القسم الثاني: الهيجليون الشُّبان (اليسار الهيجلي)
أولًا: الهيجليون الرومانسيون
الهيجليون الشُّبان هم تلاميذ هيجل الذين خرجوا عليه. ونقدوا مثاليته. وطوروا فلسفة الدين لديه من الاكتمال في الله إلى الاكتمال في الإنسان. وتأسيس أنثروبولوجيا جديدة واضحة بلا مواربة. ليس فيها دفاعٌ عن الدين أو تأويل إنساني له بل فيها عالَم إنساني جديد، واضح المعالم، لا اشتباه فيه. توفوا بعد هيجل بثلاثة حتى خمسة عقود من الزمان مثل شترنر (١٨٠٦–١٨٥٦م)، وفيورباخ (١٨٠٤–١٨٧٢م)، وباور (١٨٠٩–١٨٨٢م)، وماركس (١٨١٨–١٨٨٣م). وكان أصغرهم سنًّا عندما تُوفِّي ماكس شترنر (٥٠)، وأكبرهم سنًّا كارل ماركس (٦٥)، يليه باور (٧٣)، وفيورباخ في الوسط (٦٨).
وفي التراث الإسلامي لا يوجد نقد داخلي بين الفلاسفة إلا معركة «تهافت الفلاسفة» للغزالي و«تهافت التهافت» لابن رشد. فلم يؤسس الكندي مدرسة ينتقدها الفارابي. ولم يؤسس الفارابي مدرسة ينتقدها ابن سينا. ولم يؤسس ابن سينا مدرسة ينتقدها ابن رشد. وتلاميذ ابن سينا هم الإشراقيون فقط الذين ساروا في التأويل الإشراقي لابن سينا، ولا يوجد تلاميذ عقلانيون لابن سينا أخذوا الجانب العقلاني. واستمروا فيه.
ويعتبر تعبير «الهيجليون الشبان» أفضل من «اليسار الهيجلي» نظرًا لثقافتنا المعاصرة التي توحد بين اليسار والماركسية أي المادية والإلحاد، والعنف، والخروج على الدولة الوطنية، والعمالة للاتحاد السوفييتي، وكأن الاشتراكية واحدة. لا تختلف في روسيا عنها في الصين عنها في فيتنام وكوبا. في حين أن اليسار أوسع بكثيرٍ من الشيوعية. فالشيوعية هي أحد أنواع اليسار. أما اليسار فهناك اليسار القومي، واليسار الإسلامي.
وفي العصر الحديث توزَّعت الحركات الإصلاحية إلى يسارٍ ويمين. فاليسار هو مَن يحارب الاستعمار والاحتلال. ويساهم في حركات التحرر الوطني مثل الأفغاني. واليمين هو مَن يدعو إلى الإصلاح العقلي والنهضة الحديثة مثل محمد عبده والطهطاوي؛ لذلك كان الأفغاني يقول «عجبت لك أيها الفلاح، تشق الأرض بفأسك ولا تشق قلب ظالمك.» وكان يمسك بتلابيب محمد عبده ويقول له: «والله إنك لمثبط.» أما اليمين الإصلاحي فقد كان يدعو إلى محاربة الاستعمار ويدعو إلى الاستقلال الوطني ولكنه لا يرى مانعًا من التعاون مع القصر والإقطاع. وسار عرابي في طريق الأفغاني في ثورته ضد الإنجليز في نفس الوقت قائلًا للخديوي في قصره: «إن الله خلقنا أحرارًا. ولم يخلقنا عبيدًا أو عقارًا. والله لا نورَّث بعد اليوم.» وهو نفس التيار الذي يسير فيه «اليسار الإسلامي» والثورة الإسلامية في إيران خاصة في بدايته. وربما سار اليسار في «مجاهدي خلق» الذي كان يمدهم عبد الناصر بالسلاح في الستينيات من أجل الإعداد للثورة على الولايات المتحدة الأمريكية «العدو الخارجي» والشاه أي الملكية «العدو الداخلي». على عكس ما فعل خليفته بمواراته الثرى في مصر بعد أن رفضت جميع الدول استقباله حيًّا أو ميتًا.
ويبدو أن هيجل الشاب لا يفترق كثيرًا عن الهيجليين الشبان في انطلاق كلٍّ منهما من الدين والسياسة. فالهيجليون الشبان عود إلى هيجل الشاب في «روح المسيحية ومصيرها» و«حياة يسوع» و«دستور ألمانيا» ونقد المسيحية، وليس الجدل، والتجسد في التاريخ.
أما اليسار العقلاني فهم تلاميذ ابن رشد اللاتين مثل سيجر البرابنتي الذي ذاع صيته، وانتشر تياره في العصر الوسيط المسيحي دون أن تنتشر الرشدية باعتبارها يسار الفكر الإسلامي في العالم الإسلامي إلَّا عند مَن يتمسحون به حاليًّا للتقرُّب من الغرب، والهجوم على الجماعات الإسلامية، واستعماله ضد النظام السياسي لتحقيق هذا الهدف المشترك بينهما. وهو الماركسي المعارض لنظام الاستغلال والاستبداد والتفاوت الطبقي.
وكان الهيجليون الشبان أو اليسار الهيجلي أقرب إلى نقد الهيجلية منهم إلى تطويرها على عكس الكانطيين الأربعة: فشته وهيجل وشلنج وشوبنهور؛ أو الكانطيين الجدد الأربعة: هرمان كوهين وبول ناتورب ولوتزه ولانجه، ونقد المثالية إلى إعادة قراءتها؛ وبالتالي كانوا أقرب إلى الفلسفة المعاصرة منهم إلى الفلسفة الحديثة. ويعبرون عن الفترة الثانية من الوعي الأوروبي و«الأنا موجود» في مقابل «الأنا أفكر». ولذلك كانوا أحد مصادر الوجودية وكيركجارد والفوضوية (شترنر)، والإنسانية (فيورباخ)، وفلسفة اللغة والأساطير والأنثروبولوجيا المعاصرة (شتراوس، وباور)، والشيوعية (ماركس). كانوا أيديولوجيِّي الليبرالية الألمانية بين ١٨٣٠–١٨٤٠م، وممثلي الجناح الراديكالي لهيجل في تفسيرهم له بعيدًا عن الاشتباه الذي وقعوا فيه بين الدين والفلسفة، الإيمان والعقل، المجرد والعيني، الفكر والوجود، المحافظة والتقدم، الدفاع عن الوضع القائم والثورة عليه، كانوا أقرب إلى الفلسفة وإعمال العقل، والالتصاق بالواقع والإحساس بالوجود والثورة على الوضع القائم. كانوا يمثلون في ألمانيا البروسية ما يمثله فلاسفة التنوير بالنسبة لفرنسا الملكية. وكانوا من المدافعين عن الثورة الفرنسية بعد أن هاجمها الإقطاع الألماني. بل أرادوا إعادة الكرَّة مع الثورة الفرنسية في ألمانيا وبنفس طريق التنوير. واتجهوا إلى نقد الدين ونقد المجتمع. نقد فيورباخ الدين. وأرادوا القضاء على الاغتراب الديني، وبيان «مستقبل الوهم» كما فعل فرويد بعد ذلك بقرنٍ من الزمان، والعودة إلى الإنسان والطبيعة. كما أراد شتراوس أن ينتقد النصوص الدينية، وبيان نشأتها وتكوينها في الوعي الجماعي التاريخي، وأن العقائد وفي مقدمتها ألوهية المسيح ما هي إلا أسطورة. كما بين باور أن العقائد مجرد إبداعات وهمية شعبية، وتحليل الشعور الاجتماعي بعد الشعور الديني وبيان أن الاغتراب الديني والاغتراب الاجتماعي صنوان.
وفي تراثنا القديم لا يوجد تصنيف للفلاسفة بين يسار ويمين بل بين عقليين مثل الكندي والفارابي وابن باجه وابن طفيل والإشراقيين مثل ابن سينا في «الإشارات والتنبيهات»، والغزالي بعد هجومه على الفلسفة في «تهافت الفلاسفة». كما يوجد تعارض بين أهل النظر مثل المتكلمين وأهل الذوق مثل الصوفية. كما يوجد تعارض ثالث بين العقل والنقل.
(١) شليرماخر (١٧٦٨–١٨٣٤م)
والهيجليون هم المثاليون الرومانسيون، عصر بيتهوفن وجوته، وتحويل لعقيدة المسيحية ليس إلى ميدان العقل بل إلى ميدان العاطفة. هو هيجلي كما في «فلسفة الدين» دون أن يشير إلى أيٍّ من الفلاسفة في عصره ولا حتى لأيٍّ من كبار اللاهوتيين في العصر الوسيط أو عصر آباء الكنيسة. هو هيجلي بمعنى أنه يسير في نفس التيار الهيجلي، وهو تحويل الدين إلى مثالية، والعقيدة إلى بنية للشعور.
(أ) الإيمان المسيحي
ويرفض شليرماخر البداية والنهاية في شق العقائد، البداية في الخطيئة الأولى، والنهاية في الخلاص. فالإنسان ليس مسئولًا عن خطيئة آدم ولا عن خلاص المسيح. هو مسئولٌ فقط عن أفعالِه الإرادية العاقلة التي تخضع للثواب والعقاب. يخلص نفسه بنفسه. فلقد تاب الله على آدم. ولا يتحمل الإنسان بالوراثة خطيئته قبل التوبة. وفي الخلاص فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ. وهو ما سماه القدماء حسن الأفعال وقبحها، وما سماه المعتزلة العدل بعد التوحيد. والعدل هو مسئولية الإنسان بعقله وحريته عن أفعاله.
وفي الفصل الثاني «منهج النسق العقائدي». ويتوقف المنهج على اختيار مادة النسق العقائدي وكيف يتكون هذا النسق.
لذلك إن تجديد الخطاب الديني المعاصر يغير نسق العقائد. ويعمل على اكتشاف ولادتها. فالبعث لا يعني أن الحياة تنتهي بالموت بل تستمر بعده في شكل آخر. كما أنه يعني أن الخطاب الديني يتعلق بالمستقبل أكثر مما يتعلق بالماضي وهو الخلق. فالقيامة تعني النهوض. والاستحقاق بعد النهوض خاصة بعد عالمٍ يسوده الظلم أكثر مما يسوده العدل.
والصفات الإلهية متعلقةٌ بالوعي الذاتي الديني كجزءٍ من العلاقة بين الله والعالم. ويشمل عدة عقائد مثل خلود الله، وقادر قدرة مطلقة، وحاضر حضورًا مطلقًا، وعالم علمًا مطلقًا، وصفات أخرى. وهو ما سماه المتكلمون المسلمون الصفات السبعة: العلم، والقدرة، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام، والإرادة، ثلاثي فرباعي. وهذا هو إله المتكلمين.
والمقطع الثالث تكوين العالم كما هو مبين في العلاقة بين الله والعالم. ويتضمن عقيدتَين؛ الأولى الكمال الأصلي للعالم، والثانية الكمال الأول للإنسان.
يتقدَّم كل قسم أو جزء أو مقطع مقدمة لشرح مكانته في نسق العقائد الجديد حتى امتلأ النسق بالمقدمات الشارحة ما دام لا يعتمد على العقل الصريح كما هو الحال في «فلسفة الدين» لهيجل. ويتفرع القسم الأول إلى فرعَين كل منهما عدة عقائد. الأول ستة معتقدات. والثاني أربعة معتقدات. معنى النسق التصنيف والترتيب والنظام. الفلسفة في البداية، والدين في النهاية.
ويعرض شليرماخر في الجزء الثاني الجانب الثاني التعبيرات المتناقضة للوعي بالفضل، في حالة المسيحي بالنسبة للفضل الإلهي، المسيح وشخص المسيح وما يُقال فيه من نظريات. وأيضًا ما يُقال في شخص المسيح وعمل المسيح من نظريات. ثم تأتي بطريقة الجمع بين الكمال والبركة في المخلص التي تظهر في الروح الفرد. ثم يظهر البعث والعودة إلى الحياة بعد الموت وما يرتبط به من حوادث بعده، والتحول من دين إلى دين، وتحقق الإيمان بالعمل، ثم التقديس، وموضع الذنوب والحسنات بعد البعث، ثم العالم بعد البعث. ثم يتكلم عن البعث وبعد الخلاص.
وفي فكرنا الإسلامي الديني انتشر تعبير تجديد الخطاب الديني بإشارةٍ من السلطة السياسية الموجهة للسلطة الدينية. ويعني تغيير طريقة الحديث في الدين من أجل تكفير الجماعات الإسلامية والدعوة إلى السِّلم بدلًا عن الجهاد، وإلى طاعة أولي الأمر بدلًا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وموافقة سياسية مع الدولة بدلًا من معارضتها مما يعني تغيير الألفاظ أكثر من تغيير المعاني. فالخطاب لغة. والتجديد يكون في اللغة وليس في معاني الخطاب، الإنسانية أم الغيبية. كما أن الخطاب واقعٌ يعبر عنه، والواقع يتغير. فإذا تغير الواقع تغير الخطاب، من الاستسلام إلى المعارضة، ومن الطاعة إلى العصيان، ومن التبرير إلى النقد. يقوم به علماء الاجتماع وليس الوعَّاظ.
ثم تظهر عقيدة العماد وكذلك عقيدة العشاء الرباني والطقوس وقدرة المفاتيح، مفاتيح السموات والأرض، والجنة والنار والصلاة باسم المسيح. وهناك عنصرٌ متغير في الكنيسة في علاقتها بالعالم. وتتعدد الكنائس المرئية في مقابل وحدة الكنيسة اللامرئية. وتخطئ الكنائس المرئية في مقابل وحدة الكنيسة اللامرئية المعصومة من الخطأ. وتستهلك الكنيسة ويعود المسيح. ويُبعث الجسد من جديد. وفي الحكم الأخير تصدر المغفرة الدائمة. ويتضمن عدة قضايا نبوية منها عودة المسيح، بعث الأجساد، الحكم الأخير، المغفرة الأبدية، الإدانة الأبدية، الأسماء الإلهية الخاصة بالوحي، المحبة الإلهية، الحكمة الإلهية، التثليث الإلهي. والتثليث في النهاية وليس في البداية. وهناك خلط بين العقيدة والشريعة. المسيح عقيدة والعماد شريعة.
ثم تأتي عقيدة أصل الكنيسة مثل الاختيار والقدر المسبق. ويختلف أساس الاختيار في اليهودية عنه في المسيحية. في اليهودية الاختيار للشعب وفي المسيحية الاختيار للمسيح، والاتصال مع الروح القدس. ثم يأتي الخضوع للكنيسة موازيًا للخضوع للعالم. وللكنيسة جوانب جوهرية وثابتة في العالم. وهي رسالتها في العالم. واضح أن شليرماخر أقرب إلى الكاثوليكية منه إلى البروتستانتية بتأكيده على الدور الجوهري للكنيسة بجوار الوعي الذاتي. فالكنيسة رسالة الله في العالم. هاجمها المفكرون الأحرار بشدة ونفوا سلطاتها وجعلوها مسئولة عن تغيير العقيدة المسيحية من التوحيد مثل اليهودية والإسلام إلى التثليث. وقد نصَّب الأزهر نفسه سلطة على العقيدة. مع أنه لا سلطة في الإسلام، والأزهر مجرد مسجد من المساجد أنشأه الفاطميون لنشر الدعوة الشيعية قبل أن يقضي عليه صلاح الدين، قاهر الصليبيين ومحرر بيت المقدس. ولا سلطة لإمام معصوم، ولا إمام غائب أو إمام منتظر.
والعجيب أن تقلِّل الكنيسة من العقائد المسيحية بعد ثورة مارتن لوثر عليها، وثورة المفكرين الأحرار منذ أوائل العصر الوسيط ضدها. فهل الكنيسة جزء من نسق العقائد أم أنها مجرد سلطة دنيوية للآباء على الدين ثم على السياسة، على حرية الفكر، وحرية الرأي مثل السلطة السياسية والسلطة الاجتماعية. وكلها أشكال من السلطة الأبدية. فلا يوجد شيء اسمه «رجال الدين». بل هم مَن ساهموا في انتشاره عبر العصور ثم تحولهم إلى رقابة على الرقاب. فمنذ عصر آباء الكنيسة اليونانية كانت هناك ثورة ضدهم مثل ثورة آريوس في مصر وتبنِّيه عقيدة الإله الواحد مما دفع مجمع نيقية الأول في القرن الرابع من إصدار أول بيان رسمي في العقيدة «واحد في ثلاثة، وثلاثة في واحد».
(ب) حديث النفس
وهنا يتحول شليرماخر من الكلام والفلسفة إلى التصوف. ويبدأ بالتقديم كما هو الحال في الكنيسة ونظرًا لوجود الهيجليين والهيجليين الشبان بعد الفترة الرومانسية بقليل، جوته وهيجل، وبيتهوفن، غلب على كتابات البعض الأسلوب الأدبي مثل هذا الكتاب. كما يجمع بين التأمل والسيرة الذاتية، بين التفكير الذاتي والتحليل الموضوعي، بين الدين والفلسفة. مرة إلى الدين أقرب مثل شليرماخر ومرة إلى الفلسفة أقرب مثل شترنر، ومرةً جمعًا بين الاثنين على التساوي تقريبًا مثل فيورباخ بين «جوهر المسيحية» و«مبادئ فلسفة المستقبل». وفي كل الحالات تهتز العقائد والشعائر، والحقائق الثابتة، والسلوك الدائم. وقد ذكر هيجل عدة مرات باعتباره أستاذًا وزميلًا في برلين دون أن يعلن تأثره به أو تطويره له.
والخطاب الديني ينبعث من النفس وليس تجارة في القنوات الفضائية أو لذوي السلطات الحاكمة، وحديث النفس هو تطابق اللسان مع الوجدان. فهو أقرب إلى همسات الصوفية منه إلى صوت الكلام الزاعق أو الفقه السطحي. هو أقرب إلى الفكر الصامت الذي يعبر عنه الوجدان.
وحديث النفس سيال لا ينقطع كما هو الحال في كتاب «المنقذ من الضلال» للغزالي أو «الاعترافات» لأوغسطين. لا ينقسم ولا ينقطع كما هو الحال في الفكر وشقه الرياضي. هو حديث القلب عبر اللسان بتلقائية دون خوف يجعل اللسان في جانب والقلب في جانب آخر كما هو الحال في النفاق. وهو تضخيم عندما يعجز الفعل. فيصبح الخطاب كلامًا في كلام كما هو الحال في الخطاب الديني والسياسي المعاصر.
(ﺟ) خطابات في الدين
(د) معالم مختصرة لدراسة اللاهوت
(٢) دافيد شتراوس (١٨٠٨–١٨٧٠م)
(أ) حياة يسوع
وهو من الذين جمعوا بين الهيجلية والدارونية والنقد التاريخي للكتب المقدسة. الهيجلية في الروح في التاريخ، والدارونية في تطور العقائد الدينية من عصر إلى عصر، والنقد التاريخي للكتب المقدسة في تدوين الروايات ومدى تطابق الأصل الأول مع الفروع الثانية.
وفي تراثنا القديم ينطبق النقد التاريخي للكتب المقدسة على التوراة والإنجيل أي على الكتب السابقة لعيوبٍ في التطور والتدوين كما فعل ابن تيمية في «الجواب الصحيح لمَن بدَّل دِين المسيح». وكما فعل محمد عبده في حواره مع فرح أنطون في «الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية»، وكما فعلتُ أنا في «ظاهريات التأويل».
درس شتراوس تكوُّن الأسطورة في الدين ابتداءً من نقد النصوص. وطبَّق ذلك في نشأة أسطورة يسوع المسيح. وهو نفس الموضوع الذي كتب فيه هيجل الشاب ثم رينان فيما بعد والذي أصبح من أهم الموضوعات في علوم التفسير الحديثة بعد نشأة مدرسة تاريخ الأشكال الأدبية عند بولتمان وديبليوس، وكما ظهر في كتاب بولتمان «يسوع».
هناك تقابل بين «يسوع الإيمان» و«يسوع التاريخ». الثاني لا وسيلة لنا لمعرفته نظرًا لعدم وجود نصوص تاريخية. والأول هو ما عاشته الجماعة المسيحية الأولى وما تصورت أنه يسوع.
درس شتراوس روايات الإنجيل. وبيَّن كيف أنها تعبر عن إيمان الجماعة المسيحية الأولى. وتعكس تصورات كتاب الأناجيل وأوضاع الجماعة المسيحية الأولى وصراعاتها. ولا تروي حقائق أو وقائع عن حياة المسيح. فالمسيح أسطورة من نوع أساطير الآلهة في ديانات الشرق القديم، ودين اليونان والرومان. ولا يعني ذلك أن المسيحية ليست حقيقية لأن وحدة الله والإنسان ليست في المسيحية، وحدة الإنسانية كلها. بل في مفارقة عامة وليست خاصة، فكرية وليست شخصية. تكشف كتاباته عن تياراتٍ عديدةٍ من الهيجلية والدارونية ووحدة الوجود، والتجربة الداخلية الدينية ونقد الأوضاع الاجتماعية للعصر.
واشتهر بسبب كتابه «حياة يسوع» الذي تمَّت إدانته من السلطات الرسمية الدينية والسياسية في الدولة. وله أيضًا «يسوع الإيمان ومسيح التاريخ» نقد لكتاب شليرماخر «حياة يسوع» ١٨٦٥م و«في التاريخ والدين» ١٨٧٢م. ويشمل عدة دراساتٍ عن «ناثان الحكيم» للسنج، و«القرنان الثامن عشر والتاسع عشر في مواجهة المسيحية» بمناسبة ريماروس، و«روما في عرش القياصرة» أو «جوليان المرتد»، و«البروتستانتية في القرن التاسع عشر»، و«السيمفونية التاسعة لبيتهوفن»، و«الآلهة في السجن»، وبعض اليوميات عن أمه وسنوات الشباب لرسم شخصيات بعض أصدقائه.
وقد جاء العمل منسقًا تنسيقًا محكمًا كما كان هيجل يفعل في معظم مؤلفاته. العمل جزآن. الأول عن الحياة الباطنية ليسوع وتاريخ ولادة وطفولة يسوع وهو ما يعادل الفترة المكية في ظهور الإسلام. والثاني الحياة الظاهرة وهو ما يعادل الفترة المدنية.
وقد انتشر في تراثنا القديم أن يسوع ليس إلهًا بل هو تأليه الجماعة المسيحية الأولى تدريجيًّا عن طريق تضخيم الروايات جيلًا وراء جيل بغية التعظيم والتفخيم، وكرد فعلٍ على موقف اليهود الذين اعتبروا النبوة وقفًا عليهم. فهو مجرد بشر لا صلة له بالألوهية. فالله ليس كمثله شيء لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ.
القسم الأول: الحياة الباطنية
-
(١)
إعلان ميلاد يوحنا المعمدان.
-
(٢)
الولاية الداودية ليوحنا المعمدان وطفولة يسوع.
-
(٣)
البشارة بميلاد يسوع، سلوك يوسف وزيارة مريم بعد أليصابات.
-
(٤)
الميلاد والحوادث الأولى في حياة يسوع.
-
(٥)
مولد الأنساق الأولى ليسوع.
-
(٦)
الزيارة الأولى للهيكل وإغراء يسوع.
-
(٧)
تاريخ الحياة العلنية ليسوع.
القسم الثاني: الحياة الظاهرة
-
(١)
علاقة يسوع بيوحنا المعمدان.
-
(٢)
المعمدان والإغراء.
-
(٣)
مسرح التتابع الزماني في حياة يسوع.
-
(٤)
يسوع باعتباره مسيحًا.
-
(٥)
حواريو يسوع.
-
(٦)
خطب يسوع في الأناجيل الثلاثة الأولى.
-
(٧)
خطب يسوع في الإنجيل الرابع.
-
(٨)
معجزات يسوع.
-
(٩)
تشكل يسوع ورحلته إلى القدس.
القسم الثالث: تاريخ الآلام بموت وبعث يسوع
-
(١)
العلاقة بين يسوع وفكرة المسيح المتألم والمحتضر.
-
(٢)
تعذيب المذنبين، خيانة يهوذا، التعاطف مع الحواريين.
-
(٣)
التراجع عن الموت والعودة إلى الحياة.
-
(٤)
موت يسوع وبعثه.
-
(٥)
الصعود إلى السماء.
ولم يوضع هذا القسم الثالث تحت عنوان «التاريخ الباطني لحياة يسوع» ولكنه يُفهم كذلك بالتقابل مع التاريخ العلني أي الظاهري. وهو تقرير بموت يسوع كما هو الحال في التصور الإسلامي، وأن البعث هو الموت وليس ضده؛ وبالتالي فهو تاريخ الآلام، الموت والبعث ليسوع.
والتاريخ العلني ليسوع استغرق الكتاب كله لفصوله التسعة الأولى التي تضم أكثر من نصف الكتاب والمقطعين الاثنين من الثلاثة. فيبدو أن حياة يسوع السابقة على ميلاده تدخل في حياته الباطنية.
ثانيًا: الهيجليون الشبان أو اليسار الهيجلي
يصعب ترتيب الهيجليين الشبان طبقًا لسنوات وفاتهم. فشترنر (١٨٠٦–١٨٥٦م) هو أولهم وفاةً وأصغرهم سنًّا، ولكنه أبعدهم عن هيجل. بل إنه أشبه بالفيلسوف الخالص، وأقرب إلى الفلاسفة المعاصرين، الوجوديين منهم، منه إلى الفلسفة الحديثة. ثم فيورباخ (١٨٠٤–١٨٨٢م) وهو «قناة النار» التي خلَّصت الهيجليين من شوائب الدين. وآخرهم هو ماركس (١٨١٨–١٨٨٣م).
