الفصل السابع عشر
لما كان رئيس الوزراء يتحاور مع وزير الداخلية في المكتب برئاسة الوزراء، طُلب من روبرت ويست الحضور إلى منزل رئيس الوزراء الكائن بشارع داونينج الساعة العاشرة والنصف، ولما دخل إلى غرفة الجلوس، وجد اللورد دالبيتي جالسًا يكتب أمام المكتب الكبير.
«آه، أوقد أتيت يا ويست؟ صباح الخير. اجلس واطلع على الصحف الصباحية. لا يزال وزير الداخلية مع رئيس الوزراء.»
قال روبرت: «أوَقد وصل؟ لا أعرف إن كان سيغير ترتيباته. وهذا أكثر شيء يكرهه.»
علق دالبيتي بنبرة جافة لما عاد إلى عمله: «لم تطلع على التلغراف.»
كانت الغرفة الصغيرة هادئة إلى حدٍّ كبير. المنظر الرائع لموكب الحرس الخيالة جمَّلته أمطار الصيف. تشتعل جذوة من النار داخل المِدفأة. تصميم داخلي إنجليزي بسيط تُصمم على غراره آلاف المنازل المريحة ولكن تُعوزه الإطلالة من النوافذ. لكن يبدو أن اللورد دالبيتي لا ينسجم مع تلك الراحة الهادئة. انتهز بوب الفرصة كي يتعرف عليه. يجلس في هدوء مرتديًا بدلة عادية زرقاء وربطة عنق حريرية سوداء، ويقرأ المستندات ويدون ملاحظات عليها من وقت لآخر، وكأن الرجل يشع بالطاقة على الرغم من أن جسده لا يكاد يصدر حركة. استشعر روبرت مدى تركيزه.
جلس بوب في كرسي بذراعين وأخذ يدخن بهدوء ويتأمل في النفوذ إذ كان دالبيتي واحدًا من تلك القوى المركزية والمباشرة، شخصية ذات قامة في الأعمال المالية الخاصة مثلما كان جورج أويسيل.
ما الذي ينوي رجال مثل أويسيل ودالبيتي فعله في إنجلترا، ذلك البلد الذي تعلم روبرت عنه في المدرسة والجامعة أنه مركز الكون يحكم نفسه عبر برلمانه الخاص المنتخب. أصبحت القوة في يد أشخاص أمثال دالبيتي وأويسيل الآن. وبالنسبة إليهما ومَن على شاكلتهما أيًّا كانت جنسيته، فإنجلترا ليست سوى حدث، مجموعة من الإحصاءات. يتخطى نطاق اهتماماتهم الحدود الدولية. ولكن إذا كان لهم أي دَور في السياسة، فهل ينتمون إلى الحزب نفسه مثل العقيد ستيوارت أورفورد على الرغم من أن بقاء مصلحتهم المشتركة مع هذا الناجي البائس — صاحب وسام الخدمة المتميزة وميدالية صليب الحرب — يُعزى إلى البسالة الشخصية التي يبدو أن مساحتها تتضاءل في عالم يسعى أمثال أويسيل ودالبيتي إلى إنشائه؟
كان دالبيتي رجلًا سليم البدن ومُفعمًا بالنشاط، ولكن المعاقين البؤساء أمثال جورج أويسيل كان لديهم القدر نفسه من النفوذ. كانوا يُنشئون عالمًا جديدًا قائمًا على السندات والديون والرهون العقارية والصناعات الضخمة والمضاربات ذات المخاطر العالية، ذلك العالم آتٍ ومعه مجموعة جديدة من التقاليد ومعايير القيم، كذلك أتى ومعه ضرب جديد من الفن والموسيقى وفرق الجاز والسينما ذات الإنتاج الضخم.
انتهى دالبيتي من عمله. وضع المستندات في ظرفٍ كبير وأغلقه واستدعى أحد الخدم وأمره أن يأخذ الطرد إلى مكتبه الخاص في فيكتوريا على الفور.
جلس على الكرسي ذي الذراعَين المواجه لبوب وأشعل سيجارة، قال: «عذرًا على انشغالي. إنها عادة قديمة لديَّ. لا أخرج من دون أن آخذ بعض الأعمال في يدي. إنني أجد راحتي في ذلك. والآن، أخبرني عمَّا جال بعقلك عندما كنت تنظر إليَّ نظرة جدية.»
ارتبك روبرت لما علم أنه لوحظ، ولكن لمَ إهدار الكلمات في أعذار تقليدية في حين أن هناك فرصة للتحدث إلى رجل مثل دالبيتي؟
«كنت أفكر أنك وأويسيل كنتما ثوريين حقيقيين. رأيت المسيرة التي أطلقتها الشرطة الأسبوع الماضي وكانت تندد بالبطالة. حينها، اعتقد أصحاب الطبقة الوسطى العجائز المروعون أن هؤلاء الشباب الفقير هم الثوريون الذين يُخشى منهم. أما أنتم الذين تقهروننا بعملية تضخم بسيطة فتعتبرون في مأمن حقيقي وأناسًا محترمين.»
ردَّ دالبيتي مبتسمًا: «أعلم أنه أُطلق عليَّ لقب ملك القراصنة في البرلمان، وهذا اللقب لا ريب أنه انطبق على أويسيل تمامًا في مرحلة من مراحل حياته المهنية.»
طرأت فكرة على عقل روبرت. «هل ملوك القراصنة لديهم حروب صغيرة وكان أويسيل من بين ضحايا تلك الحروب؟»
«تلك الفكرة التي أعكف عليها، ولديَّ بعض المعلومات التي تدعم تلك النظرية. ولكن يجب أن نسمع قصة وزير الداخلية أولًا. لا بدَّ أنهما ينتظران منذ وقت طويل.»
رنَّ هاتف المنزل. أجاب دالبيتي عليه. قال: «رئيس الوزراء آتٍ الآن.»
مشى روبرت نحو النافذة ووقف عندها حتى ظهر رئيس الوزراء. بدت العصبية والقلق على مُحيَّاه.
سأل روبرت: «هل أذهب وأنتظر في مكان ما يا سيدي؟» نظر رئيس الوزراء إلى دالبيتي. قال اللورد: «لا أعتقد ذلك، هل تظن أنه ضروري؟ إنه يعرف الكثير عن الوضع ولا غضاضة من إخباره الباقي، كما يمكن أن نحتاج إليه.»
قال رئيس الوزراء وهو يجلس على مكتبه: «حسن إذَن.» أعاد القصة التي رواها وزير الداخلية بوتيرة سريعة ونبرة أبرزت غضبه. قال موجزًا: «ويريد أن يقف على منصة الشهود يوم الخميس ويعترف بكل شيء.»
