الفصل الأول

ما هو علم البيئة؟

ماذا يأكل هذا؟

«ماذا يأكل هذا؟» كان هذا هو السؤال المُتكرِّر دائمًا على لسان ابني ذي الثلاث سنوات، الذي كان منبهرًا جدًّا بمظاهر الحياة من حوله، قبل بضع سنواتٍ من الآن. كان يطرح هذا السؤال بخصوص أي حيوان يُصادفه في مجال رؤيته. وعلى الرغم من أنه سؤال متكرِّر على نحو مُحبِط بالنسبة إلى أبٍ كان يتمنَّى أن يغرس المزيد من الإبداع في ذهن ابنه الصغير، فإن هذا السؤال البسيط هو جوهر علم البيئة. يتطرَّق علم البيئة إلى كيفية تفاعُل الكائنات الحية بعضها مع بعض ومع بيئتها. ويشمل هذا ما تأكله هذه الكائنات وما يأكلها. فالمُفترسات والفرائس، والنباتات والطفيليات والعوامل المُمرِضة، جميعها يستعين باستراتيجيات مختلفة للاحتفاظ بالطعام من أجل الحصول على الطاقة اللازمة للبقاء على قيد الحياة والتكاثر. وتُسفر هذه الاستراتيجيات المختلفة عن ظهور أنماط في الطبيعة (شكل ١-١). وعلم البيئة، في جوهره الأساسي، هو علم يسعى إلى فهم العمليات الحيوية التي تُحدِّد الأنماط داخل العالم الطبيعي.

وعلم البيئة، بالطبع، أكثَرُ بكثير من مجرَّد أنماط مَبنية على الاستهلاك. فالكائنات الحية تتنافس على موارد شحيحة، وتتعاون من أجل الحصول على منافع متبادلة. فتُغيِّر البيئة من حولها، لتخلق بذلك ساحاتٍ جديدة للتفاعل، وتُعبِّر عن أنماط جديدة في الطبيعة. وتُفرَض عليهم قيودٌ من قِبل البيئة المحيطة، التي تتَّسم بالتعقيد والتغير عَبْر المكان والزمان. ويشكِّل البشر كذلك أنماطًا وعمليات إيكولوجية من خلال إحداث تغييرات في البيئات، وأعداد الكائنات الحية فيها.

fig1
شكل ١-١: تتولَّد الأنماط من التفاعُلات الإيكولوجية. ففي ناميبيا، يُعتقَد أن «دوائر الجن» ذات التربة الجرداء المُحاطة بالنباتات تتكوَّن بفعل مجموعة من النمل الأبيض التي تُزيل النباتات من حول أعشاشها، وبفعل نباتات تتنافس من أجل الوصول إلى الماء.

في السنوات الأولى من عُمر أبنائي، اعتدنا التردُّد على بِركة صغيرة كانت تزدان في فصل الصيف بحشرات اليعسوب والرعاشات الصغيرة. لفَتَت «بِركة اليعسوب» انتباه أبنائي. فقد لاحظوا حشرات كثيرة ومختلفة تَحوم فوق سطح الماء، وهي ملاحظة ثاقبة بخصوص التنوُّع الحيوي لا تستلزِم مقدِّمة كتاب مدرسي. وبعد تحديد ما تَقتاتُ عليه هذه الكائنات، كان سؤالهم التالي، حتمًا، هو «ماذا يُسمَّى هذا؟» كان لريتشارد فاينمان، الفيزيائي الشهير، اعتقاد راسخ بأن «الأسماء في حدِّ ذاتها لا تُشكِّل المعرفة». وربما يكون هذا صحيحًا تمامًا بالمعنى الدقيق لكلمة معرفة، ولكن أبنائي استوعبوا، وكانوا يعرفون أكثر. لقد حثَّهُم الفضول حيال أسماء النباتات والحيوانات على البحث عن الاختلافات بين الأنواع، وهو ما مكَّنَهم من معرفة أنها أنواع مختلفة تستلزِم أسماءً مختلفة قطعًا. وتوالت أسئلة كثيرة على غِرار: «ما الذي تفعله هذه؟» «لماذا تتواجَد هذه في الغابات دومًا، بينما تتواجد الأخرى في المروج؟» وبدءُوا يُميِّزون الرتبة والنمط في الطبيعة. وعلم البيئة يبدأ بِمثل هذه الأنماط. فالأنماط تجعل الأسئلة التي تدور حول «ماذا يأكل هذا؟» مُثيرةً للاهتمام من الناحية الإيكولوجية. ويُقدِّم علمُ التصنيف، المَعنيُّ بوصف الكائنات الحية وتحديدها وتصنيفها، الإطارَ العام الذي يمكن من خلاله التعرُّف على الأنماط والتفاعلات الإيكولوجية وفَهْمها. وتفتح الأسماء آفاقًا جديدة للرصد والبحث. لقد كان ريتشارد فاينمان فيزيائيًّا فذًّا، ولكنه كان سيصير عالِمَ بيئة كسولًا.

