الفصل السادس عشر
استُدعي وزير الداخلية بتلغراف موسوم بعبارة «أولوية حكومية مطلقة»، ومِن ثَم وصل إلى المبنى رقم ١٠ بشارع داونينج في الساعة العاشرة بالضبط في صباح يوم الإثنين. وعلى الرغم من أن رحلة سفره استغرقت الليل كله وأتى من المحطة مباشرة، فإن هندامه كان مثاليًّا وكأنه غادر غرفة نومه لتوه.
لم يستقبله رئيس الوزراء في غرفة الجلوس الصغيرة التي تحدث فيها إلى روبرت واللورد دالبيتي، ولكنه استقبله في المكتب الرسمي المخصص للمقابلات الرسمية. ما كان لأحد يراهما جالسين بعضهما في مواجهة بعض أن يتخيل أن وزير الداخلية يمكن أن يدان ولو على فعل طائش. لقد كان مستريحًا أكثر من رئيس الوزراء. لقد اندمج وزير الداخلية في الحياة السياسية بإنجلترا بسهولة مثلما تدخل اليد في قفازها. ومنذ عهد الملكة إليزابيث، نادرًا ما تمر فترة من دون أن يتقلد أحد من عائلته منصبًا رفيعًا في الدولة. لم تكتمل الحكومات سواء كانت من أنصار سياسات اليمين أو اليسار أو المحافظين أو الليبراليين من دون أن يندرج اسم من أفراد عائلته بها. ولم ينضم أحد من عائلته حتى الآن إلى حزب العمال، وتلك الحقيقة صعَّبت على وزير الداخلية أن يؤمن بإمكانية استمرار هذا الحزب.
في وصوله إلى تلك المنزلة المكينة، لا يصح القول بأنه «فاز» بمنصبه في مجلس الوزراء. بل الأحرى أنه مرَّ بمراحل واضحة الدلالات حتى وصل إلى منصب لا يخفى أنه يستحقه. والمشهور عنه أنه يُضفي الاستقرار على أي حكومة يدخلها. لكن في الفترة الأخيرة، كان هناك عنصر مزعج في حياته. إنه يعتبر تشجيع صحف معينة لرسامي الكاريكاتير ذوي المواهب الضعيفة عارًا على تلك الصحف.
فرح هؤلاء الأشخاص واهتموا فجأة بتلك الصورة المهيبة التي قدَّمها. ذلك الوجه السمين، تلك الياقة الكبيرة، تلك الشخصية التي تتقدم الموكب حتى إذا تمشَّى في الشارع، تلك المظاهر استخدمها رسام كاريكاتير مشهور بتأثيرات مهلكة واعتبرها رمزًا لغرور الحكومات.
رسام آخر يكتسب شهرته بالرسم على واجهات المباني المهمة. باتت العامة تعرفه بلقبه المؤذي. لم يرَه الملايين البتة، ولكنهم أصبحوا يعرفونه باسم منفر تمامًا وهو «فلوسي» إذ لقَّبه مايكل هولدزوورث بذلك الاسم بسخرية مريرة في إحدى الهجمات الوحشية عليه، وأصبح يُستخدم الآن في كل رسومات الكاريكاتير التي يظهر فيها.
لكن تلك هي عادة الشعب البريطاني، أحبَّه عامة الرجال والنساء لأنه قادر على إضحاكهم. اسم «فلوسي» كان يعني الكثير في تلك الفترة.
لم يكن إقحام رئيس الوزراء في الأخبار اليومية سهلًا في تلك الفترة. لم يتثبت العامة من شأنه لأنه كان مراوغًا ولا أحد يعلم نواياه كما أنه لم يكن واثقًا من نفسه البتة. إنه لم يتقلد منصبه الرفيع الحالي بفضل مؤهلاته القيادية الحاسمة، بل لأنه يفتقر إلى تلك المؤهلات. وقد برز إلى حدٍّ ما غياب الهدف في فترة رئاسته. من الخصال التي تُحسب له قدرته على الإجابة على أي سؤال وترك السائل مطمئنًّا ولكن من دون أن يعلم ما يرمي إليه تمامًا. وحتى ألد أعدائه لا ينكرون سِحر شخصيته. وفي العلن، كان خبيرًا في إزعاج الآخرين، سواء كان خَصمًا برلمانيًّا أو من دولة أجنبية أو اجتماع عام للمعارضة.
