الفصل الخامس عشر
في أثناء الرحلة الطويلة إلى لندن بسيارة الرولز رويس الخاصة بدالبيتي، وُضع روبرت في تحقيق حثيث حول كل تفاصيل القضية. ثم هدأ دالبيتي بعض الوقت. قال فجأة: «أعتقد أنه يجب الفصل بين قضية القتل ومسألة جينكس. وزير الداخلية تراوده أفكار غريبة فجأة. أنا أعرفه منذ وقت طويل، ولا يمكن توقع ما سيفعله حينما تطرأ فكرة في رأسه. ولكني لا أزال أصدق أنه نزيه بقدر ما هو غبي. يجب أن نخيفه كي يخبر رئيس الوزراء بما كان يسعى خلفه، ولكن لغز قتل أويسيل لا يزال قائمًا وهذا ما يضع الحكومة في موقف محرج للغاية.»
قال ويست: «لا يبدو أن الحكومة قلقة إزاء تلك المسألة كثيرًا. أعني أنه إذا كانت المسألة خطيرة إلى تلك الدرجة، فينبغي للحكومة أن تفعل شيئًا، أليس كذلك؟»
أبدى دالبيتي تعجبًا ينمُّ عن نفاد صبره. «كثيرًا ما أتساءل يا ويست ما الذي يحدث لمعظم الرجال — وليس كلهم بالطبع — حينما يتولَّون منصبًا في الحكومة. يبدو أن كل الأحزاب مصابة بحمى خفيفة. أظن أن الرجال ينشغلون تمامًا بوزاراتهم، والشيء الأصعب هو الاهتمام ببلد كبير مثل بريطانيا، ناهيك عن الإمبراطورية بكاملها. أتذكر حينما لم يكن قد تبقَّى سوى ثلاثة أيام على حل الحكومة السابقة بعدما مُنيت بهزيمة نكراء، تحدثت إلى أحد الوزراء وكان يعد الخطط بهدوء للسنة التالية. إنه لم يسمع عن المشكلة الجارية. يبدو أن الأمر لا يصدَّق، ولكني أؤكد لك أن هذا ما تم بالفعل. لم يكن الرجل أحمق، بل وزيرًا كفؤًا.»
عندما وصلت السيارة إلى باب المنزل رقم ١٠ بشارع داونينج، عادت الحماسة إلى روبرت. سبق أن حضر تجمعات رسمية في الحديقة ويعرف الصالة والمكتب الرئيسي. كذلك سبق أن رأى الغرفة التي اجتمع فيها مجلس الوزراء. ولكنه لم يرَ الجزء الخاص في المنزل. لما كان ويست يصعد على درَج السُّلَّم المفروش بسجادة خضراء بسيطة، والصور الفوتوغرافية ذات الإطارات الرخيصة المعلقة على الحائط، بدأ ينجذب نحو البساطة التقليدية في حياة الشخصيات العامة الإنجليزية. من الواضح أن دالبيتي يعرف المنزل، ومِن ثَم تبعه وعبرا من غرفة الطعام المبطنة بألواح البلوط ولكنها داكنة اللون إلى غرفة استقبال صغيرة بابها في نهاية غرفة الطعام. إنها غرفة بسيطة إذ أعدها صاحبها الحالي. يتضمَّن تأثيث الغرفة كراسيَّ مريحة لها أغطية ذات أقمشة قطنية لامعة، ومكتبًا كبيرًا لرئيس الوزراء، وبضعة كتب، ولا بدَّ أن تلك الجدران الأربعة سمعت محادثات مهمة أكثر من أي أربعة جدران أخرى في العالم.
كان قلق روبرت يتزايد وكان يحاول جاهدًا ألا يفكِّر كثيرًا فيما في جَعبته، وابتهج لما نهض رئيس الوزراء من فوق الكرسي ذي الذراعين مرتديًا ملابس نوم ونعلًا ناعمًا. تصافح مع اللورد دالبيتي أولًا ثم صافح روبرت، قال مبتهجًا: «كنت غيرت ملابسي حينما اتصلت بي، وأعلم أنك ستسامحني على مقابلتك بهذا الشكل.»
رد دالبيتي بلطف معهود: «لا يُغتفر لي البتة إزعاجي لكم في هذا الوقت، ولكنك تعلم أنني ما كنت لأفعل ذلك لو لم تكن المسألة ملحَّة»، وعندها رأى روبرت أن التعامل بين الرجلين قائم على مبدأ المساواة التامة.
لما كان رفيق ويست يشرح الأسباب العامة التي جعلته يأتي به بتلك السرعة، حاول روبرت أن يعتاد على رؤية رئيس الوزراء بتلك الملابس الغير الرسمية محل الشخصية المبهرة التي تقبع في المقعد الأمامي في مجلس العموم، وحينها التفت دالبيتي إلى روبرت وقال: «والآن، أعتقد أنه حقيق بك أن تخبر رئيس الوزراء القصة التي قصصتها عليَّ كاملة.» أحسَّ روبرت أن الدم يهرب من وجهه. لكن سرد كل التفاصيل التي تجول في عقله لدرجة أن سرده للحكاية كلها كان متسقًا بدايةً من الخطاب الأول الذي كتبه باسم وزير الداخلية إلى جورج أويسيل وحتى عثوره على الملاحظات المشفرة في الملف الخاص بالوزير.
كان رئيس الوزراء مستمعًا جيدًا. جلس على الكرسي وأسند ظهره منصتًا من دون أن ينبس ببنت شفة. عندما انتهى روبرت، التفت إلى الرجل الكبير وتحدث بصوت هادئ لم ينبئ شيئًا عما يشعر به، ثم وجَّه سؤالًا: «حسنًا، ما قولك في كل هذه القصة يا دالبيتي؟»
«قصة لا تصدَّق، ولكن … حسنًا، سأقول رأيي. ويست ليس أحمق. لماذا تركت الوزير يتولى المفاوضات على القرض؟ تعرف أني كنت ضد تدخُّله في المسألة … منذ البداية.»
«أرجوك. لن نخوض في كل تلك الأمور مرة أخرى. رجوت أن تفيدنا العَلاقات الشخصية لوزير الداخلية مع السيد أويسيل — ولا شك أنهما كانا على معرفة شخصية — خاصة في المراحل الأولى من المناقشات.»
«ولكن ما الذي كان يسعى إليه؟»
ارتسمت ابتسامة غير مكتملة وكُدْرة على شفتَي الوزير. «لا بدَّ أن ننتظر تبريراته. لكنني متأكد من أن ما فعله أيًّا كان نابع من نية صالحة.»
ضحك دالبيتي ضحكة متجهمة. «أوه، ما أنزه هؤلاء الناس! إنهم يتسببون في أضرار أكبر مما يتسبب فيها المحتالون. وحينما نقع جميعًا في ورطة، فسينزعج إذا لم يقدم له أحد خطاب شكر رسميًّا. إنه الآن في اسكتلندا يبارك سفينة غير مكترث بتلك المصيبة التي خلَّفها. فتيل المصيبة ضُبط على الانفجار يوم الإثنين. فهل أتوقع أن يعود لحضور جلسة النقاش الخاصة بتأجيل المحاكمة؟»
قال ويست: «لن يعود قبل الحادية عشرة.»
قال رئيس الوزراء: «يستطيع أن يأتيَ في السابعة والنصف، سيأتي إن تعجل وأتى بأقصى سرعة. وأرجو أن تتكتم هذا السر يا ويست تكتُّمًا صارمًا.»
«أؤكد لك يا سيدي أن لا أحد يعلم هذا السر.» روبرت وخزه ضميره مرة أخرى لأنه أخبر شاو، والحمد لله أن دون موثوق به — وما أحسنه أنه لم يقل شيئًا لبلاكيت!
أخرج رئيس الوزراء غليونه ووضعه على الموقد.
«الشخصيات، الشخصيات، يا إلهي، ما أصعبهم من مشكلة!»
في تلك اللحظة، أحس روبرت بمسحة من الشفقة تجاه هذا الرجل الوحيد، وتجاه أي رجل رفعه منصبه إلى مكانة أعلى ممن حوله وفي النهاية تركه من دون وسيلة للتعامل مع الشخصيات المتحاربة من حوله غير فطنته. ولما كان روبرت حسَّاسًا للأجواء من حوله، أحسَّ أن الرجلين يريدان أن يكونا بمفرديهما. لا بدَّ من مواجهة العاصفة التي تلوح في الأفق. غريب ما حدث على الرغم من أنه لم يقابل دالبيتي قبل العشاء في هذه الليلة، وسرَّه أن يقابل رئيس الوزراء شخصيًّا في وقت يجب فيه مواجهة أزمة كتلك. قام وتحدث إلى رئيس الوزراء بنبرة احترام: «إذا لم يكن لي عمل آخر يا سيدي، فهل أذهب الآن …؟»
قال دالبيتي: «سيعود بك قائد سيارتي إلى كلينتون باردسلي. أخبره أنني سأمكث في المدينة اليوم. يمكنه أن يأتيَني مرة أخرى غدًا.»