والحقيقة أن ترتيبهم ليس زمانيًّا بالضرورة فأقربهم إلى هيجل والذي ما زال مرتبطًا بشوائب الدين هو فيورباخ، ثم أبعدهم عن هيجل لدرجة الفلسفة الخالصة هو ماكس شترنر، والذي يكاد يكون فيلسوفًا خالصًا مثل هيدجر وسارتر بعيدًا عن الدين. وقد يكون القرب بالكتابة عن هيجل مباشرةً كما فعل فيورباخ مثل «نحو نقد لفلسفة هيجل»، أو مدى قربه من الدين موضوعًا للفلسفة أيضًا مثل فيورباخ «جوهر المسيحية».
(١) ماكس شترنر (١٨٠٦–١٨٥٦م)
تلميذ هيجل في برلين. تعامل مع جمعية «المتحررين». وكان برونو باور من نشطائها مثل ماركس وأنجلز. أُقيل من منصبه كأستاذ في كلية النبات بعد نَشْر كتابه «الوحيد وملكيته» الذي يتعارض مع مهنته كمعلم. وتُوفي في برلين في حالةٍ من البؤس الشديد حتى وضعت الحكومة الألمانية لوحة تذكارية باسمه وعنوان كتابه. والكتاب غير مقسم إلى أبواب وفصول كما فعل الأستاذ. به عدة أقسام متتالية. ترك عناوينه على أنها أقرب إلى الفلسفة الوجودية قولًا وعملًا. فالأول «لقد أسست حياتي على لا شيء» أي العدم على عكس الأستاذ الذي أسسها على الوجود. بعد ذلك هناك قسمان واضحان: الأول «الحقيقة»، والثاني «الأنا»، فكأن «الحقيقة» هي «الأنا»، و«الأنا» هي «الحقيقة». حين وفاته كتبت الشرطة في شهادة وفاته مجهول الأب والأم والزوجة.
حياته مثل حياة أي إنسان. لا تتميز بشيء. استعدادًا لإطلاق مفهوم الوجدانية ونقله من مستوى الله إلى مستوى الإنسان، تمهيدًا لفيورباخ الذي فجَّر العقائد اللاهوتية المغلقة إلى التأويلات الإنسانية المفتوحة. وماكس شترنر اسمه مستعار ليوهان. نشر له الفيلسوف الألماني كارل شميت بالإضافة إلى «الواحد وملكيته» ١٨٤٤م، «المبدأ الخاطئ لتربيتنا» ١٨٤٢م، و«النقد المضاد» ١٨٤٥م.
المعركة الكبرى التي يقودها شترنر هي معركة القدماء والمحدثين أو السلف والخلف، الماضي والحاضر، التقليد والتجديد، التبعية والاجتهاد. فالفلسفة عليها أن تخرج من شرنقة هيجل أو تتحوَّل من النظر إلى الخلف إلى النظر إلى الأمام، من المعتقلين إلى المتحررين.
ثم يقترب شترنر من ماركس بتعدد أنواع الليبرالية عند شترنر والاشتراكية عند ماركس. فقد خرج من هيجل التياران: الليبرالي والاشتراكي. فعند شترنر هناك الليبرالية السياسية، والليبرالية الاجتماعية، والليبرالية الإنسانية عن طريق المشاركة. فالليبرالية السياسية هي التي تؤكد حرية الفرد، وديموقراطية النظام الاجتماعي. والليبرالية الاجتماعية هي التي تقترب من الاشتراكية، وتجمع بين قيم الحرية الفردية والعدالة الاجتماعية. والليبرالية الإنسانية هي التي تقوم على الإحساس بالآخر والمشاركة معه؛ فهي إما ليبرالية الزكاة والصدقة والتبرع لخير الناس، وهو ما يمكن تسميته في ثقافتنا بالليبرالية الإسلامية جمعًا بين حرية الفرد والعدالة الاجتماعية. وهي خطوة نحو الاشتراكية الإسلامية التي تبدأ بحق الفقراء في أموال الأغنياء. وهو ما سُمي أخيرًا «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، و«الصراع بين الرأسمالية والإسلام» لسيد قطب أو «اليسار الإسلامي» الذي يجمع بين الإسلام كوسيلة لتثوير الشعوب، واليسار الذي يحمل مطالب الناس في الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، والمبادئ الأربعة لثورة الشعب الكبرى في يناير ٢٠١١م. وهنا يقفز شترنر من الوحيد أو الفريد إلى الجماعة والمجتمع عند ماركس.
لذلك أُطلق على مذهبه «الفوضوية». وطُرد من كلية النبات التي كان مدرسًا فيها، وذلك رد فعل على الجبرية التاريخية في مذهب الأستاذ. وهو مكتشف الوعي الاجتماعي بين الدين والفلسفة. واتهمت الديموقراطية القدرية في حياتنا السياسية المعاصرة بأنها فوضوية. إما الحاكم المستبد وإما الإخوان أو الفوضى؛ لذلك طالبته النظم السياسية الاستبدادية بمساعدة أمريكا في البقاء حفاظًا على النظام ضد الفوضى. كما أنها رد فعل على الحتمية في مذهب هيجل.
ولم يصل فكرنا العربي المعاصر أو الإسلامي القديم إلى درجة تأليه الحرية؛ نظرًا لوجود الإله الفاعل لكل شيءٍ في الإنسان وفي الطبيعة. وقد تحوَّلت الأشعرية التي تمثل هذا الاتجاه إلى ثقافة شعبية في الأمثال العامية التي تحيل كل شيء إلى القدر، والقدر بيد الله. ولم تظهر الحرية في علوم الحكمة نظرًا لغياب الإنسان ذاته، ولسيطرة المنطق والطبيعيات والإلهيات. وفي علوم التصوف سقط باسم الحرية إسقاطُ التدبير. فالتوافق مع الإرادة الإلهية هو قمة الحرية.
(أ) الواحد وما يمتلك
والقسم الثاني «الأنا». ويحلل ما يمتلك «الفرد»؛ فالأنا له أسماء عديدة: الفرد وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا، الإنسان الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الوعي، أُذُنٌ وَاعِيَةٌ، والذات. والفردية هي التصور النظري للفرد. والقوة مفهوم حركي نضالي، علاقاتي، ملذاتي، لذتي بفعل الشر. فالشر أقوى من الخير، وليس كما هو الحال عند كانط، الخير أقوى من الشر. وينتهي الكتاب بالمفهوم الرئيسي «الواحد» أو «الوحيد». فقد انتقل المفهوم كصفةٍ لله إلى وصفٍ للإنسان، واختفى الدين كلية لصالح الفلسفة. واختفت الفلسفة المثالية لصالح الفلسفة الوجودية.
ومع ذلك، يظل الواحد أو الوحيد أو الفرد أو الفريد هو الإنسان ومركز الوجود. وبتعبيرٍ آخر «الأنا». فإذا كان القسم الأول بعنوان «الحقيقة» فإن القسم الثاني بعنوان «الأنا». فالأنا هي الفردية كما هو في وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا. وماذا يمتلك هذا الأنا؟ لا يمتك الأشياء ملكًا بوضع اليد ولكن يمتلك وجوده وحريته. ثم حول ماركس هذه الملكية التي كررها جابريل مارسل إلى «الوجود والملكية» إلى ملكية الأشياء أي وضع اليد كما يقول روسو في تحديده لمعنى السارق بأنه من وضع يده على قطعة من الأرض وقال هذه لي هو السارق للمشاع. ثم يأتي آخر وينازعه ملكية الأرض ويقول لا، هذه لي ليس هو السارق بل هو المصلح الاجتماعي الذي يرجع الأرض مشاعًا بين الناس. أما الإنسان فيملك قوته ولذته وعلاقاته الاجتماعية. فالملكية لا وجود لها. ويتضح ذلك بتحليل لفظ «مال» بالعربية. فهو لا يشير إلى شيء بل إلى علاقة «مُؤوَّل». فاللفظ لا يشير إلى جوهرٍ بل هو مرَّكب من أداة الصلة «ما» وحرف الجر «ل». وهي أيضًا التفرقة في اللغة العربية بين «أملك» و«أمتلك». إذ تعني «أملك» السيطرة على وجودي وحياتي وحريتي وآمالي وضحكي وبكائي، وحبي وعشقي. في حين «أمتلك» تعني امتلاك الأشياء. وفي هذه الحالة تكون الملكية اغترابًا عن الوجود.
وينتهي الكتاب بوصف «الواحد» إلى ليس كمثله شيء. الواحد الآخر، الفرد الصمد. فما يقال على الله هو خاصية للإنسان ولكن الاغتراب يسقطها على الله.
ولم يضع شترنر فهرسًا للكتاب لبيان محتوياته. «الواحد وصفته» سيرة ذاتية للإنسانية على عكس هيجل وشليرماخر اللذَيْن أسهما في تفصيل الأنساق الدينية والفلسفية. مع أنه كثيرًا ما يستعمل ضمير المتكلم مثل «لقد أقمت حياتي على لا شيء». وبتعبير الوجوديين، الوجود والعدم. والسؤال هو: هل إذا لم يؤسَّس الوجود على الدين يصبح عدمًا؟ هل الدين هو الأساس الوحيد للوجود؟ ولماذا لا يقوم الوجود على الوعي الذاتي بدلًا من الوعي الذاتي الديني كما هو الحال عند شليرماخر؟
ولم يقسم الكتاب إلى أبواب وفصول كما فعل هيجل أو إلى مقاطع وأجزاء وأقسام كما فعل شليرماخر، بل إلى عبارات دالة دون أن تتحول إلى مفاهيم فلسفية واضحة. فالهيجليون الشبان لا يتعاملون مع مفاهيم وتصورات بل مع تجارب ذاتية حيَّة. لا تنبع من بنية العقل بل تقوم على التجربة الإنسانية الحية.
وضع شترنر مجرد أقسام للكتاب، نصفها بلا عناوين. ومع ذلك فالكتاب قسمان «الواحد» أو «الفرد». والثاني «الملكية». وهو تحليل ماركسي مثل ماركس في علاقة الإنسان بالملكية. فالملكية اغتراب للوجود الإنساني وتميز فيه الأشياء. وهو ما قاله روسو من قبلُ من أن اللص ليس هو الذي يسرق شيئًا من آخر بل هو أول إنسان وضع يده على شيء وقال هذا لي. فالسارق الذي ينازعه ملكية الأشياء هو مصلح اجتماعي لأنه يقضي على العلاقة بين الواحد وما يمتلك.
وفي تراثنا القديم لا يعرف تصنيف اليسار واليمين بل العقلي والنقلي. فالاعتماد على العقل يسار مثل المعتزلة والاعتماد على النقل يمين مثل الأشاعرة. وبالرغم من أن علوم الحكمة، أي الفلسفة، تعتمد على العقل، فإنها كلها يمين لأنها تشيد أبنية نظرية منطقية وطبيعية وإلهية خالصة فوق الواقع دون أن تمسه بشيء. ويمكن تصنيف إخوان الصفا يسارًا. فقد كانت فرقة سرية. تكتب رسائلها في مواجهة الظلم على لسان الحيوانات وبأسلوب رمزي، وكان تفكيرًا جماعيًّا، أي أيديولوجية شعبية، وليس تفكيرًا واحديًّا بما يتميز به اليمين.
ويضع شترنر تقابلًا بين القدماء والمحدثين مما يدل على أنه على وعيٍ تامٍّ بأن هيجل والمثاليين من القدماء، وأنه هو وباقي الهيجليين الشبان من المحدثين. فالإحساس عند التلاميذ هو الذي يدفع إلى قراءة الأستاذ بأنه من القدماء. واكتشاف العالم الحسي هو الذي يدفع إلى قراءة الأستاذ بأنه صاحب رؤية غيبية، الحاضر هو الذي يدفع إلى قراءة الماضي على التقابل بل والتعارض، وليس على التطوير والتأويل.
والمحدثون هم الذين تحرَّروا من قيد القدماء، فقد أصبح هيجل قديمًا مع أن شترنر تُوفي بعده فقط بأربعة وثلاثين عامًا. فهما ينتسبان لنفس الجيل أو يتبع شترنر هيجل بجيلٍ واحد إذا كان الجيل أربعين عامًا كما وصف ابن خلدون والدورة أربعة أجيال أي مائتَي عام.
(ب) المبدأ الخاطئ لتربيتنا
ويدل العنوان العام على اهتمام شترنر بالتربية الخاصة والعامة. وتعني التربية الثقافة العامة أو الثقافة الشعبية. وكيف يمكن استبعاد الصحيح منها واستبعاد الخاطئ.
ويتوحد الفيلسوف مع الثقافة الشعبية خارجًا من نطاق الفلسفة الخاصة. فالفلسفة للجميع. والجميع هو الشعب. والشعب هو الشعب الألماني الذي يرغب في تحقيق أهدافه الوطنية. وأولها الوحدة الوطنية، وحدة الوطن ابتداءً من وحدة الثقافة مثل وحدة الوطن العربي ابتداءً من وحدة الثقافة العربية.
ونذيع ضرورة التربية بالكلام ولكن لا يُحدث شيئًا بالفعل. فالعصا هي رمز التربية، عصا الأب مع الابن وعصا المدرس مع التلميذ بل وعصا الأستاذ مع الطالب. وفي الجامعة السيطرة على انتخابات اتحاد الطلاب هي العصا، وفي الوطن بين المواطنين الاعتقال والتعذيب هما العصا. وفي المثل الشعبي «العصا لمَن عصى». ويساء تأويل الطاعة للحكام مثل أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ. ونسينا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ونسينا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو الأصل الخامس من الأصول الخمسة للاعتزال. وهو ما انتهى نهائيًّا لصالح التبرير الإعلامي للنظام السياسي أو لتكوين الجماعات السرية المعارضة أو العلنية التي تمارس العنف. فالوجود هو الحرية. والوعي الذاتي هو الوعي بالحرية، وهو ما بدأه عمرو بن العاص موجهًا اللوم لابنه لا مورثًا إياه «لمَ ضربتم الناس وقد خلقتهم أمهاتهم أحرارًا.» وهو ما أعاده أحمد عرابي في مواجهة الخديوي توفيق «إن الله خلقنا أحرارًا ولم يخلقنا تراثًا أو عقارًا. والله لا نُستعبد بعد اليوم.» وكتب خالد محمد خالد «الله أو الحرية» ما يعني أن الله هو الحرية وليس الإجبار. ومع ذلك ما زالت الحرية بعيدة أن تكون محور الثقافة الشعبية بالرغم من شعار ثورة ٢٠١١م «الخبز، الحرية، العدالة الاجتماعية، الكرامة الإنسانية.» فالحرية في الذهن الشعبي تعني التحرُّر من القيود الدينية والتربوية، وضرورة الالتزام بطاعة النظام السياسي القائم.
(٢) برونو باور (١٨٠٩–١٨٨٢م)
وبرونو باور غير إدجار باور وغير فيرناندر كريستيان باور أخوه مع أن كلَيهما لاهوتيان معروفان في عصرهما وربما إلى الآن. الأول لاهوتي تقليدي والثاني مؤرخ للعقائد الكنسية. طُرد بسببه جميع الهيجليين اليساريين من الجامعات أو مُنعوا من التدريس إلا في علم الجمال. لم يقدِّر باور منصبه فسُحب منه بتهمة الإلحاد بل أصبح مطاردًا من الشرطة وأجهزة الأمن في الدولة. لا يُذكر كثيرًا في مصادر تاريخ الفلسفة الغربية ليس لعدم أهميته بل لجرأته الفكرية ومواقفه الحدية ولاهوته الثوري. كان صديق ماركس وأستاذه. له في نقد هيجل «تغير يوم القيامة ضد هيجل» ١٨٤١م، «الملحد والمسيح الدجال» ١٨٤١م، «إنذار» ١٨٤١م، عمله الرئيسي «نقد تاريخ الأناجيل المتقابلة» ١٨٤١م (ثلاثة أجزاء)، «الشيء الجديد في الحرية وفرصتي الخاصة»، «المسألة اليهودية» ١٨٤٢م.
واستمر باور في ما بدأه شتراوس أيضًا من الهيجليين بالإضافة إلى النقد التاريخي للكتب المقدسة في «حياة يسوع». فقد انتهى شتراوس إلى أن يسوع المسيح فكرة أسطورية دون نقد للمصادر. أما باور فإنه انتهى إلى نفس الشيء عن طريق نقد المصادر وبيان إنسانيتها وليس مصدرها الإلهي؛ وبالتالي تعبيرها عن أساطير البيئة الدينية. فلا فرق بين الأناجيل وأشعار هوميروس وهزيود أو «حياة الفلاسفة» لديوجين اللايرثي. انتهى باور إلى أنه طبقًا لنقد النصوص، وليس لأفكارٍ ميتافيزيقية مسبقة. ليس للمسيح وجودٌ تاريخيٌّ أو إلهي بل هو مجرد مثل أعلى أفرزه الوعي الديني الراغب في الخلاص. تصوره كل كاتب إنجيل بطريقته الخاصة. ولا يوجد واحد شامل يجمع بينها. لا يوجد إله شخصي أو مفارق بل هو مجرد وعي ديني يفرز مثلًا أعلى.
وفي السياسة أنكر باور أية سلطة في الدولة سواء سلطة الكنيسة أو سلطة الدولة؛ لأن السلطتَين الدينية والمدنية تمنعان حرية الفكر، وأن العقل له سلطان على المملكتَين. لا يعيش الإنسان إلا في ملكوتٍ خاص. مثله الأعلى الحرية الفكرية وليست الشخصية حتى وإن لم تتحقق في فعل عملي كما يريده. وتكشف كتاباته عن تيارات جديدة عديدة من الهيجلية والدارونية ووحدة الوجود والتجربة الداخلية الدينية، ونقد الأوضاع الاجتماعية للعصر.
ويصف الماركسيون باور بأنه ثوري في الدين رجعي في السياسة. فالدين تعبير عن وعي الإنسان في غياب النقد حتى يشعر بالأمان في عالمٍ غريبٍ عنه لا يفهمه. والكنيسة هي السبب الرئيسي لعدم تنمية الشعور النقدي عند المؤمن. والدولة المتعاونة مع الكنيسة هي العدو الأول. ولا يريد باور إصلاح الدولة وجَعْلها أكثر ليبرالية مما هي عليه، بل القضاء عليها نهائيًّا بشكلها الحالي من أجل إقامة دولة حرة بديلة.
ولقد حاول باور إيجاد حل لليهود في ألمانيا بعيدًا عن الإصلاح العملي للوضع القائم أو الإنشائيات الخطابية للثورة الفرنسية، فتحرر اليهود من خلال تحرر الألمان، وأن يتحولوا إلى مواطنين لا رعايا. فلا حل للمسألة اليهودية إلا بحل المشكلة الدينية والمؤسسة الدينية، وأن يصير الإنسان مواطنًا حرًّا في دولةٍ حرة، كما طالب اسبينوزا من قبل. ويتحرر اليهود عن طريق تحريرهم من اليهودية أولًا، ويتحرر المسيحيون عن طريق تحريرهم من المسيحية أولًا. ولم تنشأ الصهيونية إلا فيما بعد على يد تيودور هرتزل بأن توحد اليهود في تكوين دولة يهودية على أي بقعة من الأرض، وطلب من السلطان العثماني في إسطنبول إعطاء قطعة من الأرض في فلسطين. ورفض السلطان لأن الأرض ليست ملكًا له بل هي أرض المسلمين، مجموع الأمة الإسلامية، ولا يستطيع أن يفرط فيها. وكان اليهود لا يمثلون أكثر من ٥٪ من شعب فلسطين. ثم تطورت الصهيونية بندائها إلى الهجرة إلى فلسطين حتى أصبحوا ٢٠٪ من سكان فلسطين. ثم بدأت العصابات الصهيونية مثل «آرجون» و«شتيرن» في طرد الفلسطينيين من أرضهم حتى قامت حرب فلسطين عام ١٩٤٨م واستولوا على نصف فلسطين، واعتراف الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بإقامة دولة إسرائيل. فقامت مسرعةً بالاستيلاء على صحراء النقب حتى يكون لها ممر في خليج العقبة. وكانت هذه هي النكبة. ثم استولت إسرائيل على خليج العقبة، ثم ضاع النصف الآخر من فلسطين في نكسة ١٩٦٧م. وما زالت المقاومة الفلسطينية في كافة اتجاهاتها تقاوم الاحتلال الصهيوني من أجل حق العودة.
وبالنسبة للمسألة الاجتماعية لا يتغير شيء في الواقع ما لم يتغير الوعي أولًا لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ. إن المعرفة الموضوعية الوحيدة هي معرفة الذات. ومعرفة الذات تتم بالمعرفة النقدية القادرة على الوصول إلى القيم الشاملة العامة. وهذا النقد لا تقدر عليه الجماهير. ولا تقدر عليه إلا الخاصة، فلاسفة التنوير. فالجماهير لا تطيع الإدراك أو الفهم. يسودها الجهل وتحركها الأهواء. وتتحكم فيها نظم الطغيان. وتوجهها المصالح. ولا تتحمل الأفكار بل تقضي عليها؛ لذلك على الفلاسفة الدفاع عن الأفكار ضد هجوم الجماهير وثقلها. وهو ما قاله أورتيجا أي جاسيه في «ثورة الجماهير». وكما يبدو فباور مثل كارليل في تصوره للبطولة والأبطال، والنخبة القادرة على تحريك الجماهير كما تحرك النفس البدن. وإذا كان البطل عند كارليل هو النبي أو المستبد المستنير فهو عند باور محب البشرية، وهو الوحيد القادر على إحداث التغير الاجتماعي. الملك الفيلسوف أو الفيلسوف الملك الذي تصوره أفلاطون أو النبي أو الإمام كما تصوره حكماء المسلمين. والتاريخ نفسه هو القادر على أن يجعلنا أكثر وعيًا بأنفسنا وبواقعنا الاجتماعي وبقانون التاريخ، وكان من الطبيعي أن يرد ماركس على هذه المثالية في «العائلة المقدسة».
وهذا ما قيل في تراثنا القديم عن الفرق بين العامة والخاصة. العامة التي تُطيع، والخاصَّة التي تفكِّر، وهو ما قيل أيضًا في فكرنا العربي المعاصر عن الفرق بين النخبة العسكرية والنخبة المثقفة، بين الضباط الأحرار والمفكرين الأحرار. بل إنه أضاف الفرق بين النخبة الدينية والنخبة العسكرية، بين قريش والجيش، بين الحاكمية لله والحاكمية للقوة، بين أخونة الدولة وعسكرة الدولة، وهو ما واجهه الشعب، أي الجماهير في حالة الثورة والغضب، بشعار «يسقط يسقط حكم العسكر».
ومن ثَم وجب التحرُّر من هذا العالم الوهمي الذي أصبح فيه الروح أسيرًا له. وهو ما ظنَّه هيجل تحريرًا بالعقل. والعقل أسيرٌ لا تحرُّر فيه. وهكذا يتحول مذهب من الضرورة إلى الحرية. وتكتشف نوعًا من الليبرالية الإنسانية قبل أن يحولها ماركس إلى الضرورة التاريخية من جديد.
(٣) فيورباخ (١٨٠٤–١٨٨٢م)
نقد فيورباخ مثالية هيجل وفهمها لماهية الإنسان التي ردها إلى الوعي بالذات، وربط المثالية بالدين؛ وبالتالي فإن نقد المثالية هو نقد مبطن وغير مباشر للدين ثم انتقل من نقد المثالية والدين إلى اكتشاف الإنسان والطبيعة. وقد أدى تصور الهيجليين للمثالية المجردة إلى رد فعل نحو الحسية المادية. وانتهى فيورباخ الهيجلي الشاب إلى المادية. ودافع عنها. وأثر في جميع معاصريه من الهيجليين الشبان حتى اعتبر أنجلز أنهم كانوا جميعًا فيورباخيين أي ماديين، ولكن النزعة الإنسانية والأنثروبولوجية كانت غالبة على المثالية فأصبحت مادية إنسانية. وفي نظرية المعرفة كان فيورباخ حسيًّا تجريبيًّا معارضًا للإشراق. ومع ذلك لم ينكر أهمية التصور والفكر، مقترحًا بلا دراسة الموضوع في علاقته مع نشاط الذات. بل إنه حاول وضع افتراضات في الأسس الاجتماعية للمعرفة البشرية وللوعي الإنساني ممهدًا بذلك للبعد الاجتماعي عند أقرانه من الهيجليين الشبان، شتراوس وباور وماركس. ومع ذلك يرى الماركسيون أن نظرته إلى المجتمع نظرةً مثاليةً لأنه أراد جَعْل الأنثربولوجيا علمًا شاملًا لدراسة الحياة الاجتماعية. فالأنثروبولوجيا أساس السوسيولوجيا أي أن علم الإنسان أساس علم المجتمع. والمجتمع كائن إنساني وليس الإنسان كائنًا اجتماعيًّا.
