الفصل التاسع
كل شيء في الأسرة: تقاطعات الجنوسة والعرق والقومية١
باتريشيا هل كولينز
المنازل تهَب فضاء الخصوصية والأمن للأسر وللأعراف وللدول القومية.
باتريشيا هل كولينز
في تسعينيات القرن العشرين، باتت التقاطعية مقصدًا جوهريًّا في دراساتٍ مهمة، وبدلًا
من
دراسة الجنوسة والعرق والطبقة والقومية بوصفها تراتبيَّات هرمية متمايزة، فإن التقاطعية
تدرس كيفية الاعتماد المتبادل بينها في بنياتها، وأنا أستكشف هنا كيف يكون مثال الأسرة
التقليدي نموذجًا ممتازًا للتقاطعية في الولايات المتحدة. كل بُعد من أبعاده الستة يظهر
روابط معينة بين الأسرة، من حيث هي منظومة جنوسية وتنظيم اجتماعي، وبين أفكارٍ وممارسات
عنصرية، وبنيات الهوية القومية للولايات المتحدة.
عندما استخدم نائب الرئيس الأمريكي دان كويل (D. Quayle)
مصطلح «قيم الأسرة» قرب نهايات خطابه في حملةٍ لجمع التبرعات السياسية في العام ١٩٩٢م،
بدا
كأنه لامس عصبًا قوميًّا. وفي أعقاب كلمة كويل، ظهر في الصحافة الشعبية ما يقرب من ثلاثمائة
مقال تستخدم مصطلح «قيم الأسرة» في عناوينها. وعلى الرغم من المدى الواسع للمنظورات
السياسية التي يضمرها تعبير «قيم الأسرة»، يظل شيئًا واحدًا واضحًا جليًّا؛ ألا وهو أن
«قيم
الأسرة» أيًّا كان تعريفها، بدت محورية في جودة الحياة في الوطن. لقد مثَّل مصطلح «قيم
الأسرة» محك الذهب، وتعبيرًا يلامس أعمق المشاعر بشأن مغزى الأفكار التي تدور حول الأسرة.
إن لم يكن يلامس الأسر الفعلية ذاتها في الولايات المتحدة.
وفي سويداء المساجلات حول «قيم الأسرة»، تقبع صورة مثال الأسرة التقليدي. لقد تشكلت
الأسر
المثالية من خلال الجمع بين الروابط الزواجية وروابط الدم، وهي تتكوَّن من زوجين من الجنسين
المختلفين أنجبا أطفالهما البيولوجيين. مثل هذه الأسر لها بنية سلطة محددة، أي يرأسها
أب
يتكسَّب دخلًا مناسبًا للأسرة، وزوجة تقبع في المنزل وأطفال. وأولئك الذين يؤمثلون الأسرة
التقليدية باعتبارها ملاذًا خاصًّا في خضمِّ العالم العام يرون الأسرة تتماسك بفعل وشائج
وجدانية أولية من الحب والرعاية. ثمة افتراض بتقسيمٍ للعمل على أساس الجنس ثابت نسبيًّا،
حيث تُحدد أدوار النساء بشكلٍ أولي داخل المنزل بينما أدوار الرجال في عالم العمل العام.
مع
التسليم بهذا نجد أن مثال الأسرة التقليدي يفترض أيضًا انفصالًا بين مجال العمل ومجال
الأسرة. وإذ يترسم هذا التعريف بوصفه تنظيمًا طبيعيًّا أو بيولوجيًّا قائمًا على أساس
الجاذبية بين الجنسين، فإن هذه الأسرة بنمطها الواحدي المتجانس تتوشج مع بنية الحكومة؛
فالانتظام ليس حول جوهرٍ بيولوجي، بل حول ما يحظى بمباركةٍ رسمية، حيث الزواج بين اثنين،
ذكر وأنثى، لا يؤكد مشروعية بنية الأسرة ذاتها فحسب، بل أيضًا مشروعية الأطفال الذين
يولدون
داخل هذه الأسرة (
Andersen 1991).
٢
وتكمن قوة مثال الأسرة التقليدي هذا في وظيفته المزدوجة كبناءٍ أيديولوجي وكمبدأ أساسي
للتنظيم الاجتماعي. كأيديولوجيا، نجد الخطاب البياني المرتبط بمثال الأسرة التقليدي يوفر
إطارًا تأويليًّا يستوعب مجالًا ممتدًّا من المعاني، ومثلما نجد الاستراتيجية المشتركة
بين
الحركات المحافظة من كلِّ الأنماط هي إعادة صياغة خطاب الأسرة البياني من أجل الأجندات
السياسية الخاصة بهم، فإن ما يزعمونه من وحدةٍ وتماسك تتَّسم بهما الأسرة التقليدية يستحضر
في كثيرٍ من الأحيان كرمزٍ لتطلعات الفئات المضطهدة. على سبيل المثال، اليمين المحافظ
والقوميون السود على حدٍّ سواء يعتمد الطرفان كلاهما على لغة الأسرة من أجل رفع أسهم
أجنداتهم السياسية.
وفضلًا عن هذا، يعلو مغزى مثال الأسرة التقليدي على الأيديولوجيا؛ لأن الأسرة تشكِّل
مبدأً أساسيًّا للتنظيم الاجتماعي. في الولايات المتحدة، يغلب أن ينبني تفهُّم المؤسسات
الاجتماعية والسياسات الاجتماعية من خلال خطاب الأسرة البياني. تشكل الأسرة مواقع أولية
للانتماء إلى جماعاتٍ عديدة: الانتماء للأسرة باعتبارها كيانًا بيولوجيًّا مفترضًا،
الانتماء لما هو قابل للتحديد الجغرافي، الانتماء للأحياء المعزولة عرقيًّا التي يجري
تصورها في صورة أسر، وصولًا إلى ما يسمَّى بالأسر العرقية المقننة في العلم وفي القانون،
ووصولًا إلى وضع الولايات المتحدة كدولة-قومية يجري تصورها كأسرة وطنية.
وكذلك تتداخل أهمية الأسرة مع النموذج الإرشادي الناشئ للتقاطعية. وبالبناء على تقليدٍ
مأخوذ من دراسة النساء السود، اجتذبت التقاطعية اهتمامًا مهيبًا من الباحثين إبَّان
التسعينيات.
٣ وخلافًا لدراسات الجنوسة والعرق والطبقة والأمة، من حيث هي منظومات منفصلة
للقمع، تستكشف التقاطعية كيف يمكن لهذه المنظومات أن تبني بعضها البعض، أو بتعبير عالم
الاجتماع البريطاني الأسود ستيوارت هول (
S. Hall) كيف
«تتراكب» بعضها مع بعض (
Slack 1996). ومع الدراسات الراهنة
تنتشر تحليلاتٌ تقاطعية توعز بأن بعض الأفكار والممارسات تمهِّد الطرق بشكلٍ متكرر أمام
نُظم متعددة للاضطهاد والقمع وتكون بمنزلة بؤر أو مواقع اجتماعية متمايزة لتلك المنظومات
المتقاطعة.
٤
استعمال مثال الأسرة التقليدي في الولايات المتحدة يمكنه أن يقوم بوظيفته كواحدٍ
من مثل
هذه الأمثلة المتميزة الدالة على التقاطعية.
٥ وفي هذا البحث أستكشف كيف أن أبعادًا ستة لمثال الأسرة التقليدي تبني التقاطعات
بين الجنوسة والعرق والأمة. يكشف كل بُعد من هذه الأبعاد عن ارتباطاتٍ معينة بين الأسرة
من
حيث هي منظومة مجنوسة للتنظيم الاجتماعي، والعرق كأيديولوجية وممارسة في الولايات المتحدة،
وبنيات الهوية الوطنية في الولايات المتحدة. وتلقي هذه الأبعاد الستة مجتمعة معًا الضوء
الكثيف على سبلٍ محددة من خلالها باتت البنيات الأيديولوجية للأسرة، وبالمثل أهمية الأسرة
في تشكيل الممارسات الاجتماعية، إنما تشيد موقعًا للتحليلات التقاطعية ذا ثراءٍ خاص.
وبينما أقدِّم إطارًا مبدئيًّا لكيفية تقاطع الجنوسة والعرق والأمة في الخطاب البياني
للأسرة وفي الممارسات الأسرية، يمكن أن تتكشف أمامنا تحليلات أشمل توضِّح كيف أن منظومات
الظلم الأخرى تعمل من خلال عملياتٍ مماثلة. وبالقطع، الطبقة الاجتماعية لها أهميتها عبر
التراتبات الهرمية الاجتماعية المتعددة. وأيضًا تمثل الإثنية والدين مقولات للانتماء
تستدعي
الخطاب البياني الأسري (Anthias and Yuval-Davis 1992). إن
تسييس الإثنية والدين يتطلَّب معالجة وتفهمًا لما يحمله خطاب الأسرة البياني من ولاءٍ
للجماعة، وبدلًا من النظر إلى هذه العملية بوصفها تقتصر فقط على الإثنية أو الدين، فإن
التحليلات التقاطعية يمكن أن تربط دراسات الإثنية والدين على نحوٍ أوثق مع تقاطعات الجنوسة
والعرق والطبقة والأمة. وبالمثل، تظل الجنسانية (sexuality)
لها أهميتها في بنيات الأسرة؛ وتظل الأسرة متوشجة مع إعادة إنتاج الميل إلى الجنس الآخر؛
لأن الأسرة وثيقة الارتباط بمسألتَي الهُوية الجنوسية والإنجاب. على أن السن توفر رابطة
أخرى، موحية، بثراء الجذور المجازية التشبيهية بالأسرة. وبينما ألمح في المناقشات الآتية
إلى الطبقة والإثنية والجنسانية، فإني أشدِّد أكثر على كيفية ارتباط الأسرة بالتراتبات
الهرمية للجنوسة والعرق والأمة. هذه التراتبات الهرمية وسواها سوف تضمها مناقشة شاملة
ومختلفة بعض الشيء للأسرة بوصفها موقعًا للتقاطعية.