صاح دالبيتي: «ستعم فوضى كبيرة. ولن تكون محاكمة كايلو شيئًا مقارنةً بتلك المحاكمة. كذلك ستتسبب في إثارة المشاكل مع الدول الخارجية مثل قضية دريفوس الإنجليزي. أما تطلع على الصحف الفرنسية؟! ما بالك بالصفحات الأولى في صحيفة «هيرست بريس»! الأجدر به أن يُطلق الرَّصاص على نفسه قبل أن يفعل هذا.»
قال رئيس الوزراء: «لقد اقترح هذا بالفعل. وأنا جعلته يعدني بألا يقترف أي تصرُّف من هذا القبيل.»
خيم الصمت على الغرفة. جلس رئيس الوزراء على مكتبه منكسًا رأسه بين يديه. جلس دالبيتي على مسند الأريكة المبطنة يمضغ عقب سيجاره. وقف روبرت مسندًا ظهره إلى النافذة. أخذ يتصوَّر كل منهم عواقب اعتراف وزير الداخلية — أزمة دولية، ذعر مالي، حل لا مفرَّ منه للبرلمان، انهيار الحزب، وكل هذا بسبب تصرُّف عجوز مشوَّش الذهن ظن أنه يتمتع بالمهارة. بدا الجزاء هزليًّا وغير متناسب مع النية الدافعة لهذا الجرم.
بالطبع دالبيتي هو الذي بدأ الكلام وتولى إدارة الحوار. «يمكننا عزل المشكلة عن وزير الداخلية. يجب أن يمكث في المنزل ونقول أصابته نزلة إنفلونزا. وإلا فسيثير الشبهات بسبب مظهره البائس. بعد ذلك يمكننا حل لغز موت أويسيل والسطو على شقته. إما كل واقعة قائمة بذاتها أو أنهما مرتبطتان كل منهما بالأخرى. هناك شيء واحد مؤكد — إذا تتبعنا سبب هاتين الواقعتين أو حتى واقعة منهما، فيمكننا أن نُخفي الاضطراب البسيط الذي اعترى وزير الداخلية تمامًا، وعندها يمكنه تقديم استقالته بهدوء بسب اعتلال صحته حينما تهدأ هذه الضجة.»
نظر إليه رئيس الوزراء متحمسًا. «نعم بالطبع، هذا أفضل سبيل للخروج. وزير الداخلية ليس له مصلحة من موت أويسيل. ومن الواضح أن رجله مات دفاعًا عن ممتلكات أويسيل. إذا تمكنا من العثور على القتلة، فلن نحتاج إلى أن نقول شيئًا على الإطلاق.»
فكر روبرت في نفسه قائلًا: «إن استطعنا، ولكن هل سنتمكن من الإمساك بهم؟» قال بصوتٍ عالٍ: «وماذا عن جلسة النقاش الليلة حول المحاكمة المؤجلة؟»
هنا، أحسَّ رئيس الوزراء أنه أصبح في ملعبه. «بما أن وزير الداخلية سيتغيب بسبب المرض، فسأكون أنا مكانه. يمكنني أن أقول للمعارضة عبر القنوات المعتادة إننا على مشارف اكتشافات مهمة ولا ينبغي لنا أن نجازف بإعلانها. وعندها سيطلبون من أتباعهم الهدوء. ولكن يجب أن نُصدر بيانًا من أجل المحاكمة يا دالبيتي.»
«متى ستُعقد؟»
قال بوب: «لقد تأجلت إلى يوم الخميس.»
قال دالبيتي: «إذن، لدينا ثلاثة أيام. سأنضم إلى ويست إذ أصبح محققًا هاويًا. يجب أن أُبقيَ عينًا عليه يا سيادة رئيس الوزراء وإلا فسيأخذ مجلس الوزراء بالكامل إلى حبل المشنقة.»
ابتسم رئيس الوزراء. «سيكون هذا تطبيقًا عمليًّا لمزحة مجلس الوزراء القديمة وهي إن لم نُعدَم مجتمعين، فسنُعدَم منفصلين. ولكن أنا ممتن لك كثيرًا يا دالبيتي. هل لي بكلمة مع جليسون؟»
قال دالبيتي وهو يلتفت إلى روبرت: «ما مدى معرفته بما جرى حتى الآن؟»
أجاب بوب بوجهٍ مكفهر: «لا أحد يعلم كم المعلومات التي لديه.»
قال وهو يلتفت إلى رئيس الوزراء: «الموظف المدني المثالي! أعتقد أن الأفضل أن أراه بنفسي. ربما إن أخبرته سيادتك بمرض وزير الداخلية وأنني أهتم بالقضية بحكم معرفتي بأويسيل العجوز، فقد يكون هذا كافيًا إلى أن أتمكن من الحديث معه.»
«جيد. سأفعل ذلك. والآن، يجب أن أقول إلى اللقاء. الوفد منتظر منذ نصف ساعة. ولكني أعتمد عليكما لإخراج الحكومة من تلك الفوضى.»
أحسَّ روبرت أن اللغز يتساوى في النفع مثل حله عندما كان ينزل على السُّلَّم خلف اللورد دالبيتي إذ قرنه رئيس الوزراء معه لما ودعهما (يا لها من فرحة!). انتهى القلق الشنيع الذي سبَّبته عطلة نهاية الأسبوع. لا ريبَ أن دالبيتي لن يُخفق … ولكن ماذا إن أخفق؟
لما نزلا إلى شارع داونينج، قال دالبيتي: «أعتقد أنني سأذهب وأُلقي نظرة على الغرفة جيه الغامضة.» عندما أشار بوب، قال: «لا، لا أتوقع أن أعثر على أي شيء هناك. ولكني أكره الألغاز. إنها تزعجني.»
أحسَّ روبرت أن عليه الاعتذار عن البرلمان القديم البائس لأنه أصرَّ على أن يحدث بداخله لغز على الرغم من أنه على علم بأن اللورد دالبيتي لا يحب الألغاز.
توقف المطر وكانت أشعة الشمس تخترق السحب وهما يمشيان عبر ساحة القصر معًا. لتفادي السلالم غير الضرورية، اصطحب روبرت رفيقه عبر الفناء الخاص برئيس المجلس وعبر به من تحت الأقواس التي تؤدي إلى مجلس اللوردات.
نظر دالبيتي من حوله من منطلق الفضول. «لعلمك، ما سبق لي المجيء إلى هنا! وما برحت أدخل من باب أعضاء مجلس اللوردات. إنه مكان يثير الفضول. يُخيَّل لي أن فوجًا من القتلة يمكن أن يختبئ هنا من دون أن يراه أحد.»
ضحك روبرت. قال: «ما فتئت أقول إن فرص ارتكاب جرائم القتل كثيرة في المجلس. لا يخلو المجلس من فتحات التهوية العمودية والممرات الغريبة والزوايا العجيبة التي يمكن أن تُخفى فيها الجثث لأيام. ولكن المحير في اللغز الذي بين أيدينا هو حدوثه في أقل الأماكن غموضًا في مجلس العموم؛ إذ وقع بعيدًا عن كل تلك الممرات. لا يوجد شيء هنا سوى غرفة طعام كبيرة وطرقة مستقيمة وغرف طعام صغيرة تفتح على الطرقة مباشرةً. ها هي الغرفة جيه … يمكنك رؤيتها بنفسك.» الشرطي الواقف على حراسة الباب هو روبنسون ضحية الحادث الذي وقع ليلة الخميس الماضي. سأله روبرت مبتسمًا: «هل استعدت صحتك؟» وفجأة، تذكَّر أنه لم يخبر دالبيتي عن هذا الجزء من القصة حتى الآن.
