفاء الإدراك الذاتي» أو تفسير العلاقة بين صفاء
الإدراك الذاتي لدلاني وبين كتابته. ومن دون الاهتمام بهذه العلاقات، لا تستطيع سكوت
أن
تميز قيمة النص عن التمثيلات الأخرى لهوية المثلي أو للثورة الجنسية؛ فالأمر لا يعدو
أن
يكون «إحلال تأويل محل آخر».
ولئن كانت سكوت تومئ إلى دور الخبرة في إعادة صياغة دلاني لهويته في كتابته، فإنها
لا
تواجه الخبرة بشكلٍ كامل أبدًا؛ وذلك لأن «الخبرة» في نظريتها لا تعدو أن تكون مرآة
لأشكال الخطاب المتاحة (سواء أكان خطابًا سائدًا أو معارضًا)، ولا يوجد ما يتجاوز هذا.
ومن المفارقات أن مثل هذه النظرية تعكس أمر الامتياز الإمبيريقي للخبرة الذاتية ليعلو
على اللغة فقط لكي تستبقي بنيتها أحادية البعد التي توجهها الرؤية. اللفتة الثاقبة
لسكوت هي أن الرؤية ليست اتصالًا مباشرًا بالعالم الخارجي، بل دائمًا تتورط فيها مقولات
الخطاب، غير أنها تظل تعتبر «النظرة» إلى العالم (التي نفهمها الآن بوصفها تنبني
أيديولوجيًّا) هي كل ما في الخبرة. والواقع أن الخبرة عند سكوت هي ما أطلقت عليه هاردنغ
«الوعي التلقائي»: وعي المرء بما لديه من «خبرة فردية» قبل أي تأملٍ لتلك الخبرة، أو
أي
نظرٍ في البنية الاجتماعية لهوية المرء (Harding 1991, 269, 287,
295). وكما تقترح هاردنغ، لا نستطيع أن نقول عن هذه الخبرة إنها
«فورية»؛ لأن النصوص الثقافية المهيمنة تتوغل فيها بأسرها. ومع هذا، هي تلقائية؛ لأنها
خبرة يمر بها المرء كما لو كانت رؤية فورية لحياة المرء وللعالم. الإمبيريقيون يجعلون
هذا الوعي التلقائي المدرك أمرًا طبيعيًّا، وتعترف سكوت بهذا بوصفه قد تشكل قبلًا بفعل
المبادئ الخطابية. وعلى الرغم من هذا، كلاهما — الوعي والخطاب — يفرغ الخبرة من
مضمونها. والحق أن هذا هو ما يجعل سكوت غير معنية بالتمييز بين الخبرة واللغة، في
رؤيتها، لا يمكن أن تكون الخبرة سوى هذا الذي يكون المرء قادرًا على تصوره بفعل
التصنيفات الرمزية؛ وبالتالي قادرًا على أن «يراه».
وكذلك نجد مَعلمًا على تضييق سكوت غير المقصود لمجال الخبرة في إشارتها الواحدة
والوحيدة إلى مجال الخبرة بأعماق الجسد وأحشائه، وبالتالي إهمال هذه الخبرة. ولو كانت
قد تصدَّت لهذا المجال الأخير، لكان لها أن تواجه جوانب من الخبرة، لعلها جوانب لا
تنفصم تمامًا عن اشتباكها باللغة، غير أنها مع هذا جوانب لا تتوسط فيها اللغة، مثلما
تتوسط في الإدراك، بالطريقة نفسها أو بالدرجة نفسها.
١٣ عدم عناية سكوت بالخبرة بأعماق الجسد وأحشائه عرَض من أعراض اختزالها طبقات
عديدة من الخبرة في «رؤية» تلقائية.
مما لا شكَّ فيه أن سكوت عنيت بإمكان «الرؤية بأشكالٍ مختلفة». ومع افتقارها إلى
مفهومٍ للخبرة متميز عن الخطاب، تظل غير قادرة على تفسير المنابع المتجددة لخلق أو دفع
أشكال متعارضة من الخطاب. وبتسطيح الخبرة لتغدو إدراكًا انبنى بفعل الخطاب، لا يمكن
لسكوت إلا الإقرار بطريقتين لا ثالثة لهما لمعالجة الخبرة: إما العرض الإمبيريقي الساذج
للخبرة بوصفها دليلًا، وإما التحليل للغة التي عرض بها الآخرون خبراتهم تحليلًا يُشيئ
اللغة. المشروع النقدي الوحيد هنا هو تحليل المنظِّرين للغة. غير أن قراءة سكوت الخاصة
لدلاني تشير إلى نصٍّ لا يتلاءم مع أيٍّ من هذين التصنيفين، بل هو تحليل يمارس فعله
داخل التوتر بين الكتابة والخبرة ويستجيب بشكلٍ خلاق لهذا التوتر.
(٣) إعادة قراءة الخبرة
إذا كان لنا أن ندرك الإمكانات النقدية للسرديات غير الإمبيريقية للخبرة من قبيل
سردية دلاني، فإننا نحتاج إلى مفهوم مختلف للخبرة، مفهوم لا يعالج الخبرة بوصفها دليلًا
لا يرقى إليه شك؛ ومع هذا يعترف بالخبرة كمصدرٍ للتأمل النقدي. يجب علينا أيضًا أن تتجه
مقاصدنا صوب العلاقات المتبادلة بين الخبرة والكتابة، على ألا نعالجهما كظاهرتين
متناظرتين بسيطتين، بل كظاهرتين تظل كلٌّ منهما معلمة للأخرى. وإني لأجد تخطيطًا عامًّا
لمثل هذا المفهوم للخبرة في تعليقات موهانتي على الكتابات النسوية في العالم الثالث.
