الفصل الثالث

الجماعات

الزيادات المهولة في أعداد اللاموس

يُقال إن حيوان اللاموس يميل إلى الإقدام على الانتحار الجماعي. تزداد أعداد هذه القوارض الصغيرة التي تعيش في منطقة التندرا القطبية الشمالية زيادة مَهولة كل بضع سنوات، لتنخفض مرَّة أخرى انخفاضًا حادًّا في غضون أشهر غالبًا (شكل ٣-١). وعندما تكون الظروف مواتية، تصِل حيوانات اللاموس إلى مرحلة النضج التناسُلي في أقل من شهرَين، وتتكاثر أغلب الإناث عدة مرات خلال فصل الصيف؛ إذ تنجب الأنثى في المرَّة الواحدة صغارًا يصل عددها إلى ستة. ولا غرو أن هذه القدرة التناسلية الاستثنائية تتسبَّب في زيادةٍ مَهولة في نمو الجماعة. في أثناء هذه الفترات تتضاعف أعداد الحيوانات المفترسة، بما فيها ابن عرس والبوم الثلجي والثعلب القطبي، بسرعة، ولكن ليس بالسرعة الكافية للسيطرة على أعداد حيوانات اللاموس. إن ما يتسبَّب في تراجُع أعداد اللاموس تراجُعًا حادًّا ليس الافتراس في حدِّ ذاته؛ وإنما استنفاد طعامها. فغالبًا ما يدفع نقص الطعام حيوانات اللاموس إلى الهجرة الجماعية بحثًا عن مراعٍ أفضل، وقد أكسبها ارتفاع معدَّل الوفيات في أثناء عمليات الهجرة هذه سُمعتها الانتحارية. فحيوان اللاموس هو ضحية الافتقار إلى الحكمة وبُعد النظر، لا الرغبة في الانتحار.
fig5
شكل ٣-١: (أ) حيوان اللاموس. (ب) ديناميات جماعات اللاموس في منطقة فينسي، بالنرويج، وفئران الحقل في قرية كيلبسيارفي، بفنلندا، التي تظهر حدوث موجات اجتياح بأعدادٍ كبيرة يتبعها انخفاضات حادة.

وليس حيوان اللاموس وحده الذي يحظى بدورات حادة من الزيادة والانخفاض في الأعداد. فأي بستاني فطِن يجب أن يكون يقِظًا للظهور المفاجئ لحشرات المَن وفئران الحقل بأعدادٍ تُدمِّر شهورًا من العمل الشاق سريعًا. كذلك تحدث اجتياحات مفاجئة لأسراب الجراد الصحراوي في أفريقيا كما يرِد في الكتاب المقدس (مربع ١)، ويمكن أن يكون لها تداعيات اقتصادية وإنسانية خطيرة. وعلى نحوٍ مماثل، يتسبَّب انتشار القوارض بقارة آسيا في خسائر سنوية في محصول الأرز الذي كان سيُطعم نحو ٢٠٠ مليون شخص لولا هذه الخسائر.

مربع (١): غزو الجراد

يظهر الجراد الصحراوي من موريتانيا إلى الهند، وعادةً ما يكون بأعداد قليلة. غير أن أعداده تتزايد بسرعة عقِب هطول الأمطار الغزيرة وما يتبعه من نمو النباتات الطازجة. فتتشكَّل تجمُّعات كبيرة من الجنادب اليافعة العديمة الأجنحة، والبالِغة ذات الأجنحة في غضون شهرَين أو ثلاثة، عَبْر مناطق تمتدُّ غالبًا نحو ٥ آلاف كيلومتر مربع. وإذا استمر تساقط الأمطار ينتقل الجراد إلى المناطق المتاخِمة للنباتات الطازجة ويتكاثر عَبْر عدة أجيال متعاقبة. وتُسفر الزيادة المفاجئة والضخمة في أعداد الجراد عن أسراب تجتاح مناطق بأكملها. وفي ظِل الظروف المواتية، يتطوَّر الأمر إلى حدِّ الغزو والاجتياح. وقد تصل أعداد الجراد في عمليات الغزو إلى ١٥٠ مليون جرادة لكل كيلومتر مربع، وفي اليوم الواحد يستطيع الجراد الغازي لكيلومتر مربع واحد أن يلتهِم كمية من الطعام تُوازي ما يتناوله ٣٥ ألف شخص.

وفي حين أن عمليات الانتشار أمر شائع، فإن عددًا قليلًا منها يؤدي إلى زيادات هائلة، وعددًا أقل منها يُسفر عن حالات غزو. وتتمثل الظروف التي تُتيح نموًّا استثنائيًّا للجماعة في التوافر المُستمر للطعام الطازج عَبْر مناطق كبيرة، الأمر الذي يعتمد على الأمطار الكثيفة. فقد أدَّت الأمطار الغزيرة في شرق أفريقيا في أواخر عام ٢٠١٩ إلى ظهور سِرب ضخم من الجراد في يناير عام ٢٠٢٠ دمَّر المحاصيل في الصومال وإثيوبيا وكينيا. وفي أثناء كتابتي لهذه الكلمات، في نهاية شهر يناير عام ٢٠٢٠، ثمَّة مخاوف من أن الأمطار الموسمية في شهر مارس ستُشجع نمو غطاء نباتي جديد عَبْر معظم أنحاء المنطقة. وقد يتسبَّب هذا في تضاعُف أعداد الجراد الذي يتكاثر بسرعةٍ بمعدل ٥٠٠ ضعف، قبل أن يحدَّ الطقس الجاف في يونيو من انتشاره. وحتى عام ٢٠٢٠، حدث آخر غزو كبير لأسراب الجراد بين عامَي ١٩٨٧ و١٩٨٩، في حين أثَّرَت زيادة هائلة لاحِقة في الفترة ما بين عامَي ٢٠٠٣ و٢٠٠٥ على منطقة الساحل بأكملها من السنغال وموريتانيا إلى البحر الأحمر.