(١) اصطناع التراتب الهرمي وتطبيعه
أحد أبعاد الأسرة بوصفها مثالًا نموذجيًّا للتقاطعية يكمن في الطريقة التي تعمل بها
الأسرة على إصلاح ذات البين في علاقة التضاد بين المساواة والتراتبية الهرمية. إن مثال
الأسرة التقليدي يحمل إسقاطًا لنموذجٍ للمساواة. الأسرة التي تسير بشكلٍ جيد تحمي مصالح
سائر أعضائها وتوازن بينها-القوي يرعى الضعيف، وكل فردٍ يساهم في عضوية الأسرة ويستفيد
منها بما يتناسب مع قدراته أو قدراتها. وعلى النقيض من هذه الصورة المؤمثلة، تظل الأسرة
في الواقع الفعلي منتظمة حول أنماط مختلفة من التراتب الهرمي. وكما تلاحظ آن ماك-كلنتوك
«جاءت صورة الأسرة من أجل اعتبار التراتب الهرمي داخل الوحدة (التشديد في النص الأصلي)
بوصفه عنصرًا عضويًّا في التقدم التاريخي. وهكذا أصبحت الأسرة لا غناء عنها لإضفاء
المشروعية على الإقصاء وعلى التراتب الهرمي داخل الأشكال الاجتماعية غير الأسرية من
قبيل النزعة القومية والفردية الليبرالية والإمبريالية» (McClintock
1995, 45). ومن المتوقع أن تضفي الأسر السمة الاجتماعية على
أعضائها داخل فئةٍ موائمة من «القيم الأسرية» التي تقوم في الوقت ذاته بتقوية التراتب
الهرمي داخل الوحدة المفترضة للمصالح التي ترمز إليها الأسرة وتلقي أسس تراتبات هرمية
اجتماعية عديدة، وعلى وجه الخصوص، نجد أن تراتبات الجنوسة والثروة والسن والجنسانية
داخل الوحدات كما تمثلها الأسر الفعلية، تتضايف إلى ما يضاهيها من تراتباتٍ هرمية في
مجتمع الولايات المتحدة. وبشكلٍ نمطي يتعلم الأفراد تعيين موضعهم في تراتبات العرق
والجنوسة والإثنية والحياة الجنسية والأمة والطبقة الاجتماعية في أصول أسرهم. وبالتزامن
مع هذا يتعلمون أن ينظروا إلى مثل هذه التراتبات الهرمية بوصفها تنظيمات اجتماعية
طبيعية، إذا ما قورنت بالتنظيمات المشيدة اجتماعيًّا. وبهذا المغزى بات التراتب الهرمي
«مطبعًا»؛ لأنه على ما يبدو مرتبط بعملياتٍ «طبيعية» للأسرة.
تعمل «قيم الأسرة» الثاوية في مثال الأسرة التقليدي على تطبيع التراتبات الهرمية
للجنوسة والسن والحياة الجنسية في الولايات المتحدة. مثلًا، يفترض مثال الأسرة التقليدي
أن الذكر رأس الأسرة الذي يسود، ويضفي تطبيعًا على الذكورة كمصدرٍ للسلطة. وبالمثل،
الرقابة الأبوية على الأطفال التابعين تعيد استنساخ السن والتقدم في العمر كمبادئ
أساسية في التنظيم الاجتماعي. وعلاوة على هذا ثمة انبناء متبادل بين الجنوسة والسن؛
الأمهات يمتثلن للآباء، والأخوات يختلفن عن الأخوة، وفي كل هذا نتفهم أن الصِّبية
يخضعون لسلطة الأم حتى يصبحوا رجالًا. ثمة أفكار تتعلق بالحياة الجنسية يمكن مقارنتها
من حيث إنها تعمل جنبًا إلى جنب مع هذا الانبناء التبادلي للتراتبات الهرمية للسن
وللجنوسة. وبالاستناد إلى افتراضات الميول الجنسية الغيرية، يحجب مثال الأسرة التقليدي
خفايا الحياة الجنسية للمثليين والمثليات والخنثويين ويستبقيها في الخفاء. وبصرف النظر
عن كيفية تعامل كل أسرةٍ على انفرادٍ مع تلك التصورات التراتبية الهرمية، فإنها الحكمة
المتلقاة التي ينبغي التصدي لها.
في الولايات المتحدة، تتشابك التراتبات الهرمية المطبعة للجنوسة والسن مع ما يناظرها
من تراتباتٍ هرمية عرقية، بغضِّ النظر عما إذا كانت التراتبات العرقية تجد تسويغها في
الإشارة إلى الاختلافات البيولوجية أو الجينية أم في الإشارة إلى الاختلافات الثقافية
الثابتة (Goldberg 1993). يمكن استخدام منطق مثال
الأسرة التقليدي لتفسير العلاقات العرقية، وإحدى الطرق التي يحدث بها هذا عند تفسير
الظلم العنصري باستخدام أدوار الأسرة. مثلًا، الأيديولوجيات العنصرية التي تصور البشر
الملونين بوصفهم أدنى عقليًّا، أطفالًا غير متحضرين مما يستدعي أفكارًا موازية تضع بنية
للبيض بوصفهم ناضجين عقليًّا وراشدين متحضرين. الخطاب البياني للأسرة يعتبر الراشدين
أكثر نضجًا من الأطفال؛ وبالتالي يحق لهم قوة أكبر، وحين تطبيقه على العرق فإنه يستخدم
أفكارًا طبعت حول السن والسلطة من أجل إضفاء المشروعية على التراتب الهرمي العنصري. إن
الجمع بين التراتب الهرمي للسن وللجنوسة يضفي مزيدًا من التعقيد. فبينما يتقاسم الرجال
البيض والنساء البيض الاستمتاع بالتميز العنصري الآتي من بياض البشرة، في داخل الحدود
العرقية للبياض، نتوقع أن تختلف النساء عن الرجال. وليس الملونون بمنأى عن هذا المنطق
ذاته. داخل إطار العرق من حيث هو أسرة، نساء الفئات العرقية التابعة تذعن للرجال في
فئاتهن، وغالبًا لتأييد كفاح الرجال في التصدي للعنصرية.
إن التعقيدات المتعلقة بهذه العلاقات للسن والجنوسة والعرق تبلغ مداها في أن ما يسمى
بالتراتب الهرمي الطبيعي الصادر عن مثال الأسرة التقليدي يتردد رجع صداه في التماثل
الزاعق مع تراتباتٍ هرمية اجتماعية في مجتمع الولايات المتحدة بأكمله. يهيمن الرجال
البيض على مواقع السلطة، تعاونهم مساعدات من الإناث البيض، كلا الطرفين يعملان معًا
لإدارة شئون بشر ملونين يزعمون أنهم أقل تأهيلًا وكفاءة، هؤلاء الملونون أنفسهم يكافحون
الخطاب البياني للأسرة ذاته، ومع الأيديولوجيات والممارسات العنصرية التي تعتمد في
معناها كل هذا الاعتماد على الأسرة، يصبح سند الأسرة الكبير هو العرق. وداخل الخطاب
العرقي، يمكن أن نرى الأسر تحدث بشكلٍ طبيعي، وكذلك يمكن أن ننظر بالطريقة نفسها إلى
الكيانات المترابطة ترابطًا بيولوجيًّا والتي تتقاسم مصالح مشتركة، مثل البيض والسود
والهنود الحمر، والأعراق الأخرى من أي فترةٍ تاريخية مطروحة. إن التصنيفات العرقية
الفعلية في أي مرحلةٍ تاريخية معينة أقل أهمية من الاعتقاد المُلِحِّ بالعرق ذاته بوصفه
مبدأً دائمًا للتنظيم الاجتماعي الذي يعني ضمنًا الروابط الأسرية، وهكذا، فإن التراتبات
الهرمية للجنوسة والسن والجنسانية التي توجد داخل الجماعات العرقية المختلفة (حيث الزعم
أن الروابط الأسرية تؤدي إلى تشاركيةٍ في المصالح) هي مرآة تعكس التراتبية الهرمية التي
تميز العلاقات بين الجماعات، وبهذه الطريقة تغدو اللامساواة العنصرية مفهومة ومبررة عبر
الخطاب البياني للأسرة.