رأى زملاؤه الأقرب إليه في العمل وأصدقاؤه الحميمون جانبًا آخر من شخصيته. كانت لديه خَصلة الانتقام الشديد في السر لأن التحكم في النفس مطلوب في منصبه الرسمي بصفته مهدئًا لغضب الشعب.
لما تبادل الرجلان التحية قال وزير الداخلية: «أرجو أن تكون المسألة مهمة حقًّا. تعرف كم أكره السفر بالليل. حذرني الطبيب … لأن قلبي …»
أتاه رد بصوت هادئ: «أعتقد أنك ستجد المسألة مهمة بحيث تستدعي اهتمامك الفوري.»
جلس رئيس الوزراء على مكتبه. أجلس وزير الداخلية نفسه احترامًا في كرسي بذراعين بجانب المكتب. عدل ركبتي السروال ووضع إحدى ساقيه على الأخرى بعناية بزاوية صحيحة وأسند ظهره على الكرسي وضغط بأصابعه على بعضها في شكل قوس وكأنه قاضٍ في القاعة يتهيَّأ كي يدرس الحكم الذي سينطق به.
نظر رئيس الوزراء إلى وزير الداخلية بمسحة من الغضب. لم يسبق أن كان واثقًا من نفسه، لكن لم يسعه إلا أن يتأثر بتلك الثقة الكاملة في النفس. ولذلك كان وزير الداخلية يتحلى بثقة أكثر من أي وزير آخر في حكومته. شيء لا يُصدَّق … هل ارتكب تلك الجريمة حقًّا؟
سأل: «ما الذي تفعله في قضية أويسيل؟»
«القضية في أيدي الشرطة. ولم ينزع جليسون يده من القضية. وكلفت شرطة سكوتلانديارد أفضل شرطي لديها كي يتولى تلك القضية، وهو المفتش بلاكيت. روبرت ويست — السكرتير البرلماني الخاص لديَّ كما تعرف — قد قطع شوطًا كبيرًا في تلك القضية، وأعتقد أنه شوط مُرضٍ كثيرًا. لا أعرف إلى أين وصلت الأمور، ولكن يمكنني إعداد تقرير وعرضه على مجلس الوزراء يوم الأربعاء إن أحببت.»
«هل تعرف أنه ستُعقد جلسة لمناقشة تأجيل المحاكمة هذا المساء؟»
«آه، نعم. تمكن ويست من تأجيلها يوم الخميس الماضي. ولكن يمكن أن نُدلي ببيان غير ملزم، لا سيما في ضوء واقعة أن جلسة التحقيق ستُعقد يوم الخميس. بهذا المعنى، أصبحت القضية بين يدي القضاء، ولذا لا أظن أن القواعد تسمح بمناقشة تلك المسألة على الإطلاق.»
قال رئيس الوزراء وهو ينظر إلى زميله عابسًا: «قد يكون ما سيطرحه حزب العمال مقبولًا بدرجة كبيرة.»
ردَّ وزير الداخلية ولا يبدو التأثُّر عليه: «حقًّا.»
أمال رئيس الوزراء إلى الأمام. «هلا تخبرني من فضلك ما هو دورك في تلك القضية.»
لم ينظر وزير الداخلية في عينيه: «سبق أن أخبرتك، إلا لو أنك تريدني أن أعيد على مسامعك ظروف العشاء كاملة. لقد وصلك بياني بشأن تلك القصة.»
حياد البصر حسم المسألة بالنسبة إلى رئيس الوزراء. لدى وزير الداخلية ما يخفيه. ربما اهتزت ثقته بنفسه. الرجل الذي لم يثق بنفسه البتة سيحظى بمتعة كبيرة من تلك المقابلة.
قال بنبرة ماكرة: «وصلتني بعض المعلومات الإضافية منذ أن غادرت لندن.»
كأن ضبابًا خفيفًا يمر على وجه الآخر: «يهمني أن أعرفها.»
ظل رئيس الوزراء صامتًا بضع ثوانٍ. زادت حساسيته تجاه الجو العام، إنه يشعر بزيادة عدم الراحة لدى الرجل الذي ما فتئ يكرهه خُفية حتى عندما كانا يعملان معًا بصفتهما زميلين وصديقين. كانت لحظة رائعة. ولأنه ممثل ضليع لا يتقمص شخصية واحدة مدة أطول من اللازم، ومِن ثَم تغير من تقمص شخصية القيصر بورجيا إلى شخصية رجل عملي يهتم بعمله. تلك التغيرات الخاطفة في الموقف الواحد جعلت منه خصمًا صعب المراس، ومِن ثَم زميلًا لا يوثق به.
«حسب ظني، يُستحسن أن أخبرك ما وردني من معلومات. لا شك على الإطلاق أن التفسير مُرضٍ، ولكن يجب أن أعرف موقفنا قبل أن ألتقيَ بالمجلس.»
قال وزير الداخلية: «بالتأكيد.» اكفهرَّ وجهه قليلًا.
«المعلومات التي وصلتني هي أن رجلك السري إدوارد جينكس الذي كان ملازمًا لأويسيل وُجد في جيبه مفكرة أويسيل الخاصة؛ وتلك المفكرة يدوِّن فيها تفاصيل أكثر المعاملات سرية. وتأكد أنه في الوقت الذي كان أويسيل يتناول فيه العشاء معك في مجلس العموم، خرج جينكس من الشقة كي يصور الصفحات المكتوبة من تلك المفكرة في الخفاء. واكتُشف أيضًا أن نسخة من مذكرات أويسيل بشأن المفاوضات على القرض الذي طلبناه وُجدت في ملفك الخاص بخط يدك وبفك الشفرات.»
انتفض وزير الداخلية. «هذا الاتهام لا يُحتمل. هل تقصد أن تخبرني أن الشرطة وصلت إلى ملفي الشخصي الذي يضم أوراق الحكومة؟»
فوجئ رئيس الوزراء بهذا الرد الساخط حيث إنه توقع أن يصاب بحالة انهيار. لم يُرد أن يذكر اسم ويست، على الأقل في الوقت الحالي. قال محاولًا المماطلة: «اكتُشف هذ الأمر من غير ترتيب، وتلك الواقعة قد تكون من حسن حظ الحكومة ومن حسن حظك. ولكن هل تعترف أن تلك الوقائع حقيقية؟»
جلس وزير الداخلية مرة أخرى في الكرسي ذي الذراعين. واتباعًا للعادة، جلس الجِلسة نفسها ولكن من دون أن يعدل سرواله من عند الركبتين. أحسَّ رئيس الوزراء أنه يُمسك بزمام الموقف. نسي للحظة الأزمة التي على وشك أن تقع على رأس الحكومة كلها. كان يستمتع بشعور القوة، بشعور السيادة على ممثل العائلات العريقة التي كانت تزدريه، وعلى رجل يتقلد دَور المستشار الخاص له في الحكومة، وعلى كل النظام القديم الذي كرهه حتى إن كان يقوده. وبصوت رخيم مثل مبشر محترف يميل على تائب، قال: «ألن تخبرني بما فعلته بالضبط حتى يمكنني المساعدة ووضع الأمور في نصابها؟»
بالغ في تلك العبارة. لقد نالت نبرته من كبرياء الرجل الذي أمامه. وقف وزير الداخلية على قدمين لا تكادان تحملانه. خاطب رئيس الوزراء وكأنه يتحدث في اجتماع أمام مديري شركة.
تحدث بنبرة متثاقلة ولكن بتروٍّ وكأنه رجل ينتقي كلماته كي يُدلي بتصريح مهم: «قد تبدو الإجراءات التي اتخذتها غير عادية نوعًا ما. وربما يساء فهمها أيضًا. سأتخذ خطوات فعالة كي أعفي الحكومة من أي مسئولية تجاه تلك القضية. لكن ضميري مرتاح. فأنا لم أتصرف من غير تفكير. لقد فعلت ما اعتبرته أفضل مصلحة يحتاج إليها البلد. أنا …»
قام رئيس الوزراء من مكانه غاضبًا؛ إذ لم يتحمل الطرح المفصل الذي يعرضه الآخر.
قال: «اجلس يا رجل وأخبرني ماذا فعلت. ستسنح فرص كثيرة من أجل التبريرات فيما بعد.»
نبرة رئيس الوزراء الجادة زعزعت ثقة وزير الداخلية بنفسه. جلس بسرعة ونظر إلى زميله وكأنه عجوز تمرغ رأسه في الوحل، وقد كان كذلك بالفعل.
قال بنبرة استجداء: «آسف أنني تخبطت في الحديث كثيرًا.»