يُعد الطقس والغذاء سببَين شائعَين لانتشار الجماعات. فسقوط الأمطار الغزيرة يؤدي إلى النمو الخضري وإنتاج البذور، وهو ما تتجاوب معه جماعات اللاموس أو الجراد أو الفئران. وتساهم فصول الشتاء المعتدلة وفصول الربيع الدافئة في هذا الانتشار من خلال تقليل معدل الوفيات الشتوية، وهو ما يؤدي إلى زيادةٍ في أعداد الجماعات في بداية موسم التزاوج. وكان هذا هو سبب الانتشار الهائل للفئران في أماكن متباعدة مثل كاليفورنيا وهاواي وأستراليا. وتقف فصول الشتاء المُعتدلة أيضًا وراء التفشِّي الهائل لخنفساء اللحاء التي تدمِّر مناطق شاسعة من غابات أمريكا الشمالية في الوقت الحالي.

تتَّسِم الأنواع المُتفشية بالارتفاع البالغ في «معدلات النمو الأساسية»، وهو معدَّل الزيادة الطبيعية الذي تستطيع جماعةٌ بلوغه. والسمات المُميزة لمثل هذه الأنواع هي التكاثر المُتكرر والمبكر، بالإضافة إلى إنجاب عددٍ كبير من النسل في كل دورة إنجابية. وكثيرًا ما تكون معدلات النمو الفعلي للجماعات أقلَّ بكثيرٍ من معدلات النمو الأساسية؛ إذ يَنفُق غالبية الصغار قبل بلوغ مرحلة النضج التناسُلي. ولكن إذا كانت الظروف البيئية مواتية، وأحيانًا ما تكون كذلك، سينجو عددٌ كبير من النسل ويتكاثر بدوره. ويترتب على ذلك نموٌّ سريع للجماعة، مما يؤدي إلى موجات اجتياحٍ وانتشار. وسرعان ما تفوق موجات الاجتياح الموارد المُتاحة، وفي وقتٍ قصير تتراجَع الأعداد تراجعًا حادًّا. ولهذا السبب لا يجتاحنا طوفان اللاموس.

السيطرة على المفترسات

تتمتَّع فئران الحقل — وهي نوع آخَر من القوارض القطبية الصغيرة — بدورات سكانية تتَّسِم بارتفاعاتٍ معتدلة، ومراحل مطولة لذروة الوفرة، وانخفاضات تدريجية أكثر من نظيرتها لدى حيوان اللاموس (شكل ٣-١ (ب)). في أثناء مراحل الذروة العددية للجماعة، تصِل إناث فأر الحقل إلى مرحلة البلوغ على نحوٍ أبطأ، وتتراجَع معدلات التكاثر لدَيها. وتتغذَّى فئران الحقل على الحشائش التي تتعافى وتنمو مرةً أخرى سريعًا، ومن ثَم يكون الغذاء أقل محدودية. وبينما يستنفد اللاموس إمداداته الغذائية، فإن انخفاض معدل التكاثر لدى فئران الحقل يُحافظ على ذروة الوفرة للجماعة على مدى عدة سنوات. وفي النهاية، تؤدي زيادة أعداد الجماعات المفترِسة إلى انخفاض أعداد فئران الحقل.

ذكر ألدو ليوبولد بأسلوبٍ بليغ في مقالٍ بعنوان «التفكير كجبل» (من كتاب «تقويم مقاطعة رملية»، الصادر عام ١٩٤٩) أن إقصاء الذئاب من المشهد الطبيعي أشبه بإعطاء «الرب مقصَّ تشذيبٍ جديدًا، وحجْر جميع الأدوار الأخرى عليه.» تمثَّلَت حُجته في أنه بعد إقصاء الذئاب، سيتضاعف عدد الغزلان إلى الحدِّ الذي يجعلها ترعى وسط جميع الشُّجيرات والشتلات «لتصل أولًا إلى الذبول، ثم الموت.» واستعان المَعنيون بإدارة الحياة البرية بهذه الحُجة للقول بأن الحاجة تدعو إلى وجود الذئاب والوشق وأُسود الجبال وغيرها من الحيوانات المفترسة الكبيرة من أجل السيطرة على الحيوانات الرعوية بهدف تحقيق منفعةٍ أكبر للنظام البيئي (مربع ٢).

مربع (٢): مشاهد طبيعية للخوف

إن مصادفة ذئب برِّي أو دبٍّ برِّي، بالنسبة إلى أولئك الذين اعتادوا بيئةً آمنة وهادئة منَّا، يُثير بداخلهم شعورًا بدائيًّا بالخوف. فنتحسَّس خطواتنا التالية في البرية بمزيدٍ من الحذَر، ونتقدَّم بيقظةٍ متزايدة نحو البيئة المُحيطة بنا. وأغلَب الظنِّ أن الشعور نَفْسه ينتاب أنواع الفرائس التي تحظى دومًا برفقة مُضطربة مع حيواناتها المُفترسة. فالحيوانات العاشبة تكون أكثر حذرًا وفزعًا في وجود الحيوانات المفترسة. فآثار قدَم الحيوان المُفترس ورائحته، ودمدماته، ونظراته السريعة العارضة، كل ذلك يُثير حالةً من اليقظة والخوف لدى الفريسة. وهكذا يتشكَّل «مشهد طبيعي للخوف» في أذهان الفرائس، التي تُصنِّف الموائل والمواقع من خلال شعورها النسبي بالخطر أو الأمان.

قد يكون هذا المشهد الطبيعي للخوف، الذي ينشأ من مجرد احتمالية وجود حيوان مفترس، أكثر أهمية من الناحية الإيكولوجية من أي افتراسٍ مباشر. فبعد إعادة الذئاب مرَّة أخرى إلى حديقة يلوستون الوطنية في عام ١٩٩٥، بعد غياب دام ٦٠ عامًا، تراجعَت أعداد الأيائل المُقيمة تراجُعًا حادًّا. وكان الانخفاض يفوق إلى حدٍّ كبير ما يمكن أن يُعزى إلى الافتراس وحدَه. ولم تتمكَّن الأيائل، التي كانت تقضي المزيد من الوقت في التنقُّل والقليل من الوقت في البحث عن الطعام، من تنشئة سوى ثلث عدد صغارها. وشهدت حديقة يلوستون منذ ذلك الحين تزايدًا في عدد أشجار الصفصاف والحور، التي تحرَّرَت من ضغوط الأيائل الآكلة للعشب، وعاد ظهور القنادس مرَّةً أُخرى بعد تعافي الأشجار التي تتغذَّى عليها.