وما تلقِّننا إياه الوحدات الأسرية من تراتبيةٍ هرمية مطبعة إنما يؤطر مسائل في
الهوية القومية للولايات المتحدة تأطيرًا خاصًّا. إذا تصورنا الدولة-القومية كأسرةٍ
قومية بمعية الأفكار التي يقدِّمها مثال الأسرة التقليدي عن الأسرة، فإن المعايير
المستخدمة لتقويم مساهمات أفراد الأسرة، في الغيرية الجنسية والزوجين المقترنين وأعباء
المنزل مع الأطفال، تصبح أساسية لتقويم إسهامات الجماعات في الرفاهة العامة بأسرها. إن
التراتبات الهرمية المطبَّعة في مثال الأسرة التقليدي تترك تأثيرها في تفهُّمنا لبناءات
المواطنة من الدرجة الأولى ومن الدرجة الثانية؛ مثلًا، باستخدام منطق نظام المواليد
ترتفع أهمية تاريخ الوصول إلى القطر بالنسبة إلى حقوق المواطنة. المزاعم القائلة إن
الهجرة المبكرة للبروتستانت البيض الأنجلوسكسونيين تخول لهم امتيازات تعلو على تلك التي
لقرنائهم الذين حطوا الرحال في آونةٍ أحدث تماثل الاعتقاد بأن التمييز العادل بين
العمال يعتمد على أن «آخر من يجري توظيفه هو أول من يجري رفته». وبالمثل، تصورات تطبيع
تراتبات الجنوسة الصادرة عن مثال الأسرة التقليدي — كالمفاضلة في معاملة البنات والبنين
فيما يتعلق بالاستقلالية الاقتصادية والحريات المتاحة في دخول المجال العام — إنما
توازيها ممارسات مثل التصنيف على أساس الجنس في سوق العمل المدفوع الأجر وهيمنة الذكور
على الحكومات، والاحتراف في الرياضات البدنية، وما يحدث في الطرقات والأماكن العامة
الأخرى.
وكما هو الوضع في كل مواقف التراتبية الهرمية، قد تكون ثمة حاجة إلى الاستخدام الفعلي
أو الضمني للقوة أو العقوبات أو العنف من أجل الحفاظ على علاقات سلطة لا مساواة فيها.
وعلى أي حال، فإن صميم شيوع وتفشي العنف يمكن أن يؤدي إلى جعله غير مرئي. مثلًا، طويلًا
ما كانت ثمة مقاومة لجهود النسوية لجعل العنف ضد النساء في المنزل موضعًا لاهتمامٍ جاد
بوصفه شكلًا من أشكال العنف الصادر بحسن نية،
٦⋆ وليس مجرد شأن أسري خاص. وبأسلوبٍ مستحدث مماثل، لا يزال يسود الإغفال
الروتيني لمدى العنف ضد طوائف الأمريكيين من الهنود الحمر والبورتوريكيين
والأمريكيين-المكسيكيين والأمريكيين-الأفارقة والطوائف الأخرى التي لم تندمج في مجتمع
الولايات المتحدة من خلال هجرة طوعية، بل عبر الغزو والعبودية. حتى العنف الراهن ضدَّ
مثل هذه الطوائف لا يزال بعيدًا عن التقارير الرسمية ما لم يمسك به بشكلٍ دراماتيكي،
مثل شريط الفيديو الذي سجل ضرب ضباط شرطة في لوس أنجلوس للسائق رودني كينغ. وأيضًا لا
تزال جرائم الكراهية ضد المثليين والمثليات والمخنثين متوارية إلى حدٍّ كبير على الرغم
من خطورتها وتزايدها في الآونة الأخيرة. ومن خلال هذا الصمت، يجري تجاهل مثل هذه
الأشكال من العنف. ليس هذا فحسب بل أيضًا تصبح أشكالًا مشروعة. الخطاب البياني للأسرة
يمكن أن يعمل أيضًا على تحجيم تفهُّمنا للعنف في الجماعات التي تضع لنفسها تعريفًا بلغة
الأسرة.
وبالطريقة نفسها التي يصبح بها ضرب الزوجات والاعتداء البدني والجنسي على الأطفال
جزءًا من «أسرار الأسرة» لأعدادٍ مهولة من الأسر، تصبح هكذا أيضًا الطبيعة الروتينية
للعنف الموجه ضد النساء والمثليين والمثليات والأطفال داخل نطاق طوائف عرقية وإثنية
متمايزة.
غالبًا ما تصادف الفئات التابعة تناقضات عسيرة في رد الفعل على مثل هذا العنف
(Crenshaw 1991). أحد ردود الأفعال يكمن في تحليل
واحد أو أكثر من التراتبات الهرمية بوصفها بنية تخلقت اجتماعيًّا، بينما التراتبات
الهرمية الأخرى تخلقت طبيعيًّا في المجتمع المدني الأفرو-أمريكي؛ مثلًا، يأتي سؤال
الحفاظ على التضامن العرقي وجهًا لوجه مع السؤال عن التراتبات الهرمية المطبعة، وكيف
تبني بعضها بعضًا. والتضامن العرقي مهما كان ثمنه يتطلب غالبًا تكرار التراتبات الهرمية
للجنوسة والطبقة الاجتماعية والجنسانية والأمة في مجتمع السود المدني. ولنأخذ مثالًا
أشكال الفهم النمطي للتعبير القائل «عنف السود مع السود». التشديد على العنف بين الرجال
السود يسمح لأنماطٍ من عنف الذكور السود الموجه ضد النساء السود — الانتهاك في المنزل
والتحرش الجنسي في مكان العمل — أن تبقى متوارية وأن يتم التغاضي عنها. وفي مواجهة
التحرش الجنسي، وخصوصًا على يد الرجال السود، تحرص النساء الأمريكيات-الأفارقة على «ألا
ينشرن الغسيل القذر» بشأن المشاكل الأسرية الداخلية. ويدهشنا ما يتوازى مع هذا من ضحايا
العنف المنزلي اللائي يلقين التشجيع لحفظ «أسرار الأسرة». بشكلٍ عام، سواء ما إذا كانت
المسألة هي الأسرة بوصفها العائلة، أم الأسرة بوصفها أساس تصور العرق، أم الأسرة
القومية التي تعرف من خلال مواطنة الولايات المتحدة، فإن الخطاب البياني للأسرة هو الذي
يطبع التراتبات الهرمية داخل المنزل وخارجه ويلقي غلالة العتمة على القوة المطلوبة
للحفاظ على هذه العلاقات.
(٢) بحثًا عن منزل: المكان والفضاء والأرض
إن المعاني المتعددة التي تتعلَّق بمفهوم «المنزل» — المنزل بوصفه موئلًا للأسرة،
والمنزل بوصفه موقعًا سكنيًّا، والمنزل بوصفه موطنًا أصليًّا — تفصح عن أهميته داخل
الأسرة من حيث هي مثال نموذجي شائع للتقاطعية. وفي الولايات المتحدة، أفكار مثال الأسرة
التقليدي عن المكان والفضاء والأرض توعز بأن الأسر والطوائف العرقية والدول القومية
تطالب بأمكنةٍ فريدة خاصة بها أو ﺑ «منازل» …
٧⋆ ولأن «المنازل» تهب فضاء الخصوصية والأمن للأسر وللأعراق وللدول القومية؛
فإنها تفيد بوصفها ملاذًا لأعضاء الجماعات. وإذ تحاط هذه المنازل بأفرادٍ يبدو أنهم
يتقاسمون الأهداف ذاتها، فإنها تمثل فضاءات مؤمثلة مخصخصة يشعر فيها الناس
بالسكينة.
تستدعي هذه النظرة للمنازل أفكارًا مجنوسة معينة حول الفضاء الخاص والفضاء العام؛
ولأن السكان هكذا يرتبطن كثيرًا بالأسرة، يغدو فضاء المنزل منظورًا إليه بوصفه فضاءً
خاصًّا متأنثًا يتمايز عن الفضاء العام المذكر الكائن خارج حدود المنزل. فضاء الأسرة
للأعضاء فقط، من هم خارجه يمكن دعوتهم إليه فقط عن طريق أعضاء الأسرة وإلا فإنهم دخلاء
متطفلون. داخل هذه المجالات المجنوسة للفضاء الخاص والفضاء العام، نفترض مجددًا أن
النساء والرجال لهم أدوار متمايزة. ينتظر أن تبقى النساء داخل «مكان» موئلهم، وتجنب
مكان الطرقات العامة الحافل بالمخاطر يتيح للنساء العناية بالأطفال وبالمرضى والمسنين،
وأعضاء الأسرة الآخرين المحتاجين للرعاية. أما الرجال فينتظر منهم إعالة المكان المتأنث
الخاص الذي يحوي أسرهم والدفاع عنهم، نادرًا ما تصادف أسر الولايات المتحدة الأمريكية
هذا المثال. وعلى الرغم من التحليلات النسوية؛ مثلًا، التي ترفض التصديق على المنزل
بوصفه مكانًا آمنًا للنساء، تبدو هذه الأسطورة مترسخة بعمقٍ في ثقافة الولايات المتحدة
(Coontz 1992).
وثمة منطق مماثل متعلِّق بالمكان والفضاء والأرض لانبناء الفضاء المعنصر في الولايات
المتحدة.