يتمتَّع حرم سيلوود بارك الجامعي الخاص بالكلية الإمبراطورية التابعة لجامعة لندن؛ حيث كنت أعمل، بمروجٍ شاسعة ترتادها الأرانب كثيرًا في فصل الصيف. أحَبَّ أولادي مطاردة هذه الأرانب، رغم عدم جدوى محاولاتهم. ولكنهم توقفوا فجأةً عن المطاردة عندما لمحوا ثعلبًا يتسلَّل خُفيةً على أطراف الغابة. كانت مشاهدة الثعالب شيئًا نادرًا أثارَ بعض القلق في نفوس الأولاد. كانوا على دراية بأن الثعالب تأكل الأرانب، لكنهم تساءلوا — بما أنهم يرون الكثير من الأرانب — لماذا لا يرَون المزيد من الثعالب؟ وأَدخلَ التفسيرُ القائل بأن الثعلب بحاجةٍ إلى عددٍ كبير من الأرانب لكي يكوِّن أُسرة من الثعالب قانونًا أساسيًّا في علم البيئة، ينصُّ على أن الكتلة الحيوية المُتاحة، أو كتلة الكائنات الحية، تتناقص عندما ننتقِل إلى أعلى عَبْر السلسلة الغذائية، بدايةً من النباتات، وصولًا إلى الحيوانات العاشبة التي تتغذَّى على النباتات، والمُفترِسات التي تتغذى على الحيوانات العاشبة. وقدرةُ الحيوانات المُستهلِكة على بناء كتلةٍ حيوية مرهونةٌ بقدرتها على الحصول على الغذاء، ومدى الفاعلية التي تستطيع من خلالها أن تحوِّل الطاقة الغذائية إلى كتلة حيوية. ولهذا السبب تقلُّ أعداد الثعالب كثيرًا عن أعداد الأرانب.

لم تكُن الأرانب تتوافر بمثل هذه الأعداد الغفيرة في فصل الصيف من كل عام. ففي بعض السنوات، كانت الأرانب نادرة الظهور. وبدأ الأولاد يُلاحظون تقلُّباتٍ مُماثِلة في أعداد فئران الحقل وثمار جوز البلوط، وثمار جوز الزان من عامٍ إلى آخَر. ففي بعض السنوات، كانت هناك وَفْرة في ثمار التفاح ببستان التفاح الصغير الموجود في حرم سيلوود بارك. وفي سنوات أخرى، كان عدد الثمار قليلًا جدًّا؛ حتى إن الأولاد كانوا حريصين على الوصول إلى الأشجار قبل طلاب الدراسات العُليا المُقيمين هناك ليضمنوا الحصول على حصةٍ معقولة من الثمار. في ذلك الوقت، كان الأولاد يطرحون أسئلة حول تقلُّبات الموارد وديناميات الجماعات. أو لماذا يحطُّ النحل على زهور التفاح؟ وما الذي تفعله الديدان؟ ولماذا تخرج القنافذ في الليل فقط؟ ولماذا تستدير بذور الجميز؟ ولماذا تثمر أشجار التفاح تفاحًا؟ وهذه الأسئلة كلها ما هي إلا أسئلة إيكولوجية.