وأهم مساهمة لفيورباخ هو نقده للدين. فالدين هو حلم الإنسانية الأرضي، وعي الإنسان اللاواعي أو المغترب بذاته. فإذا ما استرد الإنسان وعيه، وانتقل من اللاوعي إلى الوعي اختفى الدين. ويظهر الإنسان في الطبيعة والمجتمع. الدين اغتراب الإنسان عن نفسه وعن عالمه. وأحد أهم ما يتصف به الإنسان الوعي بالذات وتموضعه خارجًا عنه في الله فيتعبده ويقدِّسه. والحقيقة أن الإنسان يعبد نفسه، ويقدس صفاته في صورة جوهر متوهم مفارق. ويرجع هذا الاغتراب إلى شعور الإنسان بالعجز أمام القوى الاجتماعية والطبيعية. يمكن إذن دراسة الدين عن طريق بحث جذوره النفسية والاجتماعية أي في تكوينه التاريخي. ومع ذلك يرى الماركسيون أن فيورباخ ما زال مثاليًّا في دراسته للدين والأخلاق. وأنه بسبب الأنثربولوجيا يستطيع أن يجد ما يكفي في ذلك لتحويل اللاوعي إلى وعيٍ عن طريق التربية، وتقديم دين جديد كبديل عن الدين القديم، واستنباط مبادئ الأخلاقية من كدح الإنسان لنيل السعادة والتي يمكن الحصول عليها بالفعل عن طريق تحديد العقل مطالب الإنسان وحبه للآخرين. وهي مبادئ عامة وشاملة لكل الشعوب يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ.
وقد وضع فيورباخ فلسفةً في التاريخ. وصف فيها الوعي الأوروبي. فقد بدأت الفلسفة الأوروبية في مراحلها المتعددة، الوسيط والعصر الحديث. حتى قبل هيجل ثم بالمثالية أو الفلسفة التأملية منذ هيجل. وانتهت أخيرًا إلى الواقعية الحسية أو المادية الطبيعية عند فيورباخ. وهذا التقدم الروحي متصل بالإنسان وليس بالله. وهو نشاط واعٍ لرقي الوعي الإنساني؛ فالمستقبل لا دين له. وهي نفس الدعوة التي حملها جويو في «لا دينية المستقبل». ويرى الماركسيون أن فيورباخ لم يفهم طبيعة ثورة ١٨٤٨م، ولم يقبل الماركسية بالرغم من انضمامه إلى الحزب الاشتراكي الديموقراطي في أواخر حياته. ومع ذلك كانت «الفيورباخية» أحد الشروط السابقة في ألمانيا قبل الثورة. وعبرت عن مثل الثورة البرجوازية الديموقراطية وكان لها أبلغ الأثر في ماركس وأنجلز. ولا يستطيع الإنسان أن يكون ماركسيًّا، في رأي ماركس، إلا إذا تطهر في «قناة النار».
(أ) نحو نقد فلسفة هيجل
وفي تراثنا لا يوجد مفكر، متكلمًا أو فيلسوفًا، له نفس الحضور الذي لهيجل في الفلسفة الغربية مثل الأشعري. فقد تحوَّل شخصه إلى الأشعرية. وأصبحت هي التيار الكلامي الفلسفي السائد في الفكر الإسلامي وثقافتنا الشعبية. وهو ما يعادل التوماوية في العصور الوسطى الغربية. وهي التي تعطي الأولوية للإرادة الإلهية على الإرادة الإنسانية، وللنقل على العقل. وهو ما ظهر في الأمثال العامية «ما شاء الله وقدر فعل». وهي التي ظهرت في عقائد القضاء والقدر والمشيئة الإلهية. واختفت المعتزلة منذ القرن الخامس الهجري وهجوم الغزالي على العلوم العقلية. وهي التي لجأ إليها الخطاب السياسي لتبرير الهزيمة في ١٩٦٧م مثل «لا يغني حذر من قدر».
(ب) جوهر المسيحية
ينقسم جوهر المسيحية إلى قسمين: الجوهر الزائف للدين وهو الثيولوجيا، والجوهر الحقيقي للدين وهو الأنثروبولوجيا. البداية بالنفي ثم الإيجاب. الهدم ثم البناء.
(١) الجوهر الزائف للدين (الثيولوجيا)
وقد اتُّهم فيورباخ بأنه زعيم الملحدين قبل ماركس لأن الله أصبح هو الإنسان، وأن المتدين الذي يؤمن بالله إنسانٌ مغترب عن العالم ظانًّا أنه يترك النهائي إلى اللانهائي، والزمان إلى الخلود. وبهذا المعنى يكون فيورباخ أقرب إلى علم أصول الفقه منه إلى علم أصول الدين أو علوم الحكمة أو علوم التصوف. فالله هو مصالح الناس «ما رآه المسلمون حسن فهو عند الله حسن». وليس نظرية في الذات والصفات والأفعال والأسماء أو المطلق أو الإنسان الكامل والحبيب الأول. فالإلحاد هو جوهر الدين ضد الاغتراب. الإلحاد هو الإيمان الحقيقي بالناس. فالله هو رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ. ومَن يعمل في العالم كي يطعم أخاه القابع في المسجد للعبادة أكثر إيمانًا منه. فالإيمان هو العمل وليس العبادة يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ. وتحرر القدس بالعمل وليس بالجلوس على المقهى والمناداة بأن القدس عربية. لقد سخرت النكتة من هذا الموقف أثناء بناء السد العالي في أوائل الستينيات. في الدور الأول، مهندسون روس، والثاني حدادون فرنسيون، والثالث نجارون بريطانيون، والرابع بناءون إيطاليون. وفي الدور الأخير مصريون يغنون «قولنا هنبني وآدي احنا بنينا السد العالي». فالله تعويض عن حالة العجز والضعف، إحدى وسائل علاج المرضى النفسيين، وتشجيع الثقة بالنفس كما يقال في اللغة الشعبية «الله معاك».
والجوهر الزائف للدين (الثيولوجيا) هو سر التناقض الذي تقوم عليه العقائد. ويبدو أنه تناقض مقصود لبيان حاجة الإنسان إلى الدين لرفع هذا التناقض بتناقضٍ آخر. فهناك تناقض في مفهوم الوحي الإلهي، أن الله يكشف عن نفسه من خلال الوحي. وهذا الوحي في حاجة إلى كلام، واللغات متغيرة ومتعددة، ومَن الذي يختار هذا المعنى لهذا اللفظ؟ وبأي لغة كُتب الوحي في اللوح المحفوظ؟ وماذا عن الوحي الذي لم يدوَّن بلغته الأصلية مثل الإنجيل الذي كان بالأرامية ثم دُوِّن باليونانية والمصرية القديمة؟ وماذا عن الترجمات؟ هل القرآن المترجم إلى الإنجليزية أو الفرنسية أو بكل لغات العالم يظل وحيًا؟ وكم من الوقت يبقى الوحي شفاهًا قبل التدوين؟ وكيف كان التدوين؟ ومَن هم القراء؟ ألا يقع في التأويل إذ تعددت الأفهام؟ وهي التساؤلات التي حاولت علوم القرآن الإجابة عليها. كما تناولها علم النقد التاريخي للكتب المقدسة في الغرب.
وهناك التناقض في النظرة التأملية لله. فالتأمل نظر إلى الخارج، والله لا يُرى، وإذا كان التأمل نظرة إلى الداخل فهو مجرد شعور إنساني. وهناك تناقض في التثليث. فالواحد لا يكون ثلاثة، والثلاثة لا تكون واحدًا عكس ما قاله مجمع نيقية في القرن الرابع الميلادي حلًّا لمشكلة الآريوسيين الذين كانوا يقولون بالوحدانية في مصر «واحد في ثلاثة، وثلاثة في واحد» فالله لا يتعدد، والتعدد لا يتوحَّد.
وتتشابه الفلسفتان الغربية والإسلامية في جَعْل الفلسفة ثلاثية الأبعاد: منطق، طبيعيات، إلهيات. وجاءت الفلسفة الحديثة منذ ديكارت «أنا أفكر» لتفجير هذا المنطق الثلاثي القديم إلى وَضْع الإنسان وسط الحكمة عند ديكارت وكانط دون هيجل. ولم يفعل ذلك في علوم الحكمة عندنا إلا إخوان الصفا في جعلِ الفلسفة رباعية بإضافة جزءٍ من الإلهيات والنفسانيات والجسمانيات بعد أن كانت النفس جزءًا من الإلهيات، والبدن جزءًا من الطبيعيات وفعل أبو حيان التوحيدي. ثم جاء الصوفية وبدءوا من النفس إلى الله في مسار رأسي تتخلَّله المقامات والأحوال.
وفي جزءٍ آخر يتحدث فيورباخ عن «مساهمة في علم التحديات النفسي» جنبًا إلى جنب مع بيتهوفن. ويحيل إلى جوته وشيللر ثم إلى أفلاطون الذين خلقوا عالم الأفكار. الشِّعر نشاط للروح أما التصوف فإنه للكسالى. والتصوف له أصل نفسي، وهو التعادل بين حرارة القلب وبرودة العقل أو كما قال القدماء بين النظر والذوق. والقلب أقرب إلى الاندفاع نحو المخاطر وحياة الشعراء. وعلم النفس التجريبي أقدر على معرفة الإنسان من علم النفس العقلي. فالتجربة مدخل إلى العالم المعيش.
اتحدت الثقافة اليونانية واللاتينية عند فيورباخ بالأمثال العامية والعبارات النمطية التي ما زالت تؤثر في الناس، بالإضافة إلى آيات الكتاب المقدس. وهناك عبارات لاتينية معروفة عند اللاهوتيين ما زال فيورباخ يستعملها مما يدل على أنه كان ذا اطلاع واسع على اللاهوت في العصر الوسيط. وذِكره مقاطع بلا اسم أو عنوان، أفكار متناثرة تعبر عن أزمة وجودية لمفكِّر ومصلح وأديب.
وهناك تناقض في وجود الله. إذ كيف يمكن للعقل أن يتناول المطلق؟ وكيف يمكن التعبير عما لا يمكن التعبير عنه. ومن ثم، تضيع كل محاولات علم الكلام هباء. قذف بالألواح التي بها التوراة في لحظة غضبٍ. والأناجيل لا تعترف منها الكنيسة إلا بأربعة دون غيرها. وكيف يمكن وصف ما لا يوصف، ومعرفة ما لا يُعرف، وتصور ما لا يمكن تصوره؟ لم يبقَ إلا الخيال. وبالتالي يتحوَّل الدين إلى شِعر وفن. وهذا هو التناقض أيضًا في ماهية الله. فالماهية مشتقة من أداة استفهام «ما» واسم إشارة «هو» والله لا يُشار إليه.
فالاغتراب هو تأليه الإنسان صفاته المثلى بعد أن يسقطها خارج نفسه لاستحالة تحقيقها وتطبيقها على وعيٍ أسمى بعد أن يفقد الوعي الذاتي ذاته وقدرته على تحقيق صفاته. فيطير في الهواء باحثًا عن فضاء أرحب. ثم يثبته في الله وصفاته. فالاغتراب هو عجز عن تحقيق الصفات في الدنيا.
وهناك تناقض في الطقوس، القداسات السبعة. فهل صحيح أن الشيطان يخرج من جسد الطفل بطقس العماد، بغطس الطفل في الماء؟ وهل صحيح أن المسيح يكون حاضرًا بين المؤمنين في طقوس المناولة؟ وهل صحيح أن المسيح قد وُلد في الرابع والعشرين من ديسمبر كما تقول الكنيسة الغربية أو في السابع من يناير كما تقول الكنيسة الشرقية؟ وهل صحيح أن المسيح قد بُعث في يوم لم تتفق عليه الكنيستان؟ إن التناقض في التواريخ يهدم أساس العقائد.
الطقوس والشعائر شكل ومضمون. الشكل ما تعتني به المؤسسة الدينية. وأما المضمون فهو فردي. الشكل بلا مضمون نفاق. والمضمون بلا شكل أخلاق. فالشهادة ليست قولًا باللسان بل إقرار عمَّا يشعر به الوجدان. وينسى الناس قول «أشهد» أي ألاحظ وأثبت مثل الشاهد في المحكمة وليس «شاهد ماشفش حاجة». وهو من فعل «شهد» أي «رأى». وباقي العبارة مزدوجة بين النفي «لا إله» والاستثناء «إلا الله». فالوعي في حالتي نفيٍ وإثباتٍ، نفي الآلهة المزيفة مثل المال والسلطان واستثناء الإله الحقيقي وهو الله. فالشهادة تتضمن ثلاثة أفعال؛ الشهادة، والنفي، والإثبات. وليست مجرد طنطنة باللسان نسمعها بالآذان. والصلاة شكل ومضمون. الشكل حركة الجسم، والمضمون الحفاظ على الوقت كل فعلٍ في وقته أي ضبط الأفعال في مواقيتها. وهو ما لا يفعله المسلمون حين يأتون متأخرين على أعمالهم على عكس الأوروبيين، يحافظون على أوقاتهم بلا صلوات أي إنهم يصلون مضمونًا لا شكلًا. والصوم ليس مجرد الجوع والعطش ولكن الإحساس بفقر الجياع والفقراء، والزكاة ليست مجرد دفع جزءٍ من مال الغني ولكن المشاركة في الأموال، والحج ليس مجرد رحلة سياحية إلى مكة. بل هو تجمعٌ عالمي للعرب والمسلمين لتحديد مَن العدو ومَن الصديق للأمة. والسؤال هو: هل إيران هو العدو وإسرائيل هو الصديق؟
والإيمان ليس هو مجرد الاعتقاد بوجود الله ورسوله واليوم الآخر بل العمل على وَحْدة هذه الأمة لا تفتيتها. هو مؤتمر سنوي عالمي للمسلمين لبحث شئونهم وحال وحدتهم. وهل العدو بداخلهم أم خارجهم؟ وما مصير أراضيهم المحتلة أو شعوبهم المهزومة، وولاءاتهم للعدو إسرائيل وأمريكا؟ وروسيا بعد أن كانت صديقة لهم في الستينيات تضرب سوريا. وتقتل الأطفال والنساء والشيوخ بدعوى القضاء على الإرهابيين وهم ثوار الربيع العربي ضد «الأسد إلى الأبد» وضد نظام طائفي علوي فاسد لا يفعل شيئًا على مدى خمسين عامًا لتحرير الجولان من الاحتلال الإسرائيلي. لذلك تدافع عنه وتريد بقاءه إلى الأبد حتى يتم هضم الجولان وإعلانها جزءًا من إسرائيل الكبرى بعد ملء الضفة الغربية بالمستوطنات ومعاهدات السلام مع مصر والأردن وإعلان السعودية والإمارات أن الأمر تبادل مصالح، وأن من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها دون ذكر لحقوق شعب فلسطين وحق العودة، وبعد رفض إسرائيل خطة السلام العربية: الأرض في مقابل السلام. فوحدة الله تنعكس على وحدة الأمة بعد وحدة الوعي الإنساني بين القول والعمل والفكر والوجدان. والإيمان بالنبوة أي بتاريخ الوعي الإنساني أو الوعي الإنساني في التاريخ واكتماله هو اكتمال الوعي، استقلال العقل وحرية الإرادة.
(٢) الجوهر الحقيقي للدين (الأنثروبولوجيا)
الله موجود ذهني، تطلع إلى الكمال، رغبة في الأفضل وليس وجودًا واقعيًّا مهما أثبته فلاسفة العصر الوسيط حتى ديكارت بما سموه الدليل الأنطولوجي على وجود الله أي استنباط الوجود من الفكر. فالفكر فكر. والوجود وجود. فلا الوجود يُستنبط من الفكر، ولا الفكر يُستنبط من الوجود. الوجود ليس صفة للذات بل هو الذات. وهو لا يوصف إلا عن طريق العقل العملي كما يقول كانط «ماذا يجب عليَّ أن أفعل؟» وهذا هو سر التجسد أو الله كوجود خلقي أو قانوني. وليس فقط كوجود ذهني ولكنه أيضًا كموجود قلبي كما يقول الصوفية. هو إحساس بوجود ما هو أعظم وأعلى وأقدر. هو تذوق وليس تأملًا. وهو ما يشعر به الإنسان ساعة انفكاك الأزمة وراحة القلب. ويتمثل ذلك في المحبة. وهذا هو سر الله التألم لأن الله إحساس عاطفي، فالألم الإلهي مشاركة للألم الإنساني. وهذا هو سر الصلاة التي تجعل الإنسان يشعر بأن الله قادر قدرة مطلقة على تحقيق أي شيء يريده. يكفي أن يقول «إن شاء الله». وهذا أيضًا هو سر الإيمان وسر الاعتقاد بالمعجزات. فالإيمان قوة تفوق العقل. والمعجزة حدث يتجاوز حدود القدرة الإنسانية. وهذا هو الفرق بين المسيحية والوثنية. الوثنية مجرد دين رمزي يتعامل مع أوثان لا تسمع ولا تبصر. أما المسيحية فدين قلبي يسمع ما لا يُسمع، ويبصر ما لا يُبصر. لذلك ينتهي أحيانًا إلى الرهبنة. إذ يسهل على المطلق الفردي أن يعيش مع المطلق الجماعي، وأن يتحاور الإنسان الخاص مع الإنسان الكامل. والخلود المسيحي يحول حياة العزوبة إلى كمال أبدي.
وقد تجرَّأ أحد اللغويين القدماء مثل ابن الأيادي في طرح سؤال: هل الصفات حقيقة في الله مجاز في الإنسان، أم حقيقة في الإنسان مجاز في الله؟ يتصور السلفيون أنها حقيقة في الله مع أنهم لم يرَوْه. وفَهْمهم للآيات فَهْم إنساني خالص، وهي مجاز في الإنسان لأن الله أعلم وأقدر من الإنسان. مع أنهم يعيشون في العالم، يرون ويسمعون ويريدون. فهي حقيقة في الإنسان مجاز في الله كما قرر المعتزلة. فالإنسان يعلم ما هو حقيقة ولكنه لا يعلم ما هو الله، والحقيقة والمجاز أحد مبادئ اللغة في التفسير.
وهو الخالق للعالم من أجل تفسير نشأته إذا استعصى فهمها. ولم تكتفِ النظريات الحديثة مثل قدم العالم أو السديم الأول أو الغاز الملتهب. وكل ذلك من أجل الوصول إلى الخلق من عدم كُنْ فَيَكُونُ. وهو ما سماه الفلاسفة الفيض، فيض العالم من الله أو ما سماه الصوفية وحدة الوجود أي التوحيد بين الله والعالم، بين الخالق والمخلوق وحتى لا يخلق الله العالم أو يتركه أو خلقه من عدمٍ نتجت عقيدة العناية الإلهية حتى يظل الله يعتني بالعالم. ويكون ذلك بالتدخل المباشر في العالم عن طريق المعجزات. والخلق عقيدة في اليهودية والمسيحية دون ذكر الإسلام. ومن ثم لها جذورها في الوحي. لا يختلف كثيرًا الجوهر الحقيقي للدين (الأنثروبولوجيا) عن فلسفة الدين عند هيجل. بل يقدم العقيدة المسيحية بطريقة أخرى، أقل جدلية، وأكثر تأملًا دون الإغراق في تاريخ الأديان. وما يقدمه ليس جوهرًا حتميًّا للدين بل فلسفة أخرى للدين. لا تُرضي فلسفة التنوير ولا تقدم بديلًا عن التنوير الفرنسي في التنوير الألماني. ومع ذلك فهي آخر محاولة لفَهْم الدين فهمًا عقليًّا قبل تقديم ماركس له باعتباره أحد مكونات الأيديولوجيا الألمانية.
والخَلق مثل الإبداع مقولة إنسانية مثل مقولات البذر والحصاد. فالخلق هو ما يبدعه الإنسان فنانًا كان أم كاتبًا أم فيلسوفًا. الخلق جزء من بذر الطاقة وتعهدها بالنماء. هي القدرة على الإبداع ليس بالضرورة من لا شيء كما هو الحال في تصور الخَلق من عدم كما يوهم الحواة. فالخلق من كل شيء.
والسؤال الآن: هل «جوهر المسيحية» لفيورباخ كبير الهيجليين الشبان وأوسطهم زمنًا بعد شترنر وقبل باور يعتبر تأييدًا لهيجل في فلسفة الدين أم ثورة عليه في تأويل العقائد المسيحية، تأويلًا يجعلها أكثر قبولًا؟ وفي هذه الحالة هل هناك فرق بين الدين الحقيقي، أنثربولوجيا الدين، والدين الزائف، ثيولوجيا الدين أم أن كليهما تأويلان للدين حتى لو كانا بطريقين مختلفين؟ إن تأويل الله كموجود لا يفترق كثيرًا عند فيورباخ كمرحلةٍ من مراحل تطور الدين عند هيجل. وتحويل الدين إلى ظاهرةٍ شعوريةٍ لا خلاف عليه بين الأستاذ والتلميذ. فالخلاف بين الدين الحقيقي، أنثربولوجيا الدين، والدين الزائف، ثيولوجيا الدين ليس كبيرًا. كلاهما تأويل إنساني للدين. إنما الخلاف في الحكم. إذ تدَّعي ثيولوجيا الدين أنها هي حقيقة الدين بينما يتنازعها أنثروبولوجيا الدين في تأويل هذه الحقيقة.
وقد حاول كثيرٌ من الشباب خارج الوطن العربي مثل خورشيد أحمد في ألمانيا تحويل جوهر الدين من الثيولوجيا إلى الأنثروبولوجيا. وقد ذكر القرآن الإنسان بين السلب والإيجاب. فهو الكفور العجول. وهو المُكرَّم في البر والبحر. ولكن الله ذُكر أكثر من ثلاثة آلاف مرة. فما زال الله هو المركز. لم يبقَ إلا تأويل الله ذاتًا وصفاتٍ وأسماء وأفعالًا كما فعل المتكلمون بحيث يبدو الجانب الإنساني فيها.
(ﺟ) الفلسفة المسيحية
وأرفيوس المسيحي هو الإنسان المسيحي الذي جعلته المسيحية خُلق من طين. وفي آخر مفتشي محاكم التفتيش المدرسيين يتفقد التعليم التقليدي. كان المسيح نور العالم. وهو الآن حارس ليلي للصوفي. ومع المسيح أصبحت المسيحية أقدم في التاريخ وأعمق في الفهم. كان الرضاع من الكتاب المقدس. والآن فرغ الضرع وماتت البقرة. وكان الفداء من الكتاب المقدس. حمل المسيح الخروف على كتفيه والآن أنا لا أحمل الخروف على كتفي إلى المخلص.
والمسيحية عامة وشاملة. لا تفرق بين الأعراف والأجناس. وهناك مَن يتاجرون بالكتاب المقدس كالذين يتاجرون بالقرآن في الوعظ والإرشاد وتبرير الحكومات والنظم السياسية. ولو أن جمعيات الكتاب المقدس تبرعت بما جمعته من إحسان الآخرين وأعطته للفقراء لكان ذلك تفسيرًا لمقاصد الكتاب المقدس. والمسيحية الآن مجرد عاكس ضوء وليس الضوء ذاته. هي ما تثيره في الأذهان من ردود فعلٍ معاكسة.
الإيمان قوي، ولكنه لا يستطيع حل المشاكل الصعبة. والإيمان يحرر الإنسان من احتياجات الطبيعة. وهو ما حدث عند اليونان والرومان. أما الآن فالإيمان قهر للطبيعة، وسد لحاجتها. وسمَّى اللاهوتيون هذا الانسداد في الطبيعة الفضل. ويستعمل اللاهوتيون سقراط وأفلاطون لتسلل للسماء. واللاهوتيون هم كلاب الرب.
وقد جعل اللاهوتيون الإيمان قانونًا وأصبحت الشرطة في حراسته، وعقابه محاكم التفتيش. فاللاهوتيون فقط ليلًا وبالنهار ملحدون، ثم أصبح الإيمان موضوعًا للإيمان لا أحد يتحكم فيه؛ سلطة دينية أو سلطة سياسية.
والفرق بين المسيحية القديمة والمسيحية الحالية هو أن المسيحية الأولى حجارة كاتدرائيات، والثانية عمارة للروح. وهذا لا يعني الإيمان بتعدد الأرواح والملائكة. وتعددية الأرواح تؤدي إلى تعدُّد الآلهة.
الله على الأرض يكتب في مساحة ضيقة. وفي الآخرة يكتب على نطاق واسع. وإذا تحدث رجل الألوهية المهذب في الفلسفة فإن حديثه يكون ثرثرةً. ثلاثة أشياء لا يريدها الإنسان، أن يكون عجوزًا، أو كاتبًا فاشلًا، أو تقيًّا ورعًا.
المسيحية نزعة محلية أخلاقية سلوكية ليست عقائد نظرية لاهوتية. لقد وقعت المسيحية في متاهة اللاهوت بعد أن أصبح شبكة عنكبوت.
والستارة ترتفع من جنة الإيمان المفقودة. ثم استراحة ثم تغير المشهد لاكتشاف الطب الرعوي ثم يُغلق المسرح.
المسيح يشبه النقطة في الرياضيات، منها تخرج كل الأشكال الرياضية كالخط والدائرة والمثلث والمربع والتقاطع بين خطين. فالمسيح نقطة تلاقٍ وتجمع وليس تفرقًا وإبعادًا. والسؤال هو: هل المسيح مثل كل الآلهة في الهند والصين أم أنه الوحيد الذي يستحق العبادة؟ المسيح ليس مختلفًا عن الآخرين ولكنه متميز عنهم وكذلك المسيحي.
ويَعِدُ اللاهوتي الناس بالغد. ففيه الفرج القريب. ويعتمد على ذلك السياسي بوعد الخلاص من الآيات السياسية في الغد، للأجيال القادمة. والشعب صبور، والكل يتطلَّع إلى الآخرة أي إلى الغد حتى لو كان بعيدًا. فالآخرة ملجأ الجبناء.
والسؤال هو: هل يستطيع اللاهوت أن يشفي الناس؟ هل يستطيع أن يقاوم الشيطان الذي اقترب بدواء العقيدة التي كوَّنها؟
واللاهوت أشر من الفتنة عندما يدعو إلى الاستسلام واليأس. فقد ظل اللاهوتيون يبشرون بالنعمة والخلاص حتى فُقد معناهما.