٨ فتمامًا كما أن القيمة المرتبطة بالأسر الفعلية تعكس موضعتهم المكانية في
تراتباتٍ هرمية للعرقية والطبقة الاجتماعية، فإن إيواء تلك الأسر في أحياء سكنية يفصح
عما يضاهي هذا من صنوف عدم المساواة. أما فرضيات فضاء التفرقة العنصرية والطبقية فهي
تفويض أن أسر الولايات المتحدة والأحياء السكنية التي تقيم فيها تبقى منفصلة. وتمامًا
كما أن حَبْك أسرة من أفرادٍ لهم خلفيات مختلفة عرقيًّا أو إثنيًّا أو دينيًّا مسألة
مثبطة، فإن الخلط بين الأعراق المختلفة داخل حي سكني واحد مسألة مثيرة للامتعاض. وكشأن
الدول القومية الصغرى، تزعم الأحياء السكنية أنها تعمل على أفضل وجهٍ حين يسودها
التجانس العرقي و/أو الطبقي. إن تعيين الأمكنة المنفصلة الخاصة بالبيض والسود واللاتين
يعكس جهودًا لاستبقاء نقاء جغرافيًّا عرقيًّا. وحينما تواصل طائفة البيض السائدة مساندة
المعايير القانونية والمتجاوزة للقانون التي تعزل الأمريكيين-الأفارقة والأمريكيين
الأصليين والأمريكيين-المكسيكيين والبورتوريكيين، والطوائف المماثلة الأخرى، فإنها
بالتالي تكرس المعايير الثقافية حول مرغوبية النقاء العنصري في المدارس والأحياء
السكنية والمرافق العامة. على سبيل المثال، تكتيكات من قبيل ركوب البيض المستمر
للطائرات خروجًا من المدن الداخلية، وانتشار التجمعات السكنية ذات الحدود في ضواحي
المجتمعات المحلية من أجل الحد من إسكان ذوي الدخول المنخفضة، ونقل الأطفال البيض إلى
مؤسساتٍ تعليمية خاصة لمواجهة تزايد الملونين في المدارس، كلها سبل فعالة في استبقاء
فضاءات المنزل المعزولة عنصريًّا من أجل البيض من الرجال والنساء والأطفال. وهذا
الإيمان بفضاءات معزولة فيزيقيًّا له أيضًا ما يوازيه من أفكارٍ حول الفضاءات المعزولة
اجتماعيًّا ورمزيًّا. مثلًا، فئة المهن المريحة تظل إلى حدٍّ كبير للبيض والذكور، ويعود
هذا جزئيًّا إلى النظر إلى الملونين بوصفهم أقل قدرة على الالتحاق بهذه الفضاءات،
وبالمثل، استبقاء المقررات الدراسية دائرة حول مآثر البيض يمثل مثالًا آخر للأفكار
المتعلقة بالفضاءات المعزولة وقد ترسمت خارطتها في فضاءٍ رمزي. وعمومًا، العزل العنصري
لفضاءٍ فيزيقي متعين يعزز أشكالًا متعددة من العزل السياسي والاقتصادي والاجتماعي
(
Massey and Dencon 1993).
وطويلًا ما كان تأمين «موطن» الشعب أو أراضيه القومية ذا أهمية للتطلعات القومية
(Anthias and Yuval-Davis 1992; Calhoun 1993).
وبعد كفاح الولايات المتحدة الأمريكية المناهض للاستعمار والناجح ضد إنجلترا وصياغتها
لدولةٍ قومية، راحت تقتفي خُطى سياسية إمبريالية مطردة لكي تكسب مزيدًا من الأراضي تشكل
حدودها الراهنة. إنه تاريخٌ للغزو يلقي ضوءًا على أهمية الملكية في علاقتها بالفضاء
والمكان والأرض. علاوة على هذا، ينظر إلى منازل الأسر والأحياء السكنية بوصفها في حاجةٍ
إلى الحماية ممَّن هم خارجها، وبالمثل تمامًا، طويلًا ما مثَّل الحفاظ على سلامة الحدود
القومية ركيزة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة؛ ولأن الولايات المتحدة منذ الحرب
العالمية الثانية عملت بوصفها قوة عالمية مسيطرة، فإن إبعاد شبح الحروب عن «تربة» وطنها
كان موضوعًا ذا أهمية أقل. وبدلًا منه، باتت حماية ما يسمَّى بالمصالح الأمريكية هي
السائدة. إن الأفراد والأعمال التجارية التي شغلت مواقعها في تربةٍ أجنبية قد مثلت
امتدادًا لأراضي الولايات المتحدة، إنهم مواطنون من الأسرة القومية التي يجب الدفاع
عنها مهما كان الثمن.
عمومًا، تصورات المكان والفضاء والأرض تربط مفاهيم مجنوسة عن الأسر ببنيات العرق
والأمة، وذلك بالارتكان إلى المعتقد القائل إن الأسر لها أماكن تعينت حيث تنتمي إليها
الانتماء الحقيقي (Jackson and Penrose 1993). بهذا
المنطق القائل إن كل شيءٍ له مكانه، يغدو استبقاء الحدود من كل الأنواع مسألة ذات أهمية
حيوية. أما الحفاظ على منطق فضاءات المنزل المنعزلة فيتطلب قواعد صارمة للتفرقة بين أهل
الداخل وأهل الخارج. ولسوء الحظ، على المدى الطويل جدًّا، استُبقيت هذه الحدود مرسومة
وفقًا لخطوط اللون.
(٣) حول «روابط الدم»: الأسرة والعرق والأمة
تعكس قرائن «روابط الدم» التي تتخلَّل مثال الأسرة التقليدي بعدًا آخر لكيفية عمل
الأسرة بوصفها مثالًا نموذجيًّا وجيهًا للتقاطعية. في الولايات المتحدة الأمريكية،
مفهوما الأسرة والقرابة يستمدان القوة من روابط الدم كجوهرٍ ينظم توزيع الحقوق
(
Williams 1995). وبينما تمضي المنظومة القانونية
قُدمًا في تسييد الزواج بين قرينين من الجنسين بوصفه التنظيم المفضل للأسرة، فإن
الأهمية المعطاة للروابط بين الأمهات والأطفال، وبين الإخوة والأخوات، وبين الجدات
والأحفاد، تلقي الضوء على مغزى البيولوجيا في تعريفات الأسرة. بتمثيل الروابط الوراثية
بين الأفراد ذوي القرابة، يطبع الاعتقاد في روابط الدم الوشائج بين الأعضاء في شبكات
القرابة. الدم والأسرة والقرابة ترتبط برباطٍ وثيق، حتى إن غياب مثل هذه الوشائج يمكن
أن يكون مدعاة للقلق. تظل روابط الدم ذات أهمية كبرى في تعريفات الأسرة، وهذا ما يوعز
بحث المتبنين عن أسرهم «الحقيقية» أو أقارب الدم.
٩⋆
ومع الأهمية المعطاة للبيولوجيا، يكون للنساء من الفئات العرقية المختلفة مسئوليات
متباينة في الحفاظ على وشائج الدم. مثلًا، تمارس النساء البيض دورًا خاصًّا في الحفاظ
على سلاسل نسب (خطوط دم) الأسرة نقيًّا. من الناحية التاريخية، يتطلب تكوين الأسر
البيضاء التحكم في الحياة الجنسية للنساء البيض، بشكلٍ أكبر من خلال المعايير
الاجتماعية التي تؤيد العذرية قبل الزواج. وعن طريق الزواج من رجالٍ بيض والدخول في
علاقةٍ جنسية قاصرة على أزواجهن، يؤدي النساء البيض دورهنَّ في تأمين النقاء العرقي
للأسر البيضاء. وهكذا، من خلال المحرمات الاجتماعية التي تنبذ الحياة الجنسية قبل
الزواج والزواج بين الأعراق المختلفة بالنسبة إلى النساء البيض، تستطيع الأسر البيضاء
بهذا أن تتحاشى الانحطاط العرقي (Young 1995). إن
الجهود المبذولة لتنظيم الحياة الجنسية والزواج قد عززت المعتقدات في قدسية «وشائج
الدم»؛ وذلك عندما أعيد اندراج هذه الجهود في التراتبات الهرمية المطبعة للجنوسة والعرق
والطبقة والأمة، وفرضت مؤسساتيًّا عبر آليات من قبيل الفضاءات المنعزلة والعنف العقابي
الذي تقره الدولة.
من الناحية التاريخية، تعريفات العرق في المجتمع الأمريكي شددت هي الأخرى على أهمية
وشائج الدم.
١٠ الأسر البيولوجية والأسر العرقية يعتمد كلاهما على تصوراتٍ مماثلة. كانت
الارتباطات بين العرق ووشائج الدم تفصح عن ذاتها حتى ادَّعى المفكر القومي الأسود في
القرن التاسع عشر ألكسندر كروميل
A. Crummell أن
«الأعراق مثل الأسر، هي الكائنات العضوية وهي مراسيم الرب، الإحساس بالعرق له أصل علوي.
اندثار الشعور بالعرق ممكن إذا أمكن اندثار الشعور بالأسرة؛ فالحق أن العرق أسرة»
(مقتبسة في
Appiah 1992). تقليديًّا، في الولايات
المتحدة ارتكزت تعريفات العرق على أنه مثل الأسرة على تصنيفاتٍ بيولوجية استمدت
مشروعيتها من العلم ويصدق عليها القانون من الناحية التشريعية. وعن طريق صب البشر في
فئاتٍ من خلال تصورات التماثل الفيزيقي، كلون البشرة أو ملامح الوجه أو طبيعة الشعر،
وتدعيم هذا بالقانون والعرف، وضعت العنصرية العلمية تعريفات للبيض والسود بوصفهما
طائفتين اجتماعيتين متمايزتين (
Gould 1981). وتمامًا
مثلما نتوقع أن أعضاء الأسرة «الحقيقية» المرتبطة بوشائج الدم يشبهون بعضهم بعضًا، كان
ينظر إلى أعضاء الطوائف العرقية المنحدرين من سلفٍ مشترك بوصفهم يتشاركون في خصائص
فيزيقية وعقلية وأخلاقية متماثلة. داخل نطاق هذا المنطق، يجري تعريف أولئك الذين
يفتقدون أوجه التشابه البيولوجي بأنهم دخلاء متطفلون على الأسرة، بينما تصبح الطوائف
المختلفة عرقيًّا غرباء بعضهم عن بعض.
ويمكن تطبيق منطق مماثل لتفهم الأمة (
noitan). ثمة
تعريفات تنظر إلى الأمة على أنها جماعة من الناس يتشاركون في سلالةٍ إثنية قائمة على
روابط الدم.
١١⋆ وتتشكل هويتهم القومية الفريدة من خلال التعبيرات الثقافية عن شعبويتهم —
موسيقاهم وفنونهم ولغتهم وعوائدهم. وتحت لواء هذا النموذج القومي الإثني، ينبغي أن يكون
لكل أمةٍ دولتها القومية؛ كيان سياسي حيث تستطيع الجماعة الإثنية أن تحكم ذاتها بذاتها.
وبينما يمتدُّ لهذا الفهم للقومية تاريخ طويل في الثقافات الأوروبية
(
Anthias and Yuval-Davis 1992; Yuval-Davis 26–29,
1997)، يتضاءل تطبيقه لتفهُّم الهوية القومية للولايات المتحدة.
وبدلًا منه، كثيرًا ما ينظر إلى الولايات المتحدة بوصفها تعبيرًا مهمًّا عن القومية
المدنية حيث تتآلف العديد من الجماعات الإثنية المختلفة داخل حدود دولة قومية واحدة
(
Calhoun 1993). وفي مقابل الدول-القومية، حيث
تتأكد حقوق المواطنة بعضوية السلالة الإثنية أو القبيلة، تتعهد المبادئ الديمقراطية في
دستور الولايات المتحدة بالمساواة لكل المواطنين الأمريكيين. يقف المواطنون جميعًا
متساوين أمام القانون، بصرف النظر عن العرق والأصل القومي ووضع العبودية الأسبق واللون.
ومن خلال هذه المبادئ تهدف الولايات المتحدة إلى صياغة أمة واحدة من أممٍ عديدة وإلى
أن
تعلو على تحديدات القومية الإثنية.
وعلى الرغم من هذا الترسيم لملامح الهُوية القومية للولايات المتحدة الأمريكية، يمكن
أن تمتدَّ لهذه الهوية أصول في القومية الإثنية أكثر مما يتبدى في الإدراك النمطي لها.
ذلك أن تصورات الهوية القومية للولايات المتحدة التي تأخذ في الحسبان كلًّا من الأسرة
والعرق تتمخض عن رؤيةٍ للولايات المتحدة بوصفها أسرة قومية كبرى ذات أسر عرقية انتظمت
داخلها في تراتبٍ هرمي. وتمثيلًا لصورةٍ مصغرة من النقاء العرقي الذي يرتبط أيضًا
بالمصالح القومية للولايات المتحدة، يشكل البيض المواطنين ذوي القيمة الأعلى. وفي هذه
الدولة-القومية المعنصرة، يصبح الهنود الحمر والأمريكيون-الأفارقة
والأمريكيون-المكسيكيون والبروتوريكيون مواطنين من الدرجة الثانية، حيث يصادف البشر
الملونون من الكاريبي ومن آسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا مصاعب لكي يصبحوا مواطنين
طبيعيين، تفوق كثيرًا ما يلاقيه المهاجرون من الأمم الأوروبية؛ ولأن هذه الطوائف كافة
ليست من البيض؛ وبالتالي تنقصهم وشائج الدم المواتية، يعتبرون أقل جدارة بالمواطنة
الفعلية والمحتملة في الولايات المتحدة.
وسوف تكتسب السياسات العامة بسائر أنماطها معنًى جديدًا، حين النظر إليها من هذا
الإطار الذي يربط بين الأسرة والعرق والأمة. وكمثالٍ على هذا، ثمة تماثل في تسلسل
الأحداث بين تبنِّي أطفال وبين عملية اكتساب جنسية. فعندما يُفحص الأطفال لتحديد مدى
ملاءمتهم للتبني، نجد أن عوامل من قبيل خلفيتهم العرقية والدينية والإثنية تحمل ترجيحًا
لكفتهم. وعادة يحوز الأطفال الأصغر سنًّا تفضيلًا على أولئك الأكبر سنًّا، ويزعمون أنهم
أقل نصيبًا في التنشئة الاجتماعية. وعند إتمام التبني، يصبح مثل أولئك الأطفال «مطبعين»
ولا يميز القانون بينهم وبين الأطفال الذين ولدوا في هذه الوحدة الأسرية.
١٢⋆ وبأسلوبٍ مماثل، تفحص سياسات الهجرة المواطنين المحتملين من حيث مدى
ملاءمتهم للهيئة البيولوجية لأسرة الولايات المتحدة القومية. من ناحية تسلسل الأحداث،
عكست سياسات الهجرة الاحتياجات المتصورة العرقية والإثنية واحتياجات سوق العمل في
اقتصاد السياسة الداخلي، الذي جرى على وتيرة التمييز ضد الملونين
(
Takaki 1993). وأولئك الذين يرغبون في أن يصبحوا
مواطنين معتمدين لا بدَّ أن يخضعوا لعملية تنشئة اجتماعية، حيث يدرسون العناصر المهمة
من ثقافة الولايات المتحدة. عملية التنشئة الاجتماعية تلك تهدف إلى تحويل من يسمون
بالأجانب إلى مواطنين مخلصين للولايات المتحدة لا يمكن تمييزهم عن أولئك الذين ولدوا
في
الولايات المتحدة.
(٤) للعضوية امتيازاتها: الحقوق والالتزامات والقواعد
عن طريق اقتراح علاقة مُثلى بين حقوق ومسئوليات عضوية الأسرة، يؤدي مثال الأسرة
التقليدي دَوره بوصفه مثلًا نموذجيًّا متميزًا للتقاطعية وإن يكن بطريقةٍ أخرى. في
الموقف الذي تظل فيه تصورات الانتماء للأسرة ضرورية في مسائل المسئولية والمساءلة، يشعر
الأفراد بأنهم «مدينون» بشيءٍ ما لأعضاء أسرهم، وأنهم مسئولون عنهم. مثلًا، يساعد
الأفراد أعضاء أسرهم داخل الوحدات الأسرية بشكلٍ روتيني، عن طريق مجالسة الأطفال، أو
إقراض أموال أو مساعدة الوثيقة في إيجاد عمل أو مسكن، أو العناية بالمسنين. تحقُّ هذه
المنافع لأفراد الأسرة المرتبطين بوشائج الدم بمجرد انتمائهم للأسرة، وحتى حين يفتقر
أفراد الأسرة إلى الجدارة، يحق لهم الحصول على هذه المنافع لمجرد أنهم ينتمون إليها.
وفيما يتجاوز مسألة الحصول على المنافع، يتحمل الأفراد مسئوليات تفاضلية تعتمد على
موقعهم في التراتبات الهرمية داخل الأسرة. مثلًا، ينتظر من النساء أداء الجانب الأكبر
من العمل المنزلي الذي يحفظ سير أمور العائلة، بينما تكمن واجبات الرجال في توفير
الإعالة المالية.
وبأسلوبٍ مماثل، يكتسب مواطنو الولايات المتحدة، سواء بالميلاد أو بالتطبيع، حقوقًا
ومسئوليات معينة تتحقق من العضوية. ثمة تعهد للمواطنين باستحقاقات من قبيل الحماية
المتساوية بموجب القانون، والحصول على تأمين ضد البطالة، ومعاشات الشيخوخة، والتعليم
العام المجاني، وغيرها من استحقاقات الرعاية الاجتماعية. وكذلك ينتظر من المواطنين
الوفاء بالتزاماتٍ معينة من الواحد منهم تجاه الآخر. ينتظر من مواطني الولايات المتحدة
دفع الضرائب، والالتزام بالقانون، وأداء الخدمة العسكرية حين تطلب منهم. وفي مقابل
الحقوق والواجبات المنصوص عليها لأهل الداخل، يفتقر أهل الخارج إلى الاستحقاقات
الممنوحة لأعضاء الجماعة وإلى الالتزامات المنوطة بالانتماء لها كليهما معًا. وكمثيلٍ
لوضع الذين ليسوا أعضاء في أسرة، نجد أن الذين ليسوا مواطنين في الولايات المتحدة ليس
لهم استحقاقات المواطنة ولا عليهم مسئولية الواجبات القومية.
في الولايات المتحدة، حيث يتشكَّل العرق من خلال وشائج الدم المفترضة، يمارس العرق
تأثيره في التوزيع المتفاوت لحقوق وواجبات المواطنة. توضح سياسات فرض الضرائب كيف أن
الأفكار المتعلقة بالأسرة والعرق تعزز التفاوتات في الاستحقاقات وفي الالتزامات. وعلى
الرغم من حكم براون ضد مجلس التعليم في العام ١٩٥٤م.
١٣⋆ بتحريم التفرقة العنصرية في المدارس العامة، ظل عددٌ كبير من الأطفال
الأمريكيين الأفارقة محتجزين في مدارس المدينة الداخلية، وهي ضعيفة التمويل ومتدهورة
ومعزولة عنصريًّا. ينظر إلى هؤلاء الأطفال على أنهم يفتقرون إلى الجدارة؛ وبالتالي لا
يستحقون الدعم العام. المقابلة بين حظهم والمرافق المدرسية الفخيمة في كثيرٍ من الأحيان
والخدمات المقدمة للأطفال الذين يدرسون في مدارس الضواحي حيث الأغلبية الساحقة من
البيض، يكشف عن فوارق عنصرية جوهرية.
وعلى الرغم من أن الكثيرين من أطفال الضواحي أولئك يفتقرون إلى الجدارة، فإن موقع
منازلهم جعلهم مستحقين لخدماتٍ عامة رفيعة المستوى. من المهم ألا يفوتنا أن تلك الأنماط
من التفرقة العنصرية والتفاوت في الالتزامات والاستحقاقات التي تمر بخبرة أطفال
الولايات المتحدة جميعهم أبعد ما تكون عن العشوائية. ساعدت السياسات الحكومية على خلق
تلك الأنماط من فضاءات التفرقة العنصرية التي تعيد إنتاج صنوف من عدم المساواة
الاجتماعية (Massey and Demon 1993; Oliver and Shapiro
1995).
إنه موقفٌ للتراتبية الهرمية المطبعة، حيث وُضع تصور للهوية القومية للولايات المتحدة
بوصفها مؤلفة من جماعاتٍ عرقية تضم جماع الولايات المتحدة كأسرةٍ قومية، وهذا يعزز
أنماطًا متفاوتة من إعمال حقوق والتزامات المواطنة. يتلقَّى أعضاء بعض الأسر العرقية
منافع العضوية كاملة، بينما يلاقي آخرون معاملةً أدنى. وتضيف التراتبات الهرمية
الجنوسية تعقيدات إضافية. على سبيل المثال، تجارب النساء الأمريكيات-الأفارقة مع معايير
الاستحقاق في برامج الضمان الاجتماعي إبان ثلاثينيات القرن العشرين، توضح كيف أن
العنصرية المؤسساتية والأيديولوجيا الخاصة بالجنوسة تشكلان ملامح السياسات العامة
القومية، فقد كان العرق عنصرًا لتحديد المهن التي ينبغي أن يغطيها الضمان الاجتماعي.
وبشكلٍ صريح تم استبعاد فئتين مهنيتين: عمال الزراعة والعاملين في المنازل، الفئتان
معًا تضمان أغلبية النساء الأمريكيات-الأفارقة. وأيضًا كان الضمان الاجتماعي، منذ
نشأته، ينطوي على أفكارٍ حول الجنوسة، وذلك عن طريق تقديم مزايا تفضيلية للرجال والنساء
من خلال تعويضات للعمال (النساء السود غير مؤهلات لها) ومعونة الأمهات. كانت قواعد
الاستحقاق تكافئ النساء اللائي يبقين متزوجات ويعولهن أزواجهن ولكن تعاقب النساء اللاتي
يصبحن منفصلات أو مطلقات، أو يبقين عازبات يتكسبن عيشهن بطرقهن الخاصة. أما النساء
السود اللائي لا ينعمن بزواجٍ مستقر فلا يتوافر لهن إمكان الحصول على استحقاقات الزوجات
والأرامل التي هي مدعومة بشكلٍ روتيني للنساء البيض. في هذا الوضع، ثمة إقصاء للنساء
السود من الاستحقاقات، بفعل الربط بين السياسات التي تستهدف العرق فيما يتعلق
بالتصنيفات المهنية والسياسات التي تستهدف الجنوسة فيما يتعلق بالحالة الاجتماعية
(Gordon 1994). إن النساء السود، من الناحية
الرسمية، قد يكنَّ مواطنات أمريكيات من الدرجة الأولى، لكن خبرتهنَّ الفعلية تكشف عن
أنهن من الدرجة الثانية.
(٥) جينيالوجيا الأسرة
الميراث ودخل الأسرة
التراتبيات الهرمية المطبعة الثاوية في مثال الأسرة التقليدي لا تتصل اتصالًا سافرًا
بالتراتبات الهرمية للعرق والأمة فقط، بل أيضًا بالتراتبات الهرمية للطبقة الاقتصادية
أو الاجتماعية (Collins 1998، الفصل السادس). وربما كان
التنظيم الاجتماعي الطبقي في الولايات المتحدة متشاركًا مع مثال الأسرة التقليدي بشكلٍ
يتكاثف أكثر ممَّا كان متصورًا من قبل. وباستخدام الفرد كوحدةٍ للتحليل، كان التقليد
المتبع أن يستخدم التحليل الطبقي الاجتماعي تحديد دخل الرجل كمرتكزٍ لتنظيم الوضع
الاجتماعي للأسر. على أي حال، لا تزال الأسرة تفيد بشكلٍ آخر بوصفها مثلًا نموذجيًّا
وجيهًا للتقاطعية، وذلك ما يوضحه الانتقال من الأفراد إلى الأسر كوحدةٍ أساسية للتحليل
الطبقي الاجتماعي، ومن الدخل إلى الثروة كمقياسٍ للطبقة. إن الانتقال إلى الثروة بوصفها
مقياسًا لوضع الطبقة الاجتماعية يوحي بأن الأسر تفيد كوحداتٍ اجتماعية مهمة لانتقال
الثروة عبر الأجيال. وكما يلاحظ أوليفر وشابيرو، «على هذا النحو تقبض الثروة الخاصة على
جماع اللامساواة الناتجة عن الماضي، وغالبًا ما تنحدر من جيلٍ إلى جيل»
(Oliver and Shapiro 1995, 2).
يشير التركيز على الثروة إلى اللامساواة الاقتصادية المعاصرة، وأيضًا يتضمَّن الأصول
التاريخية للتفاوتات الطبقية وإعادة إنتاجها عبر الزمان. وعلى الرغم من الأفكار القائلة
بانتشار القابلية للحراك الاجتماعي في الولايات المتحدة، فلا يزال الشكل الروتيني أن
الأطفال فيها ينعمون أو يعانون الوضع الاقتصادي للأبوين. تشكل الأسر مواقع مهمة
للتوارث، ليس توارث القيم الثقافية فحسب، بل أيضًا توارث الملكية. تستخدم الأسر الثروة
لخلق الفرص، وتأمين المستوى المعيشي المرغوب، ولتمرير وضعها الاجتماعي الطبقي لأطفالها.
في هذه العملية، تصبح الأسر أكثر من مجرد ملاذ خاص للارتياح من متطلبات المجال العام.
وحين تتضافر «قيم الأسرة» مع «قيم الملكية»، تصبح المنازل في الأحياء المعزولة عنصريًّا
استثمارات مهمة. ويبين مثال الأسرة التقليدي أن الأسرة ليست شاغلة للمنزل فحسب، بل
أيضًا مالكة إياه. وبالنسبة إلى جموع الأمريكيين، يظل منزل الأسرة المنفردة كرمزٍ محسوس
للثروة، مركزيًّا في الحلم الأمريكي، ويسكن هذا في ثنايا سياسات الضرائب التي تمنح
مزايا مربحة لملاك المنازل (Coontz 1992). شئون الثروة
موضع اهتمام؛ لأنها قابلة للانتقال مباشرة من جيلٍ إلى جيل، إذا اضطلع المرء بقواعد
الزواج وإنجاب الأطفال.
من الخطأ أن ننظر إلى انتقال الملكية عبر الأجيال بوصفها ظاهرة تترك تأثيرها بشكلٍ
أساسي على الطبقة الوسطى والأسر الموسرة. وقطعًا عند تأسيس الولايات المتحدة، استمتعت
الأسر الحائزة ملكيات بمزايا هائلة، حتى إن كثرة منها كانت قادرة على الولوج في قلب
القوى السياسية والاقتصادية الماثلة. وقفت ثروات هذه الأسر في تعارضٍ صارخ مع موقف
الهنود الحمر الذين فقدوا الأرض ووسائل كسب الرزق في حروب الغزو، أو مع موقف
الأمريكيين-الأفارقة الذين أحالتهم العبودية إلى ملكياتٍ تُورث. وعلى الرغم من التركيز
التاريخي للثروات في يد نسبة ضئيلة من الأسر، فإن انتقال الثروة عبر الأجيال من خلال
الأسرة مارس أيضًا فِعله بين أسرة الطبقة العاملة. نظرت التحليلات التقليدية إلى أسر
الطبقة العاملة في حدود كسب الدخل الخالصة، ويسود الاعتقاد بأن مثل هذه الأسر غير ذات
ملكية تُمرر إلى أبنائها، وينظر إليها بوصفها مجرد عمالة لأسرٍ أخرى أكثر ثراءً. على
أي
حال، فإن تصور رجال الطبقة العاملة المخولين بكسب «دخل الأسرة» إنما ينشأ في التقاطع
بين ميراث الأسرة والتراتب الهرمي الجنوسي المطبع. في هذا الموقف، يرث رجال الطبقة
العاملة فرص كسب الدخل وينتظر أن يستخدموا هذا الدخل لإعالة أسرهم، وفقًا لهذا المنطق،
تكون الطبقة الاجتماعية للنساء والأطفال مشتقة من طبقة الرجال.
وينشأ مستوى جديد من التعقيد حين تتم عنصرة هذه العلاقات الحاكمة لانتقال الملكية
عبر
الأجيال، كما هو حادث في الولايات المتحدة. وفي تحليل جيل كوادانو
J.
