مستقبل علم البيئة
جرت العادة على اعتبار عمل عالِم البيئة مهمة بسيطة. ولقد ثبتت فاعلية عدة أدوات لعلماء البيئة، التي لا تزيد على مجرد نظارة مُعظِّمة، وشريط قياس، وربما بعض المصائد والأنابيب لأخذ العينات، ودفتر ملاحظات، في فحص أعقَد الأنظمة الطبيعية. ولكن في القرن الحادي والعشرين دخل علم البيئة عصر البيانات الضخمة والتقنيات الحديثة. لذلك يستعين علماء البيئة دائمًا بالأقمار الصناعية، والطائرات المُسيَّرة، وأجهزة التتبُّع، وعلم الوراثة، والنظائر المُستقرة لرصد وتفسير الأنماط والعمليات والتفاعُلات عبر نطاقات مكانية وزمانية متعددة.
كانت الأسئلة الإيكولوجية تدور حول قضايا ليس لها تأثير مباشر يُذكر على المخاوف ذات الأبعاد السياسية. وقد تغيَّر هذا أيضًا. فعلماء البيئة الآن يتعاملون على نحوٍ روتيني مع قضايا الحفاظ على البيئة، وإدارة الأراضي، واستغلال الموارد، وهي موضوعات مألوفة بطبيعتها وخلافية عادةً. نحن نعيش في عصر الأنثروبوسين، الذي يُحدِّد ملامحه إرث دائم للبشرية على نظام الأرض. ويشمل هذا الإرث خسائر التنوُّع الحيوي، وتغيُّر المناخ، وارتفاع نسبة الكربون في الغلاف الجوي، وتحمُّض المحيطات، وترسب النيتروجين، وانتشار الأنواع الغازية، وإزالة الغابات، وتآكل التربة، وكلها عوامل تُغيِّر بنية النظام الإيكولوجي وأداءه على المدى الطويل. وفي ظِل هذه الظروف، فإن الفهم الإيكولوجي القائم على أنظمة طبيعية سليمة من الماضي إلى حدٍّ كبير يُوفر إرشادات توجيهية محدودة للأنماط والنتائج المستقبلية.
ثمَّة شكوك عديدة حول طريقة استجابة الجماعات والمجتمعات البيئية والأنظمة الإيكولوجية للتغيُّر المناخي العالمي. ربما يئول ارتفاع نسبة ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي إلى زيادة إنتاج النباتات من خلال تأثير التسميد، ولكنه قد يجعل النباتات أيضًا عُرضة للجفاف أو نقص المُغذيات. وسيؤثر تحمُّض المحيطات على إنتاجية الأنظمة الإيكولوجية البحرية وسلامة بنية الشعاب المرجانية، بالإضافة إلى ما قد يترتَّب على ذلك من تداعياتٍ كارثية تطول التنوع الحيوي البحري ومصائد الأسماك على حدٍّ سواء. ويعمل الاحتباس الحراري على تسهيل انتشار العوامل المُمرضة والآفات في مناطق جديدة، مما يُسفر عن تفشي الآفات المُدمِّرة في الغابات الأمريكية. وهكذا، فإن العواقب المتتابعة المترتبة على هذه النتائج عَبْر السلاسل الغذائية والمُجتمعات وعَبْر الأنظمة الإيكولوجية يكتنفِها الغموض. كما أننا لا نفقَهُ العوامل التي تُحدِّد مرونة النظام الإيكولوجي على نحوٍ صحيح، أو حتى كيفية قياس هذه المرونة. وفي ضوء الخسائر المُستمرة والسريعة للتنوُّع الحيوي على مستوى العالم، فإننا نجهل، إلى حدٍّ مُثير للقلق، كيفية تأثير التنوع الجيني وتنوع الأنواع، وبنية شبكات التفاعل الإيكولوجي، على أداء النظام الإيكولوجي ومرونته. ثمة الكثير لتعلُّمه وفِعله في هذا الصدد.
منطقة مجهولة
تؤثر التغيُّرات البيئية العالمية على تواتُر الاضطرابات وشدتها، مثل هبوب الرياح، وموجات الجفاف، واندلاع الحرائق، وموجات تفشي الآفات. وستشهد العقود القادمة أنظمة اضطرابٍ جديدة، وأحداثًا مناخية حادة وأكثر تواترًا. وتتأثر قدرة النظم الإيكولوجية على الاستجابة لهذه التغيرات بدرجة مرونتها، التي تتأثر بدَورها بالأنشطة البشرية التي تغير تكوين النظام الإيكولوجي وبِنيته. لقد أصبح الوصول إلى فهمٍ شامل لمسارات التغيُّر البيئي واستجابات النظام الإيكولوجي هدفًا محوريًّا لعِلم البيئة. وما يُثير القلق بشدة هو ما إذا كانت الأنظمة الإيكولوجية سوف تتجاوز العتبات أو نقاط التحوُّل، مما يؤدي إلى تغيُّرات جذرية يُصبح التعافي منها صعبًا بل ومُستحيلًا وفقًا للمقاييس الزمنية البشرية.