ولا يزال الجدال متواصلًا بشأن التغيرات في النظام البيئي لحديقة يلوستون التي يُمكن أن تُعزى إلى عودة الذئاب إلى المشهد الطبيعي. وثمَّة تجربة إيضاحية أقل غموضًا للمشهد الطبيعي للخوف، أُجريت على الشواطئ الصخرية لجُزر الخليج في كولومبيا البريطانية. فمن خلال الاستعانة بمُكبِّر للصوت، تعرضت حيوانات الراكون إما إلى صوت نباح الكلاب (التي تفتك بالراكون) أو صوت الفقمة (التي لا تفتك بها). عند سماع نباح الكلاب، صارت حيوانات الراكون أكثر يقظةً وقضت وقتًا أقلَّ في البحث عن الطعام عَبْر الشواطئ. وشهدت البِرَك الصخرية على طول هذه الشواطئ زياداتٍ مَهولةً في أعداد أحيائها البيئية من الأسماك والديدان والسلطعون.

fig6
شكل ٣-٢: (أ) الوشق الكندي وأرنب حذاء الثلج البري. (ب) دورات جماعتي أرنب حذاء الثلج البري والوشق الكندي على مدار فترة مائة عام، استنادًا إلى عدد قِطَع الفراء المُورَّدة إلى شركة هدسون باي.
غير أنه من الصعب تحديد ما إذا كانت الحيوانات المُفترسة تتحكَّم في جماعات الفرائس، أم إن جماعات الفرائس — التي يحكمها عاملٌ ما آخَر — هي التي تنظم أعداد الحيوانات المفترسة. وتكشف مجموعة من البيانات النموذجية من سجلات توريد الفراء الذي تسلمته شركة «هدسون باي»، تذبذباتٍ دورية في أعداد أرنب حذاء الثلج البرِّي والحيوان المفترس له، وهو الوشق الكندي (شكل ٣-٢). على مدار عدة سنوات، كان يُعتقد أن الافتراس من قبل الوشق هو السبب في تراجُع الأعداد الوفيرة للأرانب البرية، وهو ما أدَّى بدوره إلى انهيار أعداد الوشق. وأتاح التحرُّر اللاحق من ضغط الافتراس للأرانب البرية زيادة عددها مرَّة أخرى، الأمر الذي تجاوبت معه جماعات الوشق، وهو ما ابتدأ الدورة من جديد. ولكن جماعات أرنب حذاء الثلج البري تتبع دورات من الزيادات والانخفاضات الحادة على الجُزُر التي تخلو من وجود الوشق. وحاليًّا يبدو الاحتمال الأرجح أن الانخفاضات الدورية في أعداد الأرنب البري تحدُث عندما تستنفد الأعداد الكبيرة من هذه الأرانب غذاءها من النباتات. وبعد هذا الانخفاض الحاد، تتعافى النباتات ببطءٍ وتعود أعداد الأرانب البرية للتزايُد مرةً أخرى. ولعلَّ الأمر فقط أن جماعات الوشق تسير على خُطى الأرانب البرية لا أكثر.

ضوابط تنافُسية

على النقيض من اللاموس وفئران الحقل والأرانب البرية، تحافظ معظم الأنواع على أعداد مُستقرة نسبيًّا للجماعات، رغم قُدراتها المتأصِّلة على التزايُد بصورة مطردة. وفي عام ١٩٥٤، وصفها ديفيد لاك، العالم البيئي وخبير علم الأحياء التطوُّري البريطاني، كما يلي: «تتذبذب أعداد أغلب الحيوانات البرية على نحو غير مُنتظم بين حدودٍ شديدة التقيُّد مقارنة بما تسمح به معدلات زيادتها.» وتتمتع بعض الأنواع بمعدلات نموٍّ أساسية مرتفعة مثل حيوان اللاموس وفئران الحقل، ومن ثَم فإن أي تغيُّر في أعداد الجماعة سيكون أكثر تدرجًّا. وتلعب الحيوانات المُفترسة دورَها أيضًا في التحكُّم بأعداد الجماعات، ولكن أكثر آليات التحكم انتشارًا هي المنافسة.

تحدث المنافسة عندما لا يُوجَد ما يكفي من أحد الموارد اللازمة لتلبية احتياجات جميع أفراد الجماعة. عندما تنمو الجماعة، تزداد كثافة أفرادها. وعند الكثافات المنخفضة، تكون الموارد وفيرة، وترتفع معدلات تكاثُر الأفراد وفُرَص البقاء على قيد الحياة. ويمكن أن يقترب نمو الجماعة من معدل الزيادة القصوى النظري لكل فرد؛ أي معدل النمو الأساسي للجماعة. وعندما تزداد الكثافة، ينخفِض متوسِّط الموارد المتاحة للفرد الواحد، ويبدأ الأفراد في التنافُس على الموارد المحدودة. تُنجب الكائنات التي تخسر في المنافسة عددًا أقلَّ من الصغار أو تموت في سنٍّ صغيرة، مما يُبطئ وتيرة نمو الجماعة. وفي النهاية، ربما تصير الموارد المتاحة محدودةً جدًّا لدرجة أن معدل الوفيات عَبْر الجماعة يفوق معدل المواليد، وتبدأ أعداد الجماعة في التراجُع. ويتحكم مدى توافر الموارد لكل فردٍ في حجم الجماعة، وهو ما يتجلى من خلال المنافسة القائمة على الكثافة.

