الفصل الحادي عشر
عاد المفتش بلاكيت إلى مقر شرطة سكوتلانديارد بعد جلسة التحقيق في حالة من المزاج السيئ بقدر ما تسمح به طبيعة شخصيته الهادئة. أحسَّ أنه لم يلقَ معاملةً منصفة تمامًا. الأقوال التي أدلى بها في التحقيق قررها رؤساؤه في العمل. ما أزعجه أكثر تلك الحواجز الخفية والعالية التي بدت وكأنها تنشأ كلما سعى وراء مسار تحقيقات يبعث على الأمل. شعر أن الضربة آتية له ممن هم أعلى منه منصبًا، وحتى السيد جورج جليسون بدا حريصًا على أن تبقى التحقيقات ضمن الحدود المرسومة أكثر من اهتمامه بالعثور على الجناة.
جلس بلاكيت على مكتبه وسحب بعض أوراق الفولسكاب نحوه. اعتاد حين يفكر في مشكلة أن يرسم أشكالًا صغيرة للأشياء التي تشغل تفكيره. اكتسب موهبة الرسم الدقيق والمضبوط وأفادته تلك الموهبة كثيرًا في القضايا السابقة. هذه المرة، رسم صورة المسدس الذي وُجد بجانب السيد أويسيل.
ثلاث إجابات ينبغي الوصول إليها في تلك القضية. هل الرَّصاصة التي استقرَّت في جسد السيد أويسيل أُطلقت من ذلك المسدس؟ إذا كانت الإجابة بنعم، فمن أطلقها؟ وإذا كانت الإجابة بلا، فمن أي مكان أُطلقت الرَّصاصة؟
شهادة الخبير بشأن الرَّصاصة لم تكن قاطعةً على الإطلاق. نظر في التقرير المرسَل. ربما أُطلقت الرصاصة من ذلك المسدس. إنها من العيار والشكل نفسه، ولكن ذلك المسدس القياسي لا يُسعفه في استنتاج الكثير. عندما كان السلاح موجودًا في الغرفة وكانت أبواب الغرفة ونوافذها مغلقة، فقد يفترض للحظة أن الرَّصاصة انطلقت من المسدس الذي عُثر عليه بجانب الجثة.
إذن، يد مَن التي أمسكت المسدس؟ هل رأى خادم الضيافة تلك اليد عند الباب؟ لكن تلك النظرية لن تصمد كثيرًا. رأى ويست خادم الضيافة خارج الباب المغلق حين سمع صوت الرَّصاصة. الانتحار هو النظرية التي تتوافق مع كل تلك الوقائع، باستثناء حالة الجثة نفسها.
بناءً على معرفة بلاكيت المكتسبة من الخبرة، فقد أقنع رؤساءه أن العجوز لم ينتحر، وبعد هدم نظرية لا تخفى ملاءمتها من وجهة نظر الحكومة، أحسَّ أنه إن فشِل في القبض على القاتل، فالأفضل أن يترك الأمور على حالها.
انقطع حبل أفكاره بوصول ساعٍ يحمل بطاقة، وإشارة مفادها أن الوزير قد أعطى أوامره بضرورة أن يقابل المفتش بلاكيت الزائر بعد عودته من جلسة التحقيق. البطاقة احترافية وذات جودة عالية ومنقوش عليها «جون باوز، مصور فوتوغرافي». العنوان المكتوب هو شارع ديوك، سانت جيمس.
نظر المفتش من دون اهتمام خاص إلى الرجل النحيل الذي دخل إلى الغرفة. كان نحيل الجسم. يرتدي ملابس من دون اعتناء ولكنها من أقمشة جيدة. رأسه مثل رأس عالم إذ كان أصلع وذا جبهة منحسرة.
«صباح الخير يا سيد باوز. هل تريد مقابلتي؟»
«كلا، ليس أنت على وجه التحديد. طلبت أن أقابل الضابط المسئول عن قضية قتل أويسيل، وأُخبرت أن أنتظرك.»
وجه المفتش بلاكيت اعتراه تعبيرات الاهتمام. «يسرني للغاية أنك أتيت إليَّ إن كان لديك أي شيء تقوله لي. لقد وُضعت القضية بين يدي. أنت مصور فوتوغرافي، أرى ذلك من بطاقتك يا سيد باوز.»