ما هو علم البيئة؟

علم البيئة (الإيكولوجيا) هو موضوع للدراسة المتخصِّصة. كما أنه رؤية كونية تؤكد ترابُط العوامل البيئية بعضها مع بعض، وأصبح مرادفًا ﻟ «مناصرة القضايا البيئة» بصورة أو أخرى. وثمَّة تأويلان لعلم البيئة؛ أحدهما علمي والآخَر ثقافي، يُسبِّبان خلطًا بشأن الكيفية التي يرتبط بها كلٌّ منهما بالآخَر، ولكنهما يَسمحان أيضًا للأفكار المستوحاة من علم البيئة أن تنتشِر عَبْر النقاشات المجتمعية. ونتيجةً لذلك، يُعَد علم البيئة واحدًا من العلوم الأكثر انتشارًا في السرديات الاجتماعية-السياسية والثقافية. فالفكر الإيكولوجي يتغلغل في مذاهب شتَّى، كالرومانسية والروحانية والأدب والسياسة. وصار المُحرِّك التحفيزي للاختيارات المُتعلِّقة بنمط الحياة العصرية والأجندات السياسية.

يتطرَّق علم البيئة، بوصفه تخصُّصًا علميًّا، إلى التفاعلات بين الكائنات الحية وبيئتها. ويسعى إلى وصف هذه الأنماط، وفَهْم العمليات التي تؤدي إلى ظهورها. عادةً ما يكون من السهل وصف الأنماط الموجودة في الطبيعة. فمثلًا، من المعروف جيدًا أن عدد الأنواع يتزايد كلما انتقلنا من دوائر العرض القطبية إلى دوائر العرض الاستوائية. أما فَهْم أسباب ظهور هذه الأنماط، فهو أكثر صعوبة. بعض النظريات يسعى إلى ربط ثراء الأنواع بالبيئة اللاأحيائية، أو بتوافر الطاقة، أو درجة الحرارة، أو هطول الأمطار. وتركِّز نظريات أخرى على التفاعلات الأحيائية التي تُعزِّز التعايش المشترك بين الأنواع. فربما تهاجم الأمراض أو الحيوانات المفترسة الأنواعَ الأكثر شيوعًا على نحوٍ غير متكافئ، أو ربما تحظى الأنواع النادرة باستراتيجيات حياتية خاصة تُيسِّر استمرار وجودها في بيئة مكتظة وتنافُسية. في كلتا الحالتَين، عادةً ما ستدعم العمليات، التي تفيد الأنواع النادرة وتساندها، عددًا أكبر من الأنواع.