يتصور اللاهوتي أنه في رحلة سعيدة إلى الله وهو خداع النفس. والدوجماطيقية الكاملة لا ينقصها شيء إلا المسيح، أي إنها فارغة من أي مضمون. وتسود الدوجماطيقية الفلسفية برلين أي جدل ومذهب هيجل. ولا فرق بين الدوجماطيقية اللاهوتية والدوجماطيقية الفلسفية.
واللاهوتيون دوجماطيقيون. ليسوا في حاجة إلى مخلِّص لأن العقيدة قادرة على الخلاص. والمخلص هو اقتراب الاثنين، وفي هذا العصر، الابتعاد هو السائد. وإذا أمر المخلِّص اللاهوتي للتنازل عن عرشه التفت إلى ماله وثروته.
واللاهوتي سوفسطائي. ما يهمه هو الدفاع عن العقيدة حتى لو قلب الحق باطلًا والباطل حقًّا. وهو لا يعرف الفرق بين الإيجاز والإسهاب. فهو يسهب بلا معنًى. اللاهوت إسهاب بلا سبب. كلام يولِّد بعضه. يكفيه مقطع واحد كما هو الحال في اللغة الرمزية. وإله اللاهوت، ضيق، يستبعد ويقصي. أما إله المعرفة فواسع القيم ويعانق.
والاعتقاد له مسار تاريخي. خروج من روح الإنسان وعقله في مسار العالم، متفقًا مع الحقيقة والعقل، ومتجهًا نحو المستقبل.
وبدلًا من لاهوت الكنيسة يؤسس فيورباخ لاهوت الشعور؛ فالنص بلورة لتجربة حية، وتفسيره ليس في غلقه على ذاته وتحويله إلى عقيدة لا أصل لها بل فتحه على التجربة الحية التي منها نشأ. فالتأويل عود إلى الأصل، ولكنه ليس الأصل السماوي بل الأصل النصي. فإذا فتحت عين اللاهوتي وقطعت رأسه يبقى الشعور. ولم يعُد المعبد هو المعنى الحجري ولكن القلب، الدين في القلب يساعد على التنفس. والسؤال هو: هل يتدخل الله في كل صغيرة وكبيرة؟ في كل كبيرة نعم مثل الحروب بين الشعوب التي يُقتل فيها بالملايين. فماذا عن فضلات الذباب؟
واللاهوت لا يدرك جمال الطبيعة لأنه أغلق على العقل. وتصور أن العقيدة بداخله. فالزهور على الأرض وليست في الآخرة.
وهل المقدس يقدم الفكر كما يقدم المادة؟ وهل المناولة للخبز فقط؟ أي المشاركة في الفكر لذلك نشأ الصراع بين الرأس والمعدة، بين الفكر والجوع.
والفلسفة المسيحية لاهوت منبطح، فارغة، ليس بها شيء. وهي مغتربة عن الطبيعة، بعيدة عنها. مع أن السؤال يتردد عن طبيعة المسيح وعلاقته بالطبيعة. وإذا كانت الفلسفة تعبر عن الرضا فإنها لا تجوز للأصحاء. والالتقاء في المسيحية لا لون ولا طعم ولا رائحة؛ لأنها لا ترتبط بالعالم المباشر.
والفلسفة فرعان؛ الأول لاهوت مقنع. والثاني مفاهيم مغلقة. والفلسفة تتجاوز هذين النوعين لأنها انفتاح على العالم وليس انغلاقًا فيه.
وإذا كان الإيمان هو عماد اللاهوت التقليدي فإنه يتحول إلى عقل في الفلسفة التأملية، ثم إلى حس ومشاهدة في فلسفة المستقبل. والتمييز بين العقلي والحسي، بين التأملي والتجريبي لا يعني وجود عالم عقلي مفارق. بل هو تجريد للذهن، واغتراب عن العالم الواقعي. فما يوجد في العالم هو الأشياء وليس التصورات. والحسي هو البديهي. وتوجد الأشياء في المكان والزمان الفعليين. فالمكان والزمان ليسا صورتين للحساسية كما هو الحال عند كانط. والأشياء في الذهن إن لم تكن موجودة في الخارج فهي تصورات مجردة، عودًا إلى عالم المنطق عند هيجل.
وبعض الدعاة ليسوا عقلانيين ما دام الهدف هو التأثير في الجمهور. ومَن يستعمل عقله فإنه يستعمله على غبائه.
والنقد ليس عقلانيًّا بالضرورة. فمعرفة مدى تحوُّل العصير إلى نبيذ لا يتم بالفعل بل بالذوق أي بالحس؛ فالنقد هو القدرة على إصدار الحكم. وقد يحتاج إلى وقتٍ حتى يتكون الموضوع. ولا يعرف الحكم على شيء إلا باختباره كما قال الشاعر العربي:
هنا يكون النقد نقدًا. النقد هو خادم للمعرفة وليس المعرفة ذاتها. النقد حارس حتى لا يتسرب أحد إلى المنزل، ويقوم على التذوق وليس على تطبيق القواعد والقوانين اللغوية والبلاغية.
والعقل مثل دودة الخل تعيش في بيئةٍ لا يعاش فيها، ويكون العقل ضيقًا عندما يقصر الإله على فلسطين كما تفعل الحركة الصهيونية. فالأرض والسماء لا يملكها أحد إلا الله رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ. ولا يملكه شعب خاص كاليهود بل هو مشاع لكل الناس رَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ، لأن فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ. والوسيط المتعال كلما صعد إلى أعلى للجمع بين الاثنين قل الهواء وزاد الاختناق. والعقلاني السعيد يثير السخرية لأن العقل شكلي والحياة ذات مضمون. والمطلوب الحفاظ على الخير في العقل حتى وإن بدت الخطايا والآثام حتى يظل الروح يقظًا.
ولا يأتي اليقين بعد الشك إلا بالتجربة. عندما تقع الثمرة على الأرض يكون حان وقت النضج دون بحثٍ نظري في علم النبات. وإن لم يحدث اليقين بسببٍ ما فإن جميع الثمار من على الأرض تبين أن موعد الجمع قد حان. وهنا يبدو الفرق بين المذهب الطبيعي اليقيني والمذهب المشيخي الظني.
والسؤال هو: كيف يصبح الماء خمرًا. ويأتي قانون في التفاعل الكيميائي؟ وهو سؤال العلم والعقل. والعقل هو مجرد نتاج الفلسفة الكانطية. فقد كان للمذهب العقلاني أهمية تاريخية في مناهضة اللاهوت العقائدي. يقدم لاهوتًا عقلانيًّا في مقابل اللاهوت القديم. والتاريخ يتطور. ولم تتوقف الفلسفة عند ديكارت أو كانط أو هيجل. فكلٌّ يستعمل العقل لحسابه. والحساب واحد وهو تبرير اللاهوت العقائدي بلاهوت فلسفي أو منطقي أو جدلي. والعقل كما يتصوره العقلانيون ليس سوى البخار، وليس الماء المغلي. وقد ابتذلت مفاهيم العقلانيين وسُخر منها مثل القبلي والبعدي عند كانط. وأحيانًا تُبتذل مفاهيم العقلانيين فيدعون أن العقل أوصلهم إلى الملأ الأعلى، الماوراء الحسي، وأنهم أدركوا جوهر الذات الإلهية والروح. ثم يتضح أن ما قالوه لا ينتفع منه حتى الأطفال. ولو أن العقلانيين اعتمدوا على الحواس لكان أفضل. ويبدو أنهم ليس لديهم حواس. حكمتهم لا ترضي الطيور الأقرب إلى السماء منهم. يظنون أنهم يصعدون عاليًا ولكن الرصيف أقرب لهم أمنًا. لا يثيرون اندهاشًا، ولا يخفون سرًّا. والناس يكونون أكثر تنويرًا في السهول لا فوق الجبال. ويُسوِّق العقلانيون التنوير كما يُسوِّق التجار بضاعتهم. وكما يفعل بعض المثقفين لدينا لمعارضة الحركات الإسلامية السلفية. ألم يكن ابن تيمية، زعيم السلفيين، تنويريًّا في نقد المنطق في «الرد على المنطقيين» و«نقض المنطق»؟
وكلما تحقق الروح في مساره ازدادت المعجزات. فالمعجزات عمل الروح. والعقل بطيء للتركيز وبالتالي بطء الفهم عكس الحدس الصوفي. فحياة الفنان قصيرة لكنها عميقة. ورِجل الدين طويلة ولكن لا معنى لها. والزمن من أوقات رخيصة وغالية. والإيمان وقت رخيص. أما العقل فهو وقت غني، الزمن يتغير وثمنه يتغير معه، فلا ثبات للزمان. وبالتالي لا ثبات لشيء. ولو قام المسيح الآن ونظر إلى مَن يدعون التقوى لتحول إلى مسيح دجال.
والسؤال هو: كيف تتغير الأمور؟ من الندرة إلى الشيوع، ومن الشيوع إلى الندرة. والخوخ على الأرض أحلى من التين في السماء؟ ومهما تعددت الأطعمة فإنها تأخذ مسارًا واحدًا هو المعدة. وترقيع القديم لا يجعله جديدًا. والمسيحية تتغير في كل زمانٍ وفي هذا العصر هي فارغة من أي مضمون، مجرد أشكال ورسوم. ويمكن في عصر أن تكون هي المُدعِي أو المدعَى عليها. ولكل محاميها. وتتحول المسيحية إلى تجارة. تضع ختمها فقط على كل بضاعة. فاللحم لا يصير عظمًا. والعظم لا يصير لحمًا. ولا يوجد برهان قبلي ولا بعدي لأن العظم لا يتحول إلى لحم. ولا يمكن إيقاظ العالم بالمفاهيم الذاتية. والهيكل العظمي هو جوهر الإنسان. وهو الذي يبقى ولا يفنى، في حين يفنى اللحم والدم والعروق.
والتناسل النبيل يُخرج من القديس قديسًا. في حين أن القوامة لا تورَّث. وقد بدأ اللاهوتيون تفسير الأصل بسقوط آدم لأنه أكل التفاحة المحرَّمة بإغراء الشيطان. وهي رواية يعيش عليها اللاهوتيون ويتكسبون منها.
والخديعة هي التي جعلت إبليس يسقط من السماء إلى الأرض، وكأن الحياة على الأرض عقاب. ولما كانت الضرورة طبيعية فالتطور أيضًا طبيعي. وكما تتفتح النباتات ثم تتراجع داخل ذاتها فكذلك يفعل الدين. يتفتح كحركة في العالم ثم ينغلق على ذاته ويصبح لاهوتًا.
تُكسف الشمس في اللاهوت لأنه يُغلق على ذاته. ويصبح عقائدَ للتسليم بها. والتناسل هو اجتماع النعمة والطبيعة. والنعمة وحدها لا تكفي إذا كانت الطبيعة ماضية. والطبيعة وحدها لا تكفي إذا كانت النعمة عاملًا فعَّالًا في الطبيعة. والطبيعة جميلة عندما تخضعها النعمة. وإذا تزوَّج عجوزان فإن الطفل بالتبني لا يعني شيئًا. ولا يمكن اعتباره زواجًا مقدسًا.
وأفضل صانع للشراب هو العطش. وأفضل صانع للطعام هو الجوع. فالحاجة هي التي تخلق الإشباع. وبلغة أخرى المعدة هي التي تخلق حاجاتها. أما الحلوى فتخلق الآخرة، الحياة الحلوة. فالشيء البعيد قريب كما يتصوره الفيلسوف الجديد. والشيء القريب بعيد كما يتصوره اللاهوتي، وهو نفس معنى أغنية نجاة: «البعيد عنك قريب، والقريب منك بعيد.» وفي الحانة الله هو النادل، والصوفي هو الزبون.
ولا يتحمل العقل قدرة الصوفي على النفاذ إلى الأعماق. والأسوأ هم الوسطاء في الصوفية والعقلانيين الذين لا يحسمون أمرهم. فإما … أو. إما العقل وإما القلب. في حين أن تراثنا القديم حاول الجمع بين الذوق والنظر في «حكمة المشرقيين» لابن سينا فلم ينجح، و«حكمة الإشراق» للسهروردي فنجح وأقام منطقًا إشراقيًّا جديدًا، ويثبت الطب أن الخلط بين المواد قد لا يؤدي إلى الصحة أبدًا.
والصوفية لا يقضون حياتهم في الهواء الطلق تحت الشمس في كهوف حقيقية لا وهمية. ولكن الحياة تشفي من هذا المرض. والأرض لا تستبعد أحدًا يقترب منها كالحبيبة مع الحبيب.
ويتحرر الكسالى من الآثام بالفقراء. في حين أن النشطاء يتحرَّرون بالعمل. ويقوم التصوف على الإحساس بالضعف أكثر مما يقوم على المخلِّص. ويريد الصوفي سكب بحر العقل في آنية فتتهشم الآنية ويفيض بحر الحياة.
الصوفي يضحي بالثمين من أجل الرخيص وهمًا، في حين أن التقيَّ يضحي بالرخيص من أجل الثمين. ومن الصعب أن يتخلى الصوفي عن الجيد من أجل السيئ. وهو يتخلَّى فقط عن الجيد.
لقد كان الصوفية قديمًا يتبعون الفكر والروح أما الآن فيَلبسون بقعة جلدية خاوية الوفاض. ويتلعثمون بالكتاب المقدس. ولا يتخلى الصوفي فقط عن الذات بل أيضًا عن الروح كما عُرض في «من الفناء إلى البقاء». والصوفي دُمية خشبية تتحرك من الخارج وليس من الداخل على عكس ما يقول. أما الوثني فينسب البطولة إلى نفسه. والسؤال هو: لماذا يفعل الصوفي ذلك وهو عاجز عن أن يفعل ذلك؟
والتصوف يدفع إلى النوم باسم الزهد أو العزلة. فالروح لا تنشط إلا في العالم. والتصوف أصله نفسي. هو تعبير عن العجز عن إصلاح العالم، والخوف من إرهاب السلطان. التصوف مرض نفسي يصيب المتصوف بالدوار. وهناك ثلاث مداخن تجعل دخان التصوف بعيدًا، استرداد الروح إلى الوعي الذاتي، توجيه الوعي الذاتي إلى العمل، تصور عام للأنا أنها في الأرض وليست في السماء. بالإضافة إلى دفع الفقراء إلى الاحتجاج الاجتماعي بدلًا من الهروب إلى التصوف. ويتبخر التصوف بسرعة. ولا يبقى منه إلا الدخان. ويتصور الصوفي أن هناك أفضل مما بين يديه، وأن هناك حياةً أخرى أفضل من هذه الحياة. ثم يكتشف غباءه بأنه وقع ضحية الوهم. التصوف كلام فارغ لأنه يتعامل مع الظلال وليس الأشياء. ينتظر النور الخارجي والنور من الأشياء. وإذا جازف الصوفي بالعقل فإنه لا يحصل على شيء لأنه لم يتعود على البرهان. فالصوفية سلاحهم القلب ضد الطبيعة. وهو لا يمتلك شيئًا كسلاحٍ يدافع به عن نفسه. والأتقياء يعتمدون على العقل وليس على الإيمان. وعدم الاعتماد على العقل سفسطة. والطبيعة بها قوة وضعف. والتصوف ضعف. فهو إذن خارج الطبيعة. وهذا لا ينفي النوم على عش في بيت لحم.
ولا يعرف الصوفية معنى التاريخ. يكفيهم بعض الماء لتنظيف ثيابهم، ولكنهم ليسوا جزءًا من التاريخ ومساره. وكما يعود الطير إلى عشه يعود الصوفي إلى وطنه مهما غادر إلى أرض أجنبية، ويصل الصوفية إلى مرحلة الهمجية كما يحدث أحيانًا في الطرق الصوفية والجنون والسحر والشعوذة.
والصوفية مثل ذكور النحل. عبقريتهم في الفناء. وغباؤهم في استعمال الدولة لهم. وليس في ذلك شيء من الدين بل هي طبيعتهم. والصوفي عقلاني ثمل. عندما يفيق يصبح عقلانيًّا. ويتحد الصوفية في المبدأ ويختلفون في الطريقة.
وقد يكون للصوفية ولاء دون مضمونٍ يضيع بالرغم مما يعيشون عليه من قش وتبن. فالجسد ليس مقياسًا بل الروح. هم نوع من الحيوانات يمكن للدولة استخدامهم.
وإن لم يكن عقلانيًّا يصبح سقطًا. فالصوفي عقلاني مشلول. لديه ذاتية ملتوية. الصوفي عقلاني شكلي لا أكثر. والصوفية والعقلانيون يقطعون شريحة من لحم البشر لبيعها في السوق.
والصوفية يمارسون الدين بدافع الامتنان والشكر للعطاء والمن. أما الآن فالدين شركة تأمين على الحياة للوقاية من أخطار الزمن. والله هو العكاز الذي يستند عليه الضعفاء أو السوط الذي يستعمله الأقوياء.
والدين يقوم على الحقيقة الأبدية. والإيمان هو ما يراه الإنسان أسود ليلًا وأثره الغموض، والإيمان هو الخطوة الأولى نحو النجاة. والخطورة أن يتحول الدين إلى اعتقاد. فيتحول إلى دواء مرٍّ، ويقضي على أنبل العواطف في النفوس.
والتقديس للأشياء والقريب مع أن المقدس هو أقرب الأشياء إلينا مثل الحياة. وليست القدس هي المكان الوحيد لله لأن الله في كل مكان.
ويحتوي الكتاب المقدس على تاريخ العالم. فهو الكلمة السرمدية، ولا يفرق فيورباخ بين روايات الرواة والحقائق التاريخية. وهو يعيش في عصر النقد التاريخي للكتاب المقدس.
والسؤال هو: هل الكتاب المقدس وحده هو الصالح إلى الأبد؟ هناك كتب مقدسة تتبع تطور الزمان مثل التوراة والإنجيل والزبور، وصُحف إبراهيم وموسى. والقرآن الذي هو آخر الكتب المقدسة يتطور فهمه. فالمقدس على حلقات. والتبجيل حلقة فيه. ولا يوجد كتاب واحد مقدس لكل العصور الماضية. إلا أنه يوجد كتاب مقدس في آخر حلقة للعصور المستقبلية.
وتفسير الكتاب المقدس لا يأتي من القدماء. والتفسير الصحيح تفسير في عصره. والتفسير بالنقد للكتاب تفسير معقول. الكتاب المقدس قفل في بوابات الخلاص، ولكن الوثنية تغتر به أي العقل. أوصى بالكتاب المقدس في أرض جافة فلم تنبت إلا زهرة واحدة. ولا يوجد مكان للروح القدس فعليه أن يغادر حتى يحل الإنسان محله. والتعميد الأكثر فعالية ليس طقس العماد الكنسي بل المثالية بعد الخطيئة.
والفرق بين اليهودية والمسيحية أن اليهود عنيدون وضيقون واستخصاصيون أي يقفلون على أنفسهم كجماعة خاصة؛ لذلك كتب برونو باور «المسألة اليهودية». وقد بدأت المعاداة للسامية في عصره. وإلههم مثل إله الأتراك، أي المسلمين، ضيق مغلق على نفسه يخص الشعب اليهودي وحده. والله في الإسلام ليس إله الأتراك وليس خاصًّا بشعب دون آخر، هو إله الناس، ورب الناس. وهو إله واحد وليس آلهة متعددة. والوثني عاري الرأس من المسيح المغطي له. وعريان الرأس أكثر صحة من أخطائها.
والفلسطيني ساكن هذه الأرض وليس شعبًا مختارًا. وهنا يدرك فيورباخ بدايات النزعة الصهيونية كما أدركها برونو باور في «المسألة اليهودية» قبل النازية بما يزيد على نصف قرن. والتجار رُحَّل. فإلى أين يذهب الفلسطيني إذا ترك أرضه. ولا يهم الزمن فإنه عائد عائد، ولا تهم الطريقة التي غادر بها أرضه.
وللإنسان صفات بشرية مشعة مثيرة، فهو يتلقى الإلهام. والإنسانية صورة الله. هو الله بمعنى إنساني. كما أن الروح الإلهي هو روح الطبيعة. والكتاب المقدس بالعبرية أو اليونانية. وماذا عن الذين لا يفهمون إلا لغتهم الإنسانية؟
لقد كان الله عند هيجل هو التاريخ. والتاريخ هو كل شيء. الروح تاريخ الروح، والمنطق تاريخ المنطق، والفلسفة تاريخ الفلسفة، والتاريخ تاريخ التاريخ، والجمال تاريخ الجمال، والدين تاريخ الدين. ثم أصبح عند فيورباخ هو البشرية. فتاريخ الإنسان من الجنين إلى الكون.
وهناك فهمٌ متبادل بين الله والطبيعة، وهو ما يُسمى في اللاهوت القديم أمر الله للطبيعة مثل أمره النار أن تكون بردًا وسلامًا على إبراهيم، أو يعبر موسى وقومه من فرعون وجيشه. فلا الله يفرض قانونه على الطبيعة كما هو الحال في المعجزات، ولا الطبيعة تفرض قوانينها على الله بسبب نسبيتها كما يقول علماء الطبيعة في النظرية النسبية. ويظل السؤال مطروحًا عن الحياة والنجوم.
والإيمان بالله هو الإقرار بالموت. فالله الأبدي تعويض الله عن الحياة المتناهية. ثم يصبح الله موضوعًا للحب. ثم يحب الله مَن يحب. فيصبح الحب علاقةً متبادلةً بين الإنسان والله. ولما كان الحب بين شخصين، فالله شخص مثل الإنسان. وأقصى ما يستطيعه الإنسان كفرد مع الله هو التأمل فيه. فإن لم يتم تصوره وتعريفه يمكن تخيله. الله ليس محددًا بجد كروح. الله هو تفكير المتناهي في اللامتناهي، ولكن القضية هي مَن يفكر في مَن؟ المتناهي في اللامتناهي أم اللامتناهي في المتناهي؟ تفكير الإنسان في الله اغتراب وتفكير الله في الإنسان إسقاط وافتراض ليسهل معرفة أن الله موجود ولكن يصعب وصفه.
ويُقال في اللاهوت القديم إنه لا يمكن الشك في وجود الله. وفي الفلسفة الجديدة يمكن الشك في كل شيء من ديكارت حتى يتخلص الإنسان من سيطرة القديم ويفتح المجال للجديد. وينتقل من التقليد إلى الاجتهاد بتعبير القدماء. الله حب. ومن الطبيعي أن يكون الحب بين ذاتين أو جوهرين. والله خلق العالم من الحب. صورة فنية تعني أن الحب أصل الأشياء. والموت هو الطريق إلى الأبدية، وهو أيضًا الطريق إلى الله. والإنسان ميت والله حيٌّ. إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ في مقابل اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ.
والشِّعر ساخر لكنه صادق، وقد استعمل فيورباخ الشِّعر وهو في قلب العصر الرومانسي للتعبير به عن أحزانه من اللاهوت القديم ومن المثالية المعاصرة ونسيان الإنسان الذي يعيش في الدنيا لحمًا ودمًا.
والإيجاز والتركيز في الكلام أفضل من الإطالة والإسهاب وإلا تحول الكلام إلى لاهوت يطيل في الكلام ولا يقول شيئًا. والموسيقى هي البديل عن الفجيعة الصوفية كما حدث لبطرس، وعن تناقضات نغم اللاهوت. ولا عجب فالعصر هو عصر الموسيقى الرومانسية منذ بيتهوفن حتى شتراوس وفاجنر.
وعلم جمال الألوهية هو أسوأ علم لأن الجمال في الطبيعة وليس في الله. صحيح أن «الله جميل يحب الجمال»، ولكن الجمال الإلهي لا نعرفه ولا نعرف إلا الجمال الطبيعي. وقديمًا قد يهلك الإنسان حين النظر إلى جماله. واليوم قد يهلك الإنسان بفعل خطاياه.
(د) أفكار حول الموت والأزلية١٢
هي مجموعة من الأفكار مثل الشذرات حول نفس الموضوعات الأثيرة عند فيورباخ مثل الله، والإنسان، والوعي الذاتي، والحب، والجسد الحي، والحياة والموت ثم الأنا والآخر ثم الطبيعة والحياة، والزمان والمكان، والمتناهي واللامتناهي. الله والإنسان والطبيعة هو الثلاثي الجديد عند فيورباخ بدلًا من الثلاثي المجرد عند هيجل: الذاتي، الموضوعي، الذاتي والموضوعي، الوجود والماهية والصيرورة. ويبدو أن فيورباخ أنهى أعماله الكاملة في «جوهر المسيحية» (طبعتان)، و«مبادئ فسلفة المستقبل»، و«إصلاح المستقبل»، و«ضرورة إصلاح الفلسفة»، و«دعاوى إصلاح الفلسفة». وبنفس الطريقة التي كتب بها الشذرات أي الأسلوب الأدبي. كتب هذه الأفكار حول الموت والأزلية. وهي رسالته للدكتوراه التي قرأها هيجل، وواضح أنها استمرار رومانسي للفلسفة الواقعية الجديدة لمناهضة هيجل والمسيحية. فالخلود للجسم وليس للروح، والأزلية للامتناهي وليس للمتناهي. كانت الرسالة ثورة على المسيحية التقليدية والهيجلية المثالية واكتشاف الفلسفة الواقعية المادية الجديدة تمهيدًا لماركس.
وهي رسالة تعتمد على الفكر الخالص دون توثيق بأسماء المصادر والمراجع وأرقام الصفحات كما يتم في رسائلنا الجامعية هذه الأيام. تتضمن فلسفة مضادة عما هو شائع في العصر بالنسبة لخلود الروح. لا تنقسم إلى فصول وأبواب بل إلى فقرات كالشذرات أو أرقام مجردة. وبالتالي خلت الرسالة من التقسيم النسقي المعروف في رسائل هذه الأيام. والرسالة موجهة إلى «عزيزي القارئ» أي إلى القارئ العام وليس نخبة المتخصصين في اللاهوت والفلسفة. فقد كانت غاية فيورباخ من الفلسفة تحويلها إلى ثقافة شعبية عامة وحركة سياسية يكون هو زعيمها. فهو الذي أظهر الجانب الخفي في الهيجلية وفلسفة الوحدة من أجل الإعداد للوحدة الألمانية.
الحياة هي التوتر الروحي الذي يبعث على الحياة. فإذا انقضى هذا التوتر فهو الموت. وإذا كانت الحياة نشاطًا وكفاحًا فإن الموت استرخاء وسكون. التعليم اللاهوتي قاتل للمادة. والتعليم الجديد محرك للروح.
وخطر الموت يعلم الشجاعة في البحار ومواجهة الأمواج. وهو الذي جعل المصريين القدماء يبدعون نظريتهم في الخلود. وعند اليهود استراح الرب يوم السبت. وعند المسيحيين الراحة يوم الأحد، وعند المسلمين يوم الجمعة. والسؤال هو: راحة في الأرض أم راحة في السماء؟
وخطر الموت بالنزول إلى البحر ومصارعة أمواجه. وعيد الحصاد ليس في السماء حيث يعمل الخيال بل على الأرض حيث تُجنى الثمار. فحيث يزرع المزارع يجني. فالمعدة واقع. والجوع يقرص.
وهناك صراع بين القديم والجديد. في القديم الروح تطير في الهواء. وفي الجديد تبقى الروح مع الجسد. ولا خوف من الموت لأن أرض الوطن تحتضن الموتى برقةٍ وحنان. والمخلِّص يعيد الموتى إلى الحياة. والخير يشفي. والجوع لا يُشبعه شيء؛ وبالتالي يصبح الشيء لا شيئًا. فالشبع لا ضد له. وكما قال غاندي في الشبع: يكفي كل إنسان، ولكن كل إنسان لا يشبع حتى لو أكل العالم كله. ومهما أكل النَّهِم فلا يشبع إلا في الآخرة.
وإذا كان الإنسان سيموت فهل من الأفضل ألا يعيش؟ هل العيش مشقة حتى لو كان لحظة؟ ففيها تتكشف حقائق الأشياء. الحياة قصيرة، ولكن لا يمكن إيجازها بالانتحار مثلًا. فالانتحار موت. والموت نقيض الحياة كما يشعر الصوفية. كل ما تأتي به الحياة تطمسه أيضًا. فالحياة تقوم على النقيضين.
والآخرة هي الدنيا مقلوبة. خيال في مقابل واقع. وَهْم في مقابل حقيقة. كلام في مقابل شيء. وكل ما يُقال فيها ينعكس على الله مثل الروح الإلهي الذي هو انعكاس للروح الإنساني.
الآخرة أمل. وهذه وظيفتها. ليست مكانًا ولا زمانًا، لا ثوابًا ولا عقابًا، لا حسابًا ولا غفرانًا. فالأمل هو الغاية وليس الآخرة ذاتها. الآخرة وسيلة لدفع الأمل. والصوفي الأخرق يبغي الآخرة وليس هدفها. والآلام لن تُشفى في الآخرة بل هنا في الدنيا. في الحاضر وليس في المستقبل. فالوجود الإنساني هو الأصل.
والموت هو التذكرة الوحيدة التي يدخل بها الإنسان الحياة والموت معًا. الموت هو خلع صولجان ونياشين الحياة. فالموت يتساوى فيه الجميع. هناك موتى أحياء، وأحياء أموات كما قال الشاعر العربي: «إنما الميت ميت الأحياء». يعيش الإنسان إلى الأبد لذلك فإنه يموت لأن الأبد يتعلق بالزمان والمكان مثل الموت.
ويقدم فيورباخ رسالته عن الموت راجيًا اعتباره موضوعًا علميًّا خالصًا، دون خوف من الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية في تقديم نظرية جديدة ضد النظرية القديمة بالموت لا بالبعث. فعلاقة النهائي باللانهائي، والجسد بالروح من أجل التحول من المثال إلى الواقع، ومن اللاهوت إلى الفلسفة. وهو نتيجة التأمل اللانهائي. وربما كان اللانهائي نتيجة التفكير في الموت. وربما كان الاثنين معًا.
وهناك ثلاث حقبات في تطور الإيمان بأزلية الروح. أولًا الحقبة الرومانية وكان الرومان لا يؤمنون إلا بالجسد. والثانية الحقبة المسيحية الكاثوليكية الكنسية في العصور الوسطى، وهي المرحلة التي أصبحت تتماهى مع الدين نفسه. وفيها اعتقاد الثواب والعقاب، والجنة والنار، والنعيم والعذاب. وهي ضرورة أخلاقية لتعويض الإنسان عن عالم الظلم الذي يعيش فيه. وينتج عن ذلك عقيدة أزلية، الفرد بعد الموت، بعد البعث، في الجنة أو في النار، والثالثة المرحلة البروتستانتية التي تعتبر إضافة جديدة للعقيدة القديمة. فلم يعُد شخص المسيح هو محور الاعتقاد بل الشخص كشخص كما هو الحال في الشخصانية عند إمانويل مونييه مؤسس اليسار المسيحي مع بول ريكير.
والشخصانية المسيحية تتعامل مع الشخص في الواقع وليس كمفهوم مجرد. وهو الشخص الفاضل النقي غير الآثم. والشخص هو الذات أي النفس. وللروح إرادة تدفع إلى الخير. والآخرة هي السماء. ولهما صورتان للارتفاع والصعود كما صعد عيسى. والاعتقاد بالأزلية هو اعتقاد بالروح والوعي المطلق.
والتقدم من اليهودية إلى الكاثوليكية ثم من الكاثوليكية إلى الإسلام في الجوهر وليس في الزمان. فقد غاب الجوهر الروحي في اليهودية لحساب الشرائع. وغاب الجوهر الروحي من الشرائع لحساب الكنيسة. ثم تصارعت البروتستانتية من أجل الحفاظ على النقاء الروحي الذي دعا إليه الإسلام قبل ذلك بعدة قرون.
والسؤال هو: ماذا يوجد بعد الموت؟ تتعدد الأعضاء والإنسان واحد. فإذا انتهى منها شيء قد ينتهي الإنسان. أما العوالم الأخرى فهي لانهائية. الإنسان متناهٍ وسط اللامتناهي. والسؤال هو: هل ثمة حياة أخرى غير أرضية؟ افترض العلم الحديث الحياة على سطح القمر. فهناك بقايا كائنات حية وبقايا ماء. والحياة لها عدة تمثيلات أو صور لأن أحدًا لم يعشها بعدُ وعاد ليخبرنا عن فحواها. فكلها تخيلات وتمثيلات. وتتم طبقًا للثقافة الشعبية أو التقاليد الموروثة. المهم هو معرفة طبيعة الجسد بعد الموت. والشخص الفاضل لا يهتم بمثل هذا السؤال، أما النفس فلا تسأل لأنها مستمرة في العمل من خلال الذكريات والأثر في التاريخ. فالأزلية فردية الجسد والنفس. وهذا يتوقف على الهمة والاعتقاد ودخول الموت الوجود الإنساني بسبب خطيئة آدم وخروجه من الجنة تمثيل أو صورة فنية نظرًا لوجود هذا الترابط العضوي بين الدين والفن. ومَن يفكر موضوعيًّا بعيدًا عن الدين يجد أنه لا شيء بعد الموت. الموت نظر إلى الماضي في ثقافة يسيطر عليها النظر إلى الماضي. الموت نظرة إلى المستقبل، والحياة نظرة إلى الحاضر، وهناك فرق بين موت الإنسان وغير الإنسان. موت الإنسان حزن للآخرين وخوف للميت من الحساب. وموت غير الإنسان مجرد ظاهرة طبيعية، من الحركة إلى الثبات، ومن الصياح إلى السكون، وموت النبات انتقال من الخُضرة إلى الجفاف.
وهنا يبدو فيورباخ فيلسوفًا وجوديًّا يضيف الموت كنسيج للوجود الإنساني كما هو الحال عند كيركجارد في «من المرض إلى الموت»، وجان بول سارتر، وهيدجر، وجبريل مارسل، وهي حياة مظلمة لا يدخلها هواء أو نور مخيفة خاصة إذا أتاها ملائكة الشر، وهو ما يُسمى في تراثنا عذاب القبر لما فيه من حياة تقتص وعقاب وقرص، والحديث عن عذاب القبر أكثر من الحديث عن نعيمه وكأن الحساب قد تم والجزاء قد وقع قبل يوم القيامة. الموت حد. والحياة بلا حدود، ويبدو هنا أن فيورباخ يؤسس فلسفة حياة مثل دريش ودلتاي وفوييه وجوييه وبرجسون. وإذا أردنا التعريف العقلي فالموت مقارنة وعلاقة، الموت مقارنة بين الأحياء، أيهم ينشط وأيهم توقف عن النشاط. وعلاقة الميت بالآخرين أحياء أو أمواتًا في قضايا الحزن والميراث، الموت نفي النفي بتعبير هيجل. هو نفي الحياة التي هي نفي الموت.
والروح هو أيضًا روح العصر، فلكل عصر روحه أو حياته الروحية. الروح هو الثقافة والعادات والتقاليد. هو غير متطور بنفسه مثل روح الفرد. ولما كان العصر يتغير فالحياة الروحية تتجدد. والخطورة هي التمسك بروح عصر واحد وكأنه روح جميع العصور، وهنا يقع المجتمع في التقليد؛ لذلك جعل الإسلام الاجتهاد أصلًا من أصول التشريع.
والعلاقة الجدلية بين المتناهي واللامتناهي تطرح سؤالًا عن كيفية دخول اللامتناهي في علاقة مع المتناهي، البقاء مع الزوال؟ وهنا تبدو نظرية التطور لدارون ولكن على المستوى الميتافيزيقي وليس على المستوى الطبيعي. فالله هو اللامتناهي، فهو أرضية الوجود المتناهي. والروح هو الوعي. وواضح أن فيورباخ يضم باور وشترنر بين جناحيه. فالوعي الذاتي عند باور، والوجود الذاتي عند شترنر موجودان عند فيورباخ. موضوع الوعي هو الوعي ذاته؛ لذلك سُمي الوعي الذاتي. موضوعه هو نفسه. الوعي ذات، والذات موضوع. ويتضمن الوعي بالذات الوعي بالموت. اللامتناهي يؤكد، أو ينفي، على الأخلاق. بينما المتناهي يؤكد ما ينفيه، وينفي ما يؤكده. فاللامتناهي قطعي الحكم في حين أن المتناهي نسبي الحكم. اللامتناهي دعامة اللاهوت القديم. والمتناهي دعامة الفلسفة الحديثة. ويقرن فيورباخ الله بالإنسان دائمًا. فلا إله بدون إنسان ولا إنسان بدون إله. ومع ذلك الله ليس الإنسان والإنسان ليس الله.
والإنسان هو الوعي الذاتي. والوعي الذاتي هو الحب. وهو ما يبقى من اللاهوت التقليدي أن الله محبة استنادًا إلى نص صريح في الإنجيل مهما قيل في حكم النقد التاريخي عليه. رواية وتدوينًا ولغة. هو الأخلاق والمعرفة. فالله يحب بهذا المعنى. ويتضمن الحب تناقض الفرح والحزن، اللذة والألم، السرور والحزن. وهو تناقض هيجل على مستوى الشعور. وهو الفردية أو الموجود الذاتي. وهو أيضًا الوجود الفردي كما هو الحال عند شترنر في «الوحيد وما يمتلك». والحب قسمان: الأول شِعري، والثاني نثري؛ فالحب ارتباط شعوري وكذلك القسم التزام أدبي.
والوعي الإنساني متدرج كما يتطور الجنين في بطن الأم. وكل شيء يتطور في الطبيعة، النبات والحيوان بل إن الجماد يتطور. فالحجر يتطور للفحم في الفحم الحجري. ومن الجنين إلى الطبيعة الحياة تجمع بينهما. فالحياة أقوى من الموت. تدفع إلى التطور حتى الكواكب والنجوم. والإنسان كامل بالفكر في مرحلة التطور. والفرد صيغة كمال وليس وهمًا أو تصورًا. فالكامل أو المطلق ليس تصورًا بل مثلًا متحققًا في الفرد. والبشر إرادة وفعلٌ. وجمال الطبيعة في توقيتها. والخوف عليها من الضياع. والحياة أصناف على الأرض عند القدماء: نباتية وحيوانية وإنسانية، والنفوس كذلك. وعند المحدثين الوعي الإنساني. والحب هو من دوافع السلوك البشري كما قال عمر الخيام:
وهو قوة جذب إلى الآخرين فردًا أو جماعة. وهناك ذاكرة بشرية تحفظ ما يمر بالإنسان من تطور ضد آفة النسيان.
والآخر هو الأنا عندما ينقسم إلى ذات وموضوع. وتصبح أنا وآخر أي شخص وشخص آخر. والإنسان والطبيعة موضوع واحد. لا يوجد إنسان إلا في طبيعة. ولا توجد طبيعة إلا فيها إنسان. فكلاهما وجود. والإنسان هو الذات والشخصية. والطبيعة لها معنًى لأنها موجودة. فإن لم تكن موجودةً فلا معنى لها. ولا فرق بين الطبيعة الحقة والطبيعة الجامدة. كلاهما حياة. الماء يتفجر من الصخر تحت عصا موسى. والصوت من رواء النار فوق الجبل صوت الله وموسى. وعيسى يحيي الموتى، والبعث رد الحياة إلى الرماد والحركة والحياة إلى العظام وهي رميم. والجسد عناصره من الأرض كالماء. والطبيعة حية كالجسد العضوي تعيش على الماء وإلا فهي الجفاف والتصحر. ومع ذلك يختلف الجسد عن الطبيعة. فالجسد موضوع يحمل الوعي الذاتي والطبيعة مجرد موضوع مادي.
وإذا كان الله وحده هو الأزلي فإنه لا مكان له ولا زمان. فالله إذن هو الحياة. والزمان والمكان صفتان للوجود. والزمن بين الفرد والكلية. الزمن الفردي هو الوقت والزمن الكلي هو الزمان الذي يجمع بين الأشياء في تتابع أو في معية. والزمان الفردي هو زمان محسوس في حين أن الزمان الكلي معقول، وهو ما قاله برجسون وهوسرل فيما بعد في الإحساس الشعوري بالزمان. الزمان الفردي للأفعال والزمان الكلي للميلاد والموت والبعث والخلود. وهو الفرق بين زمن الفرد والتاريخ.
وعلى الضد من الأعمال الفلسفية الرصينة مثل «جوهر المسيحية»، و«مبادئ فلسفة المستقبل»، و«إصلاح الفلسفة»، و«دعاوى لإصلاح الفلسفة» نجد هذه الأفكار في الروح والأزلية مشتتة قصيرة أدبية شعرية. تستعمل ألفاظًا هجينة لا تليق بالفلسفة مثل الروث.
وفيورباخ هو مارتن لوثر الثاني لأنه يصفي ما تبقى من الكاثوليكية، ويدافع عن البروتستانتية من غزو هذه البقايا وانتشارها عليها. وكما ثار مارتن لوثر ضد الكنيسة فإن فيورباخ يكمل الثورة ضدها، وينقد رجال الدين، ويرفض كل مظاهر الخداع الظاهرية باسم التقوى والورع والإيمان.
والغفران تبرير للتوحش. يفعل الإنسان ما يشاء. ويستغفر ويتوب. ويظن أن الله يغفر له ويتوب عليه، وقبل أن يطالب المسيحي بتغيير آثام الغير يغير آثام نفسه. وهو ما نبَّه إليه القرآن أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ. وأخطر الآثام هي التي ضد الروح القدس. وقد جاءت الخطيئة إلى العالم باسم المسيحية. فهل التخلص منها عودة إلى الوثنية؟ وما الذي يخلِّص من الخطيئة؟ الذنب ونار الجحيم؟
وماذا يعني ذيل الشيطان؟ لم يره أحد. إذن هو صورة خيالية لتوابع الشر، والعجيب أن اللاهوت يتحدث عنه. وقد اعتبره العقلانيون أنه بظر المرأة والذي يثير فيها دوافع حسية. واعتبره الصوفية صوت خشخشة لثعبان يجذب فريسته إلى حنجرته القاتلة. والأفضل ألَّا تُستعمل كلمة لا يُعرف معناها. ودراسة الشيطان تحتاج إلى التوجه إلى الرأس لا إلى الذيل. وبعد القبض على الرأس يمكن معرفة الذيل. وقد اختلف اللاهوتيون فيه. جعله البعض اللحية والشارب لإخافة المؤمنين كما يفعل الصوفي مع الأطفال.
النور هو الضوء الذي يخرج من المصباح حتى لا يقع السائر ليلًا. وهناك فرق بين نور النعمة والنور الطبيعي. الأول يشع من الداخل. والثاني من الخارج. والوسيط بينهما هو الطبيعة الإنسانية التي تجمع بين الجسد والروح. والدليل المسيحي الذي يتجمع فيه الألوهية والإنسانية معًا. إذا كانت الطبيعة عرجاء والنعمة عرجاء فأيهما ينفع كي يكون سندًا؟
يؤكد الوثني على فعل الطبيعة، والمسيحي على فعل النعمة. والحقيقة أن النعمة ليست كما يتصورها اللاهوتيون، بل هي الطبيعة نفسها. وهي نفسها العلاقة بين الطبيب والطبيعة؛ فالطبيب هو النعمة بالرغم مما في ذلك من القوانين العلمية. وهو أقرب لآية وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ.
ومع ذلك وحَّدت الكنيسة بين الطب واللاهوت لإثبات النعمة الإلهية. ويظل السؤال: ألَا يستطيع الطب إطالة الحياة أو تغييرها؟ وقد يتم ذلك قصدًا أو خطأ؟ ومع ذلك فنحن بحاجة إلى الطب لمعالجة أجسادنا.
والقضية في الموت هل يقع مبكرًا أم مؤخرًا؟ وفي كلتا الحالتين يموت الألم والحزن عند الآخرين، والمخلِّص الوحيد هو الشجاعة الرجولية.
وفلسفة الطبيعة تقوم على اجتماع القوة والجودة، القدرة والكفاءة. وكل شيء في الطبيعة له مذاق مثل الخضراوات إلا المسيحية ما عدا الروح مثل الجسد.
(ﻫ) القيم الخلقية
تطورت التقوى تاريخيًّا من مرحلة إلى مرحلة حتى وصلت إلى مرحلة النفاق، التقوى في الظاهر وفساد في الباطن. وهي نظرة تاريخية بطريقة هيجل ولكن ليست من الأنقص نحو الأكمل بل من الأكمل نحو الأنقص. فواضح أن فيورباخ هو لوثر الثاني الذي يصحح المسار التاريخي. البذرة تصبح كوز ذرة لأن التطور التاريخي مصيرها. والتقوى تستدعي التضحية بالجسد العذري من أجل نقاء الروح. وهو ما عبَّر عنه سارتر في مسرحية «المومس الفاضلة» مع الأتقياء المظهريين تحلل الأشياء. ومع الأتقياء الحقيقيين تتجمع الأشياء. والأتقياء المظهريون يُصدرون أصواتًا مثل الطيور، والأتقياء الحقيقيون لا يتعصبون. بل المتظاهرون بالتقوى يتعصبون حتى لا ينكشف أمرهم. والتقوى طريق الخلاص، وهناك الأتقياء الدجالون. وما أكثرهم لدينا في أجهزة الإعلام. وقد فُصل أحد أساتذة الجامعة لأنه وصف أحدهم بما يستحق. والهدف الخفي للجماعة التقية هو جمع الأموال وتأسيس شركات توظيف الأموال، والشركات التجارية، وجمع الصدقات. فالتقوى طريق إلى رأس المال. وكثير يأخذون على الأقل في اللغة الأصلية، والرواية والتدوين. وكيف يكون للأتقياء أطفال وهم قادرون على إنجابهم من الروح القدس. والتقي المزيف يرد بسرعة حتى لا ينكشف أمره. والتقوى تمنع الخطيئة، وتخيف الشيطان. وينتصر الروح على التقوى إذا ما انحرفت عن مسارها. وتقوم التقوى على الضعف. فتثير الشفقة أكثر مما تبعث على الخطيئة. والسؤال للتقي: ما الذي عنده وليس عند الآخرين؟
والمحبة هي التي تخلِّص من قرص الشيطان، وهي التي تنقذ الإنسان من الأخطاء. وتعود على الأناجيل أن تعود على الآخر؛ لذلك قيل «الله محبة». ويكون الروح في عون المحب لأن المحبة هي التي تربط بين الله والإنسان، الحبيبين، الحبيب والحبيب.
والورع نوعان: ورع ظاهري ويعني ادعاء الفضيلة والتقوى؛ وورع داخلي وهو الحساسية لعدم فعل ما لا يجب فعله. ويعبَّر عنه نثرًا أو شعرًا في صيغ قصيرة موجهة نحو الفعل. والورع له مآثر عدة منها النصر. وهو ما يُقال في اللاهوت التقليدي عن الإيمان. والورعون ينتصرون، بالورع والجماعة. ويشرح فيورباخ بطريقة إخوان الصفا لغة الطيور والحيوانات، موضوع الورع في قصة الثعلب والعنب. فالثعلب يكون ضعيفًا إن لم يصل إلى عنب الحياة وابتعد.
ويتوجَّه الورع إلى الأتقياء الذين يأكلون الطير ولا يشبعون. والناسك الورع سرطان أو نبات طفيلي. يصور الآخرين، خاوي الوفاض. وكذلك الصوفي الزاهد يسكن في زاوية. ويغري الناس أن شيئًا غريبًا عنده. والطبيعة وحدها هو هذا السرطان. وهو مثل سرطان البحر.
والتواضع هو كبرياء مجنون. ويُروى أن جوته وبتهوفن دُعيا إلى القصر. فوضع جوته كل شارات التكريم السابقة على صدره. ولم يضع بيتهوفن شيئًا. فمَن المتواضع ومَن المتكبر؟ ومعروفٌ تاريخيًّا أن كسرى فارس كان على العرش في قصره وأن محمدًا كان نائمًا تحت شجرةٍ هو وأصحابه، فمَن المتكبر ومَن المتواضع؟ يعزو التواضع الأعمال الخيرة للمخلِّص والشريرة للشيطان مثل الآية القرآنية الكريمة مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ. ويقوم الخير على الخير وليس على الإحساس بالخطيئة.
والمنافق في رداء الكاهن يقول بلسانه ما ليس في قلبه. وهو مثل الجبان على المنبر. والفريسي هو المنافق. وما يقوله هو المخاط في منديله. وهذا المنديل لن يقيد طالب الهواء النقي. والمظهر ليس وجودًا بل عدمًا كما عنون سارتر مجلده الرئيسي «الوجود والعدم».
وقاحة بلا حدود أن تتحد الطفيليات بالبستان المقدس. ومَن يتظاهر بالورع فإن ورعه بائس. فارتكاب الآثام بالأفعال. والأخطر ارتكاب الآثام بالفكر أي بالوجدان والضمير.
(و) إصلاح الدين
كان الدين قديمًا مدعمًا للدولة. والآن الدولة هي الداعم للدين. وفي كلتا الحالتين تقع المصائب. فالدين يبرر الدولة، ولا ينتقدها. لا يقوم بدور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وإذا دعمت الدولة الدين فإنه يكون لحسابها حتى يدعم الدين الدولة. والفصل بين الاثنين باسم العلمانية هو الأسلم. فالدولة نظام ديموقراطي ينتخبه الشعب بحكم الأغلبية. وتكون حكومة ائتلافية بين الأغلبية والأقلية.
كانت الكاثوليكية أشبه بالسَّلطة. الخس المضاف إليه التوابل وجاءت البروتستانتية فأزاحت التوابل وأبقت على الخس وحده. وهذا هو الفرق بين المسيحية الملطخة والمسيحية النقية. ويسهل تنظيف المسيحية الملطخة بالماء ليبقى الحجر أبيضَ ناصعًا. وذلك مثل البرغوث الذي يقرض الكفَّين المرفوعَين إلى السماء.
وتنتهي هذه التحليلات بالمضاربات بين التجار وكأن الفلسفة هي إثبات أن الدين أصبح تجارة، واللاهوت سلعة، والمسيح «حرفوش الحرافيش» بلغة نجيب محفوظ، ورجال الدين هم موظفو جمارك.
لقد صارع الأبطال القدماء طواحين الهواء. أما أبطال اليوم فإنهم يصارعون أوهام الشياطين. تائهون متجولون. فرسان العصر الحاضر تائهون لا يعرفون مَن العدو ومَن الصديق. جعلوا العدو صديقًا والصديق عدوًّا كما تفعل الأنظمة السياسية العربية الآن مع إسرائيل وتحولها من عدو إلى صديق. وإيران وتركيا وقطر من الأعداء. هم مطارنة الكنيسة في العصر الحاضر. وهم المهرجون على خشبة المسرح. والحزن عام لاشتعال البيت. وهو من علامات هذا الزمان.
ومن الظلم ألا يهتم الزعيم التقي بالشعب ليرشده إلى الطريق المؤدي إلى المساحات العريضة، المهم ألَّا يكون كالحمار في جلد الأسد. يبدو شجاعًا وهو جبان. ذكيًّا وهو أبله. قويًّا وهو ضعيف، ناجحًا وهو فاشل، صادقًا وهو كاذب، مطمئنًّا وهو مرتجف، ضاحكًا وهو حزين، متعلمًا وهو أميٌّ، محبوبًا وهو مكروه، مقبولًا وهو مرفوض، شرعيًّا وهو لا شرعي.