رد الآخر بلكنة اسكتلندية خالصة: «نعم، هذا صحيح. ولكني لا ألتقط صورًا لأشخاص، بل عملي متخصص إذ يرتبط معظمه بالمتاحف. أنا أصور الوثائق القديمة. ومؤخرًا، صورت وثيقة ربما تهمك.»
«حقًّا يا سيد باوز.» حافظ بلاكيت على «إخفاء تعبيرات وجهه»، ولكن زاد اهتمامه كثيرًا.
«هل تتعرف على تلك الوثائق؟» وضع جون باوز رِزمة من الصور الفوتوغرافية كبيرة الحجم على الطاولة.
أمعن بلاكيت النظر فيها. سأل متفاجئًا: «نعم، أعتقد ذلك. أين عثرت عليها؟»
ابتسم الرجل النحيل. «إذن، هل وصلت إلى هذا الحد؟»
«أوه، نعم، لقد وصلنا إلى هذا الحد. والآن، ستخبرني كيف وصلت إلى تلك الوثائق. أنت من التقط الصور الفوتوغرافية، أليس كذلك؟»
«نعم. التقطتُ الصور بنفسي.»
«ولمن التقطت تلك الصور؟»
«هذا ما أتى بي إلى هنا. الأسبوع الماضي، أتاني رجل وسألني إن كان بإمكاني التقاط صور لوثائق معينة بسرعة. رتب أن يأتي بها يوم الإثنين في الساعة الثامنة والنصف. قال إنه لن يستطيع المكوث أكثر من نصف ساعة. ويجب تصويرها في تلك المدة.»
«ألم تشكَّ أن هناك خطبًا ما بشأن تلك الوثائق؟ لا بدَّ أن الأمر بدا غير عادي نوعًا ما.»
هزَّ السيد باوز كتفيه. «يحدث في لندن العديد من الأشياء غير العادية نوعًا ما. هذا ليس من شأني.»
«وهل أتى حسب الموعد؟»
«أتى والتقطتُ الصور. دفع لي مقدمًا ووعدني أن يتصل في اليوم التالي ويطلب مسودات الطباعة.»
«وهل اتصل؟» كانت هناك لمسة تلهُّف في صوت بلاكيت.
«لم يتصل البتة أيها المفتش.»
«هل يمكنك وصفه لي؟»
«لا حاجة إلى وصفه. ها هو الرجل»، ووضع جون باوز على المكتب قُصاصة من جريدة يومية بها صورة فوتوغرافية. إنها صورة إدوارد جينكس!
«اليوم هو الخميس يا سيد باوز. لقد استغرقت وقتًا حتى تنبَّهنا إلى تلك الصور. بالطبع نكنُّ لك كل الامتنان، ولكن هل لي أن أسألك لماذا لم تأتِ إلى الشرطة في يوم الثلاثاء؟»
«أنا رجل مشغول أيها المفتش. ولا أقرأ الصحف اليومية. أنا لا أهتم بها. لقد رأيت تلك الصورة بمحض الصدفة.»
«سؤال واحد فقط. تلك الوثيقة، على حد تسميتك، هل تصفها لي؟»
«إنها مفكرة عادية أوراقها مجمعة بحلقات وغِلافها من الجلد الأسود. يبدو لي أنها استُخدمت كثيرًا. فقد كانت بالية.»
«لم تتمكن من تصوير كل الصفحات في تلك المدة.»
«صورت كل الصفحات التي بها كتابة.»
«هل قال لك السيد جينكس أي شيء عن تلك المفكرة؟ هل أبدى أي تفسيرات لطلبه الغريب نوعًا ما؟»
«لا، لم أسأله. فهذا ليس من شأني.»
احتجَّ ضابط الشرطة منذهلًا نوعًا ما: «لكن في الحقيقة يا سيد باوز، لا بدَّ أنك أدركت أن ما طُلب منك شيء ربما كان جزءًا من أفعال إجرامية. في الحقيقة، من المرجح أن هذا ما كنت تفعله.» كانت نبرة صوت المفتش جادة.
ظل الاسكتلندي النحيل هادئًا غير متأثر. «ليس من عملي أن أطرح أسئلة تخص عملائي. لقد طلب إنجاز مهمة من اختصاصي تمامًا في عجَل. وأنا أنجزت المهمة. وقد دفع أجري. هنا تنتهي المسألة بالقدر الذي يعنيني.»
«لكن لا تنتهي المسألة عند هذا الحد يا سيد باوز، إذا لم يدرك المواطنون المحترمون واجبهم تجاه الشرطة في تلك المسائل …»
نهض السيد باوز وارتسمت على شفتيه ابتسامة عريضة معروفة عن الاسكتلنديين. «ليس لدى الشرطة مسوغ حتى الآن يدفعها إلى الشكوى من تصرُّفي. أنا لست مجبرًا على اللقاء بك على الإطلاق. كان بإمكاني وضع الصور في المدفأة، وهنا ينتهي دوري في تلك القضية.»
بدأ بلاكيت يشعر أنه لم يكن كيِّسًا. وبأسلوب متثاقل معهود لدى الشرطة البريطانية، حاول أن يكون ودودًا لما أوصل الزائر إلى الساعي كي يوصله إلى الباب الأمامي، ولكن مقالة افتتاحية كاملة في صحيفة «ويكلي سكوتسمان» تتحدث عن طرق الشرطة الإنجليزية تمثلت في تعبيرات كتفَي جون باوز عندما هم بالمغادرة.
بعدما غادر الزائر، جلس بلاكيت لبعض الوقت على مكتبه ينظر إلى الصور. تمعَّن في مطابقتها مع صفحات المفكرة. لا شك أن تلك الصفحات هي الأصلية. ما تفسير ذلك؟ ما الذي يدفع جينكس إلى تصوير مفكرته؟ هل كان يتوقع الوقوع في المتاعب ومِن ثَم كان بحاجة إلى دليل ما؟ لم يطلع بلاكيت بعد على المعلومات التي أفضت بها أنيت إلى ويست. لا يعرف أن المفكرة تخص أويسيل. لكنه شعَر أن ويست أدرك أهميتها وربما عرف شيئًا عنها. هل تمكن ويست من فك شفرة أي كلمات مشفرة؟ ما فعله ببساطة أنه أعاد المفكرة في ذلك الصباح وعليها ملاحظة مكتوبة: «أراك بشأنها لاحقًا.» لذلك فكر بلاكيت في نفسه، ومن الواضح أنه لن يستطيع فعل المزيد حتى يرى ويست ويطَّلع على ما يعرفه عن تلك المفكرة.
ذهب إلى مجلس العموم وهو يرجو ألا ينتظر ساعة حتى تدور بطاقته في أرجاء المبنى بحثًا عن ويست. عثر على روبرت البائس بعد فترة وجيزة، وكان الشاب غير المحظوظ في وسط الرواق العام محوطًا بعدد كبير من السيدات اللاتي يبدو الجد في مُحيَّاهن. وقف شرطي في الخدمة على الباب؛ إذ كان صديقًا لبلاكيت وأوضح مبتسمًا أن رابطة الناخبات الداعمة لوزير الداخلية قد وصلت «جماعات» كي يأخذن جولة في المجلس ويُقدَّم لهن الشاي. هرب وزير الداخلية بعدما طمأنهن بمدى سعادته لرؤيتهن، وأن السيد ويست يسره أن يريهن كل شيء، وكم هو مستاء لأن اجتماع مجلس الوزراء سيمنعه من أن ينال هذا الشرف بنفسه.
نظر ويست إلى بلاكيت آيسًا من وسط هذا السيل من صاحبات الأزياء المطبوعة. هرب لدقيقة كي يشرح.
اقترح عليه بلاكيت حبًّا في المساعدة بابتسامة عريضة: «دعني أوضح لهن أنك مطلوب في قضية القتل.»
«حتى لو كنت السياف نفسه، فلن يتركنني حتى آخذهن في جولة أولًا. لقد ادخرن من أجل تلك الرحلة يا بلاكيت، ويردن الحصول على مقابل أموالهن.»