يرتبط عِلم البيئة ارتباطًا وثيقًا بالإطار العام للتطوُّر، والتطور في الأساس هو نتاج التفاعلات الإيكولوجية. وتُعَد سلسلة مقالات ستيفن جاي جولد، المنشورة في كتاب له بعنوان: «تأمُّلات في التاريخ الطبيعي»، بمنزلة تدبُّر في التفاعل بين علم البيئة والتطور. لم يكُن جولد نفسه مُهتمًّا كثيرًا بعلم البيئة، ربما لأن التطور التاريخي للأنظمة الطبيعية أثارَ فضوله بوصفه عالِم حفريات، ومن ثَم لم يرَ تفسيرًا تاريخيًّا في العمليات الإيكولوجية. وعلى الرغم من عدم اكتراث جولد به، فإن لعلم البيئة منظورًا تاريخيًّا حسبما ذكر عالِم الجيولوجيا تشارلز لايل في القرن التاسع عشر. فالجيولوجيا، التي تَخصَّصَ فيها لايل، ذات طابع تاريخي صريح، وترتكز على عملياتٍ طبيعية قابلة للرصد، خاصة بالارتفاع فوق مستوى سطح البحر وتآكُل التربة. ومن خلال تطبيق هذا المنظور التاريخي على عالَم الأحياء، عارضَ لايل فكرة «توازن الطبيعة» الجامدة وغير التاريخية إلى حدٍّ بعيد، وأيَّد في المقابل فكرة الاضطراب والتغيُّر المُستمِرَّين اللذَين يحدثان بفعل العمليات الإيكولوجية الخاصة بالانتشار والافتراس والمُنافَسة. وفتحَ هذا الأمر الباب على مصراعَيه أمام تفسيرٍ أكثر ديناميكية للعالَم الطبيعي، مما ألهم تشارلز داروين، وألفريد راسل والاس، وغيرهما، بتطوير نظرية تطوُّرية من منظور إيكولوجي.

ولا يبدو علم البيئة مفهومًا حقًّا إلا في ضوء النظرية التطورية. فالنتائج الإيكولوجية هي بالأساس عمليات تطوُّرية في الزمن الحقيقي. واستمرار وجود نوع ما هو نتاج الطريقة التي يتفاعل بها أفراد هذا النوع مع أفراد نوع آخَر، ومع البيئة من حولهم. وإذا كان لنا أن نستعين باستعارةٍ مجازية شائعة الاستخدام في عالَم المسرح، فالبيئة هي خشبة المسرح التي تتكشَّف عليها التفاعُلات تدريجيًّا. والانتخاب الطبيعي هو مُخرِج مسرحية تطوُّرية. وعلم البيئة هو العَرض المسرحي.

علم الفيزياء مَحطُّ إعجاب

زعم بيير سيمون لابلاس، عالِم الرياضيات والفيزيائي الفرنسي، أن من الممكن، من الناحية النظرية، معرفة مستقبل كل ذرَّة، فقط لو توافَرَ لدَينا فَهْم كامل للعالَم الحالي وجميع عملياته. لا شكَّ أن علماء الفيزياء الآن على دراية تامة بأن العشوائية والاحتمالية هما حقيقتان من حقائق الطبيعة التي لا يمكن إغفالها، وأن الصدفة (التصادفية) مُترسخة أيضًا في صلب النظرية الإيكولوجية. فالقوانين البيئية تتَّسم بكونها احتمالية أكثر من كونها حتمية.

ربما نتخيل كيف تنتشر الجماعات داخل المساحة المتاحة، في ضوء المعلومات المتوفرة عن سِمات النوع والظروف البيئية ومدى توافر الموارد، ولكن لا نستطيع أن نحدِّد بدِقَّة الموضع الذي ستتكشف عنده عملية الانتشار وتوقيت حدوثها، والأفراد المشاركين بها. كذلك تقوم القوانين البيئية على التفسيرات الاحتمالية للطبيعة، مُمثلة بنماذج إحصائية. وثمة تقليدٍ رياضي راسخ في علم البيئة ولَّد العديد من الرؤى عن كيفية عمل الجماعات والمُجتمعات، ولكن النماذج الرياضية الموجودة في علم البيئة أقل دقةً بكثير من نظيرتها في الفيزياء. وهذا يعكس أهمية الاحتمالية التاريخية في تحديد النتائج الإيكولوجية بل والتطورية أيضًا. فالعمليات والأنماط في علم البيئة تتشكل من خلال موروثات ما كان موجودًا من قبل بقدْر ما تتشكل بفعل العمليات الإيكولوجية الحالية.