تتعرض الموائل كذلك للتهديد بسبب الآثار التراكمية والتآزرية للاضطرابات المتكرِّرة. فغابات الأمازون المطيرة لا تشتعل بها الحرائق طبيعيًّا، إلا أن توغُّلات الطُّرق والمزارع، إلى جانب التغيُّرات المناخية، بدأت في تجفيف المناطق الداخلية من الغابة، كما أن وجود البشر يزيد من تواتُر الحرائق. في البداية تكون الحرائق ذات شدة مُنخفضة، إلا أن أشجار الغابات المطيرة غير مُتكيفة مع النيران، وحتى الحرائق ذات الشدة المنخفضة تقتل كثيرًا منها. تخلق الأشجار الميتة فتحات في المظلة الغابية، مما يؤدي إلى جفاف الطبقات السفلية من أرضية الغابة أكثر، كما يؤدي تراكُم الأخشاب الميتة إلى زيادة كميات الوقود. وهذا يمهد الطريق لحرائق مُتزايدة الشدة والانتشار، لا سيَّما عندما تتزامن مع زيادة تكرار موجات الجفاف. ويعتقِد بعض علماء البيئة أن تفاعلات الاضطراب التآزرية هذه تنذر بتحويل الغابات المطيرة الرطبة إلى سافانا مُشجرة أكثر جفافًا بكثير. وإذا تحققت مثل هذه السيناريوهات، فإن العواقب المترتبة على التنوع الحيوي وانبعاثات الكربون ستكون هائلة.
مربع (٥): الخنافس وفطر صدأ الصنوبر والدببة وقصة الصنوبر الأبيض
تتعرض غابات الصنوبر الأبيض الساق (باينس ألبيكوليس) الموجودة في سلسلة جبال روكي الشمالية إلى هجوم من جانب فطر صدأ الصنوبر الأبيض، وهو كائن مُمرض من الفطريات الدخيلة على المنطقة (كرونارتيوم ريبيكولا)، وخنافس الصنوبر الجبلية الأصلية (دندروكتنوس بوندروسي). كانت توزيعات الخنافس فيما مضى مُقيَّدة بدرجات الحرارة الباردة على الارتفاعات العالية التي تشغلها أشجار الصنوبر الأبيض الساق، بينما أُدخلت الفطريات الصدئية، التي تنتمي في الأصل إلى قارة آسيا، إلى أمريكا الشمالية في مطلع القرن العشرين تقريبًا. لم تُطوِّر أشجار الصنوبر الأبيض آلياتٍ دفاعية ضد الخنافس أو فطريات الصدأ؛ نظرًا لأنها لم تتعرَّض من قبلُ إلى هذه التهديدات حتى هذه اللحظة. وأغلب الظن أن الصنوبريات الأخرى ستحلُّ محل الصنوبر الأبيض المفقود في الوقت المناسب، ولكن من المُحتمَل أن يكون هناك تأثيرات خاصة بالشلالات الغذائية على الدببة الرمادية وغيرها من الحيوانات التي تُمثل بذور الصنوبر الأبيض مصدرًا مُهمًّا للغذاء بالنسبة إليها. علاوةً على ذلك، يمكن أن يزيد موت أشجار الصنوبر الأبيض الواسع النطاق من حرائق الغابات الهائلة من خلال خلق مجموعاتٍ مُمتدَّة من الأشجار الميتة.
تعقُّب المناخ
ربما يُمثل تغير المناخ التهديد الأكبر على المدى الطويل للتنوع الحيوي والمجتمعات البيئية. فقد قدَّرَت إحدى الدراسات أن نسبة تتراوح من ١٥ إلى ٣٧ في المائة من جميع الأنواع عُرضة لخطر الانقراض لأسبابٍ متعلقة بتغير المناخ. ومع ارتفاع درجة حرارة المناخ، لا يُتاح أمام الأنواع غير القادرة على التكيُّف سريعًا خيارات سوى الانتقال إلى مناطق أكثر ملاءمة لاحتياجاتها المناخية. وتُقدِّر دراسات النمذجة النطاقات المستقبلية المتوقعة للأنواع في ظِل سيناريوهات المناخ المختلفة، إلا أنه لم يتضح بعدُ ما إذا كانت الأنواع ستكون قادرةً على الانتشار بالسرعة الكافية في ضوء معدلات تغيُّر المناخ.
وقد انتقلت جماعات من النباتات والثدييات والطيور والفراشات بالفعل إلى دوائر عرض وارتفاعات أعلى استجابةً لتغيُّر المناخ. كانت استجابات كثير من الأنواع سريعة، إلا أن ثمة أنواعًا أخرى لم يتسنَّ لها مواكبة تغيرات درجات الحرارة الجغرافية. ومن واقع عيِّنة ضمَّت ٣٥ نوعًا من الفراشات الأوروبية غير المهاجرة، شهد ٢٢ نوعًا إزاحات للنطاق تتراوح من ٣٥ إلى ٢٤٠ كيلومترًا نحو الشمال خلال القرن العشرين، وخلال هذه الفترة تغيرت خطوط تساوي درجات الحرارة المناخية بنحو ١٢٠ كيلومترًا شمالًا. ولم تتحرك الثلاثة عشر نوعًا المتبقية سوى مسافة قصيرة. راكمت كثير من الطيور والفراشات، حتى تلك الأنواع ذات القدرات الفردية العالية على الانتشار، نسبة كبيرة من «الدَّيْن المناخي»؛ أي الفارق بين القدرة الفعلية للأنواع على استعمار مناطق جديدة والمعدل اللازم من أجل ذلك في ظِل وتيرة تغيُّر المناخ. وتشير إحدى الدراسات إلى أنه بين عامَي ١٩٩٠ و٢٠٠٨، كانت إزاحة درجات الحرارة جهة الشمال في أوروبا سريعةً بالدرجة الكافية لمراكمة متوسط ديون مناخية يُقدَّر بمسافة ٢١٢ كيلومترًا للطيور و١٣٥ كيلومترًا للفراشات. وإذا كانت هذه الدراسات صحيحة، فلربما عجزت مجموعات الطيور والفراشات ذات القدرة العالية على التنقُّل عن مواكبة تغير المناخ.