ردَّ الشرطي وهو يفتح لهما الباب: «بخير حال يا سيدي، شكرًا لك. كان المفتش بلاكيت هنا منذ فترة قصيرة يا سيدي. قال لي أن أخبرك بأنه يريد رؤيتك إن أتيت.»
دخل دالبيتي إلى الغرفة الصغيرة المبطنة بألواح البلوط. قال: «أغلق الباب.» أطاع روبرت الأمر. «أين جلس أويسيل؟»
«في نهاية المائدة، في مواجهة الباب. على الأقل، هذا المكان الذي تركه فيه الوزير وبما أنه مصاب بإعاقة بليغة، فلا يُحتمل أنه تحرك كثيرًا. ولكن، ربما انتقل من مكانه.»
«هل حاولت الشرطة تتبُّع مسار الرَّصاصة؟»
«حاول بلاكيت تتبعه فور وصوله وأمر الخبراء بتتبعه، ولكن الرَّصاصة أحدثت فوضى جعلت من المستحيل معرفة مصدرها. لقد أصابت إحدى العظام وهشَّمتها تهشيمًا سيئًا. إضافة إلى ذلك، سقطت الضحية من فوق الكرسي وصعب علينا معرفة جِلسته.»
«وماذا عن الرصاصة؟»
«إنها مطابقة تمامًا للرَّصاص الذي يستخدمه أويسيل في مسدسه، المقاس نفسه وكل شيء. ربما انطلقت من مسدسه، ولكن بلاكيت أقنعنا أنها لم تنطلق منه.»
«إذن، أيًّا كان الشخص الذي أطلق الرَّصاصة، فهو يعرف أويسيل وممتلكاته حق المعرفة لدرجة أن يستخدم نوع الرَّصاصة نفسه.»
«ما لم يكن محض صدفة. الرصاصتان صناعة إنجليزية ومن العيار القياسي.»
«كم عدد العارفين بتنظيم هذا العشاء؟»
«من جانبنا، أنا ووزير الداخلية فقط. أنا من قمت بالمراسلات اللازمة وليس المكتب.»
«الموظفون في المطبخ، هل كانوا على علم؟ هل علموا أن العشاء مُعَد من أجل أويسيل، أم أنك طلبت العشاء لنفسك وحسب؟»
فكر روبرت في هذا الاقتراح الجديد. قال مفكرًا: «لا أظن أنني أسررته على وجه الخصوص. لم يلزم التكتم عليه. لم يرد وزير الداخلية أن تعرف الصحافة شيئًا بشأنه، ولكن الموظفين في المطبخ مطيعون في هذا الأمر. إنهم لا يتحدثون إلى الصحافة. ويُنزل المدير بهم عقابًا شديدًا إن فعلوا ذلك.»
«هل كان المدير على علم بأن الضيف هو السيد أويسيل؟»
«نعم، بالتأكيد كان على علم. أخبرته لأنه كان ينبغي طلب طعام مخصوص له.»
«جيد، سنتحدث إلى المدير إذن.»
أتى مدير قسم المطابخ بسرعة إليهما. أتى على أمل أن تلك القضية حُلَّت، حيث غرفة من أفضل غرف الطعام لديه كانت خارج الخدمة في تلك الفترة. لقد عُرضت عليه رسوم كبيرة لاستخدام تلك الغرفة من أعضاء أرادوا الاستمتاع بشعور رهبة الموت، ولكنه يخضع لتعليمات تقضي بضرورة عدم استخدامها، وكان الشرطي الذي يحرس الباب كي يمنع أي شخص غير مصرح له بالدخول بمثابة تذكير غير سار بتلك المأساة لكل رواد المدير الآخرين.
مع ذلك، أكد المدير تأكيدًا واضحًا أنه لم يخبر أحدًا بهُويَّة ضيف المدير باستثناء خادم الضيافة الذي نقل إليه تعليمات السيد ويست الخاصة. قال اللورد دالبيتي: «إذن، لنرَ خادم الضيافة.»
لما كانا في انتظار المدير كي يحضره، قال روبرت: «تعرض هذا الخادم للتنمر والرهاب إلى حد الجنون. ولكن لم تتمكن الشرطة من فهم أي تفاصيل مما رواه.»
قال دالبيتي بعفوية: «هذا غريب. نادرًا ما يكون الأبرياء على أهبة الاستعداد بهذا الشكل.»
لكن لم يخرج دالبيتي بمعلومات من خادم الضيافة أكثر من الشرطة. من الواضح أن الرجل كان متعبًا وقلقًا. أوضح المدير أن الشرطة استجوبته كثيرًا لدرجة أنه كان يعاني سوء النوم والقلق الشديد. لكنه لم يُضف شيئًا على ما ذكره في التحقيق. أُخذت كل ثانية ما بين مغادرة وزير الداخلية وصوت الرصاصة في الحسبان. وانطلاقًا من شفقة دالبيتي الكبيرة تجاه الرجل الذي تعرَّض للمضايقة، دس له ورقة بقيمة جنيه إسترليني.
حينما أصبحا في الغرفة بمفرديهما مرة أخرى، تفحَّص دالبيتي النوافذ الضيقة ذات المشابك الثقيلة والألواح الصلبة والخزانات الصغيرة وحتى الأرضية والباب الثقيل المتقن التركيب. لا يمكن لفأر أن يدخل إلى تلك الغرفة ذات البناء المنيع إلا من خلال الباب. قرَّر روبرت أن تلك اللحظة مواتية كي يقص عليه ما حدث ليلة الخميس. صفَّر دالبيتي.
«إذن، إما أنهم يحاولون محو آثارهم أو الحصول على شيء خلَّفوه وراءهم. هل أقول إن تلك نظرية بلاكيت؟»
«إما هذا أو ذاك، أو ربما حتى يخططون لعملية اغتيال أخرى … وزير الداخلية على سبيل المثال.»
ابتسم دالبيتي: «حسنًا، قد يكون هذا القدر الضئيل من العمل مفيدًا في الوقت الراهن. لكن ينبغي لنا ألا نؤمِّل في هذا القدر. سأرى بلاكيت بعد ظهر اليوم. بعد ذلك، يمكننا زيارة شقة أويسيل في تشارلتون كورت. ولكن يُخيَّل لي أن المفتاح الأساسي لحل اللغز مخفي هنا. والآن، هلا وجدت لنا مكانًا لتناول الغداء؟»
سأل روبرت بجرأة كبيرة: «هل تهتم بتناول الغداء معي؟»
«فكرة ممتازة. هذا سيبقيني في أجواء مجلس العموم … ولكن إذا وعدتني أن أخرج من هنا حيًّا. كيف لي أن أعرف أنك لم تشنَّ حملة مهلكة ضد جميع الممولين وأنك أنت الذي قتل أويسيل العجوز؟»
لما دخلا معًا إلى غرفة الطعام الخاصة بالغرباء، ضحك روبرت: «سأبدأ في الاعتقاد بأني الفاعل عما قريب.»
لما جلسا، سأل دالبيتي: «من تلك الفتاة الحسناء؟»
«إنها جريس ريتشاردز، عضو عن دائرة شرق ستيبني.»
«اشتراكية بالطبع؟»
«نعم.»
«إذن، هل تعرف عنها الكثير؟ يبدو أنها تبتسم لك ابتسامة رقيقة للغاية.»
أحسَّ روبرت بعدم الارتياح؛ إذ لا يعلم إلى أين تتجه تلك الأسئلة، قال: «جميل جدًّا.»
«إذن، لماذا لا تُشركها في مُهمَّة التحقيق التي تقوم بها؟»
قال روبرت متحيرًا: «ساعدتني قليلًا، ولكن ما الذي يمكن أن تفعله على وجه الخصوص؟»
«اجعلها خلف خادم الضيافة ذاك وموظفي المطبخ. اطلب منها أن تتحدث إلى العامل في غرفة التخزين الذي كان يُعد القهوة التي ذهب الخادم لإحضارها. فتاة في حسنها يمكن أن تقوم بالمهمة من دون أن يحتاطا لأمرها. اطلب منها أن تعرف بلباقة هل كان هناك خدم غرباء في تلك الليلة أم لا.»
«لكن الشرطة فعلت ذلك بالفعل. على حد علمي، استجوب بلاكيت كل الموظفين الذين كانوا موجودين في عملهم.»
«الشرطة لا تقارَن بموظف تلقى تدريبات كبيرة، لا سيما موظف تربَّى على إمساك لسانه في مكان مثل مجلس العموم. درس قاسٍ علَّمني تلك الحقيقة عندما كنت أحاول الطلاق. علمت زوجتي تلك الحقيقة، وأنا دفعت الثمن.»
نظر روبرت إلى دالبيتي بنظرة اهتمام جديدة. إنه لا يتذكر أي «قضية مشهورة» لها عَلاقة به. هل وقع الطلاق؟ في تلك الحالة، فإن زوجة دالبيتي التي رأى صورها في الصحف الرياضية لن تكون عقبة أمام اهتمام دالبيتي بأنيت أويسيل.
سأل روبرت محاولًا تغيير الموضوع بتأدُّب: «هل تظن أنه يمكن العثور على شيء في شقة تشارلتون كورت؟» على أية حال، لا يمكن سؤال رجل هل وقع طلاقُه في النهاية أم لا. ولكنه تساءل هل اقتراح دالبيتي بالعمل في شقة أويسيل يهدف إلى تقديم عذر كي يكون بجانب أنيت أم لا. ألا يتملص كي يصل إلى مبتغاه؟ يشعر روبرت بألم غريب حينما يفكر في أنيت لما كانت جالسة في تلك الليلة قبل العشاء في صالة كلينتون باردسلي.
«حسنًا، في رأيي أن المسار المُجدي الوحيد هو أن نتتبع القاتل إن لم نستطع أن نقف أمامه ونرى من أين خرجت الرَّصاصة. يجب أن نعرف من يُكِن هذا الكره ضد أويسيل العجوز لدرجة أن يرغب في المخاطرة من أجل قتله، وكي أكون صريحًا الشخص الوحيد الذي أعرفه هو أنيت أويسيل نفسها.»
«أنيت!» هرب الدم من وجه روبرت. «لكن هذا غير معقول. لقد أخبرتني بنفسها كم كان جَدها كريمًا معها ولم يطلب في المقابل إلا النزر اليسير.»
«أنت رأيتها صباح اليوم التالي لوفاته. هل كانت شديدة الانزعاج؟»
تذكر روبرت هدوءها وتمالكها لنفسها، وبعد ذلك في شقتها في ذلك المساء، ملابسها الليلية ورغبتها في المجيء واحتساء الشاي في الشرفة في ذلك النهار على الرغم من مراسم الحداد.
قال مدافعًا عنها: «إنها شديدة التحفظ بالطبع، إنها متحفظة دومًا. ولكنها لا ترتكب تلك الجريمة. هذا غير معقول. الناس لا يفعلون أشياء كتلك.»
ناول دالبيتي نفسه قطعة جبن. «وزير الداخلية على سبيل المثال. بالمناسبة» وحاول إخفاء ضحكه «سيكون الموقف مذهلًا إذا كانت النتيجة النهائية لمساعينا المتضافرة لاكتشاف قاتل أويسيل هي الاضطرار إلى رمي أنيت أو وزير الداخلية في مهب الريح.»
«لكن لماذا تريد أنيت قتل رجل عجوز ستئول إليها أمواله في النهاية، وذاك الرجل بالتأكيد لم يبخل عليها عندما كان حيًّا؟»
«إنها قصة غريبة، كما أن أنيت وجدها أناس غريبو الأطوار. إنهما من شعب الباسك، وهم أناس همجيون حقًّا. أتى أويسيل الكبير من قرية يسكنها شعب الباسك في إيتاكسو وأراد بشدة أن تتزوج أنيت من نبيل إسباني. كان حلم حياته. وببساطة، لم يكن الرجل الذي تنظر إليه أنيت. أخبرت جدها أن تترك له المال مقابل أن يدعها تعيش حياتها كما تريد. خمدت المعركة بعض الوقت أثناء المفاوضات بشأن القرض. لكن كان المزمع أن تصحب أنيت الرجل العجوز إلى باو من أجل العلاج الجديد لتجديد الشباب، ولكن أظن أنها توقعت أن يبدأ الصراع القديم مرة أخرى.»
«لكن كان بإمكانها هجره من دون قتله. عجبًا، المجوهرات التي كانت ترتديها حينما ذهبت إلى شقتها تكفيها لسنوات إن لم يعطها العجوز بنسًا واحدًا إضافيًّا. إنه سخف.»
«لكن شعب الباسك ليسوا كذلك. إنهم لا يبعدون بهدوء. تاريخهم مليء بعمليات القتل. والآن»، حينها تأفف روبرت بعدما نفِد صبره «أنا لا أتهم أنيت بالتخطيط للقتل. أقول ببساطة إنه على حد علمي بدائرة معارف هذا الرجل، فإن أنيت هي أكثر شخص كان يثير غضبه، وهي أكبر مستفيد إن لم تُكتشف.»
