الفصل الأول
بغض النظر عن مجريات اليوم المثيرة، يفقد مجلس العموم كل تلك الإثارة في الفترة بين الساعة السابعة والتاسعة مساءً. انتهت الخطابات الرنانة لذلك اليوم. وتُستأنف المعركة بين كبار الشخصيات بعد الساعة التاسعة بعدما يتناول أعضاء البرلمان طعامهم. يخرج الأعضاء من قاعات الجلسات البرلمانية ويغادرون المقاعد الطويلة ذات اللون الأخضر إذ تسع شخصيات مناضلة ممن يجب أن تلقي خطابها الأول أو ممن يجب أن تلفت أنظار رئيس البرلمان من حين لآخر ولسان حالها يقول لجمهور الناخبين غير المكترث ها نحن هنا.
يسترخي روبرت ويست في المقعد الثاني خلف الموظف الحكومي بحكم وظيفته المرموقة «سكرتير برلماني خاص» لدى وزير الدولة للشئون الداخلية، ويتشتت انتباهه بين الساعة ومقاساة عضو من المعارضة يتصبب عرقًا جراء جهوده كي يرفع صوته إذ تحثه صيحات خبيثة من جلَّاديه على «الجهر بالكلام».
قال الجالس بجوار ويست: «سيئ للغاية.»
قال ويست محاولًا إخفاء ضحكه: «ينبغي أن نصور هذا المكان. هل سيعيد أي منا الكرَّة ويلقي خطابًا إن رأينا منظرنا الفكاهي ونحن نلقي تلك الخطابات؟» استأنف حديثه وهو يفكر بصوتٍ عالٍ: «اللعنة على موراي جراي، وعدني الوغد أن يعتقني من هذه الجلسة قبل الثامنة إلا الربع.»
استفسر زميله متعاطفًا: «هل لديك حفل عشاء؟ أظن أنك لست مقيدًا بالمكوث، أليس كذلك؟ فطلب الإحاطة هذا ليس لوزيرك.»
«كلا، إنه طلب إحاطة لوزير الخزانة، ولكن تاق موراي جراي لتناول شراب، وقد وعدته أن أبقى مع وزيره ريثما يحتسي كأسين. ربما شرب الوغد الحانة كلها الآن.»
إنه قانون غير مكتوب ينص على ضرورة أن يوظف الوزير سكرتيرًا برلمانيًّا خاصًّا كي يكون في المقعد الذي خلفه في جلسة يلقي فيها الكلمة الافتتاحية ومهمته إحضار الأوراق من المكتبة أو الإجابة عن الأسئلة الغريبة التي تُطرح من مقصورة الخبراء أسفل شرفة الصحافة. إنها مهمة مزعجة، وشعَر روبرت ويست بالضيق لأنه تطوع وأعفى صديقًا كان ينبغي أن يُترك من دون مساعدة كما هو حاله الآن.
«هل جمالها فتَّان إلى هذه الدرجة؟»
«إنها ليست امرأة، بل رجل. الحقيقة أن أَقدم أصدقائي آتٍ على العشاء الساعة الثامنة إلا الربع، وبما أنه يتعين علينا جميعًا العودة من أجل التصويت في الساعة التاسعة، فليس أمامي وقت طويل. لم أرَه منذ خمس سنوات.»
قال الرجل الأكبر: «غادر إذن. سأمكث مع الوزير.»
«بورك فيك، هل أنت جاد؟ أكره أن أتركك هكذا، ولكني سأركل موراي جراي إن رأيته.»
جمع ويست الأوراق الرسمية ووضعها على ركبة جاره وكأنه يخشى أن يتراجع الآخر عن عرضه.
