الفصل الثاني عشر
لم يكن وزير الداخلية في مكتبه حين ذهب إليه روبرت. من الواضح أن اجتماع مجلس الوزراء لم ينتهِ بعد؛ حيث إن وزير الداخلية يزهو بنفسه في مسألة الالتزام التام بالمواعيد. إنه يتصف بكل الخصال المملة للشخصية العامة. تذكر روبرت أنه وعد الوزير أن يقرأ عليه التقرير السري الذي أعدته إدارة التفتيش بشأن الظروف في السجون النسائية. اطلع على الأوراق الموضوعة على مكتب الوزير، ولكنه لم يجد التقرير.
بدأ يبحث في الأدراج ووجد أن الوزير تركها كلها في حالة ترتيب باهرة. يتمسك روبرت بالرأي القائل إن الترتيب لدى أي شخص أعلى من رتبة كاتب علامة على تدنِّي العقل، ولكن الوزير لا يحب أن يرتب السكرتير أوراقه على الرغم من أنه لا يعترض على خدمات روبرت في هذا الشأن. يُمدح كثيرًا في ولاء ويست المتفاني تجاه رئيسه حيث إنه يقضي ساعات في ترتيب الأوراق لوزير الداخلية بحيث لا يجد الوزير ما يتذرع به غير الاطلاع على الأوراق.
لما كان يبحث في درج الوزير الخاص عن التقرير المفقود، وقعت عينه على مِلفٍّ داخل ظرف مكتوب عليه «أوراق مجلس الوزراء. سري.» لما كانت أي ورقة تُعرض في اجتماع مجلس الوزراء — حتى التقارير الروتينية — يُكتب عليها دومًا كلمة «سري»، لم يتردد روبرت في فتح الملف. ولما أعطاه الوزير الحق في فتح مثل تلك الملفات، كان ذلك من دواعي جفاء السيد جورج جليسون تجاه ويست. كان السيد جورج شديد التمسك باتفاقية السرية الخاصة بمجلس الوزراء وحتى التدمير الحذر للورق النشاف بعد الاجتماع.
بينما كان يقلب في الأوراق غير مكترث، إذ لم يبدُ أنها تحتوي التقرير الذي كان يبحث عنه، ارتفعت دقات قلب روبرت فجأة. التقط ثلاث أوراق من مذكرات مجلس العموم مثبتة مع بعضها بمشبك. أخذها إلى النافذة كي يتفحصها عن قرب أكثر. لا يساوره شك بشأن تلك الأوراق. المكتوب في تلك الورقات بالتحديد كان قائمة الأرقام والشفرات المكتوبة بحروف كبيرة والطلاسم التي ظل متحيرًا بشأنها لساعات ليلة البارحة. لا يوجد احتمال سوى أنها نُقلت من مفكرة أويسيل، والذي نقلها وزير الداخلية نفسه. يعرف روبرت خط يده تمام المعرفة. نظر إلى الملاحظات على الجنب، وكانت مكتوبة أيضًا بخط الوزير. من الواضح أنها كانت ترجمة تقريبية للكلمات المشفرة، كما أنها متعلقة بالمفاوضات على القرض. تلك المعلومات بعينها التي ما كانت تقدَّر بثمن لو كانت بحوزة الحكومة البريطانية في أثناء المفاوضات مع أويسيل.
أعاد روبرت الأوراق في الملف ووضعها مرتبة في الدرج وعاد متباطئًا إلى النافذة. لا يكاد عقله يصوغ الكلمات: «ما الذي يعنيه هذا؟» لكن ما معنى هذا؟ متى كتب وزير الداخلية تلك النسخة؟ كيف وصلت المفكرة إليه؟ بالطبع إن رآها بعد موت السيد أويسيل، فهذا تفسير منطقي. لكنه يعرف الشفرة؛ تلك الشفرة التي لا تعرفها أنيت، والمؤكد أن العجوز — الكتوم بشأن كل شيء — سيخفي سر شفرته الخاصة عن كل ما عداه. لكن وزير الداخلية يعرفها … وهو ليس خبيرًا. هل أمر الخبراء في وزارة الداخلية بفكها؟ لكن لو فعل، لعلم بلاكيت بالأمر لا محالة.