ويبدو النحل الطنان عُرضة لذلك على نحو خاص. فقد عجزت معظم الأنواع عن الانتشار بعيدًا عن حدود نطاقها الشمالي الحالي. وفي الوقت نفسه، عانت من تقلُّص حدود النطاقات الجنوبية بمقدار نحو ٣٠٠ كيلومتر في كلٍّ من أوروبا وأمريكا الشمالية، على الأرجح بسبب ارتفاع درجات الحرارة على نحو غير طبيعي وبصورة متكررة. وعادةً ما يتراوح انتشار ملكات النحل الطنان الوَلودة من ثلاثة إلى خمسة كيلومترات سنويًّا، إلا أن ثمة انتشارات لمسافات أطول تحدُث على نحوٍ غير منتظم، ومن ثَم يبدو أن قدرات الانتشار ليست محدودة. بدلًا من ذلك، قد يكون الأمر أن الأنواع المُستقدَمة تواجِه منافسة على المكان والموارد مع الأنواع الموجودة بالفعل. وربما يتصادم اتِّساع نطاق النحل الطنان جهة الشمال مع المجتمعات النباتية الأقل وفرةً وثراءً من حيث الزهور المُوفرة للرحيق وحبوب اللقاح. إن تعقُّب تغيُّر المناخ ليس مجرد مسألة متعلقة بإزاحة نطاقات الأنواع، بل هو أيضًا مسألة إعادة تكيف وتنظيم المجتمع كليًّا. وهذا مجال خصب للدراسات الإيكولوجية المستقبلية.
تُعد أكثر الحيوانات المُهددة بالانقراض لأسبابٍ ذات صِلة بالمناخ هي تلك الحيوانات ذات التوزيعات الضيقة النطاق وقُدرات الانتشار المحدودة. وأحد الخيارات المطروحة للحفاظ على الجماعات البرية لهذه الأنواع المُعرضة للخطر بصفة خاصة هو نقلها إلى أماكن جديدة مناسبة لها. ويمكن نقل النحل الطنان بكل سهولة من خلال انتقال أعداد صغيرة من الملكات المُخصبة في فصل الربيع إلى موائل ملائمة مناخيًّا. وقد لاقى هذا النوع من الاستعمار بمساعدة البشر انتقادات لكونه تدخُّلًا مبالَغًا فيه، مما يُسفر عن خَلْق مجتمعات «غير طبيعية». وتتمثَّل الحُجة المضادة في أن الحفاظ على المجتمعات البيولوجية على حالتها الحالية أو كما كانت على مَر التاريخ هو أمر غير قابل للتنفيذ في ظِل التغيرات المناخية والبيئية الأخرى التي يتسبَّب فيها الإنسان. ولهذا الانتقال المكاني سوابق تتمثَّل في التدخُّلات الرامية إلى حماية الأنواع المُهددة، أو الاستعاضة عن الأنواع المُنقرضة بنظيراتها الإيكولوجية. فعلى سبيل المثال، أُدخلت طيور نيوزيلندا، تحديدًا ببغاء الكاكابو الذي لا يطير وطائر التاكاهي، وهو طائر مُرعة لا يطير، إلى جزر معزولة خالية من الحيوانات المفترسة كملاجئ خارج نطاقها الأصلي بهدف مساعدتها على التعافي. وأُدخلت سلاحف ألدابرا العملاقة إلى جزيرة راوند، بجمهورية موريشيوس، في المحيط الهندي، لاستعادة انتشار بذور أشجار الأبانوس الأصلية، وهي مهمة كانت تؤديها فيما مضى السلاحف المحلية المُنقرضة. ويذهب المؤيدون لمؤازرة انتقال الكائنات الحية إلى مناطق جديدة ملائمة مناخيًّا إلى أن مثل هذه الإجراءات تدمج ببساطة التغيُّر المناخي ضمن أُطُر العمل الحالية القائمة بالفعل للحفاظ على البيئة.