موهانتي مثل سكوت، تنتقد سرديات «الخبرة النسائية» التي تفشل في فحص العمليات الثقافية
التي تضفي الجنوسة على الخبرات وعلى الهويات. ولكن في حين ترفض موهانتي التصورات التي
تضفي التجانس على الهوية والالتجاء الوضعي للخبرة، فإنها تعترف بأن أقاصيص الخبرة كانت
حيوية في الواقع التاريخي النسوي في العالم الثالث. وإذ تُعنى موهانتي بالانشغال بتلك
الاتجاهات النسوية، فإنها لا تعمل على إقصاء سرد الخبرة بوصفه «غير صحيح من الناحية
الإبستمولوجية»، وتقترح تحليل الخطاب من حيث إن هذا هو المقاربة النقدية الوحيدة
للخبرة. وبدلًا من إقصاء سرد الخبرة، تتفحَّص موهانتي القوة الكامنة في تلك الأقاصيص
عن
الحياة والشهادات و«التاريخ الآتي من أسفل»، والتي ساهمت في الواقع التاريخي النسوي
الراديكالي.
وعلاوة على تركيز موهانتي على سرديات الخبرة الهامشية الأكثر فاعلية (كمقابلةٍ للخبرة
الأكثر استشكالًا)، فإنها تذهب إلى أبعد مما ذهبت سكوت بشأن جانبين أساسيين؛ أولهما:
لا
تتناول موهانتي دَور الممارسات الخطابية في تشكيل الذاتيات فقط، بل تفحص أيضًا كيف يمكن
تمكين الذوات كمستخدمين للغات ومنتجين للمعرفة، وثانيًا: لا تنظر موهانتي فقط إلى
الهُويات الاجتماعية والمؤسسات الاجتماعية، كالبطريركية، في حدود أشكال الخطاب المحلي،
بل أيضًا تضع هذه الأشكال من الخطاب في موقعها داخل تحليلٍ سياسي-اقتصادي عالمي. إنه
تقديرها لقيمة تأثيرات أشكال الخطاب المحلي، وعن طريق الربط بين هذا وبين عناية
بالفاعلية الخطابية في المنظور العالمي، تحدد موهانتي العلاقات بين الخبرة والكتابة
والنضال النسوي، وهي العلاقات التي أغفلتها سكوت.
أما فيما يتعلق بالعلاقة بين الكتابة ووعي المعارضة؛ مثلًا، فإن سكوت تخبرنا بنصف
الحكاية: تشرح كيف أن الكتابة أدائية للهوية. وإذا كان لنا أن نفهم، مع هذا، كيف تستطيع
النساء، عن قصد وباستراتيجية، أن يُعِدن تأويل حيواتهنَّ، فعلينا أن نفحص أيضًا المصادر
الذاتية لتتبُّع أشكال الخطاب المعارض. بمنتهي الدقة تطرح موهانتي شكل مقدمات هذه
المدخلات الذاتية لإعادة صياغة الهوية كتابة؛ لأنها تطرح لبَّ موضوع العملية الإبداعية
في النصوص الأقوى التي تجعلها مستطيعة ترجمة الخبرة إلى وعيٍ سياسي راديكالي. وإذ تعيد
موهانتي القيمة إلى هذا العمل الإبداعي، فإنها لا تزعم أن خبرة المهمشين لا يعوزها إلا
التعبير عنها أو كشفها، وبدلًا من هذا، تحاج بأن الجهود المبذولة لتذكر وإعادة سرد
خبرات الحياة اليومية للهيمنة وللمقاومة، وإرساء هذه الخبرات في علاقة مع ظواهر تاريخية
أوسع نطاقًا، يمكنها أن تسهم في وعيٍ معارض هو أكثر من مجرد حالة مخالفة
١٤ (
Mohanty 1991a, 34–39).
تحدِّد موهانتي مقال غلوريا آنزالدوا عن «وعي المستيزة» بأنه حالةٌ نموذجية لنوعٍ
راديكالي من إعادة صياغة الذات كتابة، وهو نوع ممكن حين «نعيد النظر ونتذكَّر ونستخدم
علاقاتنا المعيشة كأساسٍ للمعرفة» (Mohanty 1991a, 34).
