الفصل الأول

مقدمة تاريخية

دراسة في التاريخ الحضاري للكنعانيين
figure
أمير أو كاهن كنعاني يؤدي طقسًا شعائريًّا (نقش في إناء فضي مموه بالذهب).

«إن يد الإله الملك ستقودكَ، وحب الأمير الإله يوقظكَ. تأنيبكَ يا إيل هو حكمة الحِكَم؛ بيد أنك وهبت الحياة إلى الشعب الأبدي.» (الكاهن إيلي ميلكو، ملحمة اللآلئ، القرن الرابع ق.م.)

ما زال الغموض يحيط تاريخ الكنعانيين كلَّه: أصلهم، مكان هجرتهم الأول، طريق هجرتهم، مدنهم الأولى، لغتهم الأولى، انتشارهم، بواكير حضارتهم، نهاياتهم.

لعل من أهل أسباب هذا الغموض هو عدم العثور على آثارهم القديمة الأولى التي يمكن أن توضح هذه الأمور، واختلاط هذه الآثار — إن وجدت — مع أقوام قريبة منهم؛ كالأموريين، أو سكان المكان الذي هاجروا منه أو إليه. وهناك سبب آخر هو اختفاء أصول مسمياتهم التراثية الأولى فيما يخص المدن والآلهة والقبائل والملوك … وغير ذلك؛ مما أدى إلى غياب الدقة في تحديد بداية هجراتهم وطريق هجرتهم وأماكن استيطانهم الأولى، وعلاقة هذه الأمور ببعضها.

ولا شك أن وجود أكثر من نظرية حول أصول الكنعانيين وعدم تقديم الأدلة الكافية عليها وعدم أرجحية أي منها على الأخرى يؤدي إلى ظهور الفوضى في هذه الأمور، كما أن أغلب الباحثين والمؤلفين لا يتوخَّون الحذر عندما يدرسون تاريخهم ويقعون — بقصد وبدون قصد — في خلط عجيب بين تاريخ وتراث الكنعانيين وتاريخ وتراث الأقوام المجاورين لهم، أو الذين أتوا بعدهم، خصوصًا الأموريين والآراميين. كل هذه العوامل زادت الغموض في تاريخ وتراث الكنعانيين، كما أن الاستسلام للمسلمات التي وضعت مبكرًا عن تاريخ الشرق الأدنى بعامة وتاريخ بلاد الشام بخاصة أوقف الاجتهاد والبحث في حلول جديدة للأسئلة المطروحة حولهم.

وسنحاول في هذا الفصل استعراض بعض جوانب الغموض والخلط، ثم التقدم بنظرية جديدة حول أصل الكنعانيين، ومحاولة تقسيم التاريخ الكنعاني إلى مراحل متجانسة ومتواترة.

ورغم أننا لا ندَّعي صواب وجهتنا المطلق؛ لكننا حاولنا، في كتابنا السابق عن العقائد الآرامية وفي هذا الكتاب وكتابنا القادم عن العقائد الأمورية، أن نضع نظرية واحدة حول أصول هذه الأقوام الثلاثة، التي نرى أنها تحمل أصلًا واحدًا متجانسًا وتاريخًا مشتركًا.

وسنكمل نظرية الأصول هذه بمسرد زمني يوضح المراحل التاريخية للكنعانيين بطريقة تتفق مع إيقاع تاريخ المنطقة المشتبك بتاريخهم. ونود أن نؤكد هنا أننا لا ندعي الصواب المطلق لآرائنا؛ بل هي آراء تمثل قناعتنا واستنتاجاتنا في هذا المجال، كذلك انعكست هذه الآراء على الكثير من تفسيراتنا الجديدة لمظاهر العبادة والعقائد الكنعانية كما سنرى ذلك في الفصول القادمة.

(١) من هم الكنعانيون؟

سنبحث أولًا في أصل كلمة كنعان، التي نرى أنها كلمة طرأت على الكنعانيين ووسمتهم وتسمَّوا بها، ورغم أن هذه الكلمة ترجع إلى أصول قديمة أبعد من أن تكون توراتية أو عبرية، فإنها ليست الاسم الحقيقي لهؤلاء القوم.

سنستعرض هنا الأسماء المحتملة التي أطلقتها الأمم والأقوام عليهم وكانت أصل تسمية كنعان، وهي كