الفصل الثامن
كان العقيد ستيوارت أورفورد خارجًا من غرفة تعليق المعاطف لما كان روبرت عائدًا إلى رواق الأعضاء بعدما أوصل أنيت إلى سيارتها.
«هل لي بكلمة معك يا روبرت؟»
استنكر عقل روبرت وانزعج، ولكنه تحلَّى بأسلوب متأدِّب ظاهريًّا، قال: «بالتأكيد»، وتبع العقيد إلى غرفة تعليق المعاطف وأسند نفسه على ميزان قديم أخبر الحقيقة التعيسة لأجيال من رجال الدولة الكثيرين. يتجسد في العقيد ستيوارت أورفورد الكثير من مبادئ حزبه النموذجية ما يمنع أي سكرتير برلماني خاص من تجاهله.
تتجسد في ستيوارت أورفورد تقاليد المقاطعة والدولة والجيش وبريطانيا العظمى.
«أنا مهتم بقضية أويسيل يا روبرت.»
«كلنا مهتمون أيها العقيد، أؤكد لك ذلك. والوزير مهتم أكثر من أي واحد منَّا.»
«أنا لا أولي اهتمامًا خاصًّا لموت هذا الرجل. ربما يفيد لو اتُّخذ إجراء تطهير وأُعدم أمثاله رميًا بالرَّصاص. ولكن يُخيَّل لي أن الحكومة قد علقت نفسها في براثن هؤلاء الرجال. وأنا لا يعجبني ذلك يا روبرت. لا يعجبني ذلك تُرى ما الذي كان سيقوله بالمستر أو دزرائيلي بشأن فكرة أن تتذلل بريطانيا لهذا الرجل من أجل المال … الحكومة البريطانية. اللعنة يا روبرت، هل خضنا الحرب من أجل الوصول إلى هذا الوضع؟»
«كنت في المدرسة حينما كنت تقاتل في تلك الحرب أيها العقيد، وأظن أنكم جميعًا كنتم تعلمون ما تفعلون، ولكن تسببت الحرب في فوضى كبيرة. وإنجلترا التي خلَّفتها الحرب ليست هي إنجلترا التي خلفها بالمسترون والملكة فيكتوريا. اضطُررنا إلى التعامل مع الوقائع، والدولارات الأمريكية هي أكبر تلك الوقائع. اضطُررنا إلى الحصول عليها، ولذا لا فائدة من التعالي والتكبر في تلك المسألة.»
يبرز شارب ستيوارت أورفورد الأبيض من وجهه الذي احمرَّ فجأةً، قال غاضبًا: «دع الاشتراكيين يتحدثون هكذا. أقول إنه كان على حزبنا أن يستعدَّ لسؤال كل بريطاني — نعم، كل بريطاني بدايةً من البلاط الملكي وحتى الأحياء الفقيرة — كي يقدم المساعدة بما يستطيع بدلًا من الاعتماد على شخصٍ كهذا.»
شعر ويست بالأسى تجاه الرجل العجوز، وكبريائه الجامح، ووطنيته التي لا ترى سوى جزيرة صغيرة تقود العالم. كان العصر الحديث صعبًا على ستيوارت أورفورد. حاول أن يُسلِّي عن الرجل.
قال بأسلوب غير متأدِّب: «الأمريكيون من خلق الله كما تعلم، حتى إن كنت تعتقد أن الله القدير كان من الأفضل لو خلق شيئًا آخر غير هذه القارة. علينا أن نتعايش معهم. العالم كله صغير مثلما كانت بريطانيا في عهد بالمسترون. أعني تواصل العالم بعضه مع بعض. بالطبع استحوذت أمريكا على معظم الذهب عندها بشكل أو بآخر، وستستحوذ على الباقي قريبًا، ولكن أيها العقيد، إنها ليست المرة الأولى التي يُضطر فيها رجل مثلك إلى التعامل مع رجل أتى من المنطقة التجارية واشترى حديقة قديمة بجوار حديقتك. تحاول أن تقنعه بطريقة ما، وهذا ما اضطُررنا إلى فعله مع أويسيل وجماعته.»
غادر ويست الرجل العجوز وهو يتمتم بأنه حتى الشاب المحافظ أصبح اشتراكيًّا. لا فائدة من الجدال. أدرك روبرت أنه يتحدث بلغة مختلفة عما يتحدث به ستيوارت أورفورد. شعر أن نيويورك التي تتميز بموسيقى الجاز والدولارات — أقرب إليه من إنجلترا — إذ من أبرز مظاهر الحياة فيها وسائد الأرائك الفيكتورية. لكن لماذا ينتحب هؤلاء المسنُّون مثل السيدات في أوقات العَوَز مثل المربية لدى العائلات الأرستقراطية التي لا تفتأ تتحدث عن أمجاد العائلات القديمة وترفض مواجهة وقائع العالم الذي تعيش فيه؟ إنهم يقفون على شفا جُرُفٍ هارٍ، ويغارون من إبحار السفينة نحو مغامرات جديدة.
بينما اندفع من الباب الدوار إلى ضجيج الرواق المركزي وضوئه، صاح عليه سانكروفت الذي كان واقفًا يتحدث مع بعض الزملاء الصحفيين: «بلاكيت يريدك. إنه بالخارج في الرواق العام. قلت له إني سأخبرك.»
«سأذهب إليه على الفور.»
«اسمح لي أن آتيَ أنا أيضًا. إذا كانت المسألة خاصة برمتها، فسأتفهم الأمر، ولكن لعلك تعلم أنك وعدتني أن تُشركني في تلك القضية.»
«بالطبع، يعتمد الأمر على بلاكيت. أود أن تكون معنا. لا بدَّ أن نُحرز أيَّ تقدم وإلا فسنواجه متاعب. هولدزوورث لا يدخِّر جهدًا في تلك القضية.»
كان سانكروفت في الشرفة المكشوفة في وقت سابق بعد ظهر ذلك اليوم، حذَّر قائلًا: «أعلم … ولا تتجاهل السيدة جراسي متباهيًا.»
تقابل ويست مع بلاكيت ونزل الثلاثة إلى غرفة التدخين، إنها غرفة كبيرة رتيبة حوائطها مكسوة بالبلاط وتحتوي على مقاعد جلدية تحاكي المقاعد في غُرف الانتظار من الدرجة الأولى في أي محطة بريطانية كبيرة. الغرفة كبيرة ومليئة بالدخان وكانت بمثابة الملاذ المألوف والدافئ للعديد من أعضاء البرلمان الذين ينتابهم شيء من الحَيرة حيال المكان الغريب الذي أرسلهم إليه ناخبوهم.
قال ويست معتذرًا لما طلب المشروبات: «تلك الغرفة أفضل مكان من أجل التحدث يا بلاكيت. وزير الداخلية في غرفته، ومِن ثَم لا يمكننا التحدث هناك وفي هذا المكان الفسيح لا يوجد ركن هادئ نتحدث فيه.»
ولكنهم تُركوا بمفردهم في ركن بجانب النافذة. لما كانت الغرفة مكتظة بأعضاء البرلمان ولا تتوافر بها المرافق الملائمة من أجل العمل أو المشاورات، فقد دفع اليأس الأعضاء إلى ابتكار أسلوب خاص من العزلة. وعادة ما يُترك أفراد المجموعة الذين يتحدثون بجدية لأنفسهم.
أخذ بلاكيت يدخن غليونه. في وسط كل الغادين والرائحين، لم يستطع التركيز بسهولة مثل ويست وسانكروفت، حيث إنهما معتادان على العمل في تلك «البيئة».
قال ويست: «نجحنا في تخطي العقبة الأولى في المجلس اليوم، ولكن لم تنتهِ احتمالات المتاعب، وقد تأتي المتاعب من جانبنا بقدر ما تأتي من المعارضة. هل توصلت إلى أي خيوط بشأن اللصوص قد تساعد في كشف لغز موت أويسيل؟»
«توصلت إلى قصاصات، مجرد قصاصات وسأخبرك إياها يا سيد ويست. لكن تلك القصاصات لا يتوافق بعضها مع بعض. لم أتوصل إلى صورة كاملة. وهذا ما أريدك أن تساعدني فيه. لا يمكنني الذَّهاب مباشرةً إلى وزير الداخلية حتى الآن، ولكن إذا أعطيتني قاعدة انطلاق، فقد أتمكن من التوفيق بين تلك القصاصات بحيث أكوِّن صورة تستحق أن أتحدث فيها مع الوزير. تعلم أن أي شيء تخبرني به سيكون في أمانٍ تامٍّ إذا كان ينبغي أن يظل موضعَ كتمان حتى وقتٍ لاحق.»
«أعلم ذلك، تحدث إذن.»
«حسنًا يا سيدي، عاودنا الحديث عن ذلك العشاء والأسباب الكامنة خلفه. يصر وزير الداخلية على أنها كانت مجرد مسألة شخصية، وتلك مجاملة بسيطة دائمًا ما تقدَّم عند إجراء مفاوضات من ذلك النوع — ولا بأس بذلك بالطبع إلا أن أويسيل لم يقبل البتة أيَّ مشاركةٍ اجتماعية في السنوات العشر الأخيرة على حد قول خادمه. إذن، يجب الاعتراف بأنها كانت صدفة أن يُقتل بالرَّصاص وتتعرض شقته للسطو في أول مرة يخالف فيها تلك القاعدة.»
«يمكنني تصحيح الأمر فيما يتعلق بوزير الداخلية. تحدثت معه هذا الصباح. وصلت المفاوضات إلى مرحلة حساسة. أرادت الحكومة الحصول على القرض في أقرب وقت من قبل حتى الاستعداد للإعلان عنه للعامة. كانت البنود صارمة وتضمنَّت بنودًا غير مقبولة. لا أعرف ما هي تلك البنود. لم يخبرني الوزير وبالطبع لا يجدر بي أن أخبرك على أي حال. لم يتيقَّن رئيس الوزراء هل أويسيل يهتم شخصيًّا بتلك الأحكام أم كان يستخدمها لمجرد فرض شروط فائدة أعلى. السبب الوحيد لإقحام وزير الداخلية في المسألة هو صداقته القديمة مع أويسيل، ومِن ثَم انتهز الفرصة لاستكشاف ما يمكنه عن طريق محادثة شخصية مباشرة.»
سأل سانكروفت: «هل من أجل عينيه أم من أجل الترتيب للحصول على رشوة؟»
سأل ويست مقتضبًا: «وهل تظن أن يخبرني بأمر كهذا؟ مبدئيًّا، استمعا إليَّ. لقد عرفت وزير الداخلية عن كثب مثل أي أحد، ربما أعرف عنه أكثر مما تعرف أسرته. قد يكون غبيًّا مثل البغل، لكنه ليس الرجل الذي يدخل في أي عمل قذر ومعقَّد. إنه أنزه رجل سياسي.»
قال سانكروفت مغتاظًا: «تأثرت دومًا بالثقة التي يُصر السياسيون المنتمون إلى الحزب نفسه على إظهارها بعضهم تجاه بعض في المناسبات الخاصة بالبلد، ولكن لا شك أن أي تزلف يفضله أويسيل قد يكون واجبًا وطنيًّا إيجابيًّا في تلك الظروف.»
هزَّ ويست كتفيه. «لا يُحتمل أن يخبرني وزير الداخلية عن البنود التي خُوِّل له عرضها؛ وعلى أية حال، لا أرى لذلك عَلاقة بلغز الجريمة. أعتقد أننا نحل تلك المشكلة من الطرف الخطأ إذا ركزنا على ما حدث في الغرفة جيه. أنا على يقين أنه ينبغي لنا أن نبدأ العمل من الشقة.»
سأل سانكروفت: «هل أويسيل يزوره أناس كثيرون؟»
«كلَّفت رجلًا لمعرفة تلك المعلومة على وجه الخصوص. لا يزوره إلا قلَّة وهم أناس معروفون — اللورد فينسبورج من البنك المركزي، وفيشويك من وزارة الخزانة، وكينيرد، ومصرفي أو مصرفيان كبيران آخران.»
«لعل أنيت ساعدتك في معرفة ذلك يا بوب؟!»
تورَّد وجه ويست. لم تعجبه نبرة سانكروفت المضايقة، ولم ينشغل باله على وجه الخصوص بأن يشك بلاكيت في أي تعاون بينه وبين حفيدة أويسيل.