وعلى الرغم من أن موهانتي تركز على إنجاز آنزالدوا؛ أي على إفصاحها عن وعي المستيزة غير
المزدوج، فإن عمل آنزالدوا ذاتها يبين كيف أن هذا الوعي المستيزي يتشكل وهي تتذكر خبرات
حياتية معينة وتعيد صياغتها كتابة، ولا سيَّما الخبرات الموجعة بالتشوش الثقافي؛ ولأن
آنزالدوا يدفعها «الصراع الداخلي» للكتابة، فإنها تستدعي منابع معاناتها؛ مثلًا أنها
أمريكية؛ ومع هذا ترى بخس قيمة فنونها ولغتها بوصفها «غير أمريكية»، ترى أباها يقضي
نحبه من وطأة العمل كعاملٍ ذراعي في أراضٍ هي أصلًا هندية، وتواجه التحيز لجنس الذكور
من أولئك الذين يشاركونها لغتها وثقافتها (Anzaldúa 1988, 37–39; 1990a,
203–08; 1990b, 377–79, 382, 388). إن توتر آنزالدوا العاطفي آتٍ
من كونها ذات ثقافة ثلاثية في بلدٍ يضع «الأمريكي» في مواجهة «المكسيكي»، وأنها أنثى
في
شعبٍ يضع المرأة بين البشر المنقوصين، وهذا يمثل شهادة على دعوى روزماري هنيسي بأن عدم
تساوق الأيديولوجيات الحاكمة هو «صميم نسيج الواقع المعيش لنساءٍ كثيرات»
(Hennessy 1993b, 27)، وعلى قَدْر ما تستكشف
آنزالدوا الروابط بين محاولاتها الشخصية والتناقض بين الوجود «الأمريكي» المكسيكي»، فلن
تفيد خبراتها فقط كدليلٍ على القمع، بل أيضًا كنقطة انطلاق لإعادة سرد
«مكسيكية/أمريكية» راديكالية؛ مثلًا، سرديتها تصنع إشكالية بناء هُويتها الواصلة من حيث
هي مجرد إضافة ﻟ «الأمريكية»، فهي «أقلية» يتم تعريفها في حدود مجردة، تصور تعددي عن
الاختلاف. ولهذا ينفسح مجال لإعادة توصيف وعيها بالمناطق الحدودية كجزءٍ لا يتجزأ من
أمريكا، جزءٌ يضم معارف لها قيمتها في الاستجابة للصراعات الثقافية.
هذه القراءة الموهانتية تستلهم اقتراحات آنزالدوا بأن خبرة الحياة اليومية لا تتشكل
بفعل خطابات الهيمنة فقط، بل أيضًا تنطوي على عناصر مقاومة لمثل هذه الخطابات، وهي
عناصر حين يتم سردها وفقًا لاستراتيجيةٍ معينة سوف تتحدى الأيديولوجيات التي تعمل على
تطبيع التنظيمات الاجتماعية والهويات. مثل هذا التصور للخبرة-الخبرة، بوصفها موردًا
لمواجهة وإعادة سرد القوى المعقدة التي تكون الخبرة-يتيح لنا أن نعود إلى نصٍّ دلاني
وأن نظفر بتفهمٍ أفضل لما لا تستطيع سكوت أن تصفه إلا وصفًا مبهمًا بأنه «صفاء الإدراك
الذاتي» عند دلاني. وإذا قرأنا بحث دلاني للتوترات التي تمرُّ بخبرته وتدفع إلى
الاستجابات الإبداعية، فسنلاحظ حينئذٍ محاولة دلاني الثابتة لإيصال عدم الارتياح الذي
يمر بخبرته مع التسميات التصنيفية «مثلي»، «أسود»، «فنان»، وفي غضون هذا نتعرف أيضًا
على تأثير تلك المقولات في تشكيل حياته. وفي فقرةٍ لا تختلف عن نبذة آنزالدوا بشأن
الاضطراب الثقافي الذي يمر بخبرتها، يصف دلاني استياءه من اللغة التي تعرف حياته
الجنسية بأنها انحراف ومشكلة «خاصة» (Delany 1988,
248). لا تقتصر استجابته لهذا على تقديم ذات أصيلة سابقة على الخطاب بل
يطرح أيضًا مقولات ملائمة للهوية تبلور الإشكاليات في تلك المقولات التي أصبحت منزلتها
طبيعية ويجري «التسليم» بدلالتها.
تغدو هذه المقاربة درامية بفعل مقابلة أجراها دلاني كمريضٍ نفسي، يبدأ دلاني بالإقرار
بأنه مثلي وأسود ومتزوج وكاتب. ومع هذا يقاوم جعل هذه المقولات تصنيفًا له، ويقاوم طرح
حلول سهلة للطريقة التي ينبغي أن يعامل بها؛ لأنه في سرده الواثق لمنابع قلقه يقاطع
منطق أشكال الخطاب الراهن حول المثلية: مصاعب استحضار علاقاته المثلية في بنياتٍ
اجتماعية تحظى باتفاقٍ أعلى، مشكلة التوازن بين هذه العلاقات وبين زواجه (وقد كان هذا
الزواج، بالنسبة إلى مارلين زوجته، هو المهرب الوحيد المتاح لها لتنفذ من الوصاية
القانونية لأمها)، والتآليف المطلوبة لكي يصنع معيشته من فعل ما يود أن يفعله، وما عليه
ﮐ راوٍ لما يكتبه لمستمعٍ أبيض نزاع إلى الجنس الآخر (Delany 1988,
249). لا يمكن شرح هذه المشكلات عن طريق وصف خصائص جوانية من قبيل
«مثليته». الأحرى أنها دالة على علاقات داني التعددية؛ إذ إن هذه العلاقات تكيفها
وتقيدها المؤسسات الاجتماعية والسياسية التي تحكم الحياة الجنسية والحياة
الاقتصادية.
إذن، يتحدى دلاني من خلال روايته لقصته دعائم أساسية في خطاباتنا الجنسية، ومن بينها
جعل الأدوار الجنسية ذات ماهيات ثابتة وتقاسيم حياتنا الجنسية والاقتصادية. مقابلة زلات
الطبيب الثابتة، ويسميه «طبيب دلاني»، توضح كيف أن هذا الفعل يمثل تمكينًا لدلاني بوصفه
فاعلًا وبوصفه عارفًا. دلاني مثل آنزالدوا، يفصح عن أن إعادة سرد قصة المرء التي تكمن
وراءها خبرة مؤسسة بهذه الطريقة لا تتطلب معرفة كاملة بالذات، أو تحليلًا اجتماعيًّا
شاملًا. إنها لا تتطلب إلا الشجاعة على مواجهة «القوى التي ترمي بثقلها على خيارات
المرء وأفعاله»، والمبادرة بالإسهام في الحدود التي تتمثل فيها هذه القوى.