لا يحتاج الأفراد المُتنافِسون إلى التفاعل على نحوٍ مباشر. فاستغلال فرد واحد لمورد محدود يقلِّل توافره بالنسبة إلى الأفراد الآخَرين، على الرغم من أن هذه الكائنات الحية ربما لا تلتقي أبدًا. بالمِثل، قد يستنفد أحد النباتات المواد المُغذِّية الموجودة في التربة بما يضر بالنباتات المجاورة. ومع ذلك، كثيرًا ما تتفاعل الكائنات الحية مباشرةً بعضها مع بعض في ساحة تنافُسية. فتعمل بعض الحيوانات بنشاطٍ على منع الحيوانات الأخرى من الوصول إلى الموارد من خلال الدفاع عن منطقة نفوذ حصرية. والكثير من الطيور والثدييات والأسماك بل والحشرات تدافع عن مناطق نفوذ معيَّنة بهدف تأمين وصول حصري إلى مواقع بناء الأعشاش، أو مناطق التغذية، أو شركاء التزاوج. وقد يكون الدفاع عن منطقةٍ ما مكلفًا. فهو ينطوي على يقظة وطاقة مستمرتَين، ومخاطر الإصابة أو الموت. لذلك لا تستولي الحيوانات على المناطق وتدافع عنها إلا عندما تكون الموارد نادرة؛ نظرًا لأنه لا فائدة تُرجى من وراء الدفاع عن موارد متوفرة بكثرة.

استراتيجيتا معدل النمو الأساسي والقدرة الاستيعابية

عادةً ما تنظم العمليات القائمة على الكثافة أعداد الجماعات لتصِل إلى نقطة توازن؛ حيث تتساوى معدلات المواليد مع معدلات الوفيات. ونقطة التوازن هذه هي «القدرة الاستيعابية» للبيئة؛ أي حجم الجماعة الذي يمكن الحفاظ عليه في ضوء الموارد المتاحة. وعادةً ما تزيد أعداد الجماعات لتصِل إلى القُدرة الاستيعابية عندما تستغل الموارد المتاحة، ولكنها تنخفض عندما تتجاوز القدرة الاستيعابية نظرًا لأن الموارد تصير محدودةً للغاية لدعم جميع أفراد الجماعة. ومن ثَم، تتأرجح أعداد الجماعات حول القدرة الاستيعابية (شكل ٣-٣). وغالبًا ما تُعاني الأنواع التي تتمتَّع بمعدلات نموٍّ أساسية مرتفعة من تذبذبات كبيرة في الأعداد؛ نظرًا لأنها عادةً ما تتجاوز القدرة الاستيعابية بدرجةٍ كبيرة وتُعاني من انخفاضات حادة في أعقاب ذلك. وتنمو الجماعات ذات القيم المنخفضة من المعدل النموَّ الأساسيَّ ببطءٍ أكثر، وتتبع استراتيجية القدرة الاستيعابية عن كثب أكبر. وربما تتغيَّر القدرة الاستيعابية نَفْسها تبعًا للظروف البيئية.
fig7
شكل ٣-٣: نمو الجماعة المثالي والتأرجح حول القدرة الاستيعابية. تتسم الأنواع ذات معدلات النمو الأساسية المرتفعة بزيادة حادة في أعداد الجماعة تتبعها حالات اندثار، ويُشار إليها بالأنواع المُنتخبة بناءً على مُعدل النمو الأساسي. والأنواع ذات معدل النمو المنخفِض تتبع القدرة الاستيعابية عن كثب أكثر وتتعرض لتذبذب أقل بكثير في أعداد الجماعة. وهذه الأنواع هي الأنواع المُنتخبة بناءً على القدرة الاستيعابية.

يضع علماء البيئة تصوُّرًا لاستراتيجيتين مُعمَّمتَين لدورة حياة الكائن الحي بناءً على معدل النمو الأساسي للجماعة والقدرة الاستيعابية. فالأنواع المُنتخبة، بناءً على معدل النمو الأساسي، تتكاثر في وقتٍ مبكِّر من حياتها، وتُنجب الكثير من النسل، وتشهد نموًّا سريعًا للجماعة. ويتبع اللاموس استراتيجية مُعدل النمو الأساسي. والشيء نفسه ينطبق على كثير من الحشائش النباتية الضارة. فيكون أداؤها جيدًا عندما تكون الموارد وفيرة. وعادةً ما تُحتَجز الموارد في الكتلة الحيوية، أو تُقتنص من جانب أنواع شديدة التنافسية على حسب تفضيلاتها؛ ولذا كثيرًا ما تعتمد الأنواع المُنتخبة بناءً على معدل النمو الأساسي على الاضطرابات لتُتيح الموارد مرَّة أخرى. ويمكن أن يأتي الاضطراب على هيئة سقوط شجرة يخلق فجوة في مظلَّة الغابة بما يسمح بمرور الضوء ليغمر الطبقة السُّفلية المُظلمة، أو على هيئة حريق يُعيد المواد المُغذية المحبوسة في الغطاء النباتي إلى التربة مرةً أخرى. والوفرة المفاجئة للضوء والمواد المُغذية وغيرها من الموارد تُتيح للأنواع المنتخبة على أساس استراتيجية معدل النمو الأساسي، بمعدلات تكاثرها السريعة، الهيمنة سريعًا على مساحة جديدة من خلال استغلال الموارد الوفيرة. وعندما تتناقَص الموارد تحلُّ الأنواع الأكثر تنافُسية في اقتناص الموارد التي صارت شحيحةً في الوقت الراهن محلَّ الأنواع المُنتخبة بناءً على مُعدل النمو الأساسي تدريجيًّا.

أما الأنواع المُنتخبة بناءً على القدرة الاستيعابية فتشغل موائل ذات تقلُّبات بيئية قليلة، واضطرابات أقل. وتتبع الثدييات الكبيرة وكثير من الطيور وأشجار الغابات استراتيجية القدرة الاستيعابية. وعادةً ما تكون هذه الأنواع ذات أعمار أطول، بما يُتيح لها تأجيل التكاثُر إلى فترةٍ لاحقة من حياتها عندما تكون أكبر حجمًا وأكثر أمنًا من الناحية التنافُسية. ويكون عدد النسل قليلًا نسبيًّا، ولكن عادةً ما يكون مزودًا بالمُؤَن على نحوٍ أفضل (ببذور كبيرة الحجم مثلًا)، أو مُحاطًا برعاية أبوية مُمتدة، ومن ثم تكون نسبة بقاء النسل على قيد الحياة عالية مقارنة بالأنواع المُنتخبة بناءً على معدل النمو الأساسي. وبصفة عامة، تظل الأنواع المُنتخبة بناءً على القدرة الاستيعابية قريبة من القدرة الاستيعابية للبيئة، وفي ظِلِّ غياب الاضطرابات الكبرى، تحافظ هذه الأنواع على جماعاتٍ مستقرة إلى حدٍّ ما.