«لا أصدق ذلك. لا أصدق ذلك حتى لو أخبرتني بنفسها. إنها غاية في الرقة، غاية في التحضر، إنها …»
«هل تملكتك بتلك الطريقة أنت الآخر؟ آه يا أنيت، ما أكثر الرجال الذين أوقعتِهم في أشراكك. لم أقابل حتى الآن رجلًا استطاع أن يقاوم ابتسامتها المتثاقلة أو عينيها. والآن، سأقص عليك بعضًا من حكاياتها.»
«لا أريد أن أسمعها!» في نوبة الغضب تلك، نسي روبرت المكان من حوله تمامًا وانتفض واقفًا على قدميه، ما أثار دهشة المحامين ذوي الشعر المستعار الذين يتناولون الغداء على الطاولة المجاورة وما أثار دهشة كبيرة لدى جريس روبرت؛ إذ كانت تشاهد طاولتهما باهتمام طوال تناولها لوجبتها.
نهض دالبيتي هو الآخر، وأدت لا مبالاته إلى إيقاظ روبرت من غفلته ومواراة فعلته. أشار إلى خادم الضيافة: «كلا، عذرًا يا لورد دالبيتي. هذا غدائي.»
«أوه، نعم. اعذرني، لم أستطع الدفع هنا بالطبع.» انتظر عند الباب ريثما أنهى روبرت الإجراءات الرسمية والتحق به. وضع يده على ذراع الشاب.
«والآن، لم أُرد مضايقتك، يمكنك أن تنسى ما قلته إذا أحببت. لن تُوجَّه التهمة إلى أنيت على أية حال. سأهتم بذلك. لكن لا فائدة من محاولة حل لغز كهذا من دون الاستعداد لمواجهة أي احتمال والتنصل من العواطف. ابحث عن الحقيقة، ثم دع مشاعرك تملي عليك ما ينبغي لك فعله إزاء تلك الحقيقة. وفي نظري، تلك هي الطريقة العقلانية الوحيدة. حري بنا أن نكتشف نحن الحقيقة — إذا كان فيما قلته شيء منها — بدلًا من أن تجد أنيت نفسها بين يدي المفتش بلاكيت. ألا تتفق معي؟»
قال روبرت ذو القلب المحطم: «نعم، بالطبع.»
«جيد. إذن، انطلق وأرني ما يمكنك فعله مع الآنسة ريتشاردز.»
ترك دالبيتي روبرت بعد مصافحة حارة وكما هو واضح كلَّفه بعمل من أجله، ولكن الشاب أحسَّ بعدم الارتياح لأنه أُمر بالذَّهاب والتسلية مع جريس روبرت بينما الكبير أخذ العمل على محمل الجِد.
لكنه لا يستطيع مواجهة جريس في الوقت الحالي. ذهب إلى الشرفة؛ ملجأ العديد من الرجال ذوي مشاعر القلق. لو أن إلقاء الهموم من فوق هذا الحاجز ورميها في نهر التيمز أمر محسوس، لَما توقَّف هذا النهر عن الفيضان.
مشى متثاقلًا إلى المكان المخصص لأعضاء مجلس اللوردات، حيث خصوصيته ليست عرضة للمقاطعة المستمرة مثلما يحدث في المكان المخصص لأعضاء مجلس العموم. يعتقد العديد من أصحاب المشاعر المتقدة أن عضو البرلمان الذي يمشي منفردًا لا بدَّ أنه يشعر بالوحدة والبؤس ويلوحون له مبتهجين كي ينضم إلى جماعتهم المرحة! يكاد مجلس العموم أن يُصبح مهجورًا كالصَّحْراء في بعض الأحيان، ولكن يصعب أن تجد الهدوء فيه.
اتكأ ويست على الجدار القصير ونظر إلى النهر تحته، وأحسَّ بارتعاش كل خلية عصبية في جسده. حتى بينه وبين نفسه، لم يعترف البتة بالتأثير العاطفي الجبار الذي تتركه فيه رؤية أنيت. قال لنفسه إنه انفعل وتوتَّر بسبب التأثر الكبير بجريمة القتل وقلقه إزاء جينكس ووزير الداخلية. أمسى يعرف أن كل هذا مجرد هراء. لقد وقع في حب أنيت أويسيل، وقع في حبها يائسًا وفاقدًا للأمل. وأنيت الخطر محدق بها. بالطبع إلقاء الذنب عليها سخف، ولكن إن كان دالبيتي يفكر فيها بتلك الطريقة، فربما يفكر الأقل توددًا إليها أيضًا بتلك الطريقة. يمكن إلقاء القبض على المشتبه بهم. جمال أنيت وأناقتها في غياهب السجن — إنها أفكار لا تُحتمل. أسرع عقله إلى الاحتمالات الأخرى. وجد نفسه ينسج في خياله محاولات جامحة لإنقاذ أنيت؛ إذ يقلع معها في طائرة ويسافران إلى جزيرة رائعة في البحر الجنوبي، ويقبعان معًا …
سمع صوتًا رقيقًا وعذبًا يقول: «هل الأحوال سيئة إلى هذا الحد الظاهر عليك؟»
انتبه روبرت من حُلم يقظته واستفاق متثاقلًا كأنه يستيقظ من النوم.
«عذرًا يا جراسي. هل بدا الغضب على وجهي؟»
«أتقول غضبًا؟ كأني بك على وشك أن تدق عنق أحدهم. وكنت تقبض على سطح الحاجز وكأنك ستهدمه مثل شمشون. هل لي أن أسأل ما الأمر؟»
«بالطبع. في الحقيقة، كنت آتيًا للبحث عنك. أنا بحاجة إلى مساعدتك مرة أخرى.»
«ألا تتعلق المسألة بمايكل البائس؟ لا فائدة من ذلك، لن يتنحى الليلة عن خطابه بشأن الجلسة المؤجلة. لم أتمكن من فعل ذلك سوى مرة واحدة.»
قال روبرت بحزم، محاولًا أن يعطيَ انطباعًا بالثقة بأنه لم يكن يتحدث من منطلق العاطفة: «أوه، ليس الأمر كذلك. سيحضر رئيس الوزراء هذه الجلسة بنفسه. لن ينجح هولدزوورث في الخروج بكم كبير من المعلومات. إضافة إلى ذلك، لقد وضعنا زعيم المعارضة كي يسحقه. جُهِّزت كل تلك الأمور.»
«إذن، ما المشكلة؟ ظننت أنك تخشى جلسة المجلس أكثر من أي شيء؟»
«كنت كذلك فيما مضى. ولكن الآن، نرتب المسائل من أجل المحاكمة يوم الخميس، ومِن ثَم لا صعوبة في التنصل من قول أي شيء الليلة. ولكن سأقول لك المشكلة. ما نخشاه الآن هو أن أحدًا ما — لكن لا يمكنني ذكر اسمه ولكنه شخص بريء براءة الذئب من دم ابن يعقوب — سيمر بوقت عصيب كي يثبت أنه لم يرتكب جريمة القتل، إلا لو عثرنا على أدلة أكيدة قبل يوم الخميس.»