١٥
وتساعدنا شروح موهانتي للوعي المعارض على التنظير لهذه الفاعلية الخطابية المدفوعة
بالخبرة. وفضلًا عن هذا، تفك موهانتي الاشتباك بين مفهوم الخبرة وبين التصورات
الاستشكالية للفرد المنفصل ذي الخصوصية، وفي محاولة سكوت لتفادي تطبيع الفرد المنعزل،
فإنها تتجنب أي سردٍ للخبرة. على أي حال، تقترح موهانتي أن الطريقة البارعة لاندراج
الصراعات الشخصية في سياقاتٍ بفعل السرديات يمكنها أن تسهم في الوعي الجمعي الذي يؤدي
إلى إزاحة التعارض بين الحياة الخاصة والحياة العامة. مثلًا، تصف موهانتي كيف أن أقاصيص
الحياة في جامايكا التي جمعتها أونر فورد سميث H. F.
Smith تغرس وعيًا سياسيًّا، من خلال سرد أفعال الحياة اليومية
للمقاومة والترميز لها في صورٍ شعرية. بهذه الطريقة تمنح الأقاصيص مجتمعها المحلي
أشكالًا تصورية وسردية لكي تذكر تاريخًا من النضال خضع للرقابة في السرديات
الاستعمارية، وهو تاريخ ما فعله النضال في «وقت السلم» وفي الحياة اليومية. إنه تاريخٌ
يقاوم المفاهيم المسلم بها عن الفعل السياسي (Mohanty 1991a,
35). لا يقتصر أمر مثل هذه النصوص على مجرد إعلاء ما هو شخصي فوق
ما هو سياسي، الأحرى أنها تعيد صياغة «الخبرة الشخصية» كتابة بوصفها جزءًا من نضالٍ
مشترك، وفي غضون هذا تسهم مثل هذه النصوص في الذاكرة الجمعية التي تشد أزر المجتمع
المحلي السياسي.
على هذا النحو توعز تعليقات موهانتي بأن المعرفة النقدية والوعي السياسي لا ينبعان
بشكلٍ أوتوماتيكي من المعيشة في موضعٍ اجتماعي مهمش، إنهما لا يتصاعدان إلا مع النضال
ضد القهر، عندما يشتمل هذا النضال على فعل التذكر وإعادة سرد خبرات مبهمة بشأن مقاومة
قواعد اجتماعية وثقافية، أو التوتر معها. ليست مثل هذه الخبرات شفيفة أو سابقة على
اللغة؛ لأنها تحوي تناقضات وتتشكل في رد فعل على صورٍ شعرية وأقاصيص تسلم بها الثقافة.
ومن ثم، ليس سرد مثل هذه الخبرة محض تقرير عن وعيٍ تلقائي. بل على العكس. إن سردها
ينطوي على إعادة النظر والإفصاح مجددًا عن ذكرياتٍ غامضة، كثيرًا ما تكون موجعة، وعلى
إقامة الاتصالات بين تلك الذكريات وبين الكفاح الجمعي. استبصار موهانتي هو أن هذه
العملية الإبداعية الشاقة لتذكر خبرة معيشة وإعادة معايشتها وإعادة تأويلها في سياقٍ
جمعي —وليس مجرد «إحلال تأويل محل آخر» — إنما هي عملية تنقل الخبرة، وتمكن المرء من
أن
يطالب بالذاتية وأن يحدد أشكال الكفاح المعارضة.
(٤) الخبرة و«الواقع» العابر للقوميات
منظور موهانتي العولمي حاسم أيضًا في تجاوزه لما ذهبت إليه سكوت من اختزالٍ للخبرة
لتكون نتيجة للخطاب. حين تعرِّف سكوت الخبرة بأنها ظاهرةٌ إبستمولوجية تتشكَّل بفعل
ممارسات الخطاب المحلي، فإنها تجرِّد ممارسات المعرفة من المنظومات الاقتصادية
والثقافية الأوسع التي تدور فيها المعرفة.
١٦ من المؤكد أن سكوت تقصد إلى «تحديد موقع اللغة وإدراجها في سياق»، وتعترف
أحيانًا بأن الممارسات الخطابية تدعم «واقعًا» فائقًا للخطاب وتتدعَّم به (٧٩٥، ٧٨٣،
١٩٩١). وعلى أي حال، تتوقف سكوت هنيهةً لتعين ماذا يكونه أن «نحدد وضع» لغة ما في
علاقتها ﺑ «واقع» وأن «ندرجها في سياق هذا الواقع»، أو ندرجها في تفسير سكوت لكل ما
تكتله تحت عنوان واقع. وهي إذ تترك هذا العالم المتجاوز للخطاب غامضًا، فإنها تستطيع
استبعاد أي محاولة لربط الخبرة أو الوعي بموضعٍ اجتماعي تحدَّدت بنيته
١٧ تستبعدها بوصفها «وضعية». وعلى العكس من هذا، تقرأ موهانتي نصوصًا من حيث
علاقتها بأشكال من الكفاح مرَّت بالخبرة وتضع هذه الأشكال الكفاحية في موضعها داخل
تحليلٍ عولمي. إن «النسوية العابرة للقوميات» عند موهانتي ليست مجرد مذهب دولي يأخذ في
اعتباره الاختلافات بين النساء بمغزًى مجرد للتعددية ويفترض بطريركية تعني شيئًا واحدًا
للنساء جميعًا. وبدلًا من هذا، تخاطب العولمية عند موهانتي العمليات الاجتماعية
والسياسية العينية التي تعبر الحدود القومية وتؤثر في مركب من العلاقات التراتبية بين
وداخل مجتمعات محلية تعينت من الناحية التاريخية. من هذا المنطلق، ترى موهانتي أن
الاقتصاد العولمي، بما فيه من هيئاتٍ عابرة للقوميات، وقابلية رأس المال للانتقال،
وتقسيم دولي للعمل، قد فاقم من أمر التراتبات الهرمية للعرق والطبقة والجنس والجنوسة
(حتى إن كان لها تراتبات أخرى أبعد وأكثر تعقيدًا). ترى موهانتي أن العلاقات العولمية
للعمل والملكية وتحكم الدولة (كما تبين نصوص آنزالدوا ودلاني) تؤثر تأثيرًا عميقًا على
خيارات الحياة اليومية للناس ومصالحهم؛ حتى لو كانت هذه العلاقات لا يراها الناس وحتى
لو كانت لا تحدد الطبيعة الماهوية للناس.