سأل بلاكيت: «كم ستستغرق الجولة؟»
«لن أنتهيَ قبل ساعتين، وعليَّ أن أرى الوزير في الساعة السادسة.»
«لا بدَّ أن أراك قبل أن تذهب إليه. لا بدَّ أن أراك الآن. ألا يمكنك أن توكل تلك المهمة لشخص آخر؟»
«هل هذا ممكن؟ حتى عضو البرلمان لديه متاعبه الخاصة. سأحاول مقابلتك الساعة الخامسة. سأقابلك في الحانة بالطابَق العلوي. … نعم، أيتها السيدات، هذا هو الرواق العام، لكن بالطبع لستن غريبات الآن، بل أصبحتن ناخبات … عندما قامت الناشطات لحقوق المرأة …»
هرب بلاكيت من تلك القصة القديمة ولجأ إلى تلك الحانة الهادئة؛ إذ يلوذ إليها المتواجدون في المجلس من غير العاملين به بحثًا عن السلام وبعيدًا عن الحشود المضطربة في الردهات.
قال بلاكيت حينما انضمَّ إليه ويست في الساعة الخامسة حسب الموعد: «أرجو أنك لم تقذف بهن في النهر.»
«أخبرتهن قصة مروعة عن الأزمة وتركتهن يحتسين الشاي إذ يقدمه جميع خدم الضيافة الموجودين في المكان. أخبرت كبير الخدم أن يعطيهن كل ما يردن وأن يرسل الفاتورة إلى وزير الداخلية. إنه يستحق هذا. والآن، ما آخر الأخبار؟»
أخبره بلاكيت عن قصة جون باوز. شعر ويست بسعادة غامرة لأنه لم يُلزم نفسه بشيء في الملاحظة التي كتبها لما أعاد المفكرة في ذلك الصباح. أصبح بإمكانه أن يأتمن بلاكيت على السر من دون أن ينكشف أنه كان يخفي عنه شيئًا. صارح بلاكيت وقال له إنه عرض تلك المفكرة على الآنسة أويسيل وإنها تعرَّفت عليها وقالت إنها المستند الأساسي الذي كان اللصوص يبحثون عنه بلا شك.
نظر الرجلان كلٌّ منهما إلى الآخر. سأل المفتش: «إذن، ما الذي كان يفعله تيد جينكس بها؟»
أشعل ويست السيجارة وشاهد عود الثقاب وهو يحترق ببطء. قال: «أعتقد يا بلاكيت أننا ظللنا نشك في جينكس مدة طويلة. لقد وُجد ميتًا وفي حوزته المفكرة. حاولنا أن نتوصل إلى سبب وجودها معه. التفسير العقلاني هو أنه كان يحاول إخفاءها من اللصوص ومات دفاعًا عنها على الرغم من أننا لا نرى كيف. والآن، علمنا أنه ترك شقة أويسيل وصوَّر بعض صفحات تلك المفكرة من دون علم أحد. وتلك المعلومات لم تكن تفيده، حتى إن فك شفرتها. فهل كان يستحوذ على تلك المفكرة من أجل شخص آخر؟ يبدو الأمر كذلك. والآن، يجب أن نفكر في ذلك الشخص.»
أخرج بلاكيت غليونه. «أظن أنه يمكننا استبعاد احتمالية أنه كان يصور تلك الصفحات من أجل السيد أويسيل وبأوامرَ منه.»
«اقترحت على الآنسة أويسيل أنه ربما أعطى جَدها المفكرة لجينكس كي يحفظها معه، ولكنها نبذت تلك الفكرة تمامًا. كذلك لا يُحتمل أن يدخل أويسيل في كل تلك المتاعب من أجل تصوير شيء يملكه، ولكن على أية حال، ما سبب تصوير تلك المفكرة في الليلة التي كسر فيها قاعدته المعتادة وغادر منزله من أجل العشاء؟»
«إذن، يجب أن نفكر فيمن أراد تلك المعلومات. لا بدَّ أنهم معدودون على الأصابع. ألا تظن أن وزير الداخلية قد يساعدنا في ذلك؟ لقد كان طرفًا في المفاوضات. سيعرف إن كان هناك أي شخص آخر مشترك في تلك المهمة ومَن الذي يعتبر منافسًا لمجموعة أويسيل.»