تابعته أنظار الكثيرين في شرفات الجماهير وهو يحيي رئيس المجلس وينزل إلى الممر المركزي ويخرج من القاعة. روبرت ويست جدير حقًّا بأن يُنظر إليه. لا يشوب مظهره عيب من عيوب المانيكان الوسيم لدى الخياط، ما يجعل الرجال الآخرين يعاملونه بقدرٍ من الازدراء ويجعل النساء يفرضن تكهنات مشاكسة بشأن قائمة المعجبات المحتملات. إن مظهره مثير للاهتمام، شعره أسود ثقيل ومتموج وحجم رأسه معقول، فكه مربع الشكل، بشَرته صافية، عيناه كبيرتان بنيتان، وعيناه تنمَّان جزئيًّا عن سرعة غضبه وتلك نقطة ضعفه الأساسية.
في التاسعة والعشرين من عمره، ترسَّخت قدماه في منصبٍ برلمانيٍّ آمن إلى حدٍّ ما، ولأنه محظوظ للغاية لعدم وجود مصادر دخل خاصة به البتة، كان عليه أن يُبقيَ ذكاءه متقدًا كي يكسب الأموال لشراء السلع الكمالية. الراتب البرلماني الضئيل لا يكاد يكفي الضروريات التي يحتاجها عازب مقتصد نسبيًّا كحاله.
مثل معظم السياسيين الشباب (الذكور)، أولى قدرًا كبيرًا من تفكيره إلى «المنصب» الذي ينبغي أن يتقلَّده عندما دخل البرلمان مثل قدر التفكير الذي تخصصه المرأة العضوة للملابس التي ينبغي أن ترتديها في أول مرة تحضر فيها إلى البرلمان. بعد دراسة عدة نماذج، قرر أن «ما يقع على عاتقه» هو الظهور بمظهر المنتقد لئلا يتجاوب مع القلق الذي يعتري الرجل العادي، والهدوء الراسخ وسط العواصف السياسية، وكذلك التحيُّن الحثيث من أجل اللحظة المناسبة للتدخل. لما تكتم على تلك القرارات، لم يسمع من أحد أن كل سياسي شاب (ذكر) اتخذ قرارًا مماثلًا في الأيام التي تفصل بين فرز الأصوات في الانتخابات التي كسبها وأداء اليمين في مجلس العموم.
في الحقيقة، لم يستمر روبرت ويست ولو بأقل قدر في أن ينأى بنفسه عن التفكير حتى في نزاعات كلاب الشوارع. اهتم بالنزاعات السياسة، إذ كانت بمثابة معركة عنيفة، على الرغم من أنه ما انفكَّ يطمئن نفسه بأنه سيهدأ يومًا ما ويتوصل إلى الطريقة المثلى لإدارة شئون البلاد، ويتوصل إلى أسباب الفوضى التي يحدثها السياسيون في إدارة البلاد. لكن بصفته عازبًا شابًّا مشهورًا، وجد الحياة ممتعة للغاية في أي لحظة يكتسب فيها قدرًا كبيرًا من المعرفة التي تجعله صعب المراس تجاه تعليمات التصويت الخاصة بحزبه.
لما بلغ التاسعة والعشرين وفي السنة الثانية له في البرلمان، تقلَّد وظيفة سكرتير برلماني خاص لوزير الداخلية، ولذا عرفه الجميع باسم بوب، كما أنه ثبَّت قدميه على الطريق المريح الذي يقود إلى المسار الصحيح على الرغم من طوله، وعندها انحسر تيار الشباب أمام تلك المجموعة الهادئة من السياسيين التابعين لأي حكومة والقابعين على المقعد الأمامي ممن لا تُذكر أسماؤهم في حياتهم إلا قليلًا وتُنسى في اليوم التالي من بعد حل الحكومة.
في هذه الليلة تحديدًا من شهر يونيو، كان ويست يسير واعيًا لنفسه بعض الشيء في ذلك الممر القصير والمهم حيث إنه يفصل بين الخصوصية الانتقائية للرَّدْهة المركزية في المجلس ورَدْهة الغرباء؛ إذ في تلك الردهة يجمع رجال الشرطة ذوو الأجسام الضخمة واللطفاء كلًّا من الناخبين ومجموعات الضغط والضيوف وطالبي المساعدات البسيطة.