ثم جينكس — لكن لا، أحس روبرت أنه لن يستطيع مقابلة وزير الداخلية الآن. يجب أن يفكر لبعض الوقت. كان يحدق عابسًا في مشهد ساحة القصر لما فُتح الباب. التفت روبرت متفاجئًا. قال لنفسه لما رأى أن الداخل ليس وزير الداخلية: «الحمد لله.» لم يكن غير سكرتير الخدمة المدنية لدى الوزير، إنه شاب لطيف يتحلى بخصلة مرح ويكأنه يقول «أنا لست قلقًا» وعادة ما يروق لروبرت. اسمه برترام بريجز.
قال بعفوية: «سيستمر اجتماع مجلس الوزراء لعصور. اتصل مورتيمر لتوه. يقول الوزير لا تعطل نفسك بالانتظار. سيراك بعد العشاء.»
لمح وجه روبرت لما كان يسير نحو المكتب. «بربك يا ويست، هل أنت مريض؟ حالك لا يسر. هل آتيك بشيء؟»
«لا، شكرًا لك. أنا بخير. أظن أنني منهك وهذا الجو الحار. أرى أن أذهب إلى الشرفة وأستنشق بعض الهواء المنعش.»
جلس بريجز على حافة المكتب وأخذ يهز ساقه، سأل: «أنت تساعد في قضية أويسيل، أليس كذلك؟»
قال روبرت بعفوية: «يبدو أنها وقعت في طريقي، ولكني أظنك تعلم بشأن القضية بقدر ما أعلم.» وكان ينظر في عين بريجز كي يرى كيف استقبل تلك الكلمات. هل نما إلى علمه شيء بشأن مفكرة أويسيل بأي حال من الأحوال؟
قال بريجز: «ليس أنا. أنت تعلم كيف هو الوزير، إنه شديد الكتمان. أنت من المقربين له، يا لغضب جليسون من ذلك! لقد صعَّب عليك الأمر تمامًا. وأتساءل ماذا سيحدث إن ترقيت وأصبحت وزيرًا للداخلية قبل أن يتقاعد. هناك شيء غريب في السياسة هذه الأيام، أي شخص يمكن أن يصبح أي شيء.»
«شكرًا، ولكن ربما يصبح هولدزوورث هو الوزير يومًا ما.»
«لن يُحدث هذا فرقًا، سواء كان شيوعيًّا أو محافظًا، يتولى من هم على شاكلة جليسون مقاليد الأمور. إذا كانت لديهم خبرة طويلة في السياسة، فإن الوزراء لا يريدون إزعاج أنفسهم ويتركون الأمر لنا. وإذا كانوا حديثي عهد بها، فإن عقدة النقص لديهم لن تسمح لهم بمعارضتنا، لذا ذوو الخبرة الطويلة في الخدمة المدنية يحركون تلك الدمى.»
«ربما تندلع ثورة يومًا ما كما تعلم.»
«ما الفرق الذي ستحدثه غير أن الثوريين لن يتجرَّءُوا على خفض رواتبنا؟ سيُضطرون إلى دفع ضعف الراتب لنا ويتوسَّلون إلينا كي نستمر في القيام بأي عمل كنا نقوم به.»
صاح ويست! «اللعنة عليك يا بريجز، وعلى أصحاب الخدمة المدنية المتعجرفين المعتدِّين بأنفسهم!»
«ليس تعجرفًا. لكننا فقط نستمر في الاضطلاع بعملنا. أنتم السياسيين تعتقدون أنكم تستطيعون الارتجال مع الحكومة مثل ارتجال موسيقى الجاز على البيانو، وأنكم إذا قلتم شيئًا في خطبكم فسيحدث من تلقاء نفسه. وهذا لن يحدث. كثيرة هي النماذج والاستفتاءات ولا يُحصى عددها.»
قال روبرت عابسًا: «سأذهب وآتي بذلك الشراب»، وشد الباب بقوة خلفه.
عاد روبرت إلى الشرفة وحاول التفكير في الآثار المترتبة على اكتشافه الجديد. يرتفع ضباب خفيف من النهر. وذهب الضيوف بعد احتساء الشاي. لا يوجد غير حفنة من الناس يروحون ويجيئون بطول الرصيف الطويل المرصوص بالأعلام إذ يحاولون خفض أوزانهم الرهيبة. كل شيء هادئ وجميل. وكأن جسر ويستمنستر يوحي بالاطمئنان الكبير وهو يقف شامخًا ومتحملًا حركة المرور التي لا تتوقف. وكأن قصر لامبيث بأحجاره السكسونية يهمهم برسالته المطمئنة:
«تبقى الحياة كسابق عهدها.»