«أوه، يا للخزي! بالطبع أود المساعدة في إيقاف هذا الأمر.»
امتن روبرت للقدر الذي توصل إليه معها؛ إذ كان يخشى أن تغضب لمَّا يطلب منها أن تستفسر من الموظفين وتقول إنها لن تؤديَ عملًا من اختصاص الشرطة وتتجسس على العمال. شعر أنه لا يصح أن يلومها إن اتخذت هذا المنحى.
«حسنًا، سأقول لك. تتبعنا كل مفتاح لحل اللغز، واللورد دالبيتي — ذلك الرجل الذي كان يتناول الغداء معي اليوم — مقتنع أنه لا بدَّ أن هناك شخصًا لم يُتَعقَّب، وهذا الشخص كان في قاعة هاركورت أو بالقرب منها أو في المطابخ تلك الليلة. أجرت الشرطة التحقيقات، ولكنها لم تتوصل إلى أي شخص. يشك دالبيتي في خادم الضيافة، وتراوده فكرة غريبة بأن العاملة في غرفة التخزين التي أعدت القهوة قد تقول أي معلومة إن تقرَّب إليها شخص لا تخاف اقترابه منها. قد لا يكون لديها معلومات. إنها فرصة ضئيلة للغاية، ولكن إن لم نتوصل إلى شيء قبل يوم الخميس، فقد يسبب ذلك إخفاقًا فادحًا في تطبيق العدالة.»
سلك روبرت الطريق الصحيح. لقد رأى أثر ذلك. إنها ليست من الشخصيات التي تتأثر بالصعوبات التي تواجه الحكومة، ولو كان لديها أدنى فكرة عما اقترفه وزير الداخلية لكانت أول من يذيع الخبر. ولكن فكرة أن شخصًا بريئًا يواجه تهمة كهذه استقطبت اهتمامها.
قالت بصوت هادئ: «اترك تلك المسألة لي. أنا أعرف عاملات النظافة وأعرف العاملات داخل المطابخ وما يتعلق بها. وكثيرًا ما أذهب وأتحدث إليهن. أنا متأكدة إن كان لديهن معلومات، فسيقلنها لي.»
«جراسي، لا أستطيع أن أوفي شكرك، وعندما تعرفين القصة كاملة — وبالتأكيد ستعرفين كل تفاصيلها، سترين أن المسألة تستحق تلك المساعدة.»
وقفا للحظة ينظر كل منهما إلى الآخر. ربما الاضطراب في قلب ويست كان السبب في تورُّد وجه جريس المفاجئ. غضت الطرف عنه.
قال صوت مألوف: «عذرًا على المقاطعة، ولكن أيسمح أحد منكما بعلبة ثقاب؟» رفعت جريس ناظرها متحيرة ونظرت في وجه سانكروفت المبتهج. قالت: «أوه … إممم … عذرًا، أنا ذاهبة الآن»، واستدارت ومشت مسرعة.
سأل سانكروفت لما أخرج روبرت الولاعة: «هل قطعت عليكما بالفعل فاصلًا من الرومانسية؟ إن كان كذلك، فأنا آسف.»
«بالطبع لا. لا تكن أحمق. كنت أطلب من جراسي إن كانت تود مساعدتي في شيء بشأن قضية أويسيل.»
سخر سانكروفت: «إممم!»
«بالله عليك يا ساني، لا تكن أحمق. مجلس العموم هو المكان الوحيد الذي أعرفه ويصبح الرجل فيه صديقًا حميمًا لامرأة من دون اللجوء إلى محكمة الأسرة من أجل الزواج أو الطلاق. يصعب كثيرًا أن نأمل في أن تبقى هكذا فترة طويلة، ولكن لا تبدأ أنت بإفساد الأمر.»
قال سانكروفت: «سأكون بمنأًى عن هذا. على أية حال، جريس قادرة على الاعتناء بنفسها مثل أغلب النساء. أردت رؤيتك بشأن قضية أويسيل. هذا إن رأيت أن مقامك يسمح بالمناقشة مع صحفي متواضع بعدما أصبحت على عَلاقة برؤساء الوزراء وملوك الأموال.»
أحسَّ ويست بقدر من وخز الضمير. لم يتمكن من البقاء على تواصل مع سانكروفت، ولكن عقله الحاد وتفكيره السليم قد يفيد أنيت بقدر ما تفيدها كل نفوذ اللورد دالبيتي. أمسى بإمكان روبرت التفكير في مشكلة وحيدة وهي أنيت وسلامتها.
قال: «عذرًا يا ساني. ولكنك تعرف كيف هو الأمر. كان الوزير عنيدًا مثل البغل، وكان عليَّ مساعدته عندما غضب منه الآخرون.» لما حاول روبرت فجأة إبداء تفسير مضلل تمامًا ولكنه منمق، كان يعرف كيف يظهر وكأنه خجل من نفسه بعض الشيء.
«لا عليك. وإذا كنت في مأزق، فأنا لا أطلب الثقة. تعرف أين تجدني إن احتجت إليَّ. ولكني سآتي بقصاصات الأخبار الصغيرة التي لديَّ وأضعها بين يديك مثل الخادم المطيع.»
«تُشعرني وكأني وحش يا ساني، ولكني تعهدت بأن ألتزم الصمت إلى أقصى حد. وإذا كانت لديك أي أخبار، فبالله عليك أن تطلعنا عليها حيث إننا لا نملك إلا النَّزْر اليسير من المعلومات القيمة.»
«حصلت لتوي على تلك المعلومات من صحفي في المنطقة التجارية. لا أعلم إن كان دالبيتي على علم بها. ولكن وقع كينيرد في صعوبات متفاقمة أكثر مما ظننا. كان يبيع على المكشوف ودفعة الاستيفاء كانت مستحقة اليوم. ولم يتوقع بضعة أناس ممن يعرفونه أن يفيَ بالتزاماته.»
«وهل أوفى بها؟»
«نعم، وأسهُم أويسيل هي التي ساعدته على ذلك. لا بدَّ أن الآنسة أويسيل ساعدته في الخروج من تلك الأزمة.»
أدخل روبرت يديه في جيوبه وأطبق عليهما بإحكام. وتمكَّن من أن يتحدث بنبرة معتدلة: «هل تعلم منذ متى وقع كينيرد في تلك الأزمة؟»
«بالطبع يصعب معرفة تلك المعلومة. ودائمًا ما كان يُفترض أن لديه موارد كثيرة جدًّا. ولكنه كان يضارب بمبالغ طائلة في الفترة الأخيرة ويختار الجانب الخطأ في السوق. والعجيب أن أويسيل لم ينصح كينيرد لأنه علم بحب كينيرد لابنته. جنى أويسيل مبالغ طائلة من معاملات تغيير العملات الأخيرة.»