وللمعدل الأساسي لنمو الجماعة والقدرة الاستيعابية أهمية عملية مباشرة؛ نظرًا لأنهما يُستخدَمان لتحديد مخاطر الانقراض في سياقات المحافظة على الأنواع، أو مصائد الأسماك التجارية النموذجية، أو تقييم معدل النمو المُحتمَل لموجات غزو الآفات. ومن الناحية العملية، من الصعوبة بمكانٍ تحديد معدلات النمو والقدرات الاستيعابية للأنواع في بيئات معيَّنة، أو توقُّع أنماط تعافي الجماعات. ويرجع هذا إلى تذبذب الموارد، وتأثر الجماعات بالمنافسة مع الأنواع الأخرى، والافتراس، وتأثير قوى مثل المناخ والاضطرابات على الجماعات على نحوٍ غير مُنتظم وعلى نطاقات مكانية وزمانية مختلفة.

الفوضى المُحدَّدة

عندما تكون قيم معدل النمو الأساسي مرتفعة جدًّا، فإننا بذلك ندخُل عالم الديناميات الفوضوية، الذي يتسم بتقلبات كبيرة وغير منتظمة في أعداد الجماعة. ويستحيل التنبؤ على المدى الطويل بديناميات الجماعة، على الرغم من بساطة النموذج الأساسي وحتميته لنمو الجماعة، المُستمد إلى حدٍّ كبير من استرتيجية معدل النمو الأساسي. والأنظمة الفوضوية حساسة للغاية للظروف المبدئية، وتتعاظم الاختلافات الطفيفة في حجم الجماعة، أو في تقدير معدل النمو الأساسي، لتخلق بذلك تبايُنات كبيرة في النتائج.

في البداية، جذبت ديناميات الجماعة الفوضوية المدفوعة بالعمليات المُحدَّدة الكثير من الاهتمام النظري في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين؛ حيث ظهرت بضع معادلات بسيطة لديناميات الجماعة بما يكفي لشرح الديناميات المُعقَّدة فيما يبدو. وظلَّ التنبؤ بالديناميات التي تتَّسِم بالفوضوية مستحيلًا، إلا أن مجرد معرفة أن التقلبات في أعداد الجماعة هي عوامل محددة (وليست عشوائية حقًّا) تُشير إلى وجود عملية آلية ضمنية، يمكن لفهمها أن يقدم رؤية للعمليات البيئية. وتقدم الدراسات المُختبرية إثباتًا عمليًّا للديناميات الفوضوية لدى جماعات الخنافس والعوالق، من جملة أمور أخرى، وبدا أن نظرية الفوضى ربما تفسر كثيرًا من الأنماط البيئية.

غير أن الحماس سرعان ما تراجعَ عندما ثبت أنه من الصعب ربط العمليات المحددة بالديناميات الإيكولوجية خارج نطاق الظروف المختبرية الخاضعة للرقابة الشديدة. وأحد الأسباب وراء ذلك أن «التشويش البيئي» العشوائي، مثل تغيُّر المناخ، أو موجات الجفاف، أو الأعاصير، يؤثر دومًا على نمو الجماعة، إلَّا أن هذه الأحداث الطارئة استُبعدت إلى حدٍّ كبير من جانب الدراسات النظرية والمختبرية على حدٍّ سواء. علاوةً على ذلك، تمثَّل عامل الجذب الخاص بالعمليات المحددة نظريًّا في «انخفاض الأبعاد» المرتبطة بها؛ أي العدد المحدود للمؤشرات المطلوبة لاستنساخ ديناميات الجماعة. غير أن معظم المجتمعات البيئية تضم جماعات أنواع كثيرة، أغلبها يتفاعل على نحو ضعيف، وبعضها يتفاعل بقوة. وتميل التفاعلات القائمة على التنافس والافتراس إلى تثبيط التقلُّبات في أعداد الجماعات ومن ثَم الحد من ظهور السلوك الفوضوي. وهكذا، فإن أكثر المعرَّضين للفوضى في الأنظمة الطبيعية هي تلك الأنواع ذات الصلة الوثيقة بالتفاعلات القائمة على الموارد التي لا تتأثر كثيرًا بالأنواع المنافسة أو المفترسات. وحيوان اللاموس مثال على ذلك.

تُقدم البرك الصخرية في نيوزيلندا مثالًا مثيرًا للاهتمام لديناميات الجماعة الفوضوية ذات الأنواع المُتعددة في نظام طبيعي. ففي هذه البرك الصخرية، يستعمر البرنقيل الأسطح الصخرية العارية. وحين ينمو البرنقيل، يوفر ظروفًا مناسبة لاستقرار الطحالب القِشرية والمحار. وفي نهاية المطاف، يخنق المحار البرنقيل الكامن بالأسفل ويقتله. ينفصل البرنقيل الميت، وطبقات المحار التي تعلوه، بكل سهولة عن الصخور، مما يكشف سطح الصخور العارية مرَّة أخرى. والدورة التي تبدأ من الصخور العارية إلى البرنقيل والطحالب والمحار، وتعود إلى الصخور العارية مرَّة أخرى، هي عملية مُحدَّدة تدعم الأنواع الثلاثة كلها، ولكن لا يستطيع أيٌّ منها الحفاظ على استقرار أعدادها. وتُظهر عملية النمذجة أنه في ظِل غياب الطقس الموسمي، من المُرجَّح أن يستقر مثل هذا النظام على التعايش المشترك بين الأنواع الثلاثة تعايشًا مستقرًّا وقابلًا للتنبؤ به. في الواقع، تقل قابلية التنبؤ بالنظام نظرًا لأن الأيام الصيفية الحارة تتسبَّب في ارتفاع معدل النفوق بين المحار والطحالب القِشرية، وهو ما يتسبَّب في تقلُّبات فوضوية في أعداد الأنواع. في هذا المثال، يصير التسلسل المُحدد فوضويًّا بسبب الطقس الموسمي الذي يؤثِّر بصورة متفاوتة على بقاء نوعَين من الثلاثة على قيد الحياة.