توقف ويست عند الحاجز لما نادى على اسمه رجل الشرطة. بحثت عيناه بنفاد صبر عن مصدر الصوت وسط الزحام. لم يكن العثور على دونالد شاو سهلًا إذ كان يبحث عنه بين ذلك التجمهر. إنه من النوع الذي يحب دائمًا أن يكون جزءًا من المشهد. لما انتفض قلب ويست قليلًا، أدرك أن الرجل الذي يسير نحوه هو رفيقه المحبوب في أيام المدرسة والجامعة — لم يتغير مظهر جسمه النحيل والطويل، ووجه الأسمر، ولم يتغير الأسف المضحك في عينيه الزرقاوين على وجوده في المشهد على أية حال.
«عجبًا، هذا أنت! سررت لرؤيتك مرة أخرى بعد كل هذه السنوات. هل كان الطريق مريحًا؟» عبَّر ويست عن مشاعره الحقيقية التي كان يشعر بها بعد فراق دام خمس سنوات بأسلوبه النابع من مكنون القلب.
«كانت رائعة بفضل تعليماتك الممتازة. ذكرت اسمك العجيب ووقف ضباط الشرطة منتبهين للغاية في صفوف.»
«لا تبالغ يا صديقي. أخبرتك في خطابي أن أعضاء البرلمان من أضعف المخلوقات … ولكن» بقليل من الوعي بذاته … «يُعرف اسم المرء بسرعة إذا أدلى باسمه لأحد رجال الشرطة. ما رأيك في تناول العشاء الآن؟ طلبت وجبة في قاعة هاركورت. هل تريد أن تستحمَّ؟»
«لا، شكرًا لك. أنا في أتمِّ حالٍ استعدادًا لتلك المناسبة العظيمة. إنها أول وجبة لي في مجلس العموم. أؤكد لك أني معجب كثيرًا بما أنت عليه.»
«لم تكن لتشعر بالإعجاب إذا كنت ترتدي هذه الملابس فترة طويلة.» ابتسم دون متجاوبًا مع ذلك التعليق، حيث إن بوب نفسه لا يخفي إعجابه بحاله على الإطلاق.
قاعة هاركورت التي توجَّه إليها ويست مع ضيفه هي الجزء الذي يمثل «المجتمع» العصري في مجلس العموم. يتناول الأعضاء أنفسهم طعامهم في مكانٍ متواضع لكنه مريح وليس مرتفعَ التكلفة في غرفة الطعام الخاصة بهم بالطابَق العُلوي، كذلك توجد غرفة متواضعة مثلها للغرباء من أجل تقديم وجبات لمن لديهم أعمال عاجلة. لكن ويست أراد أن يُريَ صديقه مكانته الجديدة، وكذلك يقدم له أفضل وجبة يمكن أن يقدمها «المطبخ» في مجلس العموم. حجز طاولة لفردين في مكان يوفر أفضل إطلالة على الأضواء والزهور والمشاهير وضيوفهم والجو العام لما يمكن القول عنه إنه أفضل نادٍ مختلط في العالم منذ الحرب العالمية.
لديه العديد من الأصدقاء ممن يومئون له برءوسهم وهو يرافق ضيفه إلى الطاولة.
قال وهما يجلسان: «يبدو أن المكان ممتلئ الليلة. هناك المزيد من تلك الأزمات المالية التي تحوم في الأجواء. سيُعقد تصويت مهم في الساعة التاسعة؛ ولذا يتناول الناس طعامهم. سأتركك حينها كي نبدأ عملية التصويت.»
توسَّل إليه شاو: «لا تتركني وحدي مع حكومة الإمبراطورية أو الأعضاء الماكثين منها. أخبرني الآن مَن مِن كبار الشخصيات هنا.»