وأيضًا جادل منظِّرون نسويون آخرون، من بينهم هاردنغ وهنيسي ودروثي سميث، مجادلة
قوية
الحجَّة للاعتراف بمركب للتهميش، تحدد من حيث البنية وللتعريف بإمكانية جذرية لدراسة
الخبرة المهمشة — ولو حتى في سياق هويَّات شكَّلها الخطاب. أولئك المنظِّرون مثل
موهانتي يرفعون قيمة سرديات الخبرة الهامشية؛ ليس لأن الخبرة تزوِّدنا بمنفذٍ مباشر نحو
الحقيقة، أو (من الحد الأقصى المقابل)؛ لأن «اللغة لهي في موقع المشرِّع للتاريخ»
(أضفنا تأكيدًا، Scott 1991, 793)؛ بل لأن الكتابة التي
تنحو نحو الخبرة تطرح في قلب المناقشات العامة تلك التساؤلات والاهتمامات المستبعدة في
الأيديولوجيات المهيمنة، وهي أيديولوجيات تدعمها التراتبات الهرمية السياسية
والاقتصادية، وتتدعم بها.
تطوير موهانتي لتلك الحجَّة يقدِّم استجابة فعالة بشكلٍ خاص لنقد سكوت. وعن طريق جعل
العمل الإبداعي دالًّا على المطلوب، العمل الإبداعي الذي يجعل الخبرة متاحة للنقاش، وعن
طريق إرساء وضع هذا العمل داخل دراستها للمؤسسات الاجتماعية العابرة للحدود، تبيِّن
موهانتي كيف أن السرديات التي نحسبها في عداد الخبرات المتميزة تاريخيًّا للهيمنة
وللمقاومة لا يعوزها (كما تزعم سكوت) أن تقتصر على أن تضيف إلى سردياتٍ معطاة فئة جديدة
من الموضوعات المنتجة أيديولوجيًّا. بل على العكس، مثل هذه الكتابة يمكن أن تساعد
النساء على مواجهة أشكال متعددة من القمع — أشكال من القمع تعززها قوى منظمة على مستوى
العالم — تساعدهنَّ على تطوير استبصارات وفاعلية ضروريتين لمقاومة تلك القوى.
مثلًا، تحليل موهانتي، برفقة جاكي ألكسندر، ﻟ «البُعد التربوي للاستعمارية» يشير
إلى
دورٍ حاسم للكتابة ذات المنحى نحو الخبرة في مقاومة الاستعمارية الجديدة. تبعًا
لموهانتي وألكسندر، ممارسات المعرفة تدعم علاقات استعبادية عن طريق تمثل أناس معينين
بطريقةٍ تُشَيِّئهم وتحطُّ من آدميتهم (Alexander and Mohanty 1997,
xxviii). وعلى وجه التعيين، تميل مثل هذه الممارسات المعرفية إلى
أن ترتد نساء العالم الثالث ليكنَّ ضحيات أو تابعات، وهذا يمكِّن الممارسات السياسية
والثقافية من مزاولة الهيمنة على أجساد هؤلاء النساء وعلى منزعهنَّ الجنسي
(Alexander and Mohanty 1997, xxiii-xxiv). تشارك
المنح الدراسية (حتى لو كان عن غير قصد) في هذه «الاستعمارية الخطابية» حين يدعي سلطة
الحديث باسم فئةٍ معينة، وتقمع عدم التجانس في هذه الفئة لكي تجعل البشر مطابقين
لتصنيفاتٍ اجتماعية دقيقة أنيقة، أو تداري التاريخ والسياسات الثاوية في تعريف هوية
الفئة (Mohanty 1991b, 52–54). ويبقى هذا الاستعمار
الثقافي، حتى بعد تفكك الاستعمار السياسي، ليمنع النسويين الإنجليز والقوميين المناهضين
للاستعمارية ونساء العالم الثالث أنفسهن من الاعتراف بالقوة الفاعلة للنساء. في هذا
السياق، نجد فرضية الوعي بالذات لنساء العالم الثالث التي ينبع عنها مسئوليتهنَّ عن
كيفية تمثيل هوياتهنَّ وتاريخهنَّ، وإن هذا لفعل من الأفعال السياسية، وهو فعل — بعيدًا
عن أي وهم — ضروري بالنسبة إليهنَّ ليبدأن في تعريف شروط حيواتهنَّ الخاصة.
