بَعْدَ النُّزُوحِ

Wave Image
هِــيَ الْــمَـوَاطِـنُ أُدْنِـيـهَـا وَتُـقْـصِـيـنِـي
مِــثْــلُ الْــحَـوَادِثِ أَبْـلُـوهَـا وَتُـبْـلِـيـنِـي
قَــدْ طَــالَ شَــكْـوَايَ مِـنْ دَهْـرٍ أُكَـابِـدُهُ
أَمَــا أُصَــادِفُ حُــرًّا فِــيــهِ يُـشْـكِـيـنِـي
كَأَنَّــنِــي فِــي بِــلَادِي إِنْ نَــزَلْــتُ بِــهَــا
نَــزَلْــتُ مِـنْـهَـا بِـبَـيْـتٍ غَـيْـرِ مَـسْـكُـونِ
حَـتَّـى مَـتَـى أَنَـا فِـي الْـبُـلْـدَانِ مُـغْتَرِبٌ
نَــوَائِــبُ الــدَّهْـرِ بِـالْأَنْـيَـابِ تُـدْمِـيـنِـي
فَــتَــارَةً فِــي الْـمَـوَامِـي فَـوْقَ مُـوقَـرَةٍ
وَتَـارَةً فِـي الـطَّـوَامِـي فَـوْقَ مَـشْـحُـونِ
كَـمْ أَغْـرَقَـتْـنِـي الـلَّـيَـالِـي فِـي مَصَائِبِهَا
فَـعُـمْـتُ فِـيـهِـنَّ مِـنْ صَـبْـرِي بِـدُلْـفِـيـنِ
أَنَــا ابْــنُ دِجْــلَــةَ مَــعْـرُوفًـا بِـهَـا أَدَبِـي
وَإِنْ يَـكُ الْـمَـاءُ مِـنْـهَـا لَـيْـسَ يُـرْوِيـنِـي
قَــدْ كُــنْـتُ بُـلْـبُـلَـهَـا الْـغِـرِّيـدَ أُنْـشِـدُهَـا
أَشْـجَـى الْأَنَـاشِيدِ فِي أَشْجَى التَّلَاحِينِ
حَــيْــثُ الْــغُـصُـونُ أَقَـلَّـتْـنِـي مُـكَـلَّـلَـةً
بِــالْــوَرْدِ مَــا بَــيْــنَ أَزْهَـارِ الْـبَـسَـاتِـيـنِ
فَـبَـيْـنَـمَـا كُـنْـتُ فِـيـهَـا صَـادِحًـا طَـرِبًـا
أَسْـتَـنْـشِـقُ الـطِّـيـبَ مِنْ نَفْحِ الرَّيَاحِينِ
إِذْ حَـلَّ فِـيـهَـا غُـرَابٌ كَـانَ يُـوحِـشُـنِـي
وَكَــانَ تَــنْــعَــابُــهُ بِــالْـبَـيْـنِ يُـؤْذِيـنِـي
حَــتَّــى غَــدَوْتُ طَـرِيـدًا لِـلْـغُـرَابِ بِـهَـا
وَمَــا غَــدَوْتُ طَــرِيــدًا لِــلــشَّــوَاهِـيـنِ
فَــطِــرْتُ غَــيْــرَ مُــبَـالٍ عِـنْـدَ ذَاكَ بِـمَـا
تَــرَكْـتُ مِـنْ نَـرْجِـسٍ فِـيـهَـا وَنِـسْـرِيـنِ
•••
وَيْــلٌ لِــبَــغْــدَادَ مِــمَّــا سَــوْفَ تَـذْكُـرُهُ
عَـنِّـي وَعَـنْـهَـا الـلَّـيَـالِـي فِـي الـدَّوَاوِينِ
لَـقَـدْ سَـقَـيْـتُ بِـفَـيْـضِ الـدَّمْـعِ أَرْبُـعَـهَـا
عَــلَــى جَـوَانِـبِ وُدٍّ لَـيْـسَ يَـسْـقِـيـنِـي
مَـا كُـنْـتُ أَحْـسَـبُ أَنِّـي مُـذْ بَـكَـيْـتُ بِهَا
قَـوْمِـي بَـكَـيْـتُ عَلَى مَنْ سَوْفَ يُبْكِينِي
أَفِــي الْــمُــرُوءَةِ أَنْ يَــعْــتَــزَّ جَـاهِـلُـهَـا
وَأَنْ أَكُــونَ بِــهَــا فِــي قَـبْـضَـةِ الْـهُـونِ
وَأَنْ يَـعِـيـشَ بِـهَـا الـطُّـرْطُـورُ ذَا شَـمَـمٍ
وَأَنْ أُسَــامَ بِـعَـيْـشِـي جَـدْعَ عِـرْنِـيـنِـي
تَــالـلـهِ مَـا كَـانَ هَـذَا قَـطُّ مِـنْ شِـيَـمِـي
وَلَا الْـحَـيَـاةُ عَـلَـى الـنَّـكْـرَاءِ مِـنْ دِيـنِي
وَلَـسْـتُ أَبْـذُلُ عِـرْضِـي كَـيْ أَعِـيـشَ بِهِ
وَلَـــوْ تَأَدَّمْـــتُ زَقُّــومًــا بِــغِــسْــلِــيــنِ
أَغْـنَـتْ خُـشُونَةُ عَيْشِي فِي ذَرَى شَرَفِي