«لا يأتي الوزراء إلى هنا كثيرًا. توجد غرفة طعام خاصة لهم. بالطبع ما لم يكن معهم ضيوف. ذلك الرجل صاحب الشعر الضارب إلى البياض والأنف المعقوف ويسلِّي كل هؤلاء السيدات اسمه صمويلسون صاحب البشرة السوداء، يبدو أنه يصطحب مجموعة مختلفة في معظم الليالي ويمتلك كل الأموال التي قد يحتاجها معظم الناس. ذاك الرجل الطويل الأسمر صاحب الفك الكبير اسمه جوشوا ستونيلي. قام بأشياء رائعة في الحرب.» يتوقف ويست مع كل قضمة ويذكر حفنة من الناس حوله.
«من ذلك الوسيم الجالس مع المرأة اليهودية ذات الملابس الخضراء؟»
«إنه فيليب كينيرد. هو شخص يحب المغامرة. لقد جمع أموالًا كثيرة من القضية البغيضة الخاصة بشركة «رجال العراق». لا بد أنك تعرف كل المعلومات عن تلك الشركة. كنتَ في العراق في ذلك الوقت، أليس كذلك؟»
قال شاو بصوت منخفض: «نعم، أعرف معلومات كثيرة عن شركة رجال العراق. إنها من أسباب وجودي في لندن الآن. إذن، هذا هو كينيرد!»
قال ويست: «إنه شخص رائع حقًّا.»
«ليست هذه السمعة المعروفة عنه، أليس كذلك؟»
«يحسده الناس على ما معه من أموال، ويثقلون كاهله بأخطاء رئيسه ذي الصفات النتنة ديفيد ديفيز الكبير. لكن الناس هنا يحبون له الخير، على الأقل من يعرفونه.»
«هل له باع طويل في السياسة؟»
«لا، نادرًا ما يأتي إلى هنا. مقعد آمن، ربما اشترى ودفع من أجل كل ذلك. لا أعرف سبب تسكعه في هذا المكان.»
قال شاو بصوت منخفض: «لا بدَّ أن للنفط صلةً عارضةً بالسياسات الخارجية البريطانية، هل تظن ذلك؟»
«حسنًا، ينتشر قدر كبير من الهراء حول هذا الموضوع. بريطانيا ليست كأمريكا — وأي مصالح كبيرة حاولت إرشاء مجموعات الضغط لدينا ستتوقف قريبًا من حيث انتهت.»
«حقًّا؟ لا شك أن الأجواء هنا يكتنفها قدر من الغموض. شكرًا، سأحتسي المزيد من نبيذ الهيرمتاج ذاك. إنه لذيذ، أليس كذلك؟ أرجو ألا أستنزف حصتك في تلك الوجبة الدسمة.»
ضحك ويست وهو يطلب زجاجة أخرى: «لا عليك من الإسراف في الشراب الليلة»، وأردف نَمَّه بشأن قائمة الجالسين الآخرين الذين في مرمى بصره في غرفة الطعام.
قال: «لكن لا تقام العشاءات المهمة في غرفة الطعام تلك. تُقدَّم الوجبات الخاصة في غرف طعام صغيرة في نهاية الرَّدهة التي دخلنا منها. يمكن القول إن بعض صفحات التاريخ كُتبت في تلك الغرف. في الحقيقة، ربما تُكتب بعض سطور التاريخ في إحداها الآن.»
«يا للدهشة! أهذا سرٌّ من أسرار الدولة، أم مسموح لي أن أعرف؟»
«صدقًا، أنا نفسي لا أعلم الكثير، ولكن وزير الداخلية — إنه رئيسي كما تعلم — دعا السيد جورج أويسيل على العشاء «بمفردهما» وسيلحق بهما رئيس الوزراء كي يحتسي القهوة بعدما يدق جرس التصويت الساعة التاسعة.»