لا يوجد أي حيلة تُحسِّن موقفه هذا أفضل من أن يكشف عن عجزه المطلق. لم يكن رئيس الوزراء متنمرًا. إنها القوة التي كرهها، وليس الضعف. ومِن ثَم لم يندم أي كائن حي وضع نفسه تحت رحمته.
قال بنبرته الودودة المألوفة منه: «والآن، لا تقلق. لا يوجد في الأمر سوء لدرجة تُسَد معها طاقات الأمل. إذا أخبرتني بكل شيء ومن دون أن تخفيَ أي شيء، عندها يمكننا التفكير فيما ينبغي فعله.»
لا يخفى أن وزير الداخلية واجه قدرًا من الصعوبة في البداية. رطَّب شفتيه بلسانه. لاحظ رئيس الوزراء تلك الفعلة. إنه لا يحتسي الكحول البتة، ونادرًا ما يقدم تلك المشروبات إلا عند الوجبات. وعندما أصبح راغبًا في مساعدة وزير الداخلية، تذكر تلك السقطة. «هل تتناول شرابًا؟ أعتقد أن مورتيمر ترك بعض الويسكي في الدولاب هنا.»
قبل الضيف ممتنًّا وصبَّ لنفسه قدرًا كبيرًا. عندما بدأ يشعر بالارتياح بفضل ملمس الزجاج المألوف، استهل قائلًا: «يصعب الشرح، وأخشى أن يبدوَ كلامي لا يصدق، ولكن أريد أن أؤكد أنني لم أخطط لكل ما حدث. أوشكت المفاوضات أن تنتهيَ على ما نرجو، ولكن جريمة القتل البشعة تلك أفسدت كل شيء.» ثم توقف.
تمالك رئيس الوزراء نفسه جيدًا، ثم قال: «نعم، أكمل.»
«لم أكن أفكر في شيء آخر حينما أعرت جينكس إلى جورج أويسيل إلا في أن أبقيَه في مزاج طيب عندما رفض أن يكون لديه حارس من شرطة سكوتلانديارد، وعندما أصرَّ جليسون على ضرورة توفير الحماية له. استحسن جليسون الفكرة حينما اقترحت جينكس. أنت تعرف هذه القصة، أليس كذلك؟»
«أعرفها جيدًا. وبدا لي ترتيبًا يستحق الإعجاب حينما عرضته عليَّ.»
أردف وزير الداخلية بعدما استجمع شجاعته: «حسنًا إذن، تتذكر … دعني أرى، يوم الخميس الماضي كان قد مرَّ أسبوع، ما أسرع الأيام! … تتذكر الاجتماع مع أويسيل حينما وصلنا إلى طريق مسدود، حينما لم نتمكن من معرفة ما إذا كانت الشروط التي أصرَّ على وضعها في اتفاقية القرض مجرد خدعة لفرض شروط أفضل على الحكومة أم قصدت مجموعته فرضها بجدية. وحينها اقترحتَ أن أقابله مقابلة غير رسمية وأحاول أن أعرف ما هو الحد الأدنى الحقيقي من الشروط.»
بدأ رئيس الوزراء يتعجب من القدر الذي كان متورطًا به في تلك القضية الكبيرة، قال: «نعم أتذكر.»
«حسنًا، عندئذٍ قررت أن أدعوَه على العشاء في المجلس يوم الإثنين التالي. وكما تعلم، كان إقناعه بقَبول الدعوة بالغَ الصعوبة. وقال إنه لم يترك منزله في الليل مطلقًا، ولكني طمأنته بأن كل شيء سيكون على ما يرام ما دام جينكس هناك.»
«يا ربي، قلت له ذلك بالفعل يا رجل، ثم استخدمت جينكس لسرقة أوراقه. ما الذي كنت تفكر به؟»
قال وزير الداخلية ببساطة: «كنت أفكر في بلدي.» لم يكن يتظاهر الآن. «أؤكد لك أن الفكرة لم تطرأ على عقلي حينما أقنعت أويسيل أن يأتيَ إلى العشاء وطلبت من الشاب ويست أن يجهز كل الترتيبات. لكن عندما بدأت أفكر في الطريقة التي ينبغي أن أتحدث بها إليه — فلم يكن عميلًا سهلًا كما تعلم — ظل عقلي يتردد على تلك المفكرة التي ما برِح يرجع إليها. تذكرت أن جورج لديه ذاكرة سيئة للغاية. ويُضطر إلى أن يدون ملاحظات عن كل شيء، ودائمًا ما يكتبها في صورة شفرات. وقد وضعنا شفرة في أحد مواسم الصيف حينما كنا نخيم معًا. تساءلت إن كان لا يزال يستخدم تلك الشفرة.» توقف وزير الداخلية وأخذ رشفة أخرى وهو ينظر إلى رئيس الوزراء كأنه تلميذ يرمق مدير مدرسته بنظرة أسف.
سأل رئيس الوزراء: «وماذا بعد؟» كانت نبرة صوته هادئة ولم تُنبئ عن شيء مما يفكر فيه.
«حسنًا، لا أستطيع أن أشرح كيف بالضبط، ولكن فكرت فجأة أنني لو حزت تلك المفكرة بضع دقائق فربما نعرف كل ما نريد معرفته؛ لكن هذا إن كان لا يزال يستخدم الشفرة نفسها، وهذا ما اعتقدت أنه مرجح. لم يغير جورج أي شيء شبَّ عليه.»
«ألهذا السبب جلبت جينكس؟»
«لم أحب فعل هذا ولكن ما كنا لنعرف شيئًا بسبيل آخر. بالطبع كان هناك احتمال أن يحمل أويسيل المفكرة معه حينما يأتي إلى العشاء، ولكن أخبرني جينكس أنه عادةً ما يضعها في درج المكتب مع الأوراق الأخرى ويقفل عليها.»
«ألم يتفاجأ وزير الداخلية — من بين الجميع — من أن يقترح عليه جينكس أن يسرق أوراقًا أُرسل كي يحرسها؟»
حتى الحثالة كان سيتأثر بتلك النبرة التي يختلجها الانزعاج، ولكن وزير الداخلية ليس من الحثالة. بمجرد الاعتراف، بدأ يستعيد ثقته المعهودة بنفسه.
ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتَيه وقال: «عزيزي رئيس الوزراء، أنا وأنت مسئولان عن إدارة صناديق البوليس السري منذ فترة طويلة. هل كل ذلك أسوأ من الأشياء التي تحملنا أنا وأنت وكل من تقلدوا مناصبنا مسئوليتها في أي وقت؟»
«ولكنك أنت وزير في الحكومة، ولا يصح أن تتدخل بشكل مباشر! كان غباءً مستفحلًا.»
«ربما، وبالتأكيد افتقر هذا التصرف إلى الحكمة، ولكن ثمة سؤالًا مهمًّا، هل الأفعال التي يعاقب عليها بطريقة غير مباشرة أخلاقية أكثر لأننا لم نشارك في ارتكابها مباشرةً أم لا؟»
بدأ رئيس الوزراء يشعر بأن زميله يتقدم عليه، وهذا آخر شيء قصد حدوثه.
«لن ندخل في مناقشة فلسفية عن الفضائل الآن. لا يخفى أن جينكس كان يريد المساعدة في تلك الإجراءات.»
«في وقت من الأوقات، كان جينكس فردًا له قيمته بين موظفي البوليس السري. عندما شرحت له أن المعلومات في تلك المفكرة يمكن أن توفر على الدولة ملايين الجنيهات، اعتبر المسألة مجرد مهمة عادية من مهمات البوليس السري التي كان ينجزها منذ سنوات. بالطبع أخبرته بكل التفاصيل. وهو من اقترح تصوير تلك الصفحات. وبالطبع لولا حادثة السطو لسارت الخطة كما خُطط لها بالضبط. كان ينبغي أن تكون لدينا المعلومات التي تجعل لنا اليد العليا على أويسيل، ولا يتذاكى أحد على الآخر. وأنا واثق من أن هؤلاء اللصوص سيتلقَّون العقوبة التي يستحقونها عندما تعثر الشرطة عليهم.»
أسند رئيس الوزراء رأسه إلى الوراء وضحك. قيمة «فلوسي» لا تقدَّر بثمن. لقد ارتكب حماقة لا تُغتفر، فقد انتهك كل الأعراف البريطانية الرسمية. إذا شُكك في تلك الوقائع، فلن تهلك الحكومة فحسب، بل سينهار الحزب كله، وها هو جالس كأنه عمود في كنيسة رسمية أو في أي مؤسسة أخرى رسمية، مصدوم من شر اللصوص المجهولين.
أحسَّ وزير الداخلية بقدرٍ من الإهانة وقدرٍ من الخلاص، قال: «يسرني أنك فهمت القصة على هذا النحو.»
«كيف فهمتها؟ ليتني أصحو قريبًا وأكتشف أن كل تلك الأحداث كانت كابوسًا. لم أسمع أي أخبار حسنة. وما الذي تظن أنه ينبغي فعله الآن؟»
«واجبي واضح وضوح الشمس. سأقف على منصة الشهود في يوم المحاكمة المؤجلة وأسرد الحقيقة كلها ببساطة، وألقي كل اللوم على نفسي وأعفي الحكومة من المسئولية كاملة. وعليه، سأقدم استقالتي إليك قبل أن أغادر مكتبك هذا الصباح.»
نظر رئيس الوزراء إلى زميله وقد عاد إليه احترامه السابق. لم يكن يشتكي حفاظًا على السرية. سيواجه «فلوسي» غضب العامة كما واجه الحشود الانتخابية الغاضبة وانتصر عليها. فهل سينجح؟ في تلك اللحظة العابرة، تساءل رئيس الوزراء ألا تكون تلك القصة أفضل مخرج في النهاية. عندئذٍ، عززت سجيته — التي لا تبرح تعارض التيار العام — اقتناعه بأن حتى «فلوسي» لن يُفلت بحبْك قصةٍ كهذه. لن يصدق أحد أنه — بصفته رئيس الوزراء — لم يكن على علم بذلك. ثم إن هناك حادثة القتل المحرجة. كيف ستُشرح تلك المسائل؟ لا، لا بدَّ من الحفاظ على السرية التامة، ولكن قد يَصعُب ذلك إذا أصيب وزير الداخلية بنوبة من نوبات عناده.
قال متثاقلًا: «مهما كانت الإجراءات التي ستُتخذ في النهاية، يجب ألا تستعجل في شيء، ولا تفعل شيئًا من دون الرجوع إليَّ. أريدك أن تعدني بذلك الآن.»
«بالتأكيد أعدك أن أرجع إليك أولًا. هذا أقل ما يمكنني عرضه.»
«إذن، قبل أن نقرر أي شيء، فأنا أقترح أن تستشير دالبيتي وتخبره بما أخبرتني به.»
«اللورد دالبيتي! ما عَلاقته بهذا الأمر؟»
«دالبيتي يعرف كل شيء باستثناء ما أخبرتني به عمَّا فعلته في تلك القضية. وإنه يشتبه في شيء من ذلك. إنني أثق به تمام الثقة، كما أنه أثبت نفسه في بعض المواقف الصعبة. وبصريح العبارة، إنه أملي الوحيد.»
«لكن إن كان يعلم، فهل يعلم أناس كثيرون غيره؟»
«لا أحد غيره يعلم. ولا حتى الشرطة تعرف شيئًا عن تلك الواقعة. لكن يجب أن تترك تلك المسألة بين يدي الآن، وإلا فسيصبح الحزب في مأزِق. فلا يمكن لأي بيانات نفي تصدرها أن تُنقذ هيبتنا إذا عرَف العامة بتلك الواقعة. فكر في العناوين التي ستسطرها صحف المعارضة.»
نكس وزير الداخلية رأسه على يديه. قال بنبرة حزينة: «لم أتخيل البتة أن أصل إلى تلك المرحلة حينما عرض حامل مسدس الفرصة الوحيدة للخروج من تلك الورطة.»
قال رئيس الوزراء وهو يقبض على كتفيه رعبًا: «حبًّا بالله يا رجل، يجب ألا تقترف خطأً من هذا النوع. ولن أسمح لك بالخروج من هذه الغرفة حتى تعاهدني على ألا تفعل ذلك. وإلَّا فسنقع في فوضى أشد من ذي قبل.»
«حسن جدًّا. سأفعل ما تراه الأفضل.»
تأثَّر رئيس الوزراء بنبرة التعب التي خرجت من الرجل العجوز. قال: «دالبيتي هنا. طلبت منه أن يأتيَ من أجل استشارة. سأراه في غرفة الجلوس. هلا اتكأت على الأريكة هنا واسترحت لبعض الوقت؟ كل هذا الإرهاق بعد السفر طَوال الليل ليس هينًا.» بتلك العذوبة التي يعرف رئيس الوزراء كيف يحسن استخدامها، ترك ضيفه على الأريكة وخرج يبحث عن دالبيتي.