حدائق العصر البليستوسيني وأنظمة فرانكنشتاين الإيكولوجية
ينتاب السكَّان المحليِّين مخاوفُ مشروعة حيال مشاركة مشهد طبيعي مع حيوانات برية ضخمة لا يألفونها كثيرًا. كانت الخنازير البرية شائعةً يومًا ما في المملكة المتحدة، إلا أنها أُبيدت في العصور الوسطى. وما إن استُورِدَت ثانيةً من أوروبا القارية في ثمانينيات القرن العشرين لتربيتها بهدف الاستفادة من لحومها، حتى هربت وكوَّنت جماعات من السلالات البرية بحلول أوائل التسعينيات، وهو ما أثار الذُّعر في نفوس المُزارعين لأنها تتسبَّب في إتلاف محاصيلهم، وتُزعج المُتنزِّهين الذين يُصيبهم الخوف في رحلاتهم الترفيهية من هذه الخنازير البرية الطليقة. وبتنحية الأسئلة المُتعلقة بما يُريده الناس وما هم على استعداد لقبوله، جانبًا، يجِب أن تتجاوب عملية استعادة الحياة البرية مع المسألة البيئية المُتعلقة بما إذا كانت المشاهد الطبيعية الحالية ما زالت تُحافظ على مساحة المكمَن البيئي الضروري لدعم الأنواع المُستقدَمة. ويجب على أنصار الحفاظ على البيئة أن يتوخَّوا الحرص البيئي الواجب لضمان أن عمليات إدخال الحيوانات تحظى بفرصةٍ للنجاح دون التسبُّب في أضرار غير مقصودة ناتجة عن آثار بيئية غير متوقعة.
استعادة الأنظمة الإيكولوجية
تدهور نحو ٢٥ في المائة من الأراضي على مستوى العالم، من خلال تآكُل التربة أو التملُّح أو إغراق الأراضي الخثية والأراضي الرطبة أو فقدان الغابات أو التصحُّر. وهذه ليست بمشكلةٍ جديدة. فتاريخ تدهوُر المشهد الطبيعي وتغيُّر ملامحه يعود إلى آلاف السنين، كما هو ثابت من البقايا الأثرية وآثار الفحم في طبقات التربة حتى في الأماكن البعيدة من المناطق المُعتدلة والاستوائية. ومنذ أكثر من ألفَي عام، أدرك كونفوشيوس تدهوُر التربة والغطاء النباتي في الشرق ووصفهما، وفعل أفلاطون وأرسطو الشيء نفسه في الغرب. ويذهب جارد دايموند، وإن كان على نحوٍ مُثير للجدل، إلى أن التدهور البيئي تسبَّب في تراجُع وانهيار كثيرٍ من الحضارات الإنسانية على مَر التاريخ. وفي منتصف القرن العشرين، أنبأ ألدو ليوبولد وراشيل كارسون، على سبيل المثال لا الحصر، بعصرٍ جديد من المسئولية البيئية من خلال الاعتراف بالحاجة إلى الحفاظ على المشاهد الطبيعية والموائل التي تسبَّبْنا في تدهورها واستعادتها. واكتسبت فكرة استعادة المناظر الطبيعية زخمًا واسع النطاق من خلال حركةٍ عالَمية واسعة تهدف إلى زراعة الأشجار لعزل الكربون للتخفيف من آثار تغيُّر المناخ، واستعادة الوظائف الإيكولوجية والتنوُّع الحيوي لأنظمة الغابات المتدهورة. فقد استهدفت حركة مبادرة «تحدي بون» إعادة ٣٥٠ مليون هكتار من الأراضي المتدهورة إلى الغابات بحلول عام ٢٠٣٠. وزراعة الأشجار تضرب بجذورها بعُمق في كثيرٍ من الأعراف الثقافية، وهذا الحماس العام لاستعادة الأنظمة الإيكولوجية من خلال زراعة الأشجار ليس مستغربًا.
غير أن استعادة المناظر الطبيعية لا يقتصر على زراعة الأشجار فقط. ففكرة استعادة الغابات والمشاهد الطبيعية تُفسر المشاهد الطبيعية والأنظمة الإيكولوجية التي تحتويها بوصفها أنظمةً تكيُّفية مُعقَّدة، تتألَّف من مكوناتٍ عديدة تتفاعل معًا عَبْر نطاقات مكانية وزمنية عديدة. ويُعد هذا منظورًا إيكولوجيًّا شموليًّا، وإن كان لا يخلو من التحديات القابعة أمام التخطيط المُستقبلي لعملية الإصلاح والترميم. فقد تُضعِف التفاعلات عَبْر نطاقات مختلفة حدة التقلبات البيئية أو تُعززها، مما يؤدي إلى نتائج ديناميكية غير مُتوقعة عادة. ففي الأراضي المستصلحة مؤخرًا في الأجزاء الوسطى من غابات الأمازون، تؤثر شدة الأنشطة السابقة للإنسان في استخدام الأرض على استعادة بِنية الغابات على نطاقات محلية، في حين تحدد تركيبة المشهد الطبيعي المحيط مدى تنوُّع أنواع الغابات، وهو تأثير ذو نطاق أكبر بكثير. وثمَّة كثير من النتائج المحتملة لعمليات الاستصلاح، الخاضعة للتفاعُلات على النطاق المحلي وعلى نطاق المشهد الطبيعي.