اعترى دون شاو تواضع مرح. «أعلم أنه ينبغي لي أن أكون منبهرًا، ولكني عشت في أرض العراق لمدة خمس سنوات. من يكون جورج أويسيل؟ لا تقل لي إنه رئيس وزراء فرنسا أو رئيس عصبة الأمم أو أي كلمة مألوفة أخرى.»
«أوه، كلا! لا أحد يعلم الكثير عن أويسيل. إنه ليس واحدًا من أصحاب الملايين المعروف عنهم الغموض. إنه مجرد مواطن أمريكي عادي يحمل أكثر من جنسية، ويبدو من اسمه أن له أصولًا فرنسية. إنه رئيس إحدى الشركات التي تتعامل في القروض الحكومية الضخمة، لكنه عاجز ويحب العزلة ولا يخرج من صومعته إلا قليلًا. وأعتبر أن وجوده هنا راجع إلى الجهود التي بذلتها.»
«إذن، هل عرفت اللغز؟»
«إلى حد ما، فقد جهزت كل الترتيبات. بالطبع هذه الأمور ليست من اختصاص وزارة الداخلية. ولكن وجود وزير الداخلية راجع ببساطة إلى كونه أحد أتباع رئيس الوزراء، ومِن ثَم تصبح له يد في أي أمر سري قد يرغب رئيس الوزراء في نزع يده منه فيما بعد. هل تفهمني؟»
«أفهمك تمامًا.»
«بالإضافة إلى ذلك، وبمحض القدر، تصادف أن كان أويسيل صديقًا لوزير الداخلية منذ وقت طويل. فقد قضيا إجازات معًا في مخيمات قطع الأشجار أو ما شابه. ولذا استثنى أويسيل هذه الدعوة من قاعدته، حيث إنه لا يقبل أي دعوات. وما كان هذا الوغد سيقبل الدعوة لولا أنه يُكِنُّ لوزير الداخلية وافرَ الاحترام. أعاره وزير الداخلية محققه الخاص جينكس لأن لائحة شرطة سكوتلانديارد تزعجه أيما إزعاج، وما كانت الحكومة ستوافق على تواجده هنا في هذا الوقت من دون حماية. ولكني أتمنى أن أعرف ما يجري هنا. لم يفارق العبوس وجه وزير الداخلية ولم يهدأ باله منذ نزول أويسيل على هذه الأرض السعيدة.»
«ألا تعرف ما يجري؟»
«لا أعلم سوى الهدف العام من الدعوة. أعلم أن الحكومة يجب أن تقترض قرضًا كبيرًا وتسدده على فترة أطول مما اعتادت عليها من قبل. وأويسيل هنا للتفاوض بالنيابة عن المجموعة الوحيدة التي يُحتمل أن تقرضنا الأموال للمدة التي تريدها الحكومة. علمت أن الشروط صارمة، ولكني لا أعلم ما يتوقع وزير الداخلية أن يفعله بشأن تلك الشروط.»
«ربما دعاه إلى عشاء سخي كي يلين قلبه.»
«لن يتمكن من استثارة عاطفة أويسيل. إنه يقتات على البسكويت المفحم والفاكهة وأطعمة من تلك النوعية. وقد يقبل المرء دعوة رجل لأنه كان رفيقه في مخيم لقطع الأشجار، ولكني لا أرى أن هذا يحدث أي فرق ولو بأقل قدر بالنسبة إلى قرض كبير، ألا توافقني الرأي؟»
«لا أعلم. كان لقَبول الدعوة تأثير في كل القروض التي تعاملت معها، ولكن تلك القروض كانت بمبالغ زهيدة للغاية.»
ابتسم ويست، ثم قال بنبرة خجلة: «بالطبع كل تلك الأمور سرية للغاية. أظن أنك توقَّعت أن أفتح فمي وأبوح بكلام أكثر مما ينبغي، ولكني ظللت أخبرك بكل ما يدور في رأسي.»