الطائر الحر يشاهد كل شيء بشكل مختلف، والطائر الحبيس في قفص يقوِّي نفسه باللاهوت. ويسبب اللاهوت الفتنة أو اليأس. لذلك يحتاج اللاهوت إلى ضربة مثل ضربة الإسكندر. والعلاج التام ليس اللاهوت، الدواء الفاسد ولكن بالموت.
وفي النشرة التعليمية يضع فيورباخ طريق التعليم الجديد الذي يقوم على تربية الشباب. ويضيع التعليم إذا انحرف المعلم، وتغيير التعليم المقدس يبدأ بتغيير اللاهوت القديم بكل شجاعة؛ لذلك على الفلسطينيين أن يتخلوا عن الجبن باسم المشاركة.
ولا يمكن إيقاظ العالم إلا عن طريق اللاهوت التقليدي لا اللاهوت الفلسفي، واللاهوت الهيجلي لا يحيي العظام وهي رميم. لقد استطاعت الفلسفة كسر عظام اللاهوت الدوجماطيقي، ولكن مَن ذا الذي سيكسر عظام اللاهوت الفلسفي؟ في الدوجماطيقية كل شيء موضوع في هياكل عظمية، في برلين حين يحاضر الأستاذ هناك العلم فأين التقوى؟
من على صدور الضواري يخرج الفن والفلسفة، ومن على صدور الفلسفات لا يخرج شيء أو يخرج اللاهوت العقائدي. والمرأة قادرة على طرد الأسود. فكما أن الرجل يندفع إلى المرأة بالطبيعة، تُدفع المرأة إلى الرجل بالطبيعة. وهو على نقيض ما حدث ليوسف مع امرأة العزيز عندما دفعتها الطبيعة نحو يوسف، ودفعت الطبيعة أيضًا يوسف نحو المقاومة.
وتنتهي التحليلات بأوضاع المرأة قبل الحديث عن حقوقها بقرن. تبدأ المرأة بعلاج نفسها من الأمراض ثم تتساوى المرأة مع الرجل في الوظائف. وقد تتفوق المرأة على الرجل كما هو الحال في بعض الأفلام المصرية مثل «مراتي مدير عام». والحجة التقليدية شرف المرأة وعرضها وكأن الرجل لا شرف له ولا عرض. وتنتهي تحليلات المرأة بوضع ثلاثة أسئلة حول مآثر النساء: الأول الخروج من الجنة والنزول إلى الأرض. والثاني خلق الذرية خلقًا طبيعيًّا، والثالث حرب طروادة والشِّعر مع توجيه نداء إلى الجنس اللطيف.
في اللاهوت التقليدي يتحول الإنسان إلى إله. وهو المسيح. والفلسفة التأملية يتحول الإنسان إلى إله مثل الحاكم. وفي فلسفة المستقبل يتحول الإنسان الإله إلى الإنسان العادي. وكل مرحلة فلسفية لها بدايات مستقلة؛ فاللاهوت العقائدي يبدأ من تأويل الدين. والفلسفة التأملية عند هيجل تبدأ من الدين الفلسفي. والفلسفة الجديدة، فلسفة المستقبل تحاول أن تتخلص من شوائب المرحلتين السابقتين في الدين، العقائد، وفلسفة الدين. اللاهوت العقائدي يثبت الإله. والفلسفة التأملية تفترض الإله. وفلسفة المستقبل تنفي الإله لأنه أدى غرضه وأكمل مهمته وترك الأمر بعد ذلك للإنسان. فالإنسان الإلهي هو الحقيقي، وهو الذي لا يحتاج إلى دليل. هو اليقيني من خلال ذاته. والإنسان متميز عن الحيوان بفكره طبقًا للمَثل الشائع «الإنسان حيوان ناطق.» لذلك فهو الوحيد القادر على أن يكون في علاقة مع الله بفكره وشعوره. وسر الثالوث ليس بين الأنا والأنت والهو بل هو سرٌّ اجتماعي، الفرد والمجتمع والصراع بينهما كما قدمه ماركس.
وفي اللاهوت التقليدي الله موضوع يتم التفكير فيه. وفي اللاهوت التأملي الله موضوع عقلي منزه. وهو التقابل بين التجسيم والتشبيه، أما اللاهوت الإنساني فيتصور الله منزهًا، ولكن الإنسان يسترد ذاته وصفاته وأسماءه منه. الله ذاتًا وصفاتٍ وأفعالًا وأسماء من اختراع الفلسفة التأملية بغية التنزيه والبعد عن اللاهوت التقليدي الذي يقوم على التجسيم. فمثالية الفلسفة المثالية رد فعل على اللاهوت العقائدي. وواقعية الهيجليين الشبان، الإنسان عند فيورباخ، والوعي الذاتي عند باور، والواحد الفرد عند شترنر، والمجتمع عند ماركس، ردود أفعال على المثالية أي الفلسفة التأملية من ديكارت وكانط إلى هيجل.
وفي الفلسفة الجديدة، الله موجود، والأرض موجودة، والإنسان موجود. فالله هو الأرض كما يقال في تراثنا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ. وفي اللاهوت التقليدي الإله يخلق الإنسان. وفي الفلسفة الجديدة الإنسان يخلق الإله، ويسميه بصفاته، ويجعل نفسه النهائي والإله اللانهائي. وهو تناقض صريح. والفلسفة الحديثة تغير علاقة الإنسان بدلًا من الإله الطبيعة، بدلًا من العلاقة الرأسية إلى العلاقة الأفقية، بدلًا من الغيبي الحسي.
وقد اتُّهمت وحدة الوجود بأنها إلحاد ولأنها إنكار للإله المتعالي المفارق للإنسان والطبيعة. وهو ما اتُّهم به ابن عربي من قبل بعد دفع وحدة الشهود وخطوة أخرى نحو الأمام بالانتقال من المشاهدة إلى الوجود، ومن الذاتية إلى الموضوعية. كما دفعت وحدة الشهود الوعي الذاتي خطوة أخرى إلى الأمام فأصبح لا يرى إلا الله. ووحدة الوجود في اللاهوت النظري نتيجة للتأمل. وفي التصوف العملي نتيجة للتصوف. وتعني ارتقاء المادة إلى المستوى الإلهي أكثر من نزول الإله إلى المستوى المادي. وحدة الوجود تصور في الذهن وليس له وجود في الواقع. لا توجد التصورات الكلية في الواقع بل فقط أجزاء منه قبل التجريد. هذه التحديدات الجزئية هي التي تشكل الموضوع وليس التصورات الكلية. وليس لوحدة الفكر والوجود أيُّ معنًى إلا إذا كان الإنسان أساس هذه الوحدة.
وتُسمى فلسفة وحدة الوجود أيضًا فلسفة الهوية التي يتطابق فيها الفكر والوجود. وهي فلسفة فارغة من أي مضمون، تطابق الأنا مع ذاتها. فالأنا هو الأنا؛ لذلك لا يوضع فعل الوجود بعد أنا لأن الوجود متضمن فيه. «أنا موجود» لا تعني شيئًا لأن الوجود ليس صفة للأنا بل هو الأنا ذاته. إنما صفة الوجود هو شيء في الواقع، جميل أو قبيح، غني أم فقير، عالم أم جاهل. ولم يستطع هيجل إلغاء التناقض بين الفكر والوجود سواء في «ظاهريات الروح» أو في «علم المنطق». وسيطرت عليه فلسفة الهوية. وهي فلسفة افتراضية لا تؤدي إلى أي شيء فعلي. فالوجود ليس حكمًا منطقيًّا بل هو وصف حسي لشيء في الواقع. والفهم ليس لشيء داخل الذهن بل لشيء موجود في الواقع العياني. الواقع هو الذي ينير التجريد. الوجود هو الواقع الحسي المرئي المسموع في الفلسفة الجديدة. وهي فلسفة المستقبل، الوجود هو الموجود الحسي وليس المعقول ذهنيًّا. وتقوم الفلسفة الجديدة على حقيقة الشعور وليس على حقيقة العقل وحده. في الفلسفة القديمة التفكير فيما هو موجود ذهنيًّا. وفي الفلسفة الجديدة لا يمكن التفكير إلا فيما هو موجود بالفعل. في الفلسفة القديمة الوجود قد يكون مجردًا. وفي الفلسفة الجديدة الوجود لا يكون إلا حسيًّا. ولقد أساءت فلسفة الهوية فَهْم المنظور الطبيعي للإنسان بأن جعلت الإنسان هو الإنسان وليس الإنسان الطبيعي. وتعني الهوية أن يكون الموضوع في العقل والقلب. وليس للتطابق مع الذات. والحقيقة لا توجد العقل ولا في الإدراك بل في مجمل حياة الإنسان. والإنسان في ذاته مفردًا يمتلك حقيقة الإنسان وتعني العزلة، والمحدودية، والنهائية. والجماعة هي الحرية. وهنا يظهر المجتمع لأول مرة معادلًا للحرية قبل ماركس الذي يجعله الضرورة التي يتحرر الفرد منها. الحقيقة خارج الأنا وليس الأنا وإلا تطابق الذات والموضوع والعودة من جديد إلى فلسفة الهوية. والجدل ليس بين الأنا والأنا بل بين الأنا والآخر أو بين الأنا والأنت.
والعقل عند هيجل تاريخي. والتاريخ هو عود إلى الوراء. في حين أن المطلوب هو العقل الذي يدفع إلى الأمام. العقل الذي يفكر في المستقبل وإلا أصبح سلفيًّا مثل كل الحركات السياسية المعاصرة. فالليبرالية مثل الطهطاوي وأحمد لطفي السيد وطه حسين. ويصبحون مثل ابن تيمية ومحمد عبده وسيد قطب. والماركسية هو ماركس ولينين وستالين. والقومية مثل ميشيل عفلق وصلاح البيطار وعبد الناصر. واتجاه الرجوع إلى الوراء، إلى نماذج ماضية. وهي ضد فلسفة المستقبل. الفلسفة الجديدة تضم الفن والعلم. ولا تعلي الدين. فكلها تعبيرات إنسانية. فالنشاط الإنساني يظهر في صيغة الفكر، والفن، والعلم ولا يطغى الدين عليها بحجة التحريم. الفكر الحر حرام، والفن حرام، والعلم حرام. وكل شيء في الطبيعة حرام. والتحريم هو التقديس. والحرام هو المقدس مثل المرأة، والفلسفة القديمة لها وجهان: الأول نسيان الإنسان في مركزها؛ والثاني وضع الإنسان في مركزها. فهي فلسفة مزدوجة الاتجاه.
الإصلاح إذن فقط للفلسفة التأملية الخالصة من نوع ديكارت وكانط وهيجل. كما أن إقصاء الدين من الفلسفة، واللاهوت من الدين، هو ما يُسمى الإلحاد. والإلحاد في الإسلام ليس هو إنكار وجود الله بل الذين يخطئون في أسمائه الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ. الإلحاد هو تحديد معنى المطلق أو اللامتناهي في الفلسفة التأملية حتى لا يكون اغترابًا أو وهمًا أي وجوده عدمًا. الإصلاح للميتافيزيقا وللمنطق اللذَين يبحثان في موضوعات متوهمة أو مجردة من أجل إرجاعها إلى الواقع الحسي أو التجربة الحية. هو إصلاح الروح المطلق عند هيجل من أجل معرفتها.
الإصلاح إذن مرحلة متوسطة بين الماضي والمستقبل، بين الهيجليين والقطيعة معها. وقد فضَّل الهيجليون الشبان لفظ «النقد». وفضَّل ماركس لفظ «نقد النقد». أما الإصلاح فهو مثل ما يُقال في الفكر العربي المعاصر. هو التجديد والتحديث. وهي اللفظة التي أُطلقت من قبل على حركة التجديد عند مارتن لوثر. واستقرت في الأذهان كسمةٍ للعصر كله، عصر الإصلاح الديني، القرن السادس عشر.
(ز) دعاوى لإصلاح الفلسفة
يشبه مشروع ضرورة إصلاح الفلسفة إذن مشروع التراث والتجديد في الانتقال من القديم إلى الحديث، ومن التقليد إلى الاجتهاد، ومن الماضي إلى الحاضر، والمتمثل في التحوُّل «من العقيدة إلى الثورة»، و«من النقل إلى الإبداع»، و«من النص إلى الواقع»، و«من الفناء إلى البقاء»، و«من النقل إلى العقل»، و«من الاستشراق إلى الاستغراب»، و«من التفسير الطولي إلى التفسير الموضوعي». وفي العلوم النقلية: علوم القرآن «من المحمول إلى الحامل»، وفي علم الحديث «من نقد السند إلى نقد المتن»، وفي علوم السيرة «من الرسول إلى الرسالة»، وفي علم الفقه «من أحكام الشريعة إلى أحكام الوجود».
ودعاوى فيورباخ هي عباراتٌ قصيرةٌ يتم شرحها، وكأننا في تفسير القرآن الكريم. وهي غير مرقمة، ولكنها حوالي أربع وستين دعوةً تختلف فيما بينها طولًا وقصرًا. ويأخذ موضوع واحد أكثر من دعوى.
ولا تعني الفلسفة الواقعية، كردٍّ على المثالية، فلسفةَ الوضعيين التي نزلت بالواقع إلى درجاته الدنيا. فأصبح واقعًا ماديًّا خالصًا. فالفيلسوف الوضعي مثل حيوان على بقعة جرداء. تقوده روح شمس تدور في دائرة تستدير وتستدير. وحولها من كل الجوانب توجد أرض جبلية، مليئة بالمراعي هي الطبيعة والإنسان. ها هي الطبيعة وها هو الإنسان. هنا أمام عينَيك توجد أسرار الفلسفة. فالحقيقة أقرب لنا من تصورات هيجل وحوله الفلسفة الجديدة. نفي كل الفلسفات القديمة خاصة المدرسية وهي نفيٌ لكل الفلسفات العقلية السابقة مثل ديكارت وكانط بل وهيجل. وإذا كان الإنسان هو الاسم القديم فإن الوعي الذاتي هو الاسم الجديد بعد إصلاح الفلسفة. والإنسان هو احتياجاته وأحاسيسه ووجوده وليس عقله فقط. وفي المثل المشهور «الإنسان حيوان ناطق». وكل تأمل في الحق والشخصية والحرية والإرادة هو أساس الدولة. والدولة أساس الإنسان. فكل خرق لحقوق الإنسان من الدولة يسقطها كنظام سياسي؛ لذلك ارتبط الله بالإنسان في المسيحية في عقيدة الله بالإنسان أو الإنسان بالله. وهو المسيح.
الوعي الذاتي ليس مفهومًا ميتافيزيقيًّا بل هو وعي من لحم ودم. هو وعي في جسم، وجسم في وعي. الوعي الخالص مجرد أمنية ولكن في الواقع وعي متجسد يألم. يمرض ويجوع. وهو وعي متناهي الجسد. إن إصلاح الفلسفة لا يأتي بتخليص اللامتناهي من المتناهي بل العكس تخليص المتناهي من اللامتناهي، والحقيقي من الزائف، والحسي من الغيبي، فالمسار الطبيعي للفلسفة هو تحولها من اللانهائي إلى النهائي، ومن الغيبي إلى الحسي، والتفكير المجرد إلى التجربة الحية. وهو شعور صادق عند كل فيلسوف. يتحدث بصدق وإخلاص. ويرى مساره الفلسفي في الزمان والمكان، ويحتاج إصلاح الفلسفة بمعنى إصلاح التفكير إلى إصلاح اللغة المستعملة. فقد يكون المعنى صحيحًا واللغة غير صحيحة. وقد يكون المعنى غيرَ صحيحٍ واللغة صحيحة كما قال علماء الحديث: قد يكون السند صحيحًا والمتن غير صحيح. وقد يكون السند غير صحيح والمتن صحيحًا. فاللغة جزء من الفلسفة، اللامتناهي خارج الزمان والمكان. والمتناهي في الزمان والمكان يعيش فيهما الفيلسوف. فالفلسفة تتعامل مع هذا الجانب الإنساني. وهو جزء من العقل الذي به النشاط الذهني، والقلب الذي به النشاط الحركي. والقلب به الإيمان والإلحاد، إيمان اللاهوتيين وإلحاد الفلاسفة. ويقوم الإيمان بالله على هذه القسمة بين العقل والقلب. كذلك هيجل وشلنج نقيضان. الأول يمثل العقل، والثاني يمثل القلب. وهيجل وحده يحل التناقض عند كانط بين الفكر والوجود بوحدة الوجود. فالفكر مرحلة من مراحل الوجود. والوجود مرحلة من مراحل الفكر.
(ﺣ) شذرات تتعلق بتطوري الفلسفي
والتأليف أشبه بمذكرات وملاحظات وشذرات يسميها فيورباخ تأملات مما يدل على أن الفكرة هي مجموعة من التجارب الحية التي عاشها. كما هو الحال عند الوجوديين والفينومينولوجيين كرد فعل على تقسيمات هيجل النظرية ومقولاته المجردة. فالتقسيم عند هيجل تقسيم رياضي متسق خاصة في علم المنطق.
وتنتهي التأملات بتحذيرات وردود. وهي فقرات تختلف بين القِصر والطول ولكنها أقرب إلى القِصر في موضوعات شتى، أخلاقية ودينية وميتافيزيقة.
فالهجاء يضم الأمور دون تغييرها. يثير النفس. ويبعث على الكراهية. وهو أكثر قوة من النظر بالعين المجردة. وأهم هجاء هو المعايرة، النقد بما فيه من عيوب. وكان يجب أن يكون موجودًا أو فيه. وكان يجب ألَّا يكون موجودًا والهجاء اللاذع جارح مثل جرح الطبيب. وتطالب السيدة تخفيف الجرح. واللاهوت القديم في حاجةٍ إلى جراحة، والمفردات الجراحية الجديدة غير مقبولة في جلسات الشاي. والساخر اللاذع هو مَن يدرس مصادر الشر ثم يحيلها إلى العامة. ليس الهجاء قارسًا ولكنه يحرق الشَّعر على الرأس. ومَن يفهم الشر من جذوره يكون قارسًا. تعرية الأوراق لا تؤذي الشجرة ولكن الهجاء يعري الشجرة من الأوراق.
والبخل هو ادخار اليوم للغد مهما تضور البخيل جوعًا. والبخل سوء إدراك للعلاقة بين الحاضر والمستقبل.
كان الحب عند القدماء ثلاثية غير شرعية. وهو عند المحدثين حب أب لابنته، شرعي من فعل الطبيعة دون تحليل أو تحريم. المتعة أساس الفعل وليس الواجب. وقد يكون أداء الواجب متعة وترقيًا للذات. ولا خوف من الطبيعة الإنسانية، الغرائز والميول التي تدعي التربية والسيطرة عليها. فهي جزء من الطبيعة. ولا خوف من الطبيعة. والإنسان قادر بنفسه على تهذيبها. ومَن يستطيع منع الشجرة من فروعها وأوراقها وثمارها وظلالها يمنع الحب. فالحب طبيعة. وموضوع الإنسان هو الحُب. الإنسان قادر على الحُب. فإذا تحوَّل من النهائي إلى اللانهائي أصبح هو الحُب الإلهي. الحُب خير والأنانية شر. فالحُب قادر على استدراج باقي الفضائل. وهو القادر على حل لغز الخلود. والحُب هو الذي يجعلنا نؤمن بالخلود، وأن هناك حياة أخرى نلتقي فيها بمَن نحب بعد الموت. الحُب إذن هو الطريق إلى الأبدية، والدنيوية أساس الأخروية. الحُب هو الذي يوحي بالخلود. وينشأ الألم عندما يؤخذ منا مَن نحب. وهو ضعف.
وتكشف الشذرات عن غياب موضوع المرأة في عصر رومانسي فإن الحب فيه موضوعه الأول. ومع ذلك تظهر المرأة ميتافيزيقيًّا. فإذا كان الحب هو تطابق الفكر والوجود فإن الرجل هو الفكر والمرأة هي الوجود. والحب هو الذي يشبع رغبة الإنسان في التطلع إلى عالم آخر. فالحب بديل عن الدين. والحب الأبدي يعني الحب النهائي. فالحب يعني نهائية الإنسان. فالحب هو الخلود.
الشذرات هي الخواطر التي تأتي على بال الإنسان دون انتظار أو التغريدات الإعلامية أو التعليقات القصيرة على الأحداث. وكلها نظرية واحدة في الأعمال الكبرى التي تعبر عن الفلسفة الجديدة مثل «جوهر المسيحية» أو «إصلاح الفلسفة» أو «فلسفة المستقبل»، وهي تنقسم إلى عدة أنواع:
-
شذرات تتعلق بتطوري الفلسفي.
-
محاضرات في تاريخ الفلسفة الحديثة (١٨٣٥م).
-
العالم صغير ولا بدَّ من الدخول فيه.
-
محاضرات عن المنطق والميتافيزيقا (١٨٢٩–١٨٣٢م).
-
وحدة العقل الشامل واللانهائي (١٨٢٨م).
-
أفكار حول الموت والخلود (١٨٣٠م).
-
أمثال فكاهية وفلسفية (١٨٣٤م).
-
يوميات (١٨٣٤–١٨٣٦م).
-
مبادئ الفلسفة (١٨٤٤م).
-
شكوك (١٨٢٧-١٨٢٨م).
-
أماكن: أنسباح (١٨٢٢م)، هايدليرج (١٨٢٤م)، برلين (١٨٢٥-١٨٢٦م)، بروكيرج (١٨٣٦–١٨٤١م).
ويمكن ترتيب هذه الذرات زمانيًّا لمعرفة دلالتها على التطور الفلسفي لفيورباخ. ولا يوجد فيها جديد. هي تكرار لأفكار «إصلاح الفلسفة» و«فلسفة المستقبل»، عن التحول من الأخروية إلى الأمور الدنيوية. فكل ما وراء له ما دونه هو الذي يتم التفكير فيه. ومنها بعض الرسائل للوالد العزيز يحكي فيها فيورباخ عن دراساته وتنقله بين الجامعات واستقراره على برلين. وينتقد فيها الفلاسفة مثل إيرهارد الفيلسوف في الظاهر دون الحقيقة. ويشرح لوالده كيف أنه قرر الانتقال من اللاهوت إلى الفلسفة واستقرَّ الأمر به على هيجل واستمع إليه في علم الجمال وعلم المنطق لديه هو مجرد التصورات القديمة مركبة تركيبًا جدليًّا. ويعبر فيورباخ عن شكوكه في كيفية تعلق الفكر بالوجود وبالطبيعة والمنطق في آنٍ واحد. وكيف ترتبط الفلسفة بالدين، وكلٌّ منهما مرحلتان مختلفتان في تطور الروح؟ وكيف تربط فلسفة هيجل الماضي بالمستقبل؟ لقد ركَّز هيجل على الماضي، ماضي الروح، وماضي المنطق، وماضي الفلسفة والتاريخ والدين والفلسفة، ولكن ماذا عن المستقبل؟
ونظرًا لأن الفلسفة تنبع من الحياة فإنها تقترب من الأمثال العامية والفكاهات الشعبية. فالكل يعبر عن التجارب الحية للأفراد والجماعات. كما أنها تعبيرات تسجلها اليوميات يومًا بيوم ودون صياغات عقلية وتصورات ذهنية. فالدين هو الحُب الأول للشباب قبل أن يتحول إلى حُب المرأة وكلاهما منه. فالحب للفن، للدين، أو للجمال الطبيعي.
وللإنسان أخطاء عليه أن يطورها حتى يدرك أهمية الفضائل المناقضة لها. فالأخطاء ما هي إلا مشاريع فضيلة. وسر الفضيلة هو العادة. فالتعود على الفضائل لا ينفصل عنها. وتغيير الرذائل إلى الفضائل بتغير العادات وليس بالوعظ والإرشاد. والرذائل والفضائل لا ينفصلان. والرذائل فضائل متخفية. وقد تكون الفضائل رذائل متخفية كذلك. والطبيعة قادرة على تصحيح الأفكار لأن الطبيعة لا تخطئ. وقد تكون الأخطاء أفضل من الفضائل لأنها تكشف عن ضعف الإرادة وسيادة الانفعالات على العواطف. وإذا كان الإنسان خطَّاءً فأكبر خطأ ألا يرتكب أي خطأ. والإثم أكبر من الخطيئة. يغيرها ويحررها. والذنب مثل الإثم. كلاهما لصيقان بالإنسان. ولا يحزن الإنسان من أخطائه لأنها تتحول عن قريب إلى فضائل. والإنسان مغرور تكبح الطبيعة جماحه. فلن يكون أضخم من الجبل أو أعلى من النخلة أو أقوى من الموج والريح. والإنسان يحمل أخطاءه دونما حاجة إلى قُضاة. عليه فقط أن يخلص ضميره. الحقيقة في الحياة بعد الأنا في الأنت. ويتحدث فيورباخ عن المنطق ليس بطريقة القدماء، أرسطو أم هيجل بل بمعنى أنه آلة للفلسفة. وهو أيضًا ما لا يخرج عن هيجل بكثير.
والبعض منها وصايا أخلاقية مثل ضرورة إخفاء الفضائل الإنسانية بدلًا من إخفاء أخطاء القديسين. وهو ما يعني التواضع الذاتي، والأدب في التعامل مع الآخرين وعدم الغرور بالثناء. ويحال إلى اللاهوتي العقائدي عند القديس برنار والقديس أوغسطين.