كي يغير دفة الحديث، قال لبلاكيت: «لكن ألا يستطيع دوبيسك أن يخبرك بشيء؟ لقد عمل مع السيد أويسيل لسنوات.»
«إما أنه لا يستطيع أن يخبرني أو لن يخبرني. لا يمكنني أن أعرف الكثير منه. لا أظن البتة أن السيد أويسيل اختاره لذكائه.»
قال سانكروفت وعلى شفتَيه ابتسامة: «ربما حصافته هي أهم صفة لديه.» تذكر ويست موقف أنيت عندما كانا يحتسيان الشاي. كأن أويسيل قد نقل العدوى لكلِّ مَن حوله بأن غرَس فيهم عدم إخبار الشرطة بأي شيء.
«لا يخلع دوبيسك تلك الصفة عنه، ويبدو أنه لا يوجد سبب للتشكيك فيما قاله بأن اللصوص خدَّروه بالكلوروفوروم بمجرد أن فتح لهم الباب. لا يمكننا الخروج منه بأي معلومات غير ذلك وغير واقعة خروج جينكس من أجل شراء الصحف الرياضية خصوصًا كي يعرف نتيجة مباراة كيد أوكلاي.»
«وبالنسبة إلى الشيال، ألم يشتبه في شيء؟»
«لم يكن يعلم أن أويسيل بالخارج. وقد أوصل رجلَين حسَنَي الملابس إلى المصعد. إنه لم يشتبه في شيء حتى لما سمع الرَّصاصة التي لا بدَّ أنها قتلت جينكس. ظن أن ذاك انفجار حدث في المحرك. اشتبه في الأمر لما خرج الرجلان بسرعة كبيرة من دون استدعاء المصعد، ومِن ثَم اتصل بالشرطة.»
قال ويست: «بالطبع يستحيل القول إن هذا محض صدفة. سبق أن تكتمنا على واقعة العشاء كي لا تعرف الصحافة، ولكن لا شيء مما يحدث في هذا المجلس يبقى سرًّا. قد يأخذ اللصوص العاديون بالنصيحة ويخرجون من أجل المال والمقتنيات القيمة، ومِن ثَم لا تكون هناك عَلاقة بين السرقة وجريمة القتل.»
قال بلاكيت: «ذلك الاستنتاج غير صحيح يا سيد ويست. في أحد الأدراج التي فُتحت، كان هناك سوار ساعة من الألماس اشتراه السيد أويسيل هدية لحفيدته. فُتحت العلبة ولكن لم تُمس الساعة. وحسبما أعتقد، فلا شك أن اللصين كانا يبحثان عن أوراق ما، وهذا ما أخذاه. كذلك يتفق كل من دوبيسك والآنسة أويسيل على أنه لم يحتفظ البتة بأي مقتنيات ثمينة أو أموال في مسكنه. إنه يحفظها دومًا في الغرفة المنيعة بالبنك.»
قال روبرت متأملًا: «إنها خَسارة كبيرة أن يُقتل جينكس على يد هذين الخنزيرَين. كان رجلًا يتمتع بذكاء استثنائي، ولا بدَّ أنه تمكَّن من معرفة الكثير عن شئون أويسيل. أعرف أن أويسيل أخبر الوزير بأنه كان يحاول أن يقنع جينكس كي يعود معه إلى أمريكا. ربما كوَّن بعض الاستنتاجات … عن الزوار على سبيل المثال. قلت إنه لم يُعثَر على شيء بشأن جينكس، لا دفتر يوميات ولا أي شيء يمكن أن يساعدنا، أليس كذلك يا بلاكيت؟»
«تعالَ وألقِ نظرةً على ما يوجد هناك. لا أرى شيئًا ذا أهمية … كلها متعلقات شخصية عن الملاكمة وبطاقات مواعيد وأشياء من هذا القبيل … ما لم تكن الأرقام في مفكرته تعني شيئًا بالطبع.»
نظر إليه روبرت بحدَّة وقال: «هل تقول مفكرة يا بلاكيت؟ هل كانت معه مفكرة؟ لم تخبرنا عن ذلك.»
عندئذٍ تذكَّر الوعد الذي قطَعه لأنيت، وقال بمزيد من العفوية: «سآتي معك وأُلقي نظرة على متعلقات جينكس.»