«وأنت لا تخشى من البوح أمامي، أليس كذلك؟»
«نعم، وسامحني على قولي هذا. أعلم أن السر بات في بئرٍ عميقة ولن يخرج من بين شفتيك البتة. يسرني أنك عدت إلى إنجلترا. سأراك قبل أن تغادر مرة أخرى، أليس كذلك؟»
«بالتأكيد. ربما تراني أكثر مما تريد. إنني من أكبر العاطلين عن العمل الآن. ينبغي أن أشعر بالامتنان إزاء تدهور شركة «رجال العراق». سأخبرك بالقصة يومًا ما …»
«لكن اسمعني يا رجل … أعني، سأحاول أن أساعدك …»
«أوه، لم أقصد أنني انضممت إلى قائمة الانتظار لدى مراكز التوظيف. ليس المال ما يشغلني، لكن الاضطرار إلى ترك وظيفة استحقت عناء المكوث فيها حقًّا. لكن قضاء فترة هادئة في لندن ذات الصيت الذائع سيفيدني كثيرًا. على أية حال، يحاول كينيرد لفت انتباهك.»
لما ذهب ويست كي يتعرف على اليهودية المرحة الجالسة مع كينيرد، جلس شاو يراقب المشهد وعلى شفتيه ابتسامة ساخرة يخفيها دخان سيجاره. إنه مجلس العموم. إنه المجلس، بل مركز المجلس. حتى ينفق هؤلاء الرجال والنساء ما يكسبونه على الطعام بترف، سال عرقه ومن معه بين ذباب العراق وقاذوراته. لم يشعر باستياء تجاههم. بل جلس هادئ البال وأخذ يفكر في حصته من كل هذا. في النهاية، إن المجلس وما يمثله هو من مد ذراع الحماية على أكثر المواقع الأمامية وحشة، وهذا أعطى أهمية وهدفًا لأصعب الصراعات الجارية. لكن عند التفكير في كل من أويسيل وكينيرد، لم ينبس ببنت شفة. يشعر المرء بالمرارة حينما يتولى عملًا حضاريًّا جديرًا بالاحترام ويتوقف لأجل غير مسمًّى على يد مقامرين غير مسئولين، وحينما يرى نفسه بيدقًا في «انقلاب» مالي. لا سبيل إلى ردع هؤلاء الرجال؛ إذ لا يبدو أن ثورة ستهز عروشهم؛ بل سيُضطر الثوريون إلى التذلل إليهم حينما ينتهون من التخلص من السلالات الحاكمة القديمة.
عاد ويست بسرعة نوعًا ما، وقطع عليه أحلام يقظته.
«عذرًا يا صديقي القديم. سلوكياتنا هنا هي الأسوأ في العالم. كل فرد يقطع حديث الآخر، ولكن أوشكت الساعة على التاسعة، وعليَّ أن أصعد من أجل التصويت. إذا كنت تهتم بالحضور، فسأُجلسك في شرفة إلى أن تنتهيَ الجلسة ثم آخذك في جولة.»
أوضح المصباح الكهربائي أن رئيس الوزراء نهض من مكانه منذ فترة، ومِن ثَم ترك معظم الأعضاء الآخرين ضيوفهم كي يحضروا الدقائق القليلة الأخيرة لما يتوقعونه أن يكون خطبة مثيرة وكسب أصوات بفارق ضئيل. وعلى الرغم من ذلك، مر بعض الوقت حتى شقَّا طريقهما وسط الزحام في الغرفة، وأخذت مجموعة أجراس ساعة بيج بن تعلن عن الساعة لما توجه روبرت ويست برفيقه إلى ممر الشرفة الطويل.
«هذه الغرفة جيه، حيث أويسيل …» لم تكتمل الجملة لأنهما لمَّا وصلا إلى الباب، بدأ جرس التصويت يدق. ومع الضجيج المزدوج من أجراس ساعة بيج بن والصوت الحاد لجرس الدعوة إلى التصويت، دوَّى عيار ناري.
همس روبرت ويست: «يا إلهي الرحيم!»