وبالوضع في الاعتبار المسارات المتعددة للتعافي، والشكوك حول الظروف المناخية والبيئية المستقبلية، ربما يُعزِّز وضع هدف أكثر ملاءمة، مُتمثل في استعادة المشهد الطبيعي، من مرونة النظام الإيكولوجي، بدلًا من استعادة تراكيب أو مكونات نظام إيكولوجي مُعيَّن. ويعتمد بناء النظام الإيكولوجي ومرونة المشهد الطبيعي على تأسيس (أو بالأحرى إعادة تأسيس) العمليات الوظيفية، بما في ذلك التفاعلات بين النباتات والتربة التي يقوم عليها تدوير الكربون والمُغذِّيات، وتحكم الحيوانات المفترسة في الشبكات الغذائية، والتلقيح ونشر البذور. ويتطلَّب هذا تنسيق التحرك بين مُلَّاك الأراضي والقائمين على إدارة المناظر الطبيعية ومسئولي التخطيط وصنَّاع السياسات. وتضع عمليات السياسة في الاعتبار الآن «رأس المال الطبيعي»؛ أي الأصول البيئية ذات القيمة المباشرة أو غير المباشرة للأشخاص، وتشمل الأنواع، والمياه العذبة، والغابات، والتربة، والجو، والمُحيطات، وكذلك العمليات والوظائف الإيكولوجية التي تربط بين هذه المكوِّنات وتدعم الحياة. ومما لا شك فيه أن الإدارة المستقبلية للمناظر الطبيعية واستعادتها ستفرض مُتطلبات جديدة على الخبرة الإيكولوجية.
التقنيات الجديدة
لقد أصبح علم البيئة أوسع في نطاقه المكاني الذي يدرسه. وفي هذا الصدد، تستلزم التقديرات البيئية وعمليات الرصد الإيكولوجية، سواء كانت بغرض استعادة المناظر الطبيعية أم لأي غرضٍ آخَر، ملاحظة ديناميات الجماعة والتفاعُلات بين الأنواع، وحالات النظام الإيكولوجي وتدفُّقاته، وتأثيرات الاضطراب، عَبْر نطاقات مكانية متعدِّدة. ويستفيد علماء البيئة من التقنيات الجديدة في هذا الغرض، وقد أحدث ظهور الأنظمة العالمية لتحديد المواقع (جي بي إس)، ووسائل الاتصال عَبْر الأقمار الصناعية، والاستشعار عن بُعد، والحوسبة العالية السرعة، والثورة الوراثية، تحولًا في العلوم الإيكولوجية.
يتتبَّع علماء البيئة الآن الحيوانات على نطاقٍ أوسَع وبدقةٍ أكبر من أي وقتٍ مضى. وتشمل أجهزة التتبُّع المستخدمة مقاييس السرعة، وهي مُماثلة لتلك الموجودة في أجهزة رصد اللياقة البدنية المُستخدَمة في الألعاب الرياضية، وتوفر معلوماتٍ عن تحركات الحيوانات وسلوكياتها، مثل النوم أو اصطياد الفريسة، والتمثيل الغذائي مثل مُعدل نبضات القلب واستهلاك الطاقة. وتُتيح تقنية تصغير الأجهزة استخدام أجهزة التتبُّع مع الأسماك والطيور بل والحشرات أيضًا.
لطالما استُخدِمت الكاميرات التي تُنشَّط عن بُعد ويتم تشغيلها بواسطة مستشعرات الحركة، والمعروفة بمصائد الكاميرا، لتسجيل الحياة البرية، إلَّا أن فائدتها محدودة بسبب الحاجة إلى قصد مكان كلِّ كاميرا لتنزيل البيانات يدويًّا. ومن خلال ربط مصائد الكاميرات بشبكة استشعار لاسلكية (دبليو إس إن)، يُمكن الآن تنزيل الصور عن بُعد. ويمكن لأي نوع آخَر من المستشعرات الأرضية المُهيَّأة للارتباط بشبكة استشعار لاسلكية أن يجمع البيانات موضعيًّا، ونقل البيانات من خلال شبكة الاستشعار اللاسلكية إلى نقطةٍ مركزية لتجميع البيانات، يمكن من خلالها تحميل المعلومات. ويمكن مشاركة البيانات المُستمدة من أجهزة الاستشعار المناخية البالِغة الصِّغر، والمنتشِرة عَبْر آلاف الأماكن الطبيعية، بكفاءة باستخدام أنظمة لاسلكية موضعية؛ بحيث لا يستلزم منَّا الأمر سوى الوصول إلى جهاز واحد فقط للحصول على باقي المعلومات التي رصدتها عدة أجهزة. تُقلِّل هذه التقنيات الحاجة إلى القيام بجولاتٍ متعدِّدة ومُجهِدة إلى كل موقعٍ من مواقع المُستشعرات لتنزيل المعلومات يدويًّا، ولها ميزة إضافية تتمثل في الحدِّ من إزعاج الحيوانات أو الاحتكاك بالمناطق الحساسة.
أنصِت!