عَـمَّـا أَرَى بِـخَـسِـيـسِ الْـعَـيْـشِ مِنْ لِينِ
عَــاهَــدْتُ نَــفْــسِــيَ وَالْأَيَّــامُ شَـاهِـدَةٌ
أَلَّا أُقِـــرَّ عَـــلَــى جَــوْرِ الــسَّــلَاطِــيــنِ
وَلَا أُصَـــادِقَ كَـــذَّابًـــا وَلَـــوْ مَـــلِـــكًـــا
وَلَا أُخَـــالِــطَ إِخْــوَانَ الــشَّــيَــاطِــيــنِ
أَمَّـــا الْـــحَــيَــاةُ فَــشَــيْءٌ لَا قَــرَارَ لَــهُ
يَـحْـيَـا بِـهَـا الْـمَـرْءُ مَـوْقُـوتًـا إِلَـى حِـينِ
سِـيَّـانِ عِـنْـدِي أَجَـاءَ الْـمَـوْتُ مُـخْـتَـرِمًا
مِـنْ قَـبْـلِ عِـشْـرِيـنَ أَمْ مِـنْ بَعْدِ تِسْعِينِ
مَـا بِـالـسِّـنِـيـنَ يُـقَـاسُ الْـعُـمْرُ عِنْدِيَ بَلْ
بِـمَـا لَـهُ فِـي الْـمَـعَـالِـي مِـنْ تَـحَـاسِـيـنِ
لَـوْ عِـشْـتُ سِـتِّـيـنَ عَامًا لَاسْتَعَضْتُ بِهَا
سِــتِّــيــنَ مَــكْــرُمَــةً بَـلْ دُونَ سِـتِّـيـنِ
فَإِنَّــمَــا أَطْــوَلُ الْأَعْــمَــارِ أَجْــمَــعُــهَــا
لِــلْــمَــكْــرُمَــاتِ مِــنَ الْأَبْـكَـارِ وَالْـعُـونِ
إِنَّ الــلَّــئِــيــمَ دَفِــيــنٌ قَــبْـلَ مِـيـتَـتِـهِ
وَمَــا الْــكَــرِيــمُ وَإِنْ أَوْدَى بِــمَــدْفُــونِ
•••
مَــا كُـنْـتُ أَحْـسَـبُ بَـغْـدَادًا تُـحَـلِّـئُـنِـي
عَـنْ مَـاءِ دِجْـلَـتِـهَـا يَـوْمًـا وَتُـظْـمِـيـنِـي
حَــتَّــى تَــقَــلَّــدَ فِــيـهَـا الْأَمْـرَ زِعْـنِـفَـةٌ
مِــنَ الْأُنَــاسِ بِأَخْــلَاقِ الــسَّــرَاحِــيــنِ
مَـا ضَـرَّنِـي غَـيْـرُ أَنِّـي الْـيَـوْمَ مِـنْ عَرَبٍ
لَا يَــغْــضَـبُـونَ لِأَمْـرٍ لَـيْـسَ يُـرْضِـيـنِـي
تَــالــلــهِ مَــا ضَــاعَ حَـقِّـي هَـكَـذَا أَبَـدًا
لَـوْ كُـنْـتُ مِـنْ عَـجَـمٍ صُـهْـبِ الْـعَـثَانِينِ
عَــلَامَ أَمْــكُـثُ فِـي بَـغْـدَادَ مُـصْـطَـبِـرًا
عَـلَـى الـضَّـرَاعَـةِ فِـي بُـحْـبُـوحَةِ الْهُونِ
لَأَجْــعَــلَــنَّ إِلَــى بَــيْــرُوتَ مُـنْـتَـسَـبِـي
لَــعَــلَّ بَــيْـرُوتَ بَـعْـدَ الْـيَـوْمِ تُـؤْوِيـنِـي
خَـــابَـــتْ بِـــبَــغْــدَادَ آمَــالٌ أُؤَمِّــلُــهَــا
فَـهَـلْ تَـخِـيـبُ إِذَا اسْـتَـذْرَتْ بِـصِـنِّـيـنِ
فَــلَــيْــتَ سُـورِيَّـةَ الْـوَطْـفَـاءَ مُـزْنَـتُـهَـا
عَــنِ الْــعِــرَاقِ وَعَــنْ وَادِيـهِ تُـغْـنِـيـنِـي
قَــدْ كَـانَ فِـي الـشَّـامِ لِـلْأَيَّـامِ مُـذْ زَمَـنٍ
ذَنْـبٌ مَـحَـتْـهُ الـلَّـيَـالِـي فِـي فِـلَـسْطِينِ
إِذْ كَـانَ فِـيـهَـا الـنَّـشَـاشِـيـبِـيُّ يُـسْعِفُنِي
وَكُـنْـتُ فِـيـهَـا خَـلِـيـلًا لِـلـسَّـكَـاكِـيـنِـي
وَكَـانَ فِـيـهَـا ابْـنُ جَـبْـرٍ لَا يُـقَـصِّـرُ فِـي
جَـبْـرِ انْـكِـسَـارِ غَـرِيـبِ الـدَّارِ مَـحْـزُونِ
إِنْ كَـانَ فِي الْقُدْسِ لِي صَحْبٌ غَطَارِفَةٌ
فَــكَــمْ بِــبَــيْــرُوتَ مِــنْ غُـرٍّ مَـيَـامِـيـنِ