«لكن كيف وصلتك هذه المعلومات يا ساني؟ لم يذكر دالبيتي أي شيء عنها. فهل يعلم بالتأكيد؟»
«لم تتم التسوية غير اليوم بالطبع، ولكن باتت المسألة معروفةً الآن. بالطبع لم يَعُد هناك شيء غير طبيعي بشأنها. لكن حقيقة مدى تداعيه للسقوط كانت سرًّا مدفونًا في بئر. ولكن وصلتني تلك المعلومات من أخ لصحفي لدينا في المنطقة التجارية يعمل — أو كان يعمل — سكرتيرًا خاصًّا لدى كينيرد. لقد طرده مؤخرًا. طلبت من ذلك الصحفي أن يستطلع أكبر قَدر من المعلومات عن أي شخص له عَلاقة بأويسيل بأي شكل من الأشكال، وقد قال لي تلك المعلومة اليوم.»
وقف ويست ساكنًا وأخذ يحاول إخضاع تلك الأخبار لنظرية دالبيتي. وقد انسجمت انسجامًا تامًّا.
إذا أرادت أنيت أن تتزوج فيليب كينيرد، وإذا مُنع الزواج بسبب جَدها العجوز العنيد، وإذا أخبر كينيرد أنيت عن أزماته المالية، فهل يُستبعد أنها قررت التخلص من العجوز البائس واستخدمت الملايين التي سترثها كي تُنقذ حبيبها من الإفلاس والعار الاجتماعي؟
لما فكر في أنفة أنيت والطاقة التي تظهر في تأنِّي حركاتها الرشيقة، وقوة العزيمة التي تعبر عنها تعابير فكها بالإضافة إلى المزاج الباسكي البري الذي ينسبه لها دالبيتي، فهل يُستبعد تمامًا أنها ارتكبت تلك الجريمة؟
من دون الانتباه إلى وجود سانكروفت المألوف، التفت إليه بقوة وأفضى بما في رأسه: «ولمَ لا تكون هي؟ لماذا كبار السن الأغنياء يقفون عقبةً في طريق حياة الشباب؟ هناك أمثلة كثيرة من تلك الحالة؛ يضحى بالحب والسعادة إرضاءً لجشع الكبار.»
«هل هذا بيان عام لفلسفة جديدة يا بوب؟ كأني بك تفكر في قِدر أُعد لعجائز العشيرة، أليس كذلك؟ أم تُراها تلك الحفيدة الحسناء طهت جَدها في حساء ذلك القِدر، إن جاز التعبير؟»
«بربك يا ساني، ماذا قلت أنا؟ أقصد …»
«أنت تفقد أعصابك يا عزيزي. كل هذا التكتم وإخفاء ما بداخلك عن أقرب أصدقائك، ليس في صالحك. تعلم أنه لا يوجد قلق من جانبي. لمَ أظل أقول هذا الكلام؟ هل الآنسة أويسيل يُشتبه أن لها يدًا في موت جَدها؟»
بصريح العبارة، بدلًا من أن يدرك بوب غشاوة الرومانسية التي فرضها حب محبط وطباع جنوبية على عينه، أدرك من جديد ما يترتب على تلك النظرية. قال: «لا، هذا مستحيل.»
«لكن أحدهم راودته تلك الفكرة! وأنت راودتك الفكرة بناءً على ما كنت تتفوه به الآن.»
«حسنًا، طرح اللورد دالبيتي هذا الاقتراح … طباع شعب الباسك كما تعلم.»
قال سانكروفت بأسلوبٍ جافٍّ: «طباع شعب الباسك، هذا كله هراء. بوب، أنت تنجرف بعواطفك تجاه هذه الفتاة. لم تنضم إلى قائمة معارفك إلا في الأيام القليلة الماضية، ولكن بصفتي صحفيًّا، تأتيني أخبار عنها منذ خمسة أعوام على الأقل في لندن وباريس. إنها مُترَفة مثل قطٍّ فارسي ومبهرجة مثل الطاوس. الحياة التي تعيشها تستنزف الأعصاب والعقل. لا أعتقد أنها تخطط لانقلاب مثل هذا بتلك التفاصيل المعقدة للغاية. وما الداعي إلى السطو في حين أن معها مفاتيح شقة جَدها وكانت هي التي تقوم على خدمته؟»
«ولكن ماذا إن أرادت أن تتزوج كينيرد ولم يسمح أويسيل العجوز بذلك؟»
«وفي رأيك، ما الفرق الذي ستحدثه مراسم الزواج بالنسبة إلى هذين الاثنين؟»
نتج عن تلك السخرية أن هدأ روبرت بعد غضبه. التفت — من دون أن يتحدث — إلى الحاجز ووضع رأسه بين يديه.
«سامحني يا بوب، ولكني كنت أُجري تحقيقات. أنيت أويسيل ليست طيبة السمعة. وكينيرد ليس سوى شخص واحد في القائمة لديها.»
«إذن، لماذا تمنحه هذا المبلغ الكبير من المال كي تنقذه من الإفلاس؟»
«إنها تفضله على باقي القائمة، وبالتالي أظن أنه يمكنه الحصول على أي أموال يريدها. وهذا المبلغ لن يُحدث فرقًا كبيرًا في ثروة أويسيل. لكنها ليست كزوجة ماكبيث حتى إن بدت كذلك في بعض الأحيان. وأراهن بكل أموالي على أنه لا عَلاقة لها بموت جدها …» أردف سانكروفت: «إضافة إلى ذلك، ما الذي يدفعها إلى المجيء إليك في الصباح بعد الحادث وتصر على أن موته لم يكن انتحارًا في حين أن الصحف تقول إنه انتحار؟»
«لكن إن كانت تعلم أنه لم ينتحر، ألم تكن هناك طريقة أفضل لتضليل الشرطة؟»
ضحك سانكروفت: «حسنًا، إذا قررت أن تثبت براءة الفتاة البائسة من جريمة القتل.»
«أوه، دعك عني يا ساني! ينبغي أن نتوصل إلى الوقائع. ثم نقرر ما نفعل بها بعد ذلك.»
«شعور ذو أخلاقيات عالية من السكرتير البرلماني الخاص لدى وزارة الداخلية. آه، بالمناسبة، الحمد لله أن أنيت الجميلة ليست من اهتماماتي! لكن في رأيي أنك ترسم دائرة ضيقة للغاية بحيث لا تُدخل بها سوى المرتبطين بأويسيل داخل لندن. مهما بلغت إرادة أنيت في التخلص من جَدها، وأنا لا أصدق هذا كي أكون صريحًا معك، فكيف رتبت ذلك اللغز في الغرفة جيه، وما الذي يدفعها إلى الوقوع في كل تلك المتاعب؟»
«إذن، من تعتقد أن يكون الفاعل؟»
«أعتقد أنه ينبغي أن تتعمق أكثر في ماضي أويسيل يا بوب. ربما يتمكَّن دالبيتي من مساعدتك في هذا الشأن. كلنا افترضنا أن موت أويسيل له علاقة بالقرض بشكل أو بآخر. ولكن قد لا يكون له أي عَلاقة به. ألا تتذكر حين قلت لي ملاحظة أدلى بها كينيرد تُفيد بأن أويسيل لم يكن له منافسون كثر لأن العديد منهم مات قبله؟ لا تخلو حياة رجل مثل أويسيل من الاحتمالات الكدرة. هل دخلت مع كينيرد في أي حديث؟»
«لا، كان الأمر صعبًا.»