نحن — البشر — نوع يعتمِد بالأساس على حاسَّة البصر. أغمض عينَيك دقيقة وأنصِت إلى العالم من حولك لتكتشف منظورًا مختلفًا للطبيعة. لقد بدأ علماء البيئة يُسجِّلون أصوات المناظر الطبيعية، أو بالأحرى المناظر الصوتية، ليستخرجوا منها معلوماتٍ مفيدة حول تكوين الأنواع ودرجة تعقيد النظام الإيكولوجي. وفقدان الثراء الصوتي البيئي يعكس تأثير الإنسان على البيئة، كما يُصوره فيلم «جوقة الغسق» (داسك كوراس) (٢٠١٦) الذي يتتبع مسار رحلة ديفيد موناكي لتسجيل الصور الصوتية المُتضائلة للأنظمة الإيكولوجية حول العالم. وفي ذلك ترديدٌ لما جاء في كتاب راشيل كارسون، «الربيع الصامت» (١٩٦٢)، حيث يُعد الصمت غير الطبيعي مقياسًا للتدهور البيئي.
أصبحت دراسة المناظر الصوتية من المنظور الإيكولوجي أمرًا مُمكنًا بفضل أجهزة التسجيل الآلية، وإمكانيات التخزين الرخيصة، وبرامج الكمبيوتر المتخصِّصة لتحليل التسجيلات المُعقَّدة التي يتم الحصول عليها. وكثيرًا ما استُخدمت المناظر الصوتية لدراسة مجتمعات الطيور، ووثقت تراجُع أنواع الطيور الشائعة في أوروبا. كما يُستعان بها الآن لتقييم وفرة الحشرات والبرمائيات والثدييات وغيرها من الحيوانات الصوتية الموجودة في الموائل الطبيعية. ولا تزال هناك تحديات تحليلية في التمييز بين الأنواع بناءً على التنافر الصوتي في الأصوات المُسجَّلة، إلا أن هذا الاقتران الجديد والمُثير بين البحث العلمي والتكنولوجيا يَعِد بتقديم وجهات نظر جديدة حول تنوع المجتمعات الحيوانية ودينامياتها.
نحن نتاج ما نأكُله
غالبًا ما تختلف ذرَّات عناصر مُعيَّنة في عدد النيوترونات التي تحتوي عليها، مما يؤدي إلى ظهور نظائر مختلفة. والنظائر «الثقيلة» غنية بالنيوترونات، وإن لم تكُن كذلك تصير نظائر «خفيفة». وعلى عكس النظائر المشعَّة، لا تتحلَّل النظائر المستقرة غير المشعة. وهذه النظائر المستقرة ذات فائدةٍ بالنسبة إلى علم البيئة؛ إذ إن بعضها يَسهُل على المستهلكين تمثيله غذائيًّا بصورة أكبر، مما يؤدي إلى تغيُّر تدريجي في نِسَب النظائر في أجسام الحيوانات الموجودة أعلى السلسلة الغذائية.
تُتيح نِسَب النظائر، التي يتم الكشف عنها باستخدام مطيافية الكتلة، الوصولَ إلى استدلالات عن نوعية مصادر الغذاء وموضعها، وتُوفِّر رؤًى وأفكارًا بخصوص بِنى الشبكات الغذائية البحرية والبرية. وغالبًا ما تكون النتائج غير مُتوقعة. ونحن نُدرك الآن أن آكِلات اللحوم التي تتغذَّى على مستويات غذائية متعددة، أكثر انتشارًا مما كان يُعتقد سابقًا، مما يُفند الرأي القائل بأنه يمكن تخصيص الكائنات الحية لمستوًى غذائي معيَّن. وقد ساعد هذا في حل «معضلة الكتلة الحيوية للنمل». يُعتبر النمل عمومًا من الحيوانات المفترسة من الدرجة الأولى، ولكن في ظِل توافر الغذاء الحيواني، يبدو أنه يُمثَّل على نحو غير متكافئ في عينات الحشرات المأخوذة من قِمَم الأشجار الاستوائية. وتُشير دراسات النظائر المستقرة إلى أن نمل المظلَّة الغابية يستمد كميات كبيرة من احتياجاته من النيتروجين من آكلات العشب بدلًا من الافتراس، عن طريق التردُّد على الغدد المُفرزة للرحيق الموجودة على أوراق النبات أو سيقانه، أو عن طريق التغذية على المَن الذي تُنتجه حشرات المن وغيرها من الحشرات. وفي البحيرات الكندية، أقحمت النظائر الأسماك الغازية، مثل سمك القاروس الصغير الفم وسمك القاروس النهري الأمريكي، في التغييرات الطارئة على سلوكيات التغذية لدى سمك السلمون المُرقط الأصلي ليتحول من نظام غذائي يعتمد في المقام الأول على الأسماك إلى نظامٍ غذائي يعتمد على العوالق، مما يوضح كيفية قيام الأنواع الغازية بإعادة هيكلة الشبكات الغذائية على حساب الأنواع المحلية. وقد كشفت النظائر المُستقرة أيضًا كيف تغير المدخلات الغذائية المتدنية الجودة، من جانب السياح على جزيرة فريزر بأستراليا، الشبكات الغذائية للبحيرات هناك، مما دفع مديري المُتنزَّهات إلى تحسين مرافق المراحيض!