لما مد روبرت رأسه من فوق الحاجز ومدَّ بصره إلى أمواج المياه المتلاطمة تحته، لم يكن في حالة يقين. كانت أسباب إيمانه بالطبيعة البشرية تنهار. ومثل السياسيين الشباب في تلك الفترة، لم يفكر روبرت ويست البتة في مسألة الدين إلا إذا تصادف وطُرح باعتباره مسألة سياسية، كأن تطلب كنيسة مالًا من أجل بناء المدارس أو تطلب كنيسة أخرى مشروع قانون من أجل منع شخص ما من ارتكاب فعل ما. تدرب روبرت على أعراف المدارس العامة الملحق بها كنيسة صغيرة إجبارية، ومِن ثَم تشرَّب المبادئ التوجيهية لحياته الأخلاقية إذ تقول إن هناك أشياء معينة لا يفعلها أناس معينون. لا تنطبق كل الأعراف على الجميع، ولكن يجب على المرء أن يتمسك بما ينطبق على من هم على شاكلته. قد لا يستطيع الوزير القيام بأعمال ربما يتغاضى عنها الأعضاء غير المنتمين إلى الحكومة.
ما الذي كان يفعله وزير الداخلية؟ هل يمكن أن يكون هو اليد الخفية وراء لغز قتل جورج أويسيل في الغرفة جيه وعملية السطو على شقة أويسيل التي راح جينكس ضحية لها؟ تفتقر تلك الصورة المخيفة إلى العديد من الأجزاء، ولكن هل سيظهر وزيره فيها إن اكتملت تلك الصورة؟
هل ينبغي أن يتصل ببلاكيت كي يأتي ويتحدثا مرة أخرى؟ أتت ردة فعل روبرت الغريزية على خلاف ذلك. بات بلاكيت حليفًا ودودًا الآن، ولكنه قد يُضطر إلى تنفيذ واجبه، سواء كان ذلك وزيرًا أم غيره.
هل يبحث عن سانكروفت ويتناقش معه في تلك المسألة؟ كان سانكروفت مخلصًا ويمكن ائتمانه على السر، ولكنه مستقل في تفكيره. ولأنه صحفي مهتم بما يجري في أروقة البرلمان، فإنه يقفز إلى الاستنتاجات ويتمسك بها. أراد ويست أن يتحدث في تلك المشكلة ولكن من دون الوصول إلى استنتاج. إنه يخشى الاستنتاجات المحتملة، لا سيما الاستنتاج الذي من المؤكد أن يقفز إليه سانكروفت غير الموقر.
دون هو الجدير بتلك المحادثة. يمكنهما تناول العشاء معًا على الطاولة نفسها التي جلسا عليها ليلة الاغتيال ويتحدثان في القضية كلها.
عندما هاتف شاو ووعده بأن يأتي من فوره، عاد ويست إلى حالة ضيق الصدر إذ ظل يروح ويجيء في الشرفة التي بدأت تمتلئ الآن بالضيوف من أجل العشاء. تمكن من الفرار كي لا ينضم إلى حفل مقابلة النجمة السينمائية الجديدة روزالين راي إذ كانت تعقد جلسة صغيرة في نهاية الشرفة الخاصة بالنبلاء، وأن يهرب من حضور حفل مكتب استعماري يضم محامين وتربويين من غرب أفريقيا.
لم يطع وكيل الوزارة النشيط الذي قرَّر أن يأتيَ ويتلطف مع «مرءوسيه المختلفين معه في العرق»، فقال: «دعك مني يا روري. أعلم أنه ينبغي أن أحضر وأكون ودودًا، ولكني لم أعرف البتة ما يقال لأناس تابعين إلى الإمبراطورية غير «أنها إمبراطورية قديمة، أليس كذلك؟» وغالبًا هم لا يعتقدون ذلك. وفي قرارة أنفسهم، يشعرون أنهم مضطهدون وأننا لا نؤدي واجبنا تجاههم، ومِن ثَم يصبح الوضع غير ملائم. أنا لا أعرف شيئًا عن مقايضة الإبر بحبوب الكاكاو، لذا أخرجني من ذلك الموقف.»