والأبدي هو الذي أبديته من أبدية الإنسان. والاعتقاد بالخلود في حالة المرأة هو اعتقاد مؤنث. وفي حالة الرجل اعتقاد نسوي. الأول المرأة الفرد. والثاني نوع المرأة.
الاعتقاد لا يحتاج إلى برهان. هو مجرد موقف ذاتي. الاعتقاد إيمان. والإيمان يند عن العقل. والاهتمام بالمستقبل لا يكون بإنكار الماضي بل بالتمتع بالحاضر، وهو يفكر في المستقبل. فالحاضر والمستقبل ليسا نقيضين مثل الماضي والحاضر أو الماضي والمستقبل. وخطأ الآباء هو تربية الأبناء على ما يريدون لا على التطور الطبيعي للأبناء. وتوقف القرارات وقتها، لا قبلها ولا بعدها. فكل ثمرة تُقطف في حينها. ولا داعي للتباكي على الحياة لأنها خدعة لاهوتية لتبرير البعث.
أما الفعل فهو ضروري، ولكن الفعل الحر أفضل مع التنازل عن الجزاء الأول. ويمر الوقت بسرعة أكثر في وقت النضج منه في وقت الشباب المملوء بالتناقضات.
والزمن هو منبع الشعور لأنه مصدر الذكريات الماضية كما هو الحال في البكاء على الأطلال في الشِّعر العربي القديم. وفي المكان الكل أكبر من الجزء. وفي الزمان الجزء أكبر من الكل في اللحظة المتميزة.
والاستنارة طريق إنارة القلوب والعقول. ومن وسائل التعليم المستنير أن يُعطى للمتعلم المقدمات وعليه أن يستنتج النتائج. ويرتبط الفكر بالمعرفة بأن يقدم الفكر الفرضية ثم تتحقق منها المعرفة. والغريب أن الذين يساهمون في تطور البشرية هم الذين لفظهم التطور من كبار اللاهوتيين. والعجيب أن الذي يجاهد في تقدم البشرية يطالب بالأجر عن عمله.
وبالرغم من أن فلسفة فيورباخ تدور حول الإنسان فإن الآخر يظهر عن بُعدٍ حين يتجلى عند ماركس في التحليل الاجتماعي. فلا يستطيع الإنسان أن يقول إنه سعيد بل إنه شقي بدونه. وهي تجربة شخصية تحتاج لمَن يكملها. ومن الأفضل أن نتوقع من الآخر القليل ثم الكثير حتى نكون أكثر واقعية ولا نصاب بالحزن إن لم يقدم ما ننتظر. وتتكون سعادته في الظهور أكثر مما هو عليه. وهو التظاهر والادعاء والغرور.
والكتابة للآخرين، وليس للنفس، إبلاغ للرسالة. وشلنج ما زال يتعلق بالفكر القديم. والسؤال هو: هل يتعامل الإله مع الشيطان ليضر الناس؟ لا تكفي معرفة الأنا بل يجب مشاورة الآخر وهو ما سماه هوسرل فيما بعد القصد المتبادل أو التجربة المشتركة. والتحية تحولني من لا شيء إلى شيء ما. وعلى الروح الآن أن تحرر نفسها من الدولة كما حررت نفسها من الكنيسة كما قال اسبينوزا في «رسالة في اللاهوت والسياسة» في إثبات أن حرية الفكر ليست خطرًا على الإيمان ولا على سلامة الدولة بل إن القضاء حرية الفكر فيه تهديد للإيمان ولسلامة الدولة.
(ط) محاضرات في تاريخ الفلسفة الحديثة
وهو أسلوب هيجل في محاضراته في تاريخ الفلسفة وفلسفة التاريخ والجمال وفلسفة الدين. وشرط ذلك هو القطيعة مع الماضي بكل قوة وحسم حتى تستطيع الفلسفة أن تبدأ من جديد كما قال ديكارت بالنسبة للسابقين عليه. وبالرغم من أن الكاثوليكية تُسمي العصر الحديث الخطيئة؛ لرفضه سلطة العقائد وتسلط الكنيسة فإن بقاياها ما زالت قائمةً. والجديد لا يعترف بالطين مع ماء الحماء بل ماء الحماء فقط بما فيه من وسخ، ويبقى على الطفل أن يكون نظيفًا. أما العصر الحديث فقد رد إلى الطبيعة اعتبارها.
إذن، أن يكون الإنسان صديقًا للطبيعة. يفكر بالانسجام معها، فالعلم المجرد يشوه الإنسان لأنه يبعده عن الطبيعة. والجسد مع الروح دائمًا. وانفصالهما هو الموت. ويركز اللاهوت القديم على الروح، والفلسفة الجديدة على الجسم.
(ﮐ) ضرورة إصلاح الفلسفة
وفي علم الكلام هناك فرقة الطبائعيين وعلى رأسهم النظام يقولون أيضًا بأولوية الطبيعة على الفكر والشرع كما تصوره فقهاء التحريم. ومنهم ثمامة بن الأشرس، الجاحظ، عمرو بن عبادة.
(ل) مبادئ الفلسفة
ويعود فيورباخ إلى طرح مبادئ الفلسفة. كان الله هو المبدأ الأول، والعقل الثاني والإنسان الثالث. والآن أصبح ذات الإله هو العقل وذات العقل هو الإنسان. وإذا كانت بداية الحكمة الخوف من الله فإنها لا نهاية لها. والروح الموضوعي عندي وعند الآخرين؛ وبالتالي فهي ذاتية. والسؤال هو: من أين يأتي الإنسان؟ سؤال عن الأصل الإنساني من الطبيعة ويعيش معها. وسؤال من أين تأتي الطبيعة؟ سؤال في اللاهوت التقليدي؛ وبالتالي يكون الإنسان في الطبيعة. وتأتي الثغرات المعرفية للطبيعة لأن المعرفة ليست من نوعها بل خارجة عنها ولا هدف لها. العلم لا يحل لغز الحياة لأنه أضيق منها بكثير بل يؤخذ من الحياة ذاتها. وكيف تنتج المادة من الروح؟ سؤال تصعب الإجابة عليه، والإنسان ليس بحاجة إلى طقوس تستعمل للتغطية على طبيعته. الإنسان وحده هو الذي يملك المعرفة دون توسُّط أي شيء. وعلى الأول أن يكون الأخير؛ فالأول هو الأخير من ناحية، والأخير هو الأول من ناحية أخرى، والخطأ في تصور الحياة خطًّا وليست دائرة. ففي الدائرة لا يوجد أول أو أخير. كل لحظة هي بداية ونهاية في نفس الوقت. فيورباخ إذن يحول الخط إلى دائرة، والرأسي إلى أفقي حتى ينتهي اللاهوت وتبقى الطبيعة. والمبدأ هو الأنا. والآخر هو الأنا كذلك. وأول واجب على الإنسان أن يكون سعيدًا حتى يجعل الآخرين سعداء، وذلك يمنعني إدانة الأنانية أي عدم حب الآخرين. الفلسفة هي الشغل الشاغل للإنسانية، والإنسان هو الشغل الشاغل للفلسفة. وقد كان التفكير هو هدف الحياة. والآن الحياة هي الهدف من التفكير. والحقيقة ليست في داخل الكتب بل في داخل الإنسان كما قال الصوفية. ودين الآخر هو فلسفته. فالأنا تشعر بما عندها أولًا قبل أن تشعر به عند الآخر. والسؤال عن وجود الأنا لا يحتاج ردًّا آنيًّا دون انتظار العودة إليه.
والفلسفة تبدأ من الدين كما هو الحال عند الهيجليين. وتبدأ من العقل أي من ذاتها كما هو الحال لدى فيورباخ وباور، أو من المجتمع كما هي عند ماركس. فإذا نشأت من الدين فإنها تتجاوزه حتى لو تأمل الإنسان في موضوع واحد هو المطلق أو الحياة بعد الموت. فما يهم في الفلسفة هو نقطة البداية كما هو الحال عند ديكارت في الكوجيتو أو عند هوسرل الكوجيتاتوم. الأول الأنا أفكر وتابعه سارتر. والثاني الأنا موجود بعد استبعاد الدين، والله في كلِّ أشكاله، والوحي، والنبوة، والإيمان.
والفلسفة تبدأ من ذاتها وليس من أي مُعطًى آخر. هي إذن أقرب إلى المنهج منها إلى الموضوع؛ لذلك تبدأ بالموضوعات الغيبية، اللامرئية اللامحسوسة قبل العلم بل تبدأ من الوعي الذاتي الذي يفكر في نفسه أولًا قبل التفكير في الغير. الفلسفة ذات وموضوع في نفس الوقت. ذات تفكر في ذاتها. وموضوع تفكير للذات. فالذات ذات وموضوع في نفس الوقت. والموضوع موضوع وذات في نفس الوقت. وكما هو الحال في الظاهريات إحالة متبادلة بين الذات والموضوع. كلاهما واجهتان لشيءٍ واحدٍ هو الوعي الإنساني.
والقضية في التحول من الدين إلى الفلسفة ليست قضية التحول من الإيمان إلى الإلحاد، كما فهمها الغرب، بل هي قضية مضمون الإيمان الصحيح وليس الإيمان المغترب، الإيمان بماذا؟ بالغيبيات التي لا برهان عليها أم بالدنيويات التي يعيش فيها الإنسان؟ فالإيمان في الإسلام إيمان بالوعي ومجتمع أفواه. أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ. فالدين علاقات اجتماعية. والمجتمعات طبقاتها قسمان. الأولى: محرومة من الخدمات الأولية مثل مياه الشرب. والثانية: تسكن في قصر مشيد وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ. كما تنهار بتراكم رأس المال عند واحد وحرمان الآخرين منه. فالأخ الذي لديه تسع وتسعون نعجةً يطلب من أخيه الذي لديه نعجة واحدة أن يعطيَها له.
(م) مبادئ فلسفة المستقبل
والتقسيم الثلاثي هو ما بدأه لسنج في «تربية الجنس البشري». المرحلة الأولى هي مرحلة الطفولة عندما كانت الإنسانية ما زالت تعتمد على الحواس والغذاء من لبن الأم حتى مرحلة الفطام. والثانية هي مرحلة الصبا عندما عاشت الإنسانية وجدانها وعواطفها كما يفعل المراهق وهي مرحلة المسيحية. والثالثة هي مرحلة الكمال. ولا تحتاج إلى أي عون خارجي. وهي مرحلة التنوير الذي يبلغ فيها الإنسان استقلال العقل وحرية الإرادة. وهي المراحل الثلاث في تطور الوحي أيضًا من اليهودية إلى المسيحية إلى الإسلام الذي يبلغ فيه الإنسان مرحلة اكتمال العقل وحرية الإرادة قبل التنوير بعشرة قرون.
هناك إذن مراحل ثلاث: اللاهوت العقائدي الذي يتحول إلى الفلسفة التأملية التي تتحول إلى الفلسفة الإنسانية. وقد حددت الفلسفة القديمة المطلق بأنه يتجاوز الإدراك الحسي، ومع ذلك فقد جعلته موضوعًا للفنون التشكيلية. جوهر الدين وجوهر الفن جوهر واحد وهو التعبير الحسي المرئي. وفي الإسلام السمعي. فالقرآن خليفة الشِّعر، فن العرب. والدين والفن يدخلان الشعور عن طريق الحواس. ونحن ما زلنا نعيش في المرحلة الأولى، مرحلة اللاهوت العقائدي ولم نتحول بعد إلى مرحلة الفلسفة التأملية التي تُتهم بالكفر والإلحاد والخروج على إجماع أمة، بالرغم من أن العقل فيها يُستخدم دفاعًا عن الدين ووعظًا فيه. وبقيَت المرحلة الإنسانية. وتوقفنا على المرحلة الأولى هو سبب فشل محاولات الإصلاح خوفًا من المرحلة الثانية، بل إن محمد عبده الذي يؤخذ نموذجًا للإصلاح العقلاني في رأيه أن النقل في حاجةٍ إلى وحي. وأن هذا الوحي هو النبي، خطوة إلى الأمام ثم خطوة إلى الخلف. ثم تأتي الثورات في المرحلة الثالثة فلا تجد الأرض ممهدة بالعقلانية التي لم يكتمل دورها بعدها. فترد إلى أشد أنواع السلفية وتتغلب على ثورة مضادة وأقسى من الملكية والإقطاع والاستعمار أي مضادات الثورات الأولى.
- (١)
بها كثير من التكرار عن التحول من الثيولوجيا إلى الأنثروبولوجيا، ومن الله إلى الإنسان، ومن الفلسفة التأملية إلى الفلسفة الواقعية.
- (٢)
عدم تحقيق هذه الفكرة الرئيسية في فروع لاهوتية أو فلسفية أو سياسية حتى يمكن إدراك أهميتها. بقي في العموميات دون تحقيقها في الجزئيات.
- (٣)
الأسلوب الإنشائي الذي هو أقرب إلى الخطاب الأدبي منه إلى الخطاب الفلسفي. وقد يكون ذلك بسبب عصر الرومانسية؛ جوته وبيتهوفن. وقد يكون بسبب الانفعال الشديد بالموضوع. وهو نقد الخطاب الصوري المجرد لأستاذه هيجل. وهو لا يفرق كثيرًا عن غيره من الهيجليين الشبان، باور وشترنر وماركس.
- (٤)
الفلسفة الجديدة هي لاهوت جديد يقوم على نزعة صوفية تأملية من وحدة الوجود. فما زال اللاهوت مسيطرًا على الفلسفة الجديدة. ولم ينجُ منه إلا شترنر وماركس.
- (٥)
فلسفة المستقبل هي فلسفة تأملية جديدة لا تختلف عن فلسفة الأستاذ حتى لو كان مركزها الإنسان لا يظهر العملة كنقيض للتأمل كما هو الحال عند ماركس.
- (٦)
نهاية الإنسان الفرد دون الوصول إلى الآخر أي إلى المجتمع وصراعاته. الله إنسان والطبيعة إنسان، والإنسان فرد. ثم يكمل شترنر الإنسان إلى الإنسان الوجود، وماركس الإنسان إلى الإنسان الاجتماعي.
- (٧)
ويظن الذين يؤمنون بالخلاص أن فلسفة المستقبل هي التي ستخلصهم من أزمتهم الحاضرة. ومع ذلك لا يجدون إلا تطورًا للفكر الغربي من العصر الوسيط إلى العصر الحديث بشقين ما قبل هيجل وما بعده. فتظل فلسفة المستقبل في إطار تاريخ الفكر وليست في الوسائل العملية لإنقاذ الإنسان.
- (٨)
تبدو الفلسفة الجديدة قطعية. هي وحدها الحل لكل الفلسفات القديمة. وهذا ضد الفلسفة التي تقوم على التعدد في الرأي. لم يستطع فيورباخ أن يتخلص من قطعية الأستاذ. وقابل قطعيته بقطعية أخرى، قطعية التصور بقطعية الإدراك الحسي. وكلاهما احتمالان؛ الأول لأنه يقوم على التصور، والثاني لأنه يقوم على الإدراك الحسي. وقد يكون إدراكًا خاطئًا.
(٤) كارل ماركس (١٨١٨–١٨٨٣م)
كارل ماركس هو آخِر الهيجليين الشبان الذي نقلوا اليسار الهيجلي من نقد الدين والفكر والأيديولوجيا إلى نقد المجتمع، ونقد الاقتصاد السياسي ونقد التاريخ. وأصبح مؤسس الشيوعية والاشتراكية العلمية والمادية التاريخية والاقتصاد السياسي وعلم الاجتماع وعلم اجتماع بروليتاريا العالم. ما يهمنا هو ماركس الشاب الفيلسوف الهيجلي اليساري الهيجلي. وليس ماركس الذي انقلب على مثالية الشباب إلى علم الاقتصاد السياسي، فذاك أدخل في الاشتراكية العلمية. وفي مؤلفات الشباب تظهر القطيعة مع المثالية الدينية التقليدية في طريق قراءة اليونان في رسالته للدكتوراه ثم في تحليله لثورة العصر. كما شنَّ هجومًا قويًّا على مثالية هيجل لرجعيتها ومحافظتها ولبيان التناقض بين المبادئ المعلنة والوقائع التي تفسرها.
ويكون التحرر للعالم كله بدلًا من تحرير اليهود وحدهم كما أراد موسى هس باسم الصهيونية، وبدلًا من تحرير اليهود عن طريق تحرير المسيحيين وتحرير ألمانيا باسم البروليتاريا العالمية وتحرير العمال والدخول في الصراع الطبقي أي عن طريق الماركسية. فلا فرق بين يهودي ومسيحي، بين الألماني وغير الألماني. إنما الفرق بين الغني والفقير، بين صاحب رأس المال والعامل، بين المُستغِل والمُستغَل. ثم حلل وضع العالم في المجتمع الرأسمالي. وظهرت لديه مفاهيم التشيؤ والاغتراب فاعتبر فيورباخيًّا. وفي نقده للهيجليين الشبان أسس «نقد النقد». وبين ضرورة تغيير العالم عن طريق الأفكار. وأحدث قطيعة بين الفكر والواقع، وبين المثالية والبروليتاريا. وأعلن أنه قد آن الأوان للانتقال من فهم العالم إلى تغييره عن طريق وضع برنامج عمل ثوري لتغيير الوضع القائم. وبعد فشل الثورة لجأ ماركس إلى عدة كتابات تجمع بين المفكر والصحفي لتحليل الحوادث والوقائع. ثم انعزل وأراد تنظير ذلك كله في عمل نظري صرف يبقى بعيدًا عن مثالية العصر وحوداثه بداية بكتاب «نقد الاقتصاد السياسي» ونهاية بمجلده الضخم «رأس المال».
وإجابة على السؤال الدائم: ما دور العقل في الوعي الأوروبي كما مثله اليسار الهيجلي؟ هل كان مبررًا للإيمان كما كان الحال عند اليمين الديكارتي والكانطي أم أساسًا للإيمان كما هو الحال عند اليسار الديكارتي، اسبينوزا؟ الحقيقة أن الهيجليين الشبان استطاعوا الخروج على هذا التبرير العقلي للإيمان بصرف النظر عن درجات هذا الخروج. فقد أعلن شترنر أنه لا يوجد إلا الإنسان، الأوحد، الفرد الصمد بلا إله أو آخر أو مجتمع أو دولة. واللاهوت عند فيورباخ علم إنسان مقلوب أو إسقاط للإنسان من نفسه على الله. والعقائد الدينية منذ شتراوس حصيلة للأساطير المقارنة ولتاريخ الشعوب المجاورة، وإفراز من حضارتها. والنص الديني عند باور نشأ وتطور في التاريخ. وهو يعبر عن حالة الجماعة المسيحية الأولى. والأيديولوجية الألمانية بالرغم من مهاجمة ماركس وأنجلز لها لمثاليتها تعتبر أكبر تعليق جذري للعقل وإلى أبعد الحدود سواء فيما يتعلق بالتيار الفكري والعقائدي أو فيما يتعلق بالتيار الاجتماعي عند الاشتراكيين المثاليين. كما أن وضع الدين في الغرب، وكما وصفه ماركس، إفراز للأوضاع الاجتماعية، والتركيب الطبقي أحد وسائل استقلال الطبقات المحرومة أو إفراز عن حرمانها. والدين أفيون الشعوب وزفرة المضطهدين.
- (١)
النقد التاريخي للكتب المقدسة، وهو العلم الذي نشأ في العصر الحديث على يد اسبينوزا ورتشارد سيمون وجاك أوستريك. وسار فيه فلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر والمجددون الكاثوليك في القرن العشرين من أجل تتبع نشأة العقائد أولًا كتجربة حسية للأحوال النفسية للجماعة ثم تدوينها في النصوص الدينية. وهي عقائد تحكمها قوانين علم النفس الاجتماعي من حيث الرواية الشفاهية وقوانين نقل التراث المكتوب من حيث هي روايات مدوَّنة.
- (٢)
تاريخ الأديان المقارن، وهو العلم الذي يحاول دراسة كل الظواهر الدينية دراسة اجتماعية محضة مثل ظاهرة التقديس أو العبادة أو أفكار المطلق والموجودات العلوية، وكذلك دراسة الأساطير المقارنة والعثور على أبنيتها النفسية التي تنتج أساطير مشابهة عند مختلف الشعوب.
- (٣)
الدين كعلم إنساني. فهناك علم النفس الديني لدراسة الأحوال النفسية للمتدينين وعلم الاجتماع الديني لدراسة الظواهر الدينية من حيث هي ظواهر اجتماعية، وعلم الاقتصاد الديني لدراسة الصلة بين الاقتصاد والدين أو بين الأبنية الاقتصادية والتصورات الدينية. والرأسمالية والبروتستانتية أو الأشعرية والاستبداد مثلًا.
- (٤)
تطور الدين في التاريخ. ويتم ذلك عن طريق دراسة الحركات العلمانية والتيارات الإنسانية والحركات الثورية التي اتُّهمت بالإلحاد ظلمًا وهي تعبير صادق عن مقاصد الوحي. وهي التيارات الفكرية التي تدعو للعقل دون السر، وللحس دون الخرافة، وللحرية وليس الجبر، وللثورة وليس الاستغلال، وللعلمانية وليس الكهنوت، والتركيز على الإنسان لأن الله غني عن العالمين.
وعلى هذا النحو يمكن تطوير الدراسات الدينية التقليدية عن الشخصيات أو العقائد أو الطقوس، والتي يغلب عليها طابع الفخر بالماضي والاعتزاز بالسلف طلبًا لاستحسان الجماهير. هذه الدراسات التي تجعلنا نعوض عما نحتاجه بإشباع رغباتنا عن طريق التأمل في النموذج الفردي الذي تحقق لأول مرة في تاريخنا القديم.
كارل ماركس هو الوحيد الذي استطاع أن يخرج من عباءة الميتافيزيقا. «الوحيد وما يمتلك» لشترنر، و«الوعي الذاتي» عند باور، و«اللاهوت الإنساني» عند فيورباخ إلى المجتمع وصراع الطبقات وعلم رأس المال في سيرة التاريخ بدلًا من الله والإنسان. وهو الذي تخلَّص من بقايا الهيجلية عند زملائه من اليسار الهيجلي، وهو الذي استكمل ما بدأه باور في «المسألة اليهودية» عندما بدأت تطرح نفسها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر قبل النازية بأقل من قرن من الزمان، وقبل أن تبدأ الماركسية الجديدة في النصف الثاني من القرن العشرين.
ومؤلفات الشباب عند ماركس كثيرة قبل أن يتوقف لمدة خمسة عشر عامًا لكتابة «رأس المال». وهو في المتحف البريطاني. وهما نوعان؛ الأول لماركس بمفرده مثل «نقد الدولة الهيجلية» وهو في السادسة والعشرين «مخطوطات ١٨٤٤م» وهو أيضًا في السادسة والعشرين، و«نقد الاقتصاد السياسي» وهو في الحادية والأربعين. وما يتعدى مرحلة الشباب التي تدور معظمها في السادسة والعشرين مثل «العائلة المقدسة»، و«بيان الحزب الشيوعي» وهو في التاسعة والعشرين، و«الأيديولوجيا الألمانية» و«صحيفة رينان الجديدة» وهو في الثلاثين. والثاني مع صديقه أنجلز (١٨٢٠–١٨٩٥م) مما يعني أن التأليف المشترك ممكن إذا كان الموضوع خارج دائرة الذات والرأي الخاص. وهو ما سُمي فيما بعدُ الموضوعية.
ومؤلفات ماركس حسب الترتيب الزماني هي:
(١) بيان الحزب الشيوعي
وواضح من العنوان الدخول في التنظيم السياسي، ووضع برنامج له، وأن اليسار الهيجلي انتقل من مرحلة التنظير إلى مرحلة الفعل، ومن التفكير للممارسة. ليست البداية بالروح أو المنطق بل بتنظيم حزبي، «الحزب الشيوعي». ولأول مرة تظهر كلمة شيوعي وتعني المشاركة في الأموال دون ملكية خاصة التي هي السبب في وجود الأغنياء والفقراء. وهو كُتيِّب صغير كالمنشورات السياسية التي تُوزَّع في أدبيات الحزب. وبالإضافة إلى قصره. هو واضح سهل القراءة والفهم. ولا يتميز ما كتبه ماركس عما كتبه أنجلز كما هو الحال في «العائلة المقدسة» التي كتب كلٌّ منهما فيه عدة فصول أو اشتركا معًا في كتابة فصلٍ أو فصلين. وهو ثلاثة أقسام أكبرها الثالث: الأول «البرجوازيون والبروليتاريون». وهو التقابل الشهير في الماركسية بين الأغنياء والفقراء، بين أصحاب المال والعمال. والثاني «البروليتاريون والشيوعيون»؛ وبالتالي المجتمع من ثلاث طبقات، عليا وهم البرجوازيون، ووسطى وهم البروليتاريون، ودنيا وهم الشيوعيون. فالبروليتاريون مهددون بالانقسام إما إلى أعلى للحاق بالبرجوازيين أو إلى أسفل فيكونون طبقة جديدة وهم الشيوعيون. والثالث «الأدب الاشتراكي والشيوعي». وهنا يبدو الفرق بين الشيوعية والاشتراكية، الشيوعية التي ترفضها المجتمعات العربية والاشتراكية التي تقبلها معظم المجتمعات العربية فيما يُسمى باسم «الاشتراكية العربية» التي تتميز عن الاشتراكية الشيوعية بالسلام الاجتماعي وتشجيع القطاع الخاص، وتأكيد الحرية الفردية أو «التصنيف العربي للاشتراكية». فالاشتراكية واحدة كهدف ولكن تختلف في وسائل تطبيقها طبقًا للثقافات الوطنية.