«عندما أعود، سيكون الوقت قد تجاوز منتصف الليل بكثير. وربما يكون من عدم اللباقة أن أجعل السيدة بيل كلينتون تنزل في هذا الوقت.»
«لن تسامحك إن لم تَعُد.»
نظر رئيس الوزراء في ساعة المنبه. «هل تظن أنه من الأفضل أن يعود إلى هناك يا دالبيتي؟ ليس هناك قلق من نوايا السيدة بيل كلينتون، ولكن قد يصعب على ويست كثيرًا أن يتكتم كل ما حدث إذا أصرت على أن تعرف.»
ابتسم دالبيتي. «يخيل إليَّ أن ويست يعرف كيف يتعامل مع امرأة حسناء. ستقل الأحاديث إن عاد. فكر في حكاية محبوكة يا ويست في طريق عودتك؛ إذ لا بدَّ أن تقول شيئًا لآيفي. هل تعتقد أن بمقدورك التحدث إلى كينيرد في يوم الأحد ولكن بالطبع من دون أن تُلمِّح له بشيء عن الشفرة؟ أريد أن أعرف طبيعة عَلاقته الحقيقية مع أويسيل وهل الآنسة أويسيل ستقبل به زوجًا أم لا.»
سأل رئيس الوزراء منفعلًا: «وهل الوقت مناسب؟ سنقدم السرية على كل ما سواها إلى أن نرى وزير الداخلية. قد يُحتال على ويست من رجل ماهر مثل كينيرد ويُحصَل منه على معلومات من دون أن يعرف.»
ابتسم دالبيتي إلى روبرت ابتسامة مشجعة. «يبدو أن الفتى يُحسن عمله حتى الآن. أعتقد أنه يمكن الوثوق به.»
خرج روبرت إلى السيارة التي تنتظره وصدى هذه الكلمات في أذنيه، وظل طَوال الطريق يفكر في مشكلة تعد مشكلة محورية في كل وزارات الحكومة، وظل يتساءل عن سبب ندرة أصحاب الشخصيات القوية أمثال دالبيتي ممن وُلدوا كي يكونوا قادة في السياسة النشطة. يريد أن يتبع لواء دالبيتي في معركة طاحنة. لقد شكر القدر بأن تجمل بما يدفعه إلى الثقة به والاعتراف له في الحديقة بعد العشاء.
كانت الساعة الثانية حينما وصل روبرت إلى منزل كلينتون باردسلي. الكل خلد إلى النوم ما عدا السيدة بيل كلينتون وفيليب كينيرد حيث إنه جلس معها. عبرا الصالة بمجرد أن سمعا صوت الإطارات على حصى ممر السيارات.
لما أخذت صاحبة الضيافة روبرت إلى غرفة الجلوس الصغيرة؛ تلك البقعة ذات الراحة غير التقليدية في هذا المكان الفسيح، ضحكت وقالت: «أرجو أن يكون التفاني هو الذي أجلس فيليب معي وليس الفضول وحده.» شكرها روبرت على القهوة الساخنة التي أعدتها على السخان الكهربي وعلى كومة الشطائر التي تُركت له.
«والآن، ستكافئنا بقولك إن كل المعلومات سرية للغاية ولا يمكن أن تتفوه بكلمة. ولكن أخبرني. كيف اغتال وزير الداخلية السيد أويسيل المسكين؟»
ضحك روبرت. رتَّب أفكاره في عقله بشأن الحبكة التي سيرويها كما نصحه دالبيتي. ولما كان كينيرد موجودًا، وربما أخبرته أنيت عن جينكس، ربما يكون من المثير للاهتمام رؤية ردود أفعاله.
«وهل يمكن الوثوق بك بألا تتفوهي بكلمة أمام أحد؟»
«يا لدهشتي منك أيها السيد روبرت ويست الشاب! لقد التحقت بالبرلمان وأنت لا تزال في المدرسة الإعدادية.»
داعبها روبرت: «إذن، أنت في البرلمان منذ فترة طويلة وتعرفين أن العمر ليس دليلًا على الفطنة. الفكرة هي — حسبما أتوقع أن الآنسة أويسيل أخبرتك — أننا لا نستقر على رأي بشأن إدوارد جينكس.»