أما استبصار موهانتي الأبعد فهو أن سرديات الخبرة الهامشية يمكن أن تكون أداة فعَّالة
لنساء العالم الثالث؛ لتأكيد ما يقمن به من فاعليةٍ سياسية ومعرفية — حتى حين تحدي
تصورات التنوير عن الذات الموحدة المستقلة. هذه التصورات بالنسبة إلى موهانتي خبيثة
لأنها تتجاهل الطرق التي تتشكَّل بها ذاتية الأنا داخل علاقات اجتماعية متعددة والقوة
الفاعلة لا تغتنم إلا من خلال النضال السياسي. وعلى أي حال تختلف موهانتي عن سكوت في
أنها لا تقتصر على كشف حقيقة مفاهيم الحداثيين للقوة الفاعلة، بل تستكشف كيف يمكن إعادة
تعريف القوة النسوية الفاعلة في العالم الثالث في إطار الائتلافات التي تهب القدرة على
التمكين التاريخي الفعلي. وفي السياق الراهن لتراتبات القوة العابرة للقوميات، كما تزعم
موهانتي، تتطلب القوة السياسية الفعالة تحالفات عابرة للطبقة والعرق والحدود القومية
(Mohanty 1991a, 2–4; Alexander and Mohanty 1997, xvii-xx,
xl-xli). وفضلًا عن هذا، إذا رُمنا إعادة النظر في ذاتية الأنا في
هذه الحدود التعددية الجمعية، لا نستطيع الاقتصار على إقرار هويات متشظية، يعوزنا أن
نأخذ في الحسبان صور النضال المتعينة تاريخيًّا للبشر المهمشين، وتأخذ موهانتي في
الاعتبار إعادة سرد «المستيزة» عند آنزالدوا كمثالٍ نموذجي لهوية «تولدت في التاريخ وفي
الجغرافيا» (Mohanty 1991a, 37). وعي المستيزة عند
آنزالدوا يستجيب للموقف المعين للمكسيكيين ذوي الدماء المختلطة الذين يحيون في أراضٍ
كانت إسبانيا تحتلها في يومٍ من الأيام، ثم سلبتها الولايات المتحدة من المكسيك فيما
بعدُ؛ ولأن وعي المستيزية ينشأ عن الانشغال بهذا التاريخ — وهو تاريخ لتواطؤٍ ثقافي،
لاختلاط الجينات، لانحيازاتٍ وإجحاف داخل مجتمعات محلية كانت هي ذاتها ضحية للانحياز
والإجحاف، وتاريخ لأشكالٍ متداخلة من الكفاح — فإنه ينطوي على هويةٍ قائمة على أهدافٍ
مشتركة، بدلًا من أن تقوم على ماهيةٍ مشتركة (Anzaldúa 1990b,
85–380). هوية المستيزية المتجذرة ماديًّا، تمكنها من العمل في
تحالفٍ مع سكان أمريكا الأصليين ومع المكسيكيات والأمريكيات الأفارقة، بل حتى مع الذكور
والبيض الذين يسيرون على خطى «ريادتنا» (Anzaldúa 1990b,
384).
حين تصدر كتابات إعادة صياغة الهوية عن خبرةٍ متجذرة وتتحدَّى الاستعمارية الخطابية،
وتوعز بأشكالٍ من التضامن عابر للحدود وللثقافات، فإن هذه السرديات تؤكد القدرة
الاستراتيجية على تعيين المواقف الاجتماعية واحتوائها والتبديل بينها. وإذ تفعل هذا،
فإنها لا تعود مجرد إعادة سرد الماضي، بل أيضًا تحدد الموضع التاريخي الذي ينطلق منه
مخيال بمستقبلٍ مختلف. ربما نستطيع القول إن الأقاصيص التي تأخذ في حسبانها أن تنشر
التناقض أمام العامة، أن تنشر جوانب ظلت حتى الوقت المعني مسكوتًا عنها، إنما هي أقاصيص
«بين الماضي والمستقبل»، وبالمعنى الذي تقصده أرندت: أقاصيص تقف على أرضيةٍ في العالم
الذي ورثناه عن الماضي، غير أنها بتقديمها منظورًا إبداعيًّا مستجدًّا للماضي، إنما
تُثري خبرتنا بالحاضر، وتقاطع بهذا زخمًا يبدو منطلقًا من التاريخ، وتمكننا من تصور
بدائل للمستقبل والعمل المتجه صوبها.
١٨ على هذا النحو تربط آنزالدوا بين وعي المستيزية وإعادة كتابة أسطورة
التقدم، حيث لا نفهم التقدم بلغة النقاء العرقي، بل بلغة الشمولية
(
1990b, 377). وعلى الرغم من أنها رؤيةٌ خيالية،
فإنها ليست محض يوتوبيا؛ لأنها تبدأ من صراعاتها اليومية بوصفها سحاقية متعددة اللغات
ومن التشيكانو.