وفي القسم الثالث، يقسِّم ماركس الكتابات الاشتراكية الشيوعية إلى أربعة أنواع: الأول الاشتراكية الرجعية وهي الاشتراكية التي تقوم على الإحسان وتفضيل الأغنياء على الفقراء من خلال الزكاة أو الكفارات دون أن يكون ذلك حقًّا للفقراء في أموال الأغنياء وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ. والتي تنقسم بعدها إلى ثلاثة أنواع: الاشتراكية الإقطاعية التي تعتمد على كرم الإقطاعي. اشتراكية البرجوازية الصغيرة التي تتمثل عندنا في موائد الرحمن في رمضان، والصدقة على جمعيات الأورام، وكبار السن. والاشتراكية الألمانية أو الاشتراكية الحقيقية. فماذا تعني حقيقة؟ كل طرف يعتبر اشتراكيته حقيقية دون الأخرى. والنوع الثاني الاشتراكية البرجوازية المحافظة. والنوع الثالث الاشتراكية والشيوعية النقدية اليوتوبية. ثم يحدد ماركس وأنجلز موقف الشيوعية من باقي أحزاب المعارضة الأخرى.
وهناك محاولات أخرى لنقد العقل العربي، بنية وتكوينًا. وهو التراث الإسلامي الذي شارك في صنعه العرب وغير العرب من الفرس والترك والهنود والأفغان، وهو يتأثر بالمنهج الغربي في التحليل وإن كانت المادة باللغة العربية. وهناك تحديث العقل العربي بمعنى إصلاحه. والعقل لا جنسية له، ولكن الخلاف في طرق التفكير.
وهناك قومية عربية أقرب إلى التيار السياسي منها إلى الفلسفة النظرية روَّج له المفكرون القوميون. والأقرب إلى الموضوع هو الفكر العربي، وليس الفلسفة العربية لأن الفلسفة العربية ما زالت تتأرجح بين التراث القديم والتراث الغربي وليس مثل الفلسفة الألمانية التي لها جذورها عند كانط وهيجل وفشته وشلنج شوبنهور.
(٢) نقد الدولة الهيجلية
ويتوجه ماركس مباشرةً إلى أعمال هيجل السياسية مثل «مبادئ فلسفة الحق» أي التوجه إلى الواقع مباشرة دون المنهج أو المذهب الهيجلي. والواقع هو الواقع السياسي أي الدولي حتى يتحرر المجتمع من سلطة الدولة، من الروح في التاريخ.
ينتقد ماركس جزئيات مبادئ القانون التي تقوم عليها الدولة. ثم يقسِّم السلطة إلى ثلاث: ملكية وحكومية وقضائية. وهو المعروف الآن باسم السلطات الثلاث: التنفيذية، والتشريعية، والقضائية.
وقد حاول بعض الإصلاحيين نقد نظام الخلافة أو الدولة الإسلامية إما برفضها، والفصل بين الدين والدولة مثل علي عبد الرازق في «الإسلام وأصول الحكم»، أو جعله دولة ليبرالية مثل السنهوري في «نظام الخلافة»، أو الدفاع عنها مثل رشيد رضا في «الخلافة أو الإمامة العظمى» ردًّا على ما حدث في تركيا من مصطفى كمال أتاتورك ورد فعلٍ على إسقاط الخلافة، وما زالت «الحاكمية لله» شعار الدولة الإسلامية عند الإخوان المسلمين. وما زال الصراع دائرًا بين الإخوان والسلفيين من جانبٍ والعقلانيين والعلمانيين من جانبٍ آخر. ولا حل له إلا أن تكون الحاكمية للشعب أو البروليتاريا بتعبير ماركس. وهو حل اليسار الإسلامي أن يكون الإسلام وسيلة أي الثقافة الشعبية للناس والتحرر والتنمية والوحدة غاية. والتيار السلفي يعرف كيف يقول الإسلام، ولكنه لا يعرف ماذا يقول، مضمون الخطاب العصري وحاجات الناس. والخطاب العلماني يعرف ماذا يقول، العقل والحرية والعدالة الاجتماعية، ولكنه لا يعرف كيف يقول. يستعمل ماركس أو ميشيل عفلق. واليسار الإسلامي يعرف كيف يقول، الإسلام كأداة للتدين، وماذا يقول، التقدم والإصلاح وحقوق الإنسان؛ ولذا اتُّهم من السلفيين بأنه شيوعي. ومن العلماني بأنه سلفي. ومن أجهزة الأمن بأنه إخواني شيوعي.
وفي فكرنا المعاصر تتحول الدولة إلى دولة استبدادية فاسدة باسم الحاكمية لله، وهي الدولة الدينية أو باسم النظام اللافوضوي وهي الدولة العسكرية. الدولة إما دولة قريش أو دولة الجيش، ولا فرق بين أخونة الدولة وعسكرة الدولة. وانتهت الشورى الصريحة في القرآن الكريم وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ، ووَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ. بل إن الدولة أصبحت بالتوريث ملكية أو جمهورية. وفي القرآن صراحةً إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً. والوراثة في القرآن للنبوة وليس للحكم، توريث إسحق ويعقوب، وداود وسليمان.
(٣) مخطوطات ١٨٨٤م
وتبدو المفاهيم والمصطلحات الماركسية في هذه المخطوطات الشيوعية، الاشتراكية، رأس المال، تراكم رأس المال، الملكية، العمل، الثروة، المال أي في هذه المرحلة المبكرة من حياته لسرعة تخلصه من الأستاذ والتلاميذ الذين ما زالوا يعيشون في كنفه. كما ينتقد بوضوح جدل هيجل الأشبه برقصة السيوف بلا قتالٍ.
أما «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي» فكتبه ماركس وهو في الحادية والأربعين بعد سن الشباب؛ لذلك لا يعتبر من أعمال الشباب. وواضح استقرار ماركس على علم جديد. ليس هو اللاهوت أو الفلسفة لزميله فيورباخ، ولا الروح أو المنطق للأستاذ. وهنا يبدأ الفكر الألماني يأخذ منحنًى جديدًا هو المنحنى العلمي في نقد الاقتصاد السياسي. وهي نفس مفاهيم مخطوطات ١٨٤٤م مثل رأس المال، التجارة، دوران المال، القيمة، نظريات العلاقة بين المقياس والقيمة، وطرق الدفع. ويركز على الأحجار الكريمة والاستهلاك والإنتاج والتوزيع، والتبادل. ومع ذلك يظهر التاريخ في تاريخ تحليل البضاعة. كما يظهر المنهج في تحديد منهج الاقتصاد السياسي، وليس مجرد الجدل في علم المنطق كما فعل الأستاذ.
وهنا خرجت الفلسفة من ميدانها التقليدي، المفاهيم والتصورات النظرية إلى تحليل الظواهر الاقتصادية الخالصة كردِّ فعلٍ عنيف ومضاد للأستاذ.
وهنا يخطئ الماركسيون العرب بالبداية بالاقتصاد السياسي بتحليل الظواهر الاقتصادية الخالصة دون المرور بفيورباخ أولًا للانتقال من اللاهوت العقائدي إلى الفلسفة الواقعية أولًا. فإذا فشلت الثورات عاد اللاهوت العقائدي بأبشع ما يكون لأن العقدة لم تُحل بعدُ. والسؤال هو: هل نجح ماركس في هذا التحول أم أنه يستبدل بالمفاهيم الفلسفية المنطقية مفاهيم اقتصادية خالصة؟
وفي تراثنا القديم قامت العلوم الإسلامية كلها خارج الزمان والمكان بالرغم من انبثاقه منهما مثل علم الكلام والتصوف. واعتنت بالأبنية الفوقية وليس بأسسها التحتية باستثناء ابن خلدون الذي درس الحضارة العربية الإسلامية في إطارها الزمني التاريخي؛ لذلك يعتبره الدارسون شرقًا وغربًا ماركس العرب كما يعتقدون أن ابن خلدون ماركس الغرب. اعتنى به علماء الاجتماع وترجموه منذ عدة قرون. والتشيع ردُّ فعلٍ على الحياة اللاشرعية. كما أن التصوف رد فعل على حالة العجز والخوف من السلطان واستدعاء السلطان الأكبر عليه. والفقه تعبير عن مصالح الناس المتغيرة في الزمان والمكان. وأسباب النزول تعني أولوية الواقع على الفكر. والنسخ يعني أولوية التطور الزماني على التشريع.
ثم كتب ماركس باقي مؤلفات الشباب مثل «العائلة المقدسة»، و«بيان الحزب الشيوعي»، «الأيديولوجية الألمانية»، و«الجريدة الرينانية الجديدة» مع صديقه أنجلز (١٨٢٠–١٨٩٥م) دون معرفةٍ واضحة كيف اشترك الفيلسوفان في كتابة نصٍّ واحد، هل كتب ماركس وراجع أنجلز بالزيادة أو النقصان؟ هل كتب ماركس جزءًا وكتب أنجلز الجزء الآخر؟ الكتابة لا تكون إلا بقلم واحد؟ ولماذا تُعزى هذه المؤلفات المشتركة في مرحلة الشباب إلى ماركس أكثر من أنجلز. وهل تتلمذ أنجلز على يد هيجل كما تتلمذ ماركس؟ وهل يعتبر أنجلز فيلسوفًا بمفرده دون مشاركة له. في الصور المنشورة يأتي الرباعي الشيوعي: ماركس أولًا، وأنجلز ثانيًا، ولينين ثالثًا، وستالين رابعًا. فهل لستالين كتابات تجعله على نفس مستوى ماركس وأنجلز ولينين أم أنها سطوة الحكم؟
(٤) العائلة المقدسة
والنقد هو النقد المطلق. وهو النقد المشخص في باور. وتبين أول جملة في النقد المطلق الروح ويسوع. ثم يتعرض لموضوع المسألة اليهودية التي كتب فيه باور كتابًا بنفس العنوان، سر وضع العلاقة بين السياسة الاشتراكية والفلسفة، والمرحلة الثانية من النقد المطلق، ويظهر الدين في الفصل التاسع في اليوم الآخر ناقدًا.
ويُسمى ماركس القديس في كتاب «الوحيد وملكيته» نظرًا لارتباطه الوثيق بالدين. ويعطي قراءة جديدة له. وقد بدأ بحملة ضد فيورباخ. فالهيجليون الشبان لم يكونوا على وفاق فيما بينهم.
وتطور الدين ما زال في تطور الكتاب المقدس من التوراة إلى الإنجيل حتى الأيديولوجيات المعاصرة كالوضعية وعند المسلمين حتى القرآن في استقلال العقل وحرية الإرادة.
(٥) الأيديولوجية الألمانية
كتبه ماركس وهو في سن الثلاثين بالاشتراك مع أنجلز. وواضح من العنوان تحول الهيجلية إلى أيديولوجية وتحول الفلسفة إلى ألمانية أي ظهور الدافع القومي مما دعا إلى كتابة باور «المسألة اليهودية» وإشارة ماركس لها في «العائلة المقدسة». ويشمل عدة كتيبات لعناوين فرعية: نقد الفلسفة الألمانية الأكثر معاصرة في شخص ممثليها، فيورباخ، باور، شترنر، الاشتراكية الألمانية الممثلة في أنبيائها.
وقد حاول أحد المفكرين العرب المعاصرين، عبد الله العروي بلورة أيديولوجية عربية معاصرة. وكان أقرب إلى وصف أنماط المفكرين العرب رمزًا. القبعة للغربي، والطربوش للأفندي، والعمة للشيخ. فهناك ثلاثة أنماط للتفكير. الأوروبي «الخواجة» الذي قطع مع تراثه القديم وأراد تقليد الغرب ظانًّا أن الغرب هو النمط الوحيد للتحديث وليس الإصلاح أو التجديد كما فعل مصطفى كمال أتاتورك في تركيا لإنقاذ تركيا من الخلافة العثمانية وكما ينادي العلمانيون. والثاني «الأفندي» موظف الدولة البيروقراطية الذي يدعي الحداثة وقلبه ما زال تراثيًّا، يرقص على الحبلين حتى يعيش بين التيارين القويين الغربي والإسلامي. والثالث «المعمم» قارئ القرآن وراوي الحديث ومستشهدًا بالمذاهب الأربعة وبالغزالي وعلماء المسلمين، يسحر القلوب بالخطاب لكنه مستعدٌّ لأن يعمل مع مَن يدفع أكثر، الدولة على الأكثر والمعارضة على الأقل. هو المفتي في الدين، يعلم ما لا يعلمه الناس.
وأول دراسة عن «الأيديولوجية الألمانية» تتم على يد فيورباخ «قناة النار» الذي طهر الفكر الألماني من بقايا اللاهوت والفلسفة المثالية. ولفيورباخ اسم كتاب بهذا اللفظ «دعاوى لإصلاح الفلسفة». فهذه دعاوى على دعاوى. والتلميذ يكتب بصدقٍ عن الأستاذ. لا يخونه، ولا يطعنه في الخلف، ولا ينقد أفكاره ويتبناها لنفسه.
ويضم المجلد الأول الفلسفة الألمانية، نقد الفلسفة الألمانية المعاصرة في شخص فيورباخ، وباور وشترنر، والاشتراكية الألمانية المتمثلة في أنبيائها. وواضح تحديد الهيجليين الشُّبان بهؤلاء الثلاثة، ووجود الاشتراكية الألمانية قبل ماركس، وفي فرنسا في القرن الثامن عشر عند روسو في نقد الملكية الخاصة بل وفي المبادئ الثلاثة للثورة الفرنسية: الحرية، والإخاء، والمساواة.
وواضح أن ترتيب الهيجليين الشبان في ذهن ماركس هو ماركس ثم باور ثم شترنر. فإذا كان الدين هو مقياس الترتيب فالترتيب صحيح. ففيورباخ أقرب إلى اليسار الهيجلي إلى هيجل فيما يتعلق بمحاولة الانتقال من اللاهوت القديم إلى الفلسفة الحديثة. ثم يأتي باور الذي يخرج من الدين إلى الوعي الذاتي وإلى المشكلة الاجتماعية. ثم يأتي شترنر وقد تخلَّص من الدين والفلسفة تمامًا حتى وصل إلى تحليل الوجود الإنساني في الواحد أو الوحيد أو الفريد وما يمتلك.
وللأسف عندنا انتهت اشتراكية الدولة التي كان يمثِّلها عمر الخليفة الثاني وأبو ذر الغفاري الذي عاش في عصر الخليفة الرابع وسادت رأسمالية الدولة. ولم تنجح ثورات الزنج والقرامطة في رد الاعتبار للدولة الاشتراكية حتى حركات الإصلاح الحديثة مثل الأفغاني بندائه الشهير «عجبت لك أيها الفلاح، تشق الأرض بفأسك ولا تشق قلب ظالمك.» بعد أن توارت كل النصوص حول المساواة بين الناس مثل «ليس منَّا مَن بات شبعان وجاره جائع.» وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وقصة الأخوين، عند الأول تسع وتسعون نعجة وعند الثاني نعجة واحدة. ويطلب الأول من الثاني أن يعطيه نعجته حتى يتراكم رأس المال لديه، وما أكثر ما كُتب في العصر الحديث عن «الاشتراكية والإسلام»، «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، «صراع الرأسمالية والإسلام»، وآخرها «اليسار الإسلامي».
ويمثل فيورباخ التعارض بين التصور المادي والتصور المثالي. وللأيديولوجيا معنيان: عام وخاص. وهناك علاقة بين الأيديولوجيا الألمانية والفلسفة الألمانية. ويستعمل ماركس المنهج التاريخي من الأستاذ ليصد هذه العلاقة، علاقة الدولة بالقانون والملكية. وهنا تظهر موضوعات «مبادئ فلسفة الحق» لهيجل. ثم تتحول من تصورات إلى أشياء. هذا كل ما قيل عن فيورباخ.
وتشمل «الأيديولوجية الألمانية» فلسفة القانون وموضوعات الجريمة والعقاب.
-
(١)
لم يتخلَّ ماركس عن اللاهوت، لاهوت العهد القديم ولاهوت العهد الجديد وهو في مرحلة الشباب، مما يدل على أنه قد تخلَّى عنه تمامًا في مرحلة النضج، مرحلة الاقتصاد السياسي أو رأس المال.
-
(٢)
تقسيم الأيديولوجية الألمانية طبقًا للهيجليين الشُّبان: باور، شترنر، وفيورباخ وليس طبقًا للمفاهيم والتصورات أي تشخيص الموضوع — الاستئثار بالجريمة والعقاب بالتناقض — الجريمة بالمعنى العادي والمعنى غير العادي للكلمة، المجتمع باعتباره مجتمعًا مدنيًّا.
-
الترابط.
-
الملكية العقارية.
-
تنظيم العمل.
-
المال.
-
الدولة.
-
الثورة، الدين والفلسفة والربط بينهما.
-
الملكية.
-
الأخلاق.
-
الممتلكات Biens، نظرية الاستغلال.
-
الدين، نوتة إضافية على الرابطة.
-
نشيد الإنشاد أو الوحيد.
-
شرح وعظي Epotegetique.
-
تقريري الخاص Delagation.
-
ختام مؤتمر Council ليبتزج.
-
نقد الاشتراكية الألمانية ممثلة في تياراتها المختلفة.
-
الرينانية والاشتراكية الألمانية.
-
وفي بلجيكا دار مشتات ١٨٤٥م حيث تبدأ الاشتراكية الحقيقة كما يسجل التاريخ.
-
القديس السان سيموتين Simodiens.
-
رسالة من أحد سكان جنيف ومعاصريه.
-
المسيحية الجديدة.
-
المدرسة السان سيمونية.
-
بابا جابل.
-
بزفيون.
-
الدكتور جورج كوبلمان Koblman من هولشتين Holistein أو ملكية الاشتراكية الحقيقية.
-
ماركس في موضوع علاقته بهيجل وفيورباخ.
-
المجتمع البرجوازي والثورة الشيوعية.
-
عن فيورباخ.
فإذا ما تحرر الإنسان من الملكية فعليه الاختيار بين الحرية السياسية أو الحرية الاقتصادية أو الحرية الإنسانية. الحرية الإنسانية من قبضة الدولة، والحرية الاقتصادية من قبضة رأس المال، والحرية الإنسانية من المثالية التي لا مكان لها. وقد وقع ماركس في تصور الحرية الاقتصادية للتحرر منها، والهيجليون الشبان في الحرية الإنسانية، الحرية التي لا مكان لها ولا زمان بقيَت الحرية الإنسانية التي تساوي بين الوجود والحرية كما هو الحال عند سارتر.
وبقي التاريخ من الأستاذ يظهر تطور الأيديولوجيا بفعل التقدم من الإقطاع إلى الشيوعية، ومن الرأسمالية إلى الاشتراكية. فالتقدم الروحي عند هيجل يتحول إلى تقدُّم اجتماعي عند ماركس، من الروح المجرد إلى الروح الحياتي.
وما زال الفكر العربي الإسلامي المعاصر في مرحلة التحوُّل من العقائد إلى المثالية. وهي مثالية عرجاء ما زالت تعتمد على النصوص، وليس على العقل في ذاته، مثالية نقلية عقلية وليست مثالية عقلية؛ وبالتالي لم تتحول هذه المثالية النصية إلى واقعيةٍ اجتماعيةٍ لأن النص نازل من السماء ولا يعبر عن صراعات الأرض. وكل محاولةٍ لتحويل هذه المثالية النصية إلى واقعية خالصة تُتهم بالكفر والإلحاد والخروج على إجماع الأمة. مع أن الإجماع لا ينقض بخروج شخصٍ واحد. فالإجماع ليس عدديًّا. وتم الفصل بين العلوم النقلية التي تعتمد على النص والعلوم الاجتماعية التي تعتمد على تحليل الواقع الاجتماعي والآية في أصلها صياغة نظرية لموقف اجتماعي وإجابة على سؤال. فلا فرق بين وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وتجربة الإحسان بالوالدين.
فلا يكفي تحليل الغنى والفقر، الاستشهاد بنصوص مثل وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ بل أنماط الملكية في واقعنا المعاصر، مَن يمتلك ماذا؟ في الأرض أو العقار أو البنوك. ولا يكفي الفرق النوعي بين المجتمعات الجديدة والعشوائيات بل وصف أنماط حياتهم. أما ما يستهلكون وماذا يدخرون؟ فعلم الاجتماع هو السند الحقيقي لعلم التفسير. لا يكفي الحديث النصي عن الدولة الاجتماعية في الإسلام، بل بيان كيف تتحقق في مجتمع بعينه في الزمان والمكان. إن الفكر العربي الإسلامي بحاجة إلى كارل ماركس أو ابن خلدون جديد لوصف أنماط الملكية في العالم العربي الإسلامي، ملكية الأسر الحاكمة، ملكية الأمراء، ملكية قوَّاد الجيش، ملكية الإقطاعيين والرأسماليين، ونهب الملكية العامة.
ولا يكفي في الاستبداد أو الظلم أو الاستكبار أو الفساد ذِكر نصوصها لإدانتها، بل يواكب ذلك تحليل هذه الظواهر اجتماعيًّا. فالاستبداد ديني أو عسكري أو إقطاعي هو بسبب الانقسام في الوطن العربي حاليًّا. ويرجع الاستبداد إلى تصور العالم بيد قوة واحدة لا راد لها ولا مراجع، سواء كانت هذه القوة الله أم السلطان أم شيخ القبيلة أم الكبير أم الوزير أم الأمير. عكس وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ، وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ. وهي قسمة العالم إلى قسمَين موجب وسالب، قادر وعاجز، عالم وجاهل. الاستكبار هو الأساس النفسي للاستبداد. والمستكبر لا يمشي على الأرض مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي. هو الوحيد على صواب والباقي على خطأ. الفرقة الناجية الواحدة وفي مقابل الاثنتين والسبعين فرقة الهالكة. والثقافة الشعبية هي حلقة الوصل بين النص المثالي والظاهرة الاجتماعية. والأهم هو الاستيلاء الظالم على ما ليس له. القوة قوة الحق. والمظلوم يأمل في عالَم آخر يسوده العدل. والفساد هو النتيجة الطبيعية لعالَم لا يسوده القانون. ولا يوجد قانون إلا المصلحة الشخصية. ولا فرق بين الصغار بالقروش وفساد الكبار بتحويل المليارات إلى حسابات خاصة في الخارج. ما ينقص الفكر الديني والسياسي والفلسفي هو التحليل الاجتماعي لمعرفة أصول هذه الظواهر في العالم وليس في النص. يحتاج النزول من السماء إلى الأرض وليس تأسيس علم الهرمنطيقا.
وقد شُوهت الماركسية التقليدية وهي الماركسية الستالينية التي وَجدت في عصر الثورة الروسية حمايةً لها، التي نقلها الماركسيون في العرب إلى الماركسية الإنسانية. وقد تطورت الماركسية منذ أكثر من نصف قرن إلى أنواع مختلفة من الماركسية الجديدة، الماركسية الإنسانية التي ترد الاعتبار للإنسان. فرديته وحريته دون القضاء عليها لحساب الدولة والنظام، والماركسية الليبرالية التي تسمح ببعض القيم الليبرالية مثل الحرية الاقتصادية دون أن تُطغي التوجه الاقتصادي، والماركسية الوجودية التي تقوم على الجمع بين القيم الماركسية مثل الصالح العام والقيم الوجودية مثل الحرية الفردية، والماركسية المسيحية التي لا ترى تناقضًا بين الدين والماركسية، بل إن الدين يساعد الماركسية على التحرر من الاستعمار والاستقلال كما هو الحال في «لاهوت التحرير».
- (١)
يُلاحَظ بعض الظلم من ماركس للهيجليين الشُّبان في أن نقدهم لهيجل يستحق النقد. مع أن نقد فيورباخ ضروري لظهور ماركس، ونقد شترنر وباور لهيجل ضروري لاكتشاف الوجود والوعي الذاتي. وهنا يبدو بعض التعصُّب الذي عُرفت به الماركسية واشتهر به الماركسيون. بل إن هذا يمكن أن يطلق على اليسار الهيجلي كله نظرًا لرد فعله الشديد ضد المثالية الهيجلية والمثالية الفلسفية البديلة.
- (٢)
البديل الماركسي ليس بديلًا فلسفيًّا مثل بدائل شترنر وباور وفيورباخ للهيجلية بل هو بديل اقتصادي محض يحوِّل الفلسفة إلى اقتصاد سياسي؛ وبالتالي يقضي على الفلسفة مثل الذي يحول الفلسفة إلى علم نفس أو علم اجتماع بحيث لا تكون الأولوية لها بدعوى نقد المثالية والتصورات والمفاهيم النظرية المجردة.
- (٣)
تكرار كلمة نقد النقد وأحيانًا نقد النقد النقد حتى يصبح النقد أشبه بشبكة العنكبوت. وما يُذكرون في نقد النقد ربما كانوا معروفين في عصر ماركس في كل العصور مثل باور وشترنر وفيورباخ.
- (٤)
سوء التأليف والاستعمال المزدوج لكلمة النقد في نقد النقد أو الثلاثي «نقد النقد النقد» يربك القارئ. صحيح أن موضوع النقد هو شخصية ولكنها غير معروفة.
- (٥)
استعمال التشبيهات اللفظية بالكلب كما استعمل فيورباخ الحمار، وهو ما يخرج عن ضوء الفلسفة والأدب على السواء ويدخل في أدب الأطفال.
تُرجم عن الألمانية عن الطبعة الأخيرة والطبعة الثالثة (مجلدان) باريس، الكتب الفلسفية.
تُرجم عن الألمانية عن الطبعة الأخيرة والطبعة الثالثة (مجلدان) باريس، الكتب الفلسفية.