Quadagno للعنصرية وكيف تقوض برنامج «الحرب ضد الفقر»، تصف
المقاومة التي تخوضها نقابات الحرفيين عند الضغط لتغيير الأنماط المتأصلة للتمييز
العنصري. وكما تشير كوادانو، كان ينظر إلى حق النقابات في اختيار أعضائها بوصفه «حق
الملكية للطبقة العاملة. وكانت هذه هي الحجة الأكثر إقناعًا لمحاباة الأقارب — إنه
تقليد تمرير الحرفة من الآباء إلى الأبناء» (
Quadagno 1994,
65). فكان أربعون في المائة من المتدربين على حرفة السباكة في
فيلادلفيا من أبناء أعضاء النقابة. أراد الآباء أن يتدرب أبناؤهم كسباكين وأن يواصلوا
العمل الحر. مثل هذه الممارسات ضمنت الإقصاء الفعلي للأمريكيين-الأفارقة وفئات أخرى من
مواقع مدرَّة للربح. تستشهد كوادانو بأحد عمال البناء، وهو يشرح مفهوم حق الملكية
وانتقال الملكية في أسر الطبقة العاملة من البيض:
بعض الرجال يتركون لأبنائهم أموالًا، والبعض يترك استثمارات، البعض يترك
اتصالات الأعمال الحرة، والبعض يترك مهنة. وأنا ليس لدي أيٌّ من هذا لأورثه
لأبنائي. أمتلك شيئًا واحدًا فقط جديرًا بأن أهبه: تجارتي … هذه الرغبة البسيطة
من الأب يقال لها إني أمارس تمييزًا ضد الزنوج. ألسنا جميعًا نمارس التمييز؟ من
منَّا حين يختار لن يفضل الابن على الجميع؟ (مقتبسة في Quadagno
1994, 65).
في الواقع، التمييز العنصري في التعليم وفي التوظيف وفي الإسكان ينعكس تاريخيًّا في
فهم الطبقة العاملة البيضاء لهذه المواقع الاجتماعية بوصفها «ملكية خاصة» يكون التصرف
فيها كثروةٍ تورث، وبينما نجد مثل هذه التوجهات قد تعكس قطعًا انحيازات شخصية، فإن
التفرقة العنصرية على هذا النحو قد ترتبط ارتباطًا وثيقًا بحقوق الملكية وبالاهتمام
بأمر قيمة الملكية الموروثة أكثر ممَّا ترتبط بالتوجهات الفعلية حيال الأمريكيين
الأفارقة.
(٦) تنظيم الأسرة
يمكن أيضًا أن نرى أهمية الأسرة بوصفها مثالًا نموذجيًّا للتقاطعية في بعدٍ واحد
أخير
من أبعاد الخطاب البياني للأسرة. يشمل تنظيم الأسرة كوكبةً من الخيارات فيما يتعلَّق
بتناسل السكان الفعلي، يتراوح مداها من الجبر إلى الاختيار، ومن الاستمرارية إلى
القابلية للانعكاس. في حالة الأسر المنفردة، يتوقف اتخاذ القرار على أعضاء الأسرة، فهم
يقررون هل سيكون لهم أطفال، وكم طفلًا؟ والفترة التي تفصل بينهم. الدارسات النسويات
جعلن طريقة تحكم الذكور في قدرات النساء الجنسية والإنجابية تحديدًا هو محور قمع النساء
(انظر مثلًا Raymond 1993). على أي حال، كما أن أجساد
النساء تنجب أطفالًا هم جزء من أسرةٍ منبنية اجتماعيًّا ومرتكزة على تصورات القرابة
البيولوجية، فإن أجساد النساء بالمثل تمامًا تنجب سكانًا ﻟ «الأسرة» القومية أو الدولة
القومية، التي نتصورها ذات نوع ما من الواحدية البيولوجية. بهذا المغزى، يصبح تنظيم
الأسرة ذا أهمية في التحكم في فئات السكان التي تحددت بواسطة العرق أو الطبقة
الاجتماعية أو المنزلة القومية (Heng and Devan 1992, Kuumba
1993).
من خلال التفكير في تحسين النسل (اليوجينيا). تفصح السياسات الاجتماعية عن أنها
موضوعة لتعزيز سلامة تصور الولايات المتحدة بوصفها أسرة قومية تتبع منطق تنظيم الأسرة.
بشكلٍ دامغ تفصح حركات الطهارة العرقية أو اليوجينيا مطلع القرن العشرين عن التفكير
الكامن وراء السياسات السكانية الهادفة إلى السيطرة على الأمومة في فئاتٍ مختلفة من
النساء لأسبابٍ خاصة بالجنسية والعرق (Haller 1984, Proctor
1988). لقد ساندوا فلسفاتٍ يوجينية وسياسات سكانية نشأت في اقتصادٍ
سياسي له حاجات متميزة، وفي مجتمعاتٍ ذات علاقات معينة بين الطبقات الاجتماعية. وعبر
العالم أجمع، تشاركت الحركات اليوجينية في الرأي القائل إن البيولوجيا تؤدي دورًا
محوريًّا في حل المشاكل الاجتماعية. وعادة ما هدفت المجتمعات التي اعتنقت اليوجينيا إلى
تحويل المشاكل الاجتماعية إلى مشاكل فنية يمكن وضع حلول بيولوجية لها تنفذ من خلال
الهندسة الاجتماعية. على هذا النحو تجمع المقاربات اليوجينية بين «فلسفة الحتمية
البيولوجية والاعتقاد أن العلم يمكن أن يوفر تقنياتٍ لإصلاح المشاكل الاجتماعية»
(Proctor 1988, 286).
«ثمة ثلاثة عوامل في التفكير اليوجيني تبدو مماثلة بشكلٍ لافت لعناوين رئيسية في
السياسة العامة الأمريكية. فأولئك الذين اعتنقوا الفكر اليوجيني نظروا إلى العرق
والصفات المتوارثة — معدل المواليد اللائقين وغير اللائقين — بوصفهما القوى التي تشكل
(وشكلت) … التطور السياسي والتطور الاجتماعي» (Haller 1984,
78). وأول هذه العوامل، قيام الفكر اليوجيني بعنصرة قطاعات من
السكان الحاليين عن طريق تصنيف البشر إلى فئاتٍ عرقية بينها استبعاد متبادل. ولأن
الولايات المتحدة انطلقت بوصفها دولة معنصرة منذ نشأتها، ظل العرق مبدأً أساسيًّا في
التنظيم الاجتماعي للولايات المتحدة. وبينما تتغير المعاني العنصرية استجابةً للظروف
السياسية والاقتصادية، تبقى العقيدة الأساسية في العرق كمبدأ مرشد في مجتمع الولايات
المتحدة عقيدة صلبة بشكلٍ لافت. العامل الثاني من عوامل التفكير اليوجيني، وهو اجتماع
الفئات العرقية المختلفة على مصالح قومية متصورة، له هو الآخر تاريخ طويل في الولايات
المتحدة. الملمح الثالث للفكر اليوجيني، وهو التحكم المباشر في الفئات العرقية المختلفة
من خلال مقاييس مختلفة، ماثلٌ أيضًا في سياسات الولايات المتحدة. وكذلك ثمة تأثير في
السياسة العامة للولايات المتحدة من قِبل ما يسمى باليوجينيا الإيجابية؛ وهي الجهود
المبذولة لزيادة النسل في الفئات الأفضل المزعوم حمل جيناتها للخصائص الباهرة في فئتها،
واليوجينيا السلبية؛ وهي الجهود المبذولة للحيلولة دون تكاثر الفئات الأقل
مرغوبية.
حازت الأفكار السابقة المتعلقة باليوجينيا تأثيرًا كبيرًا في الولايات المتحدة، بينما
ينظر إليها الآن على أنها عراقيل. وكما أشار هولر، اعتقد فرانسيس غالتون
F. Galton، مؤسس الحركة اليوجينية في إنجلترا، أن
«الأنجلوسكسون تعلو مراتبهم كثيرًا فوق زنوج أفريقيا، الذين يعلون على السكان الأصليين
في أستراليا، وأولئك لا يعلون أحدًا البتة. ولأن غالتون آمن بوجود اختلافات فطرية شاسعة
بين الأعراق، فقد أحسَّ بأن برنامج رفع القدرات الوراثية للجنس البشري ينطوي على إحلال
العرق الأعلى بدلًا من العرق الأدنى» (
Haller 1984,
11). أظهرت أفكار غالتون شعبيتها في الولايات المتحدة المفرقة
عنصريًّا، فقد سبقت القوانين اليوجينية للولايات المتحدة قوانين التعقيم في أقطارٍ أخرى
بعشرين عامًا، وكان يُنظر إليها على أنها رائدة مغامرات اليوجينيين في العالمين. أتى
حكم
Buck vs. Bell من المحكمة العليا في الولايات
المتحدة في العام ١٩٢٧م، ليقر بأن التعقيم يقع في نطاق السلطة السياسية للولاية،
وكانعكاسٍ لرأي الأغلبية، كتب أوليفر ويندل هولمز
١٤⋆ يقول:
إنه لأمرٌ غريب ألا يكون ممكنًا أن نطلب تلك التضحيات الصغرى من أولئك الذين
يستنزفون قوة الدولة فعلًا. في الأغلب لن يشعر أولئك المعنيون بأنها تضحيات،
وكل ذلك من أجل الحيلولة دون أن يغمر العجز عالمنا. ومن الأفضل للعالم بأسره،
أن يمنع المجتمع استمرار نوع أولئك الذين تكشف على الملأ عدم لياقتهم بدلًا من
انتظار بلاهاتهم. المبدأ الذي يساند التعقيم الإجباري واسع بما يكفي ليشمل قطع
قناتَي فالوب … يكفينا ثلاثة أجيال من البلهاء (Haller 1984,
139).