الخاتمة: أن نتعلَّم من الخبرة
إذ ألقي نظرة على هذا التحليل، فإني أحيي تصوُّر موهانتي الملهم للخبرة. إنها الخبرة
التي تيسِّر أشكالًا متعارضة من الخطاب تتألف من التوترات بين الخبرة واللغة، التوترات
التي تحمل أعباءها الذات بوصفها تناقضات داخل الخبرة-تناقضات بين صورٍ لإدراك العالم
تشكلت أيديولوجيًّا وردود الأفعال إزاء هذه التصورات التي يجري تحمل أعبائها على
مستوياتٍ نفسية وجسدية عديدة. «عدم ارتياح» دلاني إزاء الأدوار الجنسية، يشبه «الاضطراب
النفسي» عند آنزالدوا، حيث يمكن للخبرة الجسدية أن تضاهي الإدراك الذي ينتظم بفعل
الخطاب حين يتم تشكيلها في علاقةٍ بهذا الأخير. لسنا في حاجةٍ إلى التشدد في تعداد أو
إعطاء الأولوية لهذه الطبقات من الخبرة لكي ندرك كثافة الخبرة وتعدُّديتها والتوتر
داخلها على وجه الخصوص، وأن هذا يجعل من الخبرة منبعًا لأن «نرى» بشكلٍ مختلف. إن
السرديات التي تأخذ في حسبانها هذه التوترات ليست تقريرات عن الوعي التلقائي، بل هي صور
إبداعية وأشكال سردية لإعادة المجاهرة بالخبرة بتلك الطريقة التي تجعل الصور المروية
تمكِّن الكاتب من مواجهة هذه التوترات التي مرت بالخبرة بشكلٍ بناء أكثر.
هذا التفسير للخبرة يتيح للقراء أن يتعلموا من النصوص التي تنبع أصولها من الخبرة،
بطريقةٍ تحول دونها الإبستمولوجيتان الإمبيريقية وبعد-البنيوية على السواء. إذا سمح
منظورٌ إمبيريقي للقرَّاء بأن يتصدَّوا لهاتيك النصوص فقط بغية جمع معطيات من داخل ما
هو معطًى من نماذج إرشادية للسرديات، فسوف تقتصر مداخلة سكوت على تحليلٍ سلطوي لتلك
النماذج الإرشادية. وعلى العكس من هذا، نجد القراءة التي تغتذي بتصورات موهانتي للخبرة
تستطيع بلوغ العلاقات بين النصوص وبين الخبرة الخاصة بالقارئ، ونستطيع على هذا أن نسمع
النص يهيب بإعادة النظر في الأقاصيص التي نحكيها عن عوالمنا الخاصة بنا.
مثلًا، إذا قرأنا نصًّا بوصفه استجابة إبداعية لتوتراتٍ مرَّت بالخبرة ولها موضعها
العولمي، فسوف نستطيع — حينئذٍ — أن نواجه النصَّ ليس بوصفه تمثيلًا ولا بوصفه خيالًا
أدبيًّا، بل بوصفه دعوة لإعادة النظر في العالم التاريخي من منظور تلك السرديات. وفي
الواقع، نستطيع التعرف على مثل هذا النص بوصفه وسيلة تعين على ما أسمته هاردنغ «التفكير
من موقع حيوات الآخرين»؛ أي تأويل العالم في ضوء استبصارات أولئك الذين يناضلون ضد
القهر أو الاستغلال (١٩٩١م الفصول ٧، ١٠، ١١). يشير تحليل موهانتي إلى أهمية المصادر
السرية التي أنتجها الإبداع في هذا المشروع؛ لأنه إذا كانت الخبرة معقدة ومتناقضة، ولا
نستطيع صبَّها في تصوراتٍ إلا من خلال العمل السردي، فسوف نستطيع أن نخرج بمغزى
المنظورات المختلفة في العالم التاريخي فقط إذا استطعنا أن نتخيل طرقًا مختلفة لتنظيم
الخبرة، وهي طرق قد تكون غريبة عن أشكال السرد الأساسية في النصوص الثقافية المهيمنة.
قصص الحياة تلك، التي تناضل للإفصاح عن التناقضات التي تمر بالخبرة وصبها في سياق،
تستطيع أن تزوِّدنا بصورٍ شعرية وقوالب سردية تعين القراء على رؤية العالم نفسه من
بؤرةٍ مختلفة، وهذا يعني أن نرى عالمهم المألوف بحساسيةٍ أعلى للعناصر التي لا تُفهم
داخل تاريخ محكوم بالقوة المسيطرة.
حين نعترف بأقاصيص الخبرة بوصفها مصادر لإعادة تنظيم الخبرة، فسوف نستطيع حينئذٍ أن
نتفادى تقارير «الإنسان الآلي» عن رؤى الآخرين، تلك التي صبَّت عليها هاردنغ جام النقد
(١٩٩١، ٢٩١)، ونستطيع مقاربة تلك الرؤى بوصفها أطرًا للعمل تيسر سبل استكشافنا نحن
للعالم من منظورٍ مختلف، لا بدَّ أن نتحمل فيه المسئولية بشأن أطر العمل التي اخترنا
أن
نستخدمها. وعطفًا على هذا، حين نضع تلك السرديات في عالم السيرورات العابرة للثقافات
والعابرة للحدود، سوف ندرك أن اعتبار مكان حيواتنا نحن في داخل سرديات الآخرين إنما هو
مسألة ملحَّة. أقصوصة آنزالدوا؛ مثلًا، لا تكون في مقاربةٍ نسوية عولمية مجرد تأكيدات
لاستبصارات وعي المستيزية؛ إنها أيضًا تتحدى القراء الذين يستكنون إلى ثقافةٍ مهيمنة،
وذلك لكي يعيدوا النظر في هوياتهم في ضوء سرديتها، وهي سردية تحدِّد وضع
الأنجلو-أمريكيين في علاقاتهم مع الأمريكيين الآخرين والتزاماتهم تجاههم، التي تعيَّنت
بفعل التاريخ. ومع القراءة كمصدرٍ لاستكشاف هذا المنظور، لا يكون نص آنزالدوا خاتمة
المطاف، بل نقطة انطلاق القراء لمتابعة فهم أعمق لذلك التاريخ وتلك الالتزامات.