علم الوراثة
يقضي علماء البيئة وقتًا أطول داخل المُختبرات أكثر مما كانوا يفعلون في الماضي. وقد أصبحوا مُتمرِّسين في استخدام العلامات الجينية لتتبُّع حركات الشتلات وأصولها، وأنماط التزاوج لدى النباتات والحيوانات على السواء. وقد ثبت أن هذا أمر بالِغ الأهمية لفهم كيفية تأثير تغيُّر الغطاء الأرضي وإزالة الغابات على تبادُل الجينات بين الأشجار في مشهدٍ طبيعي ما، ومن ثَم إنتاج بذور قابلة للاستمرار. ويمكن للتقنيات الجزيئية المُطبقة على الحمض النووي المُستخرَج من براز الثدييات أن توفر معلومات عن تركيبة الجماعة، والعادات الغذائية، والتكاثر، ونسب الجنسَين، والأحمال الطفيلية.
تُتيح التطوُّرات في نظم تحديد تسلسل الحمض النووي العالية الإنتاجية توصيفًا آنيًّا لتسلسلات الحمض النووي الفريدة (أو شفرات الباركود) من أنواعٍ متعدِّدة من العينات البيئية، بالإضافة إلى توفير مؤشِّر لأعداد الأنواع من خلال تنوُّع التسلسلات الجينية. وتستطيع تقنية «التشفير الشمولي» هذه، تطوير طرق تقييمنا لتركيب الأنواع داخل المجتمعات جذريًّا. إن ربط شفرات الباركود بأنواعٍ مُعيَّنة محدود حاليًّا؛ إذ إن قواعد البيانات المرجعية التي تربط شفرات باركود الحمض النووي بأسماء الأنواع منقوصة للغاية. وفي بعض الحالات، تكون الطرق الخالية من التصنيفات كافيةً لقياس مدى تنوُّع المجموعات غير المعروفة مثل العوالق البحرية. ومع ذلك، إذا كان لعلم البيئة أن يستفيد من عمليات الرصد المعتمدة على الحمض النووي، يجب أن يوفر التشفير الشمولي معلوماتٍ عن سمات الكائنات الحية وتفاعلاتها، والتي من أجلها سيتحتَّم إنشاء ملفٍّ تعريف تصنيفي لتسلسلات الحمض النووي المكتشَفة. إن زيادة تغطية قاعدة البيانات المرجعية الخاصة بالحمض النووي هي ببساطة مسألة وقت.
الاستشعار عن بُعد
أصبحت صور الأقمار الصناعية متاحةً منذ عام ١٩٨٢ من خلال صور مجموعة أقمار لاندسات، بدقة ٣٠ مترًا كافية لاكتشاف فئات واسعة من الغطاء الأرضي، بل والتمييز بين الفجوات الكبيرة التي تحدُث بسبب الأشجار التي سقطت من تلقاء نفسها وتلك التي تساقطت بفعل العواصف، وهي مكوِّنات مهمة لديناميات الغابات. ومنذ ثمانينيات القرن العشرين، تطور الاستشعار عن بُعد عَبْر الأقمار الصناعية إلى حدٍّ كبير. وتوفر الأقمار الصناعية الجديدة تغطية منتظمة لسطح كوكب الأرض بدقةٍ تصِل إلى ٥٠ سينتيمترًا. فهي بذلك لا تكشف الغطاء النباتي فحسب، بل تكشف أيضًا نسبة الكربون في التربة ودرجة رطوبة التربة وملوحة المحيطات والعديد من المُتغيرات البيئية الأخرى التي تُهمُّ علم البيئة. تتتبَّع الأقمار الصناعية، التي تدور حول الأرض، التغيُّرات الطارئة على الغطاء النباتي، وأنظمة اندلاع الحرائق، وتحرُّكات الحيوانات على مدى فترةٍ زمنية تتراوَح من أيام وحتى سنوات.
وتعمل أجهزة الاستشعار المحمولة جوًّا، على الرغم من أنها لا تتمتَّع بنفس نطاق الأقمار الصناعية، على تصوير الغطاء النباتي بدقةٍ أعلى بكثير، بل يُمكنها أيضًا رسم خريطة لسمات النباتات والتنوُّع الكيميائي. وتقدِّم أجهزة «ليدار» للاستشعار (أنظمة التصوير ورصد الضوء وتحديد المدى) المحمولة جوًّا صورًا ثلاثية الأبعاد لبِنية الغطاء النباتي وجغرافية الأرض (نماذج الارتفاع الرقمية) عن طريق رصد الضوء المنعكس لنبضات الليزر. ويُتيح تصغير حجم أجهزة الاستشعار عن بُعد الآن إطلاق أجهزة ليدار أرضية من حقيبة الظهر.