نظر ويست في ساعة يده. «عندي موعد معه في الساعة السادسة، وكنت قررت أن أخبره عن شكوكنا إزاء جينكس. تعلم أن سيكون صاعقًا له إذ سيبدو وكأنه كان متواطئًا حينما أرسل جينكس إلى أويسيل. بالطبع، أي شخص يعرف الملابسات سيرى أن هذا غير وارد. ذهب جينكس على مرأًى ومسمع من السيد جورج جليسون. ولكن، قد يكون الأمر محرجًا نوعًا ما في البرلمان إذا انكشفت تلك القصة.»
«سيكون محرجًا إن انتشرت.»
«بالطبع، لكن كل شيء يعتمد على الطريقة التي تُعرف بها. في السياسة، لا تسنح فرصة للطرف الآخر أفضل من أن تظهر وكأنك مجبر على نشر الوقائع. وأفضل طريقة للحفاظ على سر سياسي أن تدعوَ إلى اجتماع في القاعة الكبيرة وتُلقي خطابًا بشأن المسألة. وعندها، لن ينتبه أحد.»
ابتسم بلاكيت: «لم يرُقْني البتة أن أكون سياسيًّا يا سيد ويست، ولكن بعد تجربتي في هذا الأسبوع، فإني أفضل أن أقضي عقوبة الأشغال الشاقة على أن أذهب إلى ويستمنستر.»
جالَ ويست ببصره في الحانة المكسوَّة بألواح البلوط، قال: «لا تقل ذلك. يجب أن تعترف أننا نصنع الراحة لأنفسنا. إضافة إلى ذلك، لا نرى أن القيود التي تُفرض على أي حانة أخرى لا تُفرض على الحانة هنا. وكل هذا يساعد على تحمل الحياة كما تعلم.»
«أوه، تلك الأماكن مريحة للغاية، ولكن ما لا أفهمه عن أعضاء البرلمان هو السبب الذي يدفعهم إلى خوض الكثير من المتاعب وعندما ينجحون في الانتخابات ويحصلون على مقعد لهم في المجلس، فإنه لا يستقر بهم المُقام ولا يستمتعون به. وما يكادون يأتون إلى المجلس حتى يفسدوا كل شيء من أجل خوض متاعب الانتخابات مرة أخرى، في حين أن كل ما يريده العامة هو الاستقرار في أعمالهم الخاصة وترك السياسيين يفكرون في شئونهم. وهذا أسميه سخفًا.»
«ربما أنت على حق يا بلاكيت. ولكن تلك هي السياسة.»
لما أوشكت الساعة على أن تدقَّ السادسة حينما ترك ويست المفتش، فكَّر أن ينظر إلى جلسة النقاش في المجلس ويرى ما يجري. يحرص بضعة سياسيين مشهورين على الظهور كثيرًا في قاعة الجلسات إلا في فترات الذروة في الجلسات التي تناقش القضية من جميع جوانبها، أو حينما يحاولون لفت انتباه رئيس المجلس. ويسود اعتقاد أن الأعضاء الموجودين في القاعة من أجل الاستماع إلى المناقشات فقط لا يتواجدون إلا لأنه ليس لديهم أفضل من الاستماع.
وقف روبرت بضع لحظات عند حاجز قاعة الجلسات وهو عبارة عن شريط ضيق محيك من الجلد في السجادة الخضراء المفروشة على الأرض يفصل بين «أروقة المجلس» وفي ذلك المكان، يكون العضو على مرأًى من رئيس المجلس وربما يقوم للتحدث أو يتوجب عليه الجلوس والمكوث هادئًا، يقف الأعضاء في ذلك المكان — على الرغم من تواجدهم داخل قاعة الجلسات — ويتحدثون بأصوات مسموعة، ويتصرفون وكأنه لا توجد جلسة نقاش على الإطلاق.
لم يحضر في تلك الجلسة إلا القليل. أحد الموضوعات المملة التي تتكرر كثيرًا — مشروع قانون الصرف في الأراضي الزراعية — كاد يُطرح في المناقشة الثانية غير الممنهجة. كان روبرت يلتفت كي يغادر القاعة حين لحق به مايكل هولدزوورث.