يزعم أنصار منهج الاختزالية العلمية أن تقصِّي خصائص الأجزاء المكوِّنة لأي نظام يُمكِّننا من فَهْم كيفية عمل النظام كُليًّا. وفي حين يعتنق علماء البيئة منهج الاختزالية في سياق عملِهم، فإنهم يُدركون أيضًا أنه يعجز عن تقديم فَهْمٍ كامل للأنظمة البيئية. وما يجعل الأنظمة البيولوجية مثيرةً للاهتمام هو تعقيدها «الظاهر». فالكائن الحي الفردي هو وحدة وظيفية مُعقَّدة ذات خصائص تَفُوق مجموع خلاياه أو أعضائه. بالمثل، يتَّسم النظام الإيكولوجي بخصائص عارضة مُنبثِقة من التفاعلات بين عددٍ كبير من الكائنات الحية والأنواع التي تؤدي إلى نتائج مُعقَّدة، نشأت من عملياتٍ مثل التكاثر، والافتراس، والمنافسة، والتبادلية، والانتشار، والنمو. علاوةً على ذلك، تتفاعل العمليات الحيوية عَبْر نطاقاتٍ مكانية. وهذا التفاعل بين الأجزاء والعمليات عَبْر النطاقات هو ما يمنح علم البيئة أوضَح خصائصه، وهي كونه علمًا ذا رؤية كونية «شمولية»؛ حيث يتعيَّن علينا أن نضع في الاعتبار الكثير من الجوانب الخاصة بنظامٍ مُعيَّن من أجل فَهْم خصائصه ونتائجه الظاهرة.

نظرية علم البيئة

يُقال إن علم البيئة يزخَر بالمفاهيم، ولكنه يخلو من المبادئ. وهذا قول مُجحِف إلى حدٍّ ما؛ لأنه يعكس صعوبة تطوير نظرية تنبؤية دقيقة قائمة على قوانين عالَمية في حقل معرفي مرهون أساسًا بالأحداث والاضطرابات الماضية. وعلى الرغم من هذه الحالة المتأصِّلة في علم البيئة من انعدام التحديد، فمن المُمكن تحديد عدة افتراضات أساسية تدعم هذا العلم، يمكن على أساسها وَضْع نظريات.

من الواضح أن التوزيع غير المتجانِس للكائنات الحية يقف وراء الأنماط الظاهرة للطبيعة. فلا يُوجَد توزيع متساوٍ للأنواع والأفراد في المكان والزمان. على سبيل المثال، تشغل الطحالب البحرية والحيوانات القشرية الموجودة على الشواطئ الصخرية النطاقات العمودية المرتفعة فوق خط الجزر. وهذه الأنماط للتقسيم على أساس الارتفاع العمودي هي نتاج كلٍّ من التفاعلات الأحيائية بين الأنواع واستجابات الأنواع للبيئة الطبيعية. وقد تحدث التفاعلات الأحيائية بين أفراد النوع نفسه (تفاعلات داخلية) أو بين أنواع مختلفة (تفاعلات بينية). وقد تكون عدوانية أو ذات نفعٍ متبادل.

وتستجيب الأنواع للتبايُنات في الظروف البيئية الناشئة عن عملياتٍ فيزيائية، سواء حركة الأمواج وانغمار الشواطئ الساحلية بالملح، أو انخفاض درجات الحرارة عَبْر أحد المنحدرات الجبلية، أو زيادة التغيرات الموسمية بزيادة دوائر العرض. ومثل هذا التفاوت البيئي يُقدِّم النموذج الأساسي للتفاوت الأحيائي. ومع ذلك، تتأثر النتائج الإيكولوجية بالعوامل الطارئة المترتبة على الأحداث التصادفية المفاجئة (كأن تستقر بذرة ما في مكانٍ مُعيَّن دون آخَر)، وشروط البدء الأولية. ومن ثَم فالطبيعة تتَّسِم بديناميكية شديدة، والتنبؤات الإيكولوجية مرهونة بالطوارئ التاريخية.