أشار إلى روبرت عدد كبير من الناس وهو يروح ويجيء منتظرًا شاو ولا يستقر به المقام لفعل شيء آخر. لا تزال قضية أويسيل هي محور الحديث الأساسي. لا يزال الناس يتمتعون بروح الدعابة في تلك القضية ويستاءون كذلك من الفوضى التي يُحدثها الأمريكيون. ينبغي أن يتفهم الأمريكيون أن الشرطة لا تدخر جهدًا. لكن روبرت يعلم — وكذلك الحكومة تعلم — أن تلك الأجواء لن تطول أكثر من أسبوع. بعد ذلك سيُضطرون إلى عقد جلسة نقاش وإصدار بيان ومِن ثَم ينتشر الخبر في العالم. استاء روبرت من تلك الأفكار. لكن وزير الداخلية العنيد والمتسلط والتقليدي ينبغي أن يوضع تحت مجهر الشك في تلك القضية — ووجد روبرت نفسه لا يكاد يصدق، لكنه أحس بفضول تجاه رئيسه أكثر مما شعر به في كل تلك السنوات منذ أن عرَفه. لم يَقدُره حق قدره منذ طفولته كما فعل مع تمثال الملكة فيكتوريا في ميدان بلده الأم. هل التمثال البشري واجهة تخفي وراءها شيئًا غريبًا إلى أقصى حد؟
بدأت مصابيح غرف الطعام المطلة على الشرفة تضاء. كانت الساعة التي تسبق العشاء في ليالي شهر يونيو في الشرفة من مصادر البهجة في حياة أعضاء البرلمان. في ذلك الوقت، ليس مطلوبًا من الناخبين تحقيق ما يرجى منهم بطريقة تثير الإعجاب. إنه الوقت المخصص للأصدقاء المقربين والحفلات البسيطة الودية. أولى روبرت ظهره إلى جدار مسكن رئيس المجلس، وذلك الجدار يسد أحد أطراف الشرفة، نظر إلى الممر المرصع بالأعلام ويبلغ طوله ربع ميل. تلطفت ألوان الجدران المليئة بالزخارف القوطية في ضوء الشفق. أمست مياه النهر متشبعة باللون الأزرق المعكوس من السماء وقت الغروب. خرج أعضاء البرلمان لاستنشاق الهواء. بدأ الضيوف في الوصول. أقيمت عدة حفلات عشاء. أثير الاهتمام في المكان لما ظهرت «بنات الذوات» للمرة الأولى وهن يرتدين الفساتين الطويلة ذات الأقمشة المخملية والدانتيل التي تلاعب الأحجار القديمة. أضفت المعاطف المخيطة من التويد التي يرتديها الأعضاء أبناء عمال المناجم لمسة من التعايش. جمع المكان بين كل الأطياف وكلهم يتحدثون الإنجليزية وكلهم يتحلَّون بالود.
لم يكن مظلمًا سوى نوافذ الغرفة جيه. لم يُقَم حفل عشاء فيها منذ ليلة وقوع جريمة القتل. لسوء حظ روبرت أنه يعرف السر، ويرى تلك الغرفة المظلمة بمثابة رمز للعفن المكدس تحت تلك الحياة التي ظاهرها البهجة. لم يكن الحال في إنجلترا في هذه الأيام كحالها حين بُني هذا المكان وافتتحته الملكة فيكتوريا. أحس بضآلة القدر الذي يعرفه عن العالم خارج جزيرته، وبالقوى العظمى التي تكتسح عالمه المحمي. روسيا وأمريكا — القوتان العظميان في الشرق والغرب — وبينهما إنجلترا صاحبة الأعراف والطرائق القديمة والماضي الباهر. لكن ماذا لو لم تصمد تلك الأعراف وكان الحصن مليئًا بالثغرات؟
لم تكن المرة الأولى التي يحنق فيها روبرت ويست على التعليم الحكومي الذي لم يُعطه مفتاحًا يدخله على هذا العالم الجديد. يبدو أن بعض أنصار حزب العمال — لا سيما الشباب منهم — يعرفون ما كان يجري. لكن هل هو مختلف كل هذا الاختلاف عن ستيوارت أورفورد الذي يبكي على أطلال الزمن الغابر ويبكي على الأعراف التي يرى أنها تُنتهك؟
انقطع حُلم يقظته بوصول بطاقة من دون شاو. قرَّر ألا يأخذ شاو إلى قاعة هاركورت على أية حال. سيتناولان العشاء في غرفة الغرباء المرحة التي تعج بالضوضاء، تلك الغرفة الرثَّة المزدحمة الممتلئة بالدخان حيث يعزم أعضاء البرلمان ضيوفهم على أرخص الوجبات في ويست إند. قال روبرت شارحًا: «أنا لست وضيعًا يا دون. ولكني أريد أن أبدوَ مرحًا قدر الإمكان.»
تشدق شاو بصوته اللطيف: «أَخرِج كل ما في صدرك. لن أقاطعك.»