مقايضات دورة الحياة

إن ثنائية معدل النمو الأساسي والقدرة الاستيعابية هي تبسيط لمجموعة واسعة من الاستراتيجيات التي تستعرضها الأنواع النباتية والحيوانية. وتنعكس هذه الاستراتيجيات من خلال سمات الأنواع، من بينها مدة الحمل، وسن البلوغ التناسلي، وحجم الصغار المولودين في كل مرَّة، ووتيرة التكاثر، والحد الأقصى للعمر. وإجمالًا، تصف هذه الصفات الجوانب الديموغرافية الأساسية للأنواع، أو «دورة حياتها». وكما رأينا، يستجيب كثير من الأنواع استجابةً انتهازية للفترات المواتية من خلال النمو السريع والتكاثر في وقتٍ مبكِّر وعلى نحو غزير. وتنمو أنواع أخرى بوتيرة بطيئة، ولا تُنجب إلا عددًا قليلًا من النسل في كل مرَّة. وربما نتوقَّع من الأنواع الغزيرة النسل أن تفوق الأنواع الأكثر تحفُّظًا من حيث العدد وتحل محلها سريعًا. ولكن هذا لا يحدُث لسببَين أساسيين. أحدهما تعرضنا له بالفعل؛ ألَا وهو أن الأنواع الغزيرة النسل تستنزف مواردها سريعًا لدرجة أن العمليات المعتمدة على الكثافة العددية تُقيد عملية التكاثر وفرصة البقاء على قيد الحياة.

أما السبب الآخَر فهو تكلفة التكاثر، أو بمعنى أدق المقايضة بين النمو والبقاء على قيد الحياة والتكاثر. و«المقايضة» هي في حد ذاتها لعبة ذات محصِّلة صفرية، أو علاقة سلبية مباشرة بين صفتَين، ترتبط الزيادة في إحداهما بانخفاض الأخرى. ففي ضوء الموارد المحدودة، كلما زادت الموارد المستثمرة في إنجاب النسل، قلَّت الموارد المتاحة للنمو. والشاهد على ذلك العَرْض الصغير لحلقات نمو أشجار الغابات المعتدلة، مثل أشجار البلوط أو الزان، أثناء سنوات التكاثر السريع الوتيرة. وعلى نحوٍ مماثل، تصل الأسماك التي تؤجل التكاثر إلى مرحلةٍ لاحقة من حياتها، مثل أسماك القرش، إلى أحجام كبيرة بسرعة نسبيًّا؛ نظرًا لأن الموارد تُخصَّص للنمو في الغالب. والبستانيون المتمرِّسون على دراية بأن تشذيب الرءوس الحاملة للبذور الناضجة الخاصة بالنباتات المعمرة سيحسِّن نسبة بقائها على قيد الحياة ومعدل نموها وإزهارها في العام التالي.

ثمَّة كثير من المقايضات على مدار تاريخ حياة الكائن الحي. وإحدى هذه المقايضات الأخرى إنجاب النسل مقابل بقائه على قيد الحياة. يزيد الاستثمار بدرجة كبيرة في كل فرد من الذرية، من حيث مدة الحمل أو الغذاء أو الرعاية الأبوية، من فُرَص بقاء الفرد على قيد الحياة حتى الوصول إلى مرحلة البلوغ، ولكنه يحدُّ من العدد الإجمالي للذرية التي يمكن دعمها. ينتج نبات السحلبية عددًا كبيرًا من البذور الصغيرة الشبيهة بذرَّات الغبار يصل إلى ثلاثة ملايين في كل كبسولة ثمار، ولكن بدون تخصيص موارد غذائية، يكون البقاء على قيد الحياة مرهونًا بتأمين ارتباط بفطريات مُتخصِّصة تغذِّي الشتلات. وتُخفق الغالبية العظمى من هذه البذور في هذا المسعى وتموت بسرعة. على النقيض من ذلك، تحظى نخلة جوز الهند البحري بأكبر بذرة في العالم؛ إذ يصل وزنها إلى نحو ١٥ كيلوجرامًا. تنبت هذه البذور المزوَّدة جيدًا بالمُؤَن وتنمو على مدار شهور دون الاعتماد على أي شيءٍ آخَر سوى الموارد الخاصة بالبذرة، إلا أن النخلة الأم تُنتج بذرة واحدة فقط في السنة.

وتُخصص الاستراتيجيات البديلة نسبًا مختلفة من الموارد من أجل النمو والرعاية والتكاثر لتتناسب مع الظروف البيئية. وتتجلَّى هذه المقايضات أيضًا بين الأفراد داخل النوع الواحد. وفي كثير من الأنواع، تُحدِّد المقايضة بين التكاثر والنمو حجم الجسد، مما يكون له تداعيات على فُرص البقاء على قيد الحياة. فتطوُّر أسماك الجوبي، وهي سمكة صغيرة مألوفة لدى الكثير من مالكي أحواض السمك، استراتيجيات تخصيص مختلفة للموارد تعتمِد على الحيوانات المفترسة التي تتعرَّض لها. ففي ترينيداد، الموطن الأصلي لأسماك الجوبي، تُئوي بعض المجاري المائية أسماك البلطي التي تتغذى على أسماك الجوبي الكبيرة، بينما في بعض المجاري المائية الأخرى تتغذى أسماك كيليفيش على أسماك الجوبي الصغيرة. وفي المجاري المائية التي تُهيمن عليها أسماك البلطي، تُخصِّص أسماك الجوبي مزيدًا من الموارد من أجل التكاثر في وقت مبكِّر من الحياة، ومن ثم تتكاثر عند حجم أصغر. وفي المجاري المائية التي تُهيمن عليها أسماك كيليفيش، تؤجل أسماك الجوبي التكاثر وتعطي الأولوية في تخصيص الموارد إلى النمو، والوصول إلى أحجامٍ أكبر بسرعةٍ أكبر، مما يُقلِّل خطر النفوق بسبب أسماك كيليفنيش.