«إذن، لقد أخبرت جريس ريتشاردز كي تمنعني.»
«هل أخبرتك بذلك؟»
«هل هذا ممكن؟»
«إذن، أهنئك على فطنتك.»
«وهل هناك داعٍ … من أجل التهاني أقصد؟»
«وهل وعدتها؟»
«هذا طبيعي. لكن ما الذي تحاول أن تخفيه يا ويست؟ ألا ترى أنت — أو بالأحرى وزيرك — أن الأمور تتفاقم وتنذر بأزمة بسبب قضية أويسيل؟ أتساءل في بعض الأحيان هل الوزراء في مجلس وزراء بريطانيا يكلفون أنفسهم ويطلعون على الأخبار المالية في الصحف اليومية أم لا. وإن كانوا يطلعون عليها، يتصرفون وكأن كل الأخبار عدا الواردة في الصفحة الأولى لا تستحق اهتمامهم المهيب.»
«إذن، في ضوء الأخبار المالية، هل تقول إن جلسة النقاش الخاصة بتأجيل المحاكمة ستفيد بأي شيء في الوقت الحالي؟»
رد هولدزوورث بأن رفع أحد كتفيه قليلًا. «بإمكان جريس أن توقفني أنا عن الحديث، ولكن ليس لها تأثير في شرطة سكوتلانديارد. لقد تولت الشرطة القضية منذ يوم الإثنين. الأفضل أن تجعل وزيرك يستعد ببعض الحبال التي ستُشنقان بها معًا عندما يحين الوقت. هل أنت حقًّا تسير في المسار الصحيح لحل القضية؟ لمحت جريس أنك في المسار الصحيح، ولكني أظن أنك لم تُحرز سوى تقدم ضئيل.»
نظر ويست إلى الوجه المجعَّد للرجل الواقف بجانبه. على الرغم من أن هولدزوورث كان شابًّا، فإنه لم يكن جديدًا على اللعبة البرلمانية. إنه يعرف كل حركة. ودَّ ويست لو يتخطى الحديث عن القضية، ولكن كان هذا مستحيلًا بالطبع. لم يكن عضوًا متعصبًا لحزبه حتى، ولكنه اتخذ سمتًا شبه شيوعي خاص به هو. وعدم ولائه لأي حزب هو ما جعله خَصمًا خطيرًا للغاية. وكل الأحزاب في مجلس العموم البريطاني تلتزم بشكل أو بآخر بالحفاظ على جعل الأمور تحت السيطرة. لا تخلو الدنيا من وجود رابطة نقابية في مكان ما تُخرج إنجلترا أُم البرلمانات من أسوأ الأزمات حين يختلف أفراد عائلتها. لكن هولدزوورث من النوع الذي يفرح حين يذم تلك الأم العجوز الموقرة متى سنحَت له الفرصة. كما أنه لم يكن من المحتمل أن يتأثر بالإطراء بأن يدخل تحت مظلة ثقة الوزراء، تلك أقوى الطرق في التعامل مع عضو خطير حقًّا من غير المنتمين إلى الحكومة.
قرر ويست أن الطريقة الأفضل هي التودد إليه.
«سأقابل وزير الداخلية في الساعة السادسة. سأخبره بما تقول.»
«ولمَ التعب؟ ليس هو من سيقرر ما يقول. الأفضل أن تخبر جليسون. ما رأيه في القضية برمتها؟»
«ذاك ما لا أعلمه. يجب أن أمشيَ الآن.» عندما أدار روبرت ظهره وغادر القاعة، أدرك أن تلك هي الحقيقة البسيطة. لم يكن جاهلًا بما يفكر فيه السيد جورج جليسون. هل ينبغي أن يذهب إليه ويخبره بما نما إلى علمه؟ كلا، الأفضل أن يتحدث في المسألة مع وزير الداخلية أولًا، حتى لو كان ذلك يعني إزعاجه بإخباره أشياء تبدو عدم ولاء من جينكس الذي كان مخلصًا إلى تلك اللحظة.