قصَّ عليه روبرت القصة كلها بسرعة كما يعرفها، وترك طعامه يبرد في الطبق غير مبالٍ به. لم يبدر من شاو أي إشارة على الاندهاش. لما انتهى بوب، قال بعد نفاد صبر: «وماذا بعد؟»
قال دون: «يبدو أنك عزمت على التفكير بصورة سيئة عن رئيسك»، ولم يزد على ذلك.
«لكن يا دون، اللعنة على كل هذا، هذا ما لا أريد أن أفعله، ولكن هل هناك تفسير آخر؟»
«أظن أن لي رأيًا مختلفًا يا بوب، دعني أتطرق إلى تلك النقاط وسأحاول أن أطرح حالة محتملة لوزيرك.»
«جيد. هذا ما رجوت أن تفعله. لنبدأ بالنقطة الأولى. جينكس — حارس وزير الداخلية — أعاره الوزير مباشرةً إلى أويسيل على الرغم من مخالفة ذلك لكل اللوائح.»
«تلك النقطة سهلة. على حد قولك، فعل الوزير هذا كي يُطمئن أويسيل الذي لم يساوره شك بشأن عَلاقة جينكس السرية مع وزير الداخلية. كان السيد جورج جليسون أيضًا على علم بذلك، وقد أجاز تلك الفكرة حتى لو لم يكن موافقًا عليها.»
قال بوب: «كلامك صحيح. لننتقل إلى النقطة التالية. يعرف جينكس المستند الأساسي ويسرقه كي يأخذ نسخة منه.»
«ليس لديك أي دليل على أنه نسخه من أجل وزير الداخلية. بل على العكس تمامًا، إذ من الواضح أنه كان قادرًا على الحصول على نسخ من مصادر أخرى. وهذا يتركنا مع سؤالين ينبغي أن نحلهما؛ لصالح مَن يعمل جينكس، ومن أين وصلت تلك النسخة إلى الوزير؟»
دوَّن روبرت هاتين النقطتين على ظهر ظرف. قال: «سنتطرق إلى هذين السؤالين فيما بعد، لكن يجب أن تعترف أنه من الغريب ألا يكون لدى جينكس غير فرصة واحدة لنسخ صفحات المفكرة عندما تمكن وزير الداخلية من جعل أويسيل يكسر قاعدته بشأن الطعام للمرة الأولى.»
أحضر شاو لنفسه المزيد من البطاطس، وقال: «بالتأكيد تلك الفرصة سنحت لجينكس، ولكن ليس بالضرورة أن يعنيَ ذلك أن وزير الداخلية تعمَّد توفير تلك الفرصة له إذ ينالك الحظ الأوفر في تلك النقطة. إذا فعل جينكس فعلته لصالح مجموعة تنافسية، فربما واتته تلك الفرصة بمحض الصدفة.»
«لننتقل إذن إلى النقطة التالية؛ اغتيل أويسيل وسُطِي على شقته وقُتل جينكس لما عاد من مهمة تصوير المفكرة. أين تتقابل كل تلك الأمور؟»
«حسنًا، إنها لا تتلاءم مع نظريتك بشأن وزير الداخلية. لو كان هو الرأس المدبر، لكانت تلك الأفاعيل دأبه على الأقل. أعود إلى نظريتي الأساسية يا بوب، وهي أن مجموعة أخرى دبرت لتلك المسألة. بالتأكيد يمكنك الحصول على معلومات عن ذلك.»
هزَّ ويست كتفيه. قال: «تقترض الحكومة تلك المبالغ الضخمة من بضعة مصادر، ولا يبدو في تلك الحالة أن المصادر الأخرى كان لديها أدنى اهتمام بالمسألة. وعلمت من مورتيمر سكرتير رئيس الوزراء أنهم حاولوا مع المجموعة الوحيدة المحتملة ولكنها لم تأتِ إلى المفاوضات. بالطبع تلك المعلومات سرية لأقصى درجة. وإفشاء تلك المعلومات سيضر بريطانيا.»
أجاب دون: «إذن، وصلنا إلى النقطة الخامسة والأخيرة. إنها العثور على بعض صفحات من المفكرة بين أوراق وزير الداخلية وبخط يده. والسؤال، من أين وصلته تلك الصفحات؟ هل كانت المفكرة بحوزته لما عُثر عليها مع جينكس؟»
«لم تخرج من خزانة بلاكيت طَوال الوقت. أعلم هذا.»