السمات الوظيفية

السمات الوظيفية هي جوانب من فسيولوجيا الكائنات الحية (معدل التمثيل الغذائي، أو القدرة على تحمُّل الصقيع، أو معدل البناء الضوئي)، أو مورفولوجيا الكائنات الحية (حجم المنقار، أو كتلة الجسم، أو مساحة الورقة، أو كثافة الخشب)، أو السلوك (التغذية أو استراتيجيات الهروب من الحيوانات المفترسة)، التي تؤثر على الأداء أو اللياقة. وتتسق السمات الوظيفية مع الاستراتيجيات المتبعة على مدار دورة حياة الكائن الحي، إما باعتبارها سماتٍ متطوِّرة، أو باعتبارها مقايضات مورفولوجية أو فسيولوجية. فربما تخصِّص الأشجار الصغيرة أغلب مواردها للنمو، وهي استراتيجية تتبعها على مدار دورة حياتها، على حساب إتاحة عدد أقل من الموارد من أجل الدفاع، وهي سِمة وظيفية، من أجل حمايتها من الحيوانات العاشبة. وهذه الاستراتيجية تكون ناجحة عندما تكون الموارد وفيرة؛ نظرًا لأن أي نسيجٍ يُفقد بسبب الحيوانات العاشبة يمكن استبداله بسهولة وبسرعة. أما في الموائل الأقل ملاءمة، ربما في الطبقة السفلية من إحدى الغابات حيث يكون الضوء اللازم لعملية البناء الضوئي شحيحًا، فمن غير المرجَّح أن يبقى نبات بهذه الاستراتيجية على قيد الحياة طويلًا؛ لأن استبدال النسيج المفقود يكون بطيئًا للغاية في ظِل ظروف الإضاءة المنخفضة.

تؤثر السمات الوظيفية على قُدرات الأنواع على استعمار أحد الموائل أو النمو فيها، والاستمرار في مواجهة التغيرات البيئية. كذلك تؤثر على خصائص النظام الإيكولوجي. وعادةً ما تحظى النباتات الموجودة في الموائل ذات التربة المُتدنِّية الخصوبة أو القليلة الأمطار بأوراق سميكة صغيرة، ذات كتلة عالية مقارنةً بمساحة السطح، لتقليل فقد المياه وتحسين كفاءة استخدام المواد المُغذية. وتتحلل هذه الأوراق على نحو أبطأ، وتكون معدلات دوران المواد المُغذية أبطأ في هذه المجتمعات. أما في الموائل المائية، فيميل ضغط الافتراس إلى محاباة العوالق الكبيرة التي تتمتَّع بدرجةٍ من الحماية بمقتضى الحجم، ولكن الحجم الكبير يزيد من معدل غرق العوالق الميتة، ويزيد معدل نقل المغذيات إلى الرواسب بالتبعية، مما يؤثر على الدورة البيوجيوكيميائية. وعلى نطاقات واسعة، تؤدي تأثيرات السمات الوظيفية على النظام الإيكولوجي إلى عواقب مُهمة على مجتمعاتنا التي تعتمد على المواد المُغذية والدورات البيوجيوكيميائية لتجديد خصوبة التربة ومصائد الأسماك البحرية، أو لعزل الكربون وتخزينه في الغلاف الجوي.

الانتشار

لقد استعرضنا ديناميات الجماعة باعتبارها حصيلة المواليد والوفيات التي تُنظمها عمليات أساسية قائمة على الكثافة. وتتأثر ديناميات الجماعة أيضًا بالتوزيع المكاني للجماعات في المشهد الطبيعي وانتشار الأفراد عبرَه، والانتشار من جماعة إلى أخرى. وإذا كانت الجماعة تشغل موئلًا آمنًا ومناسبًا، فربما لا يبدو أن هناك دافعًا لأفرادها لكي ينتشروا خارجها. ومن ثَم، يطرح هذا سؤالًا عن سبب تطور عملية الانتشار من الأساس، ولماذا يحظى كل نوع تقريبًا باستراتيجيات انتشار.

تشير الصدفة وحدَها إلى أنه على المدى الطويل، ستنقرض أي جماعة معزولة بسبب تغيُّر أو اضطراب بيئي. ويُتيح الانتشار للأفراد استعمار مساحات أخرى، مما يقلِّل احتمالية انقراض الجماعة ككل. يُتيح الانتشار أيضًا إعادة استعمار رقعة أزيحت منها الجماعة فيما سبق.

وبغض النظر عن أي تغيير بيئي، تصير الجماعة الآخِذة في النمو والتزايد، والتي تشغل رقعةً محدودة، عُرضة بصورة متزايدة للمنافسة القائمة على الكثافة؛ نظرًا لاستهلاك الموارد. والانتشار هو وسيلة للهروب من القيود التي تفرضها الكثافة. فالهجرة لا تزيد من احتمالية بقاء الكائن المُهاجر على قيد الحياة وحسب (بافتراض أن التكاليف المُعتمدة على الكثافة تفوق تكاليف الانتشار)، بل أيضًا تقلِّل كثافة جماعة المصدر، ومن ثم تزيد من احتماليات تكاثر الأفراد. على سبيل المثال، يتزايد معدل تكاثر فئران الحقل إذا تضاءل حجم الجماعة عن طريق انتشار بعض أفرادها. ومن ثَم، يُحابي الانتخاب عملية الانتشار باعتبارها استراتيجية لبقاء الأفراد (ومن ثَم الجماعات) على قيد الحياة على المدى القصير والطويل على حدٍّ سواء.

ومن خلال الانتشار أيضًا، قد ينجو الأفراد من الآفات والأمراض التي تتفشى في الجماعات ذات الأعداد الكبيرة. ففي باريس، مثلًا، تستعمر الفراشات من فصيلة أبو دقيق الملفوف رُقعًا من موائل معزولة في وسط المدينة، إلا أن الدبور الطفيلي الذي يتغذَّى على يرقات الفراشة لا يستطيع الوصول إلى هذه المواقع في وسط المدينة قادمًا من أطراف باريس (شكل ٣-٤). بالمثل، غالبًا ما يعتمد بقاء شتلات الأشجار الاستوائية على انتشار البذور بنجاح بعيدًا عن الشجرة الأم؛ حيث تُوجد أعداد كبيرة من العوامل المُمرضة وآكِلات الأعشاب.
fig8
شكل ٣-٤: تعجز الدبابير الطفيلية الصغيرة عن الانتشار في وسط مدينة باريس، ومن ثَم لا تتعرَّض فراشات أبو دقيق الملفوف إلى الهجوم في وسط المدينة.