«كلا، لم تخبرني الآنسة أويسيل شيئًا. إنها من النوعية الكتومة كما تعلم.»
اندهش روبرت. ألم يكن كينيرد على وفاق مع أنيت كما ألمح من قبل، أم هل تلك الفتاة المتحفظة تكتم أسرارها حتى عن أقرب الناس إليها؟ هل أخطأ لما أخبر كينيرد الكثير؟
قال محاولًا الابتعاد عن تلك النقطة: «الدليل الذي معنا ليس قطعيًّا. السبب الوحيد الذي يدفعنا إلى التكتم هو أن جينكس كان على عَلاقة خاصة بوزير الداخلية. ولا يمكننا فعل شيء حتى يعود يوم الإثنين.» لم يظهر اهتمام خاص على وجه كينيرد.
فكر روبرت: «تُراه يعتقد أنني أقول هذا الكلام لمصلحة آيفي، أم أنه لا يهتم حقًّا.»
طلب كينيرد فنجانًا آخر من القهوة. سأل: «هل لدى الشرطة أي نظرية بشأن اللصوص الذين قتلوا جينكس؟»
حرَص روبرت على إبقاء المحادثة ضمن المسائل العامة الآمنة. «بالطبع، سيتمكن اللورد دالبيتي من مساعدتنا في هذا الشأن. إنه يميل إلى النظرية القائلة بأن مجموعة قراصنة في المنطقة التجارية لها علاقة بتلك الواقعة بشكل أو بآخر. تلك النظرية تبدو رائعة بالنسبة إليَّ، إنجلترا ليست أمريكا؛ ومِن ثَم ينبغي فرض تعريفة جمركية على العصابات إذا بدأت الولايات المتحدة الأمريكية في تصديرهم لنا.»
لم يقل دالبيتي كلامًا من هذا القبيل، ولكن ظن روبرت أن هذا اختلاقًا منمقًا وآمنًا. لقد تفاجأ من التأثير الذي أحدثه في كينيرد.
قال غاضبًا: «أعتقد أن الآنسة أويسيل ينبغي أن تعرف إن كان اللورد دالبيتي له يد في شئونها. أؤكد لك أن تدخله لن يرضيها.»
نفثت السيدة بيل كلينتون عدة حلقات دخان من سيجارتها. «تلك القضية لا تخص أنيت وحدها، وهل تخصها وحدها إذا كان سوق الأوراق المالية البريطاني آخذ في الانهيار وستقع أزمة برلمانية الأسبوع القادم؟ يسرني أنك وثقت في ديك دالبيتي يا روبرت. أشعر بالأمان حينما يتولى أي قضية. والآن، لن نزعجك بمزيد من الأسئلة. فليخلد كلاكما إلى النوم.»
روبرت راوده انطباع أن كينيرد أحب أن يتخلف ويتحدث إليه بمفردهما، ولكن آيفي بيل كلينتون حرمته من هذا الرجاء لما ساقت الرجلين ضاحكة أمامها على السُّلَّم واتخذت دور صاحبة الضيافة الكريمة وهي تريهما غرفتيهما. خلع روبرت ملابسه متباطئًا وهو يفكر في هذا التعقيد الجديد. لم يذكر دالبيتي أن لديه أي معرفة خاصة بشأن كينيرد أو عائلة أويسيل. لم يطلب منه سوى أن يحاول معرفة هل خطبة أنيت من فيليب محتملة الحدوث أم لا. هل دالبيتي مهتم لأمر أنيت؟ دالبيتي متزوج، تذكر روبرت بصورة مشوشة أنه رأى صورها في الصحف الرياضية المصورة، ومِن ثَم لا يمكن أن يكون دالبيتي نفسه مرشحًا لأنيت وملايينها. إذن، لماذا غضب كينيرد إلى هذه الدرجة لما علم أن دالبيتي يقحم نفسه في تلك القضية؟ وعلى أي سبب واهن بُني هذا الاستنتاج، مجرد عاطفة عابرة راودته في الحديقة في بداية المساء — روبرت يخشى أن يحمل هذا السر الكبير وحده! لكن هل كان ذلك صدفة؟ تساءل روبرت هل كانت أنيت أويسيل هي التي طلبت أن يُدعى إلى حفل كلينتون باردسلي، أم كانت مبادرة من اللورد دالبيتي؟