حين نفهم سرديةً ما كمحاولة لحسبان التوترات في داخل الخبرة، التوترات التي تعكس
أنواعًا من القوة الفاعلة، أو من المجتمع المحلي أو من الوعي الذي يأبى الإفصاح عن ذاته
في خطابٍ محكوم بالسلطة، فلسوف نرى أيضًا أن النص لا يعرض معطياتٍ واضحة بذاتها، بل فقط
يلمع إلى ظواهر مبتسرة. مع القراءة في ضوء هذا، يهيب بنا النص أن نسهم في استكشاف معنى
تلك الظواهر. حتى مشهد دورة المياه لدِلاني يدعو قرَّاءه إلى مثل هذه المساهمة وييسر
سبلها. وإذ تنقد سكوت الوضعية المزعومة في نص دِلاني، تستشهد بإقراره أن الثورة الجنسية
الحقيقية تتطلب «تغلغل لغة واضحة فصيحة إلى داخل المناطق الهامشية التي نستكشفها في
عالم الجنس الإنساني» (Delany 1988, 175). وعلى أي حال،
لا تتَّجه قراءة سكوت الأولى، ولا قراءتها الثانية، صوب الخاصة المميزة لهذا «التغلغل».
وليس «تغلغل» دلاني تقريرًا واقعيًّا، بل على العكس هو إفصاح شخصي صريح وإبداعي عن
شظيةٍ من الخبرة. مثلًا، بتحري خطى الكلمات المستشهَد بها آنفًا، نجد دلاني يسمي ما
يرويه عن دورة المياه «شذرة من لقاء». إنه لا يضع تقريرًا دقيقًا عما يراه أو يفعله،
بل
فقط يشير إلى المشهد (مثلًا، فورة من مائة أو أكثر)، ويخبرنا بأنه «مضى قدمًا في
غمارها».
وبقدر ما نستجيب لأسلوب دِلاني الاستفزازي ذي النهايات المفتوحة، فما نجده ليس مجرد
معلومات، بل تلقينات لتخيل عالم دورة المياه، ونوعية أسلوب الحياة والعلاقات العابرة
لما هو شخصي التي تغدو ممكنة بفعل مؤسسات المثلي المنفتحة. أما القراء المستعينون
بسردية دلاني، فحين تواتيهم الشجاعة لأن يأخذوا بعين الاعتبار ظواهر تتحدَّى التعارض
البسيط بين قاعدة النزوع إلى الجنس الآخر أو الفصل البيِّن بين مجالَي «الخاص»
و«العام»، فسوف نغدو على وعيٍ أكثر بالانبناءات الاجتماعية ﻟ «الواقعي» و«الطبيعي»،
وعلى رضا أقل عن الأدوار الجنسية «المسلم بها». وبذلك نكتسب فضاءً خياليًّا لتسجيل عدم
رضانا عن نماذج إرشادية (باراديمات) للهوية الجنسية ولسرد أقاصيص إضافية
تتحداها.
وأخيرًا، حين نقرأ سرديةً بوصفها استجابة لتوتراتٍ بين الخبرة واللغة، نستطيع أن نميز
التوترات والالتباسات داخل النص ذاته (على سبيل المثال، ابتعاد آنزالدوا عن
«الأمريكية-المكسيكية»، واحتواؤها إياها في الآن نفسه). تعكس هذه التوترات كفاح المؤلفة
لمدِّ نطاق الاستخدامات المعتادة في لغتها أو تحديها لكي تأخذ في الحسبان ظواهر تستعصي
على منطقها. على هذا النحو، تشير تلك التوترات إلى طرقٍ تجعل لغتنا عرضة لمزيدٍ من
الاضطراب أو التعطيل. وتشير سكوت عن حقٍّ إلى أن الاضطراب إمكانية مفطورة في الخطاب؛
لأن أي خطابٍ هو غير محدد وتصارعه صور أخرى من الخطاب (١٩٩١، ٧٩١). وعلى أي حال، يجب
علينا، لتحقيق هذا التعطيل، أن نعترف بأن ما يدفع إلى التغيرات الخطابية ليس الخطاب
ذاته، بل خبرتنا بالخطاب وحسباننا لتلك الخبرة. إن عدم الارتياح للخطاب يتجاوز ما يتم
تمثيله في مقولاتٍ خطابية معطاة. إنه يتطرق إلى اللغة فقط من خلال النضال، أو من خلال
إعادة النظر وتذكر التوترات بين خبرتنا ولغتنا المنتقاة، وفعل الإفصاح عن هذا باستعمال
لغة ضد التيار.
تؤكد موهانتي أن «المسألة ليست «تسجيل» تاريخ نضال المرء، أو وعيه، وإنما كيف يتم
تسجيلهما؟ وأن الطريقة التي نقرأ بها ونتلقى مثل هذه السجلات التاريخية وننشرها، ذات
أهمية بالغة» (1991a, 34). وفي ضوء تحليلات موهانتي،
اقترح واحدًا من الخطوط التي ترشدنا إلى القراءة المسئولة لأقاصيص الخبرة: ينبغي ألا
نردها إلى الدليل الإمبيريقي، ولا إلى مجرد بناءات بلاغية، بل يجب أن نبلغ الطرق التي
تجعلها تساعدنا في تبين التناقضات في خبرتنا نحن، ويمكنها على هذا أن تيسر لنا سبلًا
للقول وللكتابة المعارضين أكثر وأكثر.
هوامش