الجماعات شِبه المستقرة

يمكن اعتبار أن المشاهد الطبيعية تحوي رقعًا مكوَّنة من موائل منفصلة ذات جودة متغيرة. فبعض الرقع قد تدعم جماعات صغيرة فقط، عُرضة للانقراض المحلي. والهجرة الداخلية من موائل ذات نوعية جيدة قد تُطيل مدة بقاء هذه الجماعات المهمشة. ويمكن أن تدعم رقع «المصدر» ذات الجودة العالية الجماعات الكبيرة التي تحدث منها الهجرة الخارجية، أما الرقع الأصغر أو رقع «المهبط» ذات الجودة المنخفضة، فلا تدعم إلا الجماعات الصغيرة والضعيفة التي يتم الحفاظ عليها من خلال الهجرة الداخلية، وإلا صارت منقرضة ومن ثَم يُعاد توطيدها من خلال الهجرة الداخلية. ويؤكد هذا النموذج من «الجماعات شبه المستقرة» القائم على المصدر والمهبط، على أهمية دور الانتشار في الحفاظ على الجماعات عَبْر مشهدٍ طبيعي ما.

يمكن أن يتسبَّب التغير البيئي، الذي غالبًا ما يتسبَّب فيه البشر، في تراجُع جودة رقع الموائل، الأمر الذي يقوِّض بِنية الجماعة شبه المستقرة من خلال تحويل جماعات المورد إلى جماعات مهبط. وقد يؤدي الفقدان الكامل لرقع الموائل، ربما من خلال تحويلها إلى استخدامات أخرى، إلى زيادة المسافة الفاصلة بين الرقع الباقية. وقد يصعِّب هذا الأمر على الكائنات الحية المنتشرة إيجادَ رقع مواتية، مما يقلِّل احتمالية إنقاذ الجماعة عن طريق الهجرة الداخلية. ولهذا السبب يزعم دعاة الحفاظ على البيئة وجود حاجةٍ إلى خلق ممرات للموئل الطبيعي أو «معابر» لتسهيل انتشار الحيوانات (والبذور) عَبْر المشهد الطبيعي من رقعة موئلٍ مناسبة إلى رقعة أخرى.

يُسهِّل الانتشار أيضًا تبادُل التنوُّع الجيني عَبْر جماعة شِبه مستقرة، مما يساعد في التغلُّب على المشاكل المرتبطة بالتزاوج الداخلي. فالتزاوج الداخلي، الذي ينشأ من تكرار تزاوج الأفراد المُتشابهين وراثيًّا، يمكن أن يزيد من انتشار الأمراض الوراثية ويقلِّل من احتمالات البقاء على قيد الحياة. والجماعات المعزولة أكثر عُرضة للمعاناة بسبب التزاوج الداخلي؛ لا سيَّما إذا كانت تنحدِر من عددٍ صغير من الأفراد المستعمرين دون حدوث هجرة داخلية لاحقة. ففي جزُر آلاند بفنلندا، تتواجَد فراشات جلانفيل فريتيلاري في جماعة شبه مستقرَّة تتألَّف من مئات الجماعات ذات الأحجام المُتنوِّعة ولكنها منعزلة. وعادةً ما تحظى أصغر الجماعات وأكثرها انعزالًا بتنوُّعٍ جيني منخفض، وتكون عُرضة للانقراض بسبب التزاوج الداخلي. وتتجنَّب الرقع الأقل انعزالًا التزاوج الداخلي من خلال التبادل الدائم للأفراد.

إدارة الجماعات

تعتمد إدارة الأنواع، سواء كانت من أجل الوفاء بمتطلبات مواردنا الخاصة، أو من أجل الحفاظ عليها، أو لغرض آخَر غير ذلك، على فهمنا لديناميات الجماعة التي تتشكَّل بناءً على سمات الأنواع، والاستراتيجيات المُتبعة خلال دورة حياة الكائن، والظروف البيئية، والتفاعلات الحيوية، والانتشار. تتطلب إدارة تمدُّد الأنواع أو الآفات الغازية التي تنطوي على مشاكل، أو الحفاظ على مجموعات صغيرة من الأنواع المهدَّدة بالانقراض، فَهمًا جيدًا لسمات الأنواع، وكيفية ارتباطها بمعدلات نمو الجماعة، والمنافسة القائمة على الكثافة، وديناميات الجماعات شِبه المُستقرة. وتوفر الديناميات المترابطة للوشق وأرانب حذاء الثلج البري، أو الزيادة والانخفاض الدوريان في جماعات اللاموس، رؤًى ثاقبة حول الكيفية التي تُنظم بها التفاعلات البسيطة بين المفترس والفريسة والموارد، الجماعات الحيوانية. غير أن معظم التفاعلات تكون أكثر تعقيدًا من ذلك بكثير، إذ تشمل أنواعًا متعدِّدة عَبْر مجموعةٍ من الظروف البيئية المختلفة. وقد نجح علم البيئة في استخدام نماذج بسيطة لتوضيح وتبسيط المبادئ الأساسية والعامة، ونحن نستخدِم مُخرجات هذه النماذج لإدارة الجماعات وفقًا لاحتياجاتنا. وتأتي الأفكار العامة المكتسبة على حساب الواقعية في سياقات معيَّنة. ومن ثَم، يجب أن نتوخى الحذر في تفسيرها. ولا يزال أمامنا طريق طويل قبل أن نفهم ديناميات الأنظمة البيئية المتعدِّدة الأنواع الأكثر تعقيدًا، على الأقل بشكلٍ جيد يكفي للتنبؤ بكيفية استجابتها للتغير الذي يتسبَّب فيه الإنسان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