عن القصيدة

  • مناسبة القصيدة: قال معروف الرصافي هذه القصيدة في بيروت سنة ١٩٢٢م، وكان قد خرج من بغداد على ألَّا يعود إلى العراق.
  • طريقة النظم: عمودي
  • لغة القصيدة: الفصحى
  • بحر القصيدة: البسيط
  • عصر القصيدة: الحديث

عن الشاعر

معروف الرُّصافي: أديب وشاعر وأكاديمي عراقي له إسهامات معتبَرة في حقلَي التعليم والثقافة.

وُلِدَ معروف عبد الغني محمود الجباري في مدينة بغداد العراقية عام ١٨٧٥م وتلقَّى علومه الأوَّلِيَّة في الكتاتيب كباقي أقرانه، ثم التحق ﺑ «المدرسة العسكرية الابتدائية» لفترة، ولكنه انتقل للدراسة في المدارس الدينية حيث تتلمذَ على يد مجموعة من علماءِ بغداد الكبار، وقد لقَّبَهُ أحد شيوخه بمعروف الرُّصافي بدلًا من معروف الكرخي.

بعد تخرُّجه عمِل الرُّصافي معلمًا ﺑ «مدرسة الراشدية» ثم مدرسًا للأدب العربي ﺑ «المدرسة الإعدادية» ببغداد، وقد تنقَّل بين المدارس حتى أصبح مدرِّسًا للُّغة العربية ﺑ «الكلية الشاهانية» بإسطنبول، وكان أيضًا يمارس الصحافة؛ حيث عمل محررًا بجريدة «سبيل الرشاد».

انتُخِب الرصافي عضوًا ﺑ «مجلس المبعوثان» العثماني في عام ١٩١٢م (وهو شبيه بالمجالس النيابية الآن)، وتقديرًا لجهوده الأدبية والتعليمية انتُخِب عضوًا ﺑ «مجمع اللغة العربية» بدمشق، ثم عُيِّنَ مفتشًا بمديرية المعارف العراقية.

آمَن الرُّصافي بأهمية التعليم وعمِل على نشره بين العراقيين من خلال دعواته وجهاده المستمر لبناء المزيد من المدارس، محفِّزًا الأغنياء على دعم المشاريع التعليمية وكفالة طلبة العلم، حيث رأى أن طريق التحرُّر الوطني يمر بالمدارس. والحديث عن التحرُّر الوطني يَجرُّنا بالضرورة إلى نشاط الرُّصافي السياسي ورفضه للاحتلال البريطاني واستبداد السلطة؛ فنجده قد دبَّج المقالات وألَّف القصائد الحماسية محرِّضًا الشعب على النضال السياسي، وكذلك الثورة ضد التقاليد والجمود.

ترك الرُّصافي الكثير من الأعمال الشعرية والنثرية المميزة التي عكست أسلوبَه الرصين ولغته المتينة جزْلة الألفاظ، وقد تنوعت الموضوعات التي كتب فيها ما بين السياسي والاجتماعي والأدبي والتاريخي، وكثيرًا ما أثارت كتبه ضجَّةً كبرى في الأوساط الثقافية؛ فكتابه الشهير «الشخصية المحمدية» اعتبره البعض تهجُّمًا على الدين ومقدساته.

تُوُفِّيَ الرُّصافي بعد حياة حافلة في عام ١٩٤٥م عن سبعين عامًا.

تسجيل الدخول إلى حسابك

Sad Face Image

قم بتسجيل الدخول ليبدأ التحميل، وتحصل على جميع مزايا ومحتوى هنداوي فاونديشن سي آي سي.

تسجيل الدخول إنشاء حساب

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