«ولكن أنت أخذتها ليلة، فلماذا نفترض أن الوزير لم يستعِرها؟»
«أنا متأكد من أن بلاكيت سيخبرني لو كان الوزير أخذها.»
«هل بإمكان أي مسئول آخر أن يأخذها من أجل الوزير إذا طلبها على وجه الخصوص؟ هل من طريقة تعرف بها تلك المعلومة؟»
«يمكنني أن أتصل ببلاكيت. يمكنني أن أشرح له المسألة بأريحية تامة. سأذهب وأتصل به الآن.»
لم يُطلْ ويست غيابه. لما عاد، كان بحوزته أخبار أن وزير الداخلية طلب أن ينظر في أي أوراق وُجدت مع جينكس. أُرسلت الأوراق إليه وأعادها بعد ساعة مكتوبًا عليها عبارة التعزية بخط يده لزوجة جينكس، وورقتين من فئة خمسة جنيهات كي تُضَمَّن عندما ترسل وزارة الداخلية الأموال التي وُجدت في محفظته إلى زوجته. «بالطبع هذا شيء طبيعي أن يفعله، ومِن ثَم لم يذكره بلاكيت لي. من الواضح أنه لم يفكر في أي شيء. ولكنه يؤكد أن وزارة الداخلية لم تطلب خبراء من أجل فك تلك الشفرات.»
قال دون مفكِّرًا: «الشيء الغريب في نظري هو لماذا يعيد وزير الداخلية تلك المفكرة في حين أنه يعلم أهميتها. بالطبع يمكنه أن يحتفظ بها في عهدته الخاصة إذا أراد ذلك، أليس كذلك؟»
«نعم بالطبع. لا سيما إذا تحدث مع جليسون. والآن، لماذا أعادها من دون أن يقول شيئًا؟»
سأل شاو: «ألا تعتقد أنه من الأفضل أن تقابل الوزير وتناقش معه المسألة بكاملها؟ ربما يكون لديه تفسير بسيط للغاية لما يبدو غريبًا في ظاهره. في الحقيقة، قد تكون المسألة بسيطة للغاية لدرجة أنه لا يرى السوء فيما ستبدو عليه الأمور إذا فهمت العامة المسألة بالطريقة التي فهمتها بها. وإذا انخرط هولدزوورث وأفراد شرطة سكوتلانديارد في تلك المناقشات، فقد يتوصَّلون إلى شيءٍ مما توصلت إليه. تخيَّل أن تنتشر كل تلك المعلومات في المجلس من دون أن يدرك الوزير التفسيرات التي تُبنى عليها!»
أجاب ويست: «نعم بالطبع، يجب أن أقابله، ولكن هل سيناقش المسألة معي؟ إنه يغضب بسرعة شديدة إن اعتقد أنني أُحاججه في شيء فعله، على الرغم من أنني أقرب إليه من أي شخص في هذا المكان. لا أظن أنه سيسمعني حتى.»
قال شاو بعد نفاد صبره: «إذن، عليك الذَّهاب إلى شخص يجعل الوزير يستمع إليه.» أحسَّ شاو بالضجر من موقف ويست وبلاكيت إذ يعتبران أنه من الطبيعي إحاطة وزير المملكة بهالة من القداسة وأنه يجب مقابلة التقلبات المزاجية لدى رجل عجوز على أنها مسألة ذات أهمية حقيقية.
قال روبرت: «أول شيء سأفعله في الصباح هو أني سأقابله، وإن وجدت جليسون معه فسأقف عند عتبة الباب ولن أدخل. وإذا سافر إلى مدينة إيشر لقضاء عطلة نهاية الأسبوع، فسأعلق في عتبة باب سيارته إذا لزم الأمر وأنادي عليه من النافذة. ليس بوسعي أكثر من ذلك.»
نظر شاو منفعلًا بعواطفه تجاه تفكير صديقه الوسيم. «في الحقيقة، لا أظن أنه سيلزم أن تقوم بتلك الإجراءات المضنية، ولكن يجب أن توقفه وتجعله يستمع إليك. يبدو لي كمن يجلس بهدوء على برميل من البارود ويخشى أن ينفجر من تحته في أي لحظة.»
«تلك المسألة ستأخذ في عقبيها الكثير من الأشياء الأخرى. يا إلهي، ما تلك الحياة، ويظن الناس أن مجلس العموم ملاذ هادئ لكبار السن والعجزة! بعد ما مررت به، ستبدو العراق هادئة نسبيًّا، أليس كذلك يا دون؟»