تُستخدَم المركبات الجوية الصغيرة بدون طيار (طائرات السبر الجوي أو الطائرات المسيَّرة) الآن على نطاقٍ واسع في الأبحاث الإيكولوجية. ويُمكنها رسم خريطة للمناظر الطبيعية بدقة تصِل إلى سنتيمتر واحد، ورصد الغطاء النباتي وسلامته في تلك المناظر الطبيعية. وتُجمَع البيانات على نحوٍ أسرع وأكثر موثوقية وبتكلفةٍ زهيدة على نطاق مناطق أكبر باستخدام الطائرات المُسيَّرة مقارنةً بما يمكن تحقيقه من خلال المسوحات الأرضية. وعلى الرغم من أنها تفتقر إلى التغطية الجغرافية التي توفرها الأقمار الصناعية، فإنها تتَّسِم بدقة أعلى واستخدامات متعدِّدة، ويمكن أن تطير بالقُرب من المناطق محل الاهتمام. وهذا يُتيح استخدامها في تحديد الأنواع النباتية ومسوحات الحياة البرية. ويمكن إجراء تعداد للثدييات على مسافاتٍ متقطعة باستخدام طائرات مُسيَّرة يتم التحكُّم فيها من داخل سيارة مُريحة. وبهذه الطريقة أعشاش النوم الخاصة بإنسان الغاب في بورنيو، وجماعات الأفيال ووحيد القرن في أفريقيا. تقوم الطائرات المُسيَّرة بتتبُّع الحيتان وتصويرها، وتحليل الصور لفَهْم كيفية تأثير الظروف البيئية على صحة الحيتان البالغة، وعلى النجاح التناسُلي للجماعة. وفي حين يتم نشر الطائرات المُسيَّرة عادةً على نحوٍ منفرد، إلا أنه يُمكن برمجتها للاتصال بعضها ببعض، مما يسمح لكثيرٍ منها بجمع البيانات في آنٍ واحد على نطاق مناطق أكبر.
علم المواطن
رغم القيمة التي تحظى بها تقنيات الاستشعار عن بُعد، فإنها تجتهد لتقديم نظريات للعمليات أو الظروف الإيكولوجية القابعة تحت المظلات النباتية أو في التربة. ولهذا الهدف يحتاج علماء البيئة إلى أجهزة استشعار أرضية. ويؤدي الأشخاص المتحمسون للقيام بذلك، بمساعدة الهواتف الذكية، دور أجهزة استشعار أرضية ممتازة. لقد سهلت التكنولوجيا على الجميع عملية تجميع البيانات الإيكولوجية، دون الاستعانة بما هو أكثر من مجرد هاتف محمول مزوَّد بكاميرا مدمجة وتطبيق تحديد المواقع (جي بي إس). وقد رحب علماء البيئة بمشاركة «المواطنين العلماء» في مجموعةٍ متنوعة من البرامج البحثية التي يمكنها الاستفادة بمجموعاتٍ ضخمة من البيانات عَبْر التعهيد الجماعي أو حشد المصادر. توفر المنصات الإلكترونية واجهاتٍ يُقدِّم من خلالها المشاركون بياناتهم، ربما من خلال تحميل صورة بإحداثيات نظام تحديد المواقع وحسب. ويرصد علم المواطن انتشار أمراض الأشجار والأنواع الدخيلة الغازية، ومن ثَم يوفر أنظمة إنذارٍ مُبكِّر واسعة النطاق جغرافيًّا. وهناك مجموعة مُتنوِّعة من «تطبيقات» الهواتف الذكية متاحة لهذه الأغراض. ويساعد المواطنون هيئات الحفاظ على البيئة على تحديد مواقع القطع الجائر للأشجار وكشفها عن طريق تحميل صورٍ ذات مرجعية جغرافية لمِثل هذه الحالات. ورفع الوعي بالطبيعة وإيكولوجيتها عَبْر عدسة الأبحاث التشارُكية هو حصيلة ثانوية إيجابية لعِلم المواطن، وهي حصيلة تساعد في بناء ثقافةٍ من التاريخ الطبيعي، وإعادة اكتشافها في الواقع، داخل المجتمع.
تطوُّر علم البيئة
إن العلوم الإيكولوجية تتطوَّر من حيث الأسئلة التي تطرحها والأساليب التي تستعين بها. وقد زادت التقنيات الجديدة، من الأقمار الصناعية إلى البرامج، من عُمق العلوم الإيكولوجية ونطاق امتدادها، وقدَّمَت فرصًا جديدة للانخراط مع المجتمع. إن هيمنة النمذجة الرياضية والبيانات المُجمعة عن بُعد أعفت عالِم البيئة من مغادرة مكتبه وترك كرسيه من أجل الخروج في حملة ميدانية مجهدة. وتتمثَّل النتيجة المؤسِفة لذلك في فقدان الاتصال بالتاريخ الطبيعي؛ فمُعظم علماء البيئة لا يكادون يُميزون دودة الفستق من السَّحَّاريَّات. غير أننا بحاجةٍ إلى فهم بيئتنا وعلاقتنا بها في سياق مجموعةٍ متنوعة من التفاعُلات بين النباتات والحيوانات والأنظمة الإيكولوجية. فبدون حسٍّ بديهي حيال آلية عمل الطبيعة، مكتسب من التاريخ الطبيعي التجريبي، نُخاطر بفقدان الإبداع العلمي في علم البيئة. ومصدر القلق هنا يكمن في أن أفراد الإدارة البيئية معرفتهم واطلاعهم في الغالب من البيانات المُجمعة عن بُعد، وهي لا تعكس بالكامل ثراء إطار تفاعلات النظام الإيكولوجي والعوامل الطارئة. ولا بديل عن الملاحظة الدءوبة والتجريب المُتقَن الذي يُميِّز العمل الميداني البيئي.