في هذا السياق الفكري، تطورت سياسات سكانية متفاوتة لشرائح مختلفة من سكان الولايات
المتحدة، نشأت في علاقةٍ مباشرة مع القيمة المتصورة لأي طائفةٍ داخل
الدولة-القومية.
١٥ ويمكن أن تعاود الفلسفات اليوجينية الظهور في فترات التغير الاجتماعي
العميق، من قبيل الهجرة الأوروبية الكثيفة التي سبقت حكم المحكمة العليا المذكور. لقد
شهدت الولايات المتحدة تغييرًا عميقًا، مع حركة الحقوق المدنية والحركة النسائية
والحركة المناهضة للحرب، والحركات الاجتماعية الأخرى في خمسينيات وستينيات القرن
العشرين، وبالمثل تزايد السكان المهاجرين من غير البيض في السبعينيات والثمانينيات.
أومي
Omi ووينانت (
Winant
1994) يُؤوِّلان التوسع في المشاريع الاجتماعية للمحافظين الذي ظهر
خلال تلك الفترة، بأنه استجابةٌ مباشرة لما يتصور جَنْيُه من السود والنساء. وكانت إحدى
السمات الجوهرية التي تميز الخطاب البياني لمشاريع اليمين الاجتماعية هي العودة إلى قيم
الأسرة، الأسرة التقليدية في الولايات المتحدة. وعن طريق الجمع بين مثال الأسرة
والمصالح القومية للولايات المتحدة، ربطت تلك الحركات بين هذه المصالح وأجنداتهم
السياسية الخاصة حول العرق والجنوسة. إن العود إلى «قيم الأسرة» لم يستحضر المعاني
العرقية والجنوسية فحسب، بل أيضًا أعد لمرحلة إحياء منطق اليوجينيا الذي يمكن تطبيقه
على حمل المراهقات، وفقر النساء وجرائم الشارع، والقضايا الاجتماعية الأخرى.
في هذا السياق، فإن السياسات الاجتماعية الأمريكية المعاصرة المطروحة منذ ستينيات
القرن العشرين أصبحت في التسعينيات أكثر شمولية، وذلك من خلال المساجلة حول «قيم
الأسرة». أما التساؤلات حول التحكم في جنسانية وخصوبة النساء من الأعراق المختلفة
والطبقات الاجتماعية المختلفة وطوائف المواطنة المختلفة، فقد سُيست إلى حدٍّ بعيد حين
جرى ربطها بسياسة الولاية في دولة-قومية معنصرة. مثلًا ثمة تشجيع النساء للبيض، خصوصًا
من الطبقة الوسطى، على الإنجاب. وعلى العكس من هذا، يسود الروتين بتثبيط همم النساء
الملونات عن إنجاب الأطفال، لا سيما أولئك المفتقرات إلى موارد اقتصادية أو اللاتي لا
يرتبطن بزيجاتٍ تقرها الولاية (
Raymond 1993). وتتشكَّل
انعكاساتٌ معاصرة لمنطق التفكير اليوجيني في سياساتٍ سكانية من قبيل تلك الخدمات السخية
المقدمة لمحاربة العقم في البيض، من نساء الطبقة الوسطى، بينما تمنح النساء الأمريكيات
الأفارقة الفقيرات مدًى محدودًا من الخدمات، نوربلانت وديبو بروفيرا
١٦⋆ والتعقيم، مما يشكل الانعكاسات المعاصرة لمنطق التفكير اليوجيني
(
David 1981, Nsiah-Jefferson 1989).
في منطق الأسرة بوصفها نموذجًا مثاليًّا للتقاطعية، سيكون من المغالطة أن ننظر إلى
السياسات القائمة على العرق وعلى الجنوسة بوصفها حاكمة للأشكال المختلفة من العلاقات
الاجتماعية. الافتراضات الحالية ترى الأمريكيين-الأفارقة يعانون من العرق، والنساء
البيض من الجنوسة، والنساء السود من العرق والجنوسة كليهما، بينما لا يعاني الرجال
البيض من أيهما. تتبدد هذه الافتراضات عند مواجهتها بالسياسات السكانية الفعلية المصممة
لتنظيم أنماط الإنجاب في الطوائف العرقية والإثنية المختلفة، وتجارب الأمومة في
الجماعات المختلفة من النساء بشكلٍ خاص.
(٧) استعادة الأسرة
تشغل الأسرة مثل هذه المكانة الفائقة في لغة الخطاب العام بالولايات المتحدة
الأمريكية. وقد يأتي رفضها الصريح بنتائج عكسية بالنسبة إلى الفئات الهادفة إلى تحدي
التراتبات الهرمية؛ ولأن الأسرة تقوم بدَور المثال النموذجي السائد للتقاطعية في بنية
التراتبية الهرمية، فمن الممكن أن تفيد في وظيفةٍ مماثلة وهي تحدي التراتبية الهرمية.
ومثلما يزودنا مثال الأسرة التقليدي بموقعٍ بالغ الثراء لتفهُّم أشكال اللامساواة
التقاطعية، فإن استعادة تصورات الأسرة التي ترفض التفكير التراتبي الهرمي يزودنا بموقعٍ
للمقاومة مثير ومهم.
تهدف فئات عديدة إلى تذويب التراتبات الهرمية الاجتماعية، بيد أنها في ترسيمها
لبرامجها الاجتماعية تستخدم أفكارًا عن الأسرة غير مدروسة جيدًا. ولنأخذ في الاعتبار
كيف كانت البرامج المنفذة في المجتمع المدني للأمريكيين-الأفارقة المتأثرة بنفوذ
القوميين السود تستلهم الخطاب البياني للأسرة. يشير عالم الاجتماع بول غيلروي
(
Paul Gilroy 1993) إلى أن «المجاز اللغوي للقرابة»
يتخلَّل أشكال فهم السود للثقافة والمجتمع المحلي وصولًا إلى نقطة قبول
الأمريكيين-الأفارقة الواسع للعرق بوصفه أسرة والعمل في نطاق هذا التصور. في المشاريع
المتأثرة بالسود، ينظر إلى الأسر بوصفها لبنات بناء الأمة. واستخدام هذا البنيان يفضحه
توق متَّجه صوب أفريقيا نازع إلى وطنٍ للأسرة العرقية السوداء وإلى بناء أفريقيا
الأسطورية لتخدم هذا الغرض. وأيضًا تشمل لغة الأسرة تقاطعات الحياة اليومية:
الأمريكيين-الأفارقة الغرباء كثيرًا ما يشير بعضهم إلى بعض أنهم «الأخ» و«الأخت»، وبعض
الرجال السود يشيرون بعضهم إلى بعض بأنهم «الدماء». وفي ثقافة الهيب-هوب.
١٧⋆ «أهل الدار
homies» هم الذكور السود من
حيٍّ سكني واحد أو من مجتمع الموطن المحلي. داخل هذا الإطار السياسي، يظل البيض غرباء،
هم الدخلاء الذين ينصب عليهم التقريع في فكر السود السياسي. ومن المفارقات، أن على
الرغم من ربط الصحافة الشعبية كثيرًا بين مثال الأسرة التقليدي والمشاريع السياسية
المحافظة، يجد هذا الخطاب البياني مكانًا له في سويداء ما هو أكثر راديكالية في نظريات
السود السياسية وفقًا لما يراه العديد من الأمريكيين-الأفارقة (
Appiah
1992; Gilroy 1993).
يمكن أن تنطوي السياسات النسوية على تناقضاتٍ مماثلة بشأن الأسرة، قدمت نسويات
الولايات المتحدة إسهامات مهمة في تحليلات مثال الأسرة التقليدي وكيف يضر بالنساء. ومع
ذلك، ثبت أن توق المذاهب النسوية إلى الأختية بين النساء يصعب تحقيقه في سياق سياسات
العرق والطبقة في الولايات المتحدة. تعثرت فرضيات الأختية المؤمثلة لأن النساء
الملونات، وأخريات، تشككن في موقعهن في الأسرة النسوية. ولعل الأمر الأكثر أهمية هو
توصيف وسائل الإعلام المبتذلة للنسوية بأنها مضادة للأسرة. وعلى الرغم من أن الجانب
الأكبر من رد الفعل العنيف ضد النسوية يتمثل في الزعم بأن نسويات الولايات المتحدة هن
ضد-الأسرة، فإن نساء كثيرات من اللائي لا يشاركن في رد الفعل هذا ربما يبقين على تشككهن
في أي حركةٍ سياسية تستجوب مؤسسة اجتماعية بمثل هذه الأهمية، وذلك عن طريق إبداء
الإعراض عنها. وهذا أمرٌ مؤسف؛ لأن خطاب الأسرة البياني يشكل في كثيرٍ من الأحيان لغة
قوية لتنظيم البشر من أجل غاياتٍ مختلفة.
ونظرًا إلى قوة الأسرة، من حيث هي بناء أيديولوجي ومبدأ للتنظيم الاجتماعي، فإن تكرس
النسوية القومية السوداء وحركات سياسية أخرى في الولايات المتحدة من أجل تحدي عدم
المساواة الاجتماعية قد يعد إعادة تشكيل لفهم تقاطعي للأسرة بأساليب لا تعيد إنتاج
اللامساواة. وبدلًا من الانخراط في نقدٍ لا ينتهي، فإن استعادة لغة الأسرة من أجل غايات
ديمقراطية وتحويل صميم مفهوم الأسرة ذاته قد توفر نهجًا أكثر فائدة.
هوامش