وعَبْر هذه البيئة الفيزيائية الحيوية النشِطة، تكون الموارد محدودة ومتناهية. ربما تكون الموارد محدودة بفعل العمليات الفيزيائية، مثل نظم سقوط الأمطار التي تحدُّ من توافُر المياه، أو استغلال الكائنات الحية لتلك الموارد. وهكذا تُحدِّد صفات النوع والاستراتيجيات التي يتبعها للحصول على الموارد قدرة الكائنات الحية على البقاء والتكاثر في بيئاتٍ مُعيَّنة، ومن ثَم تحدد وفرتها النسبية وأنماط توزيعها.

وأخيرًا، فالتغيُّرات التطورية مدفوعة بالانتخاب الطبيعي، الذي هو بالأساس عملية إيكولوجية، ويشكِّل التطوُّر صفات الأفراد والأنواع التي تُحدِّد بدورها خصائصها الإيكولوجية.

علم البيئة بوصفه رؤيةً كونية

في عصرنا الحالي الذي يشهد تدهورًا بيئيًّا، يُمثل علم البيئة العدسة العلمية التي يُمكننا من خلالها فَهْم آلية عمل الأنظمة الطبيعية والزراعية التي تتوقف عليها رفاهيتنا المستقبلية. كثير من علماء البيئة المحترفين تدفعهم رغبة قوية لتحسين إدارة الموارد البيئية، وكما كتب ألدو ليوبولد في خطاب عام ١٩٤٧ يقول: «لا يُمكننا أن نُطلق على أنفسنا علماء بيئة بكلِّ بساطة ولا نكترث باغتيال الأحياء البيئية الذي صار منتشرًا على مستوى العالم.» غير أن العلوم البيئية ليست علومًا معيارية في حدِّ ذاتها؛ إذ لا وجود فيها لأي إلزام. وفي حين أن عِلم البيئة ليس مرادفًا لمناصرة القضايا البيئية، فإنه يقدم الكثير لإدارة البيئة والحفاظ عليها. وتعتمد هذه التخصصات على المفاهيم والنظريات الإيكولوجية سعيًا لابتكار استراتيجيات تتعلَّق بالطريقة التي «يجب» إدارة الأنظمة البيئية والموارد والتنوُّع الحيوي بها. وهذا المنظور المعياري هو ما يميز هذه التخصصات عن العلوم البيئية الجامدة. أما علم البيئة التطبيقي فيقع في المنتصف بين الاثنين، بمعنى أنه يُقيِّم تداعيات الأنشِطة الإنسانية على الأنظمة البيئية، ويستكشف خيارات الحلول المُمكِنة. إن عملية اتخاذ القرار، لا العلم في حدِّ ذاته، هي ما تجعل الموقف المعياري واضحًا وصريحًا.

من المؤرِّقات المستمرة التي تزعج علماء البيئة المحترفين أن قطاعًا كبيرًا من الجمهور يساوي بين علم البيئة ومناصرة قضايا البيئة، بل وحتى مذاهب المُغالاة في حماية البيئة أو الروحانية البيئية، بل والأسوأ من ذلك كله حركة الهيبيز. لقد صار علم البيئة في أذهان العامة أكثر من مجرَّد علم. لقد تغلغل في السياسات وثقافة المجتمع الحديث، التي من خلالها توسَّعَ معناه وأُعيد تشكيله. لقد أثَّر علم البيئة، الذي تبنَّتْه مجموعة متنوعة من الثقافات الفرعية، الثقافة السائدة بل وأفسدها. ويُظهِر انتشاره في مجال الدعاية والتسويق أن العلماء والنشطاء البيئيِّين لا يحتكرون علم البيئة بوصفه مفهومًا أو كلمة شائعة. وتُعَد التفسيرات الثقافية واستخدام المفاهيم الإيكولوجية مَبحثًا شاملًا ورائعًا، سنتناولُه في الفصل قبل الأخير من هذا الكتاب، ولكن الموضوع الرئيس لهذا الكتاب هو علم البيئة بوصفه علمًا قائمًا بذاته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