«هل أفهم أنه ينافسك على حب السيدة؟ أعتقد أن كينيرد له حظوة عندها في الوقت الحالي يا بوب، إلا لو أن الآنسة فكرت أن الوقت قد حان من أجل التغيير بالطبع.»
لم يتفوَّه ويست بكلمة.
«عذرًا يا بوب. لا أرى سببًا لا يدفعك إلى المحاولة مع أنيت أويسيل إذا أحببت. على الأقل ستكون فترة نقاهة مثيرة. لكن بما أن محرري البائس ينتظر نسخة من المقالة قبل الساعة الرابعة، يُخيل لي أنه تحددت بقعة العمل. ما أطولها!»
كانت الشرفة قد بدأت تمتلئ بسرعة وتزدحم من أجل تناول الشاي. شعر ويست بالضجر عندما تذكر الوعد الذي قطعه لدونالد شاو بأن يُحضره إلى الجلسة. حري به أن يذهب ويأتي به. لما كان يتنقل بين مجموعات الأعضاء وأصحاب العَلاقات معهم وناخبيهم، أحسَّ أن أحدًا يمسك بذراعه.
«على رسلك يا روبرت.»
نظر إلى وجه طلق تتحلى به السيدة بيل كلينتون.
«اعذريني. شخص ما بانتظاري. هل تريدينني؟»
«نعم، ليس أكثر من دقيقة. ضيفك يمكنه الانتظار.» سحبته السيدة بيل كلينتون إلى كرسي بجانبها، وعلى الرغم من أن الطاولة التي جلست عليها ممتلئة بضيوفها، فإنها تمكنت من الانعزال بويست عندما أدارت كتفها.
«روبرت، أريد منك خدمة من أجلي … بل خدمتين.»
«تعرفين أنه إن كان باستطاعتي …»
«بالطبع. الأولى، أريدك أن تأتي على العشاء ليلة غد. هل هذا يناسبك؟»
«لست في مزاج يصلح للعشاء كما أنني مشغول في قضية أويسيل. طلب مني رئيس الوزراء أن أبقى على اتصال مع اللورد دالبيتي. إن أرادني …»
قاطعته السيدة بيل كلينتون: «ديك آتٍ أيضًا، وكذلك أنيت وفيليب وكينيرد.»
«إذن، يسرني ذلك بالطبع.»
لمست السيدة بيل كلينتون الحزن الذي يغشى وجه روبرت. «هل تجرحك كثيرًا يا بوب … أعني أنيت؟»
نظر إليها روبرت محتارًا. تُرى هل أخبرها دالبيتي؟
«تترك أنيت هذا الأثر لدى الرجال. لقد شهدت بضعة رجال طيبين أصابهم البؤس بسببها، ويمكنها أن تفعل ذلك بمنتهى السهولة.»
قال روبرت وقد أحسَّ بالارتياح عندما لم تشك السيدة بيل كلينتون إلا في عَلاقة حب يائسة: «ولكن ماذا عن الخدمة الثانية؟»
«أريد منك الحصول على تصريح لي كي أقيم حفل العشاء في الغرفة جيه.»
حدَّق إليها روبرت منذهلًا. «ولكن هذا مستحيل يا سيدة بيل كلينتون، وسامحيني لكن هذا الطلب لا أظنه مقبولًا. أنا متأكد من أن الشرطة لن تسمح بذلك، على الأقل حتى تمر جلسة المحاكمة المؤجلة.»
«لا تعتقد أني أبحث عن الإحساس فحسب يا روبرت، أليس كذلك؟»
بقي روبرت صامتًا. كان واضحًا أنه لا يعتقد ذلك، ومِن ثَم كان صارمًا في عدم الموافقة.
مالت آيفي بيل كلينتون بجسدها إلى الأمام وقالت بنبرة سريعة ومنخفضة: «لا يمكنني الشرح هنا. لا أريد أن يتنصت علينا أحد. ولكني استشرت ديك دالبيتي ووافق. لديَّ شعور أنه يمكنني إخراج اللغز من تلك الغرفة يا روبرت، وأريد إعادة تركيب الأحداث بأن أجلس في المكان الذي جلس فيه السيد أويسيل وأرى إن كان سيأتيني إلهام. وأعتقد أنه سيأتيني. أخبرتني السيدة بالوما أنني وسيطة روحانية.»
ابتسم ويست. إنه يعرف السيدة بالوما، إنها آخر الأشخاص اللطفاء في المجتمع وكانت ماهرة في استخلاص مبالغ طائلة من المال بألعابها الروحانية الذكية. حضر روبرت جلسة أو جلستين من «جلسات تحضير الأرواح» مع آيفي بيل كلينتون وقد أثارت المداهنة الحازقة من الأداء بالكامل اهتمامه.
«إذا كنتِ ترجين أملًا من هذه اللعبة، فما الذي يمنعنك أو يمنعني أو حتى يمنع اللورد دالبيتي من الجلوس والمشاهدة؟ ولكن حفل العشاء، وحفيدة أويسيل بين الضيوف … أعني، حسنًا، ماذا سيقول الناس؟»
«لا أحد يريد أن يعلم. لا أقترح الإعلان عنه في جريدة «ذا تايمز».»
«كيف تفعلين أمرًا كهذا من دون أن يتواجد في الطرقة كل الصحفيين المهتمين بما يجري في رواق البرلمان؟ تشرئبُّ الأعناق تطلُّعًا إلى ما يجري في قضية أويسيل. وربما تنحل الحكومة بسبب تلك القضية. فأنَّى لحفل كهذا أن يغيب عن صفحة الأخبار الساخنة لهذا الأسبوع؟»
لم تعتَد السيدة بيل كلينتون على معارضة أفكارها اللطيفة بتلك الطريقة. «سأقيم هذا الحفل يا بوب، حتى لو اضطُررت إلى إقامته في منتصف الليل بعد أن يذهب الجميع إلى منازلهم. أشعر أنه يمكنني المساعدة، ولا يصح منك أن توقفني.»
«أنا لا أوقفك. أنا فقط أخبرك أنك قد لا تتمكنين من الحصول على التصريح. ولكن إن أحببت، فسأتصل باللورد دالبيتي وأعرف رأيه.»
«جيد. إذن، سيكون كل شيء على ما يرام. لن يكون في الحفل غير خمستنا، إلا إن أردت إحضار وزير الداخلية. هل تظن أنه سيأتي إن طلبت منه؟»
قال روبرت وهو يتملص منها: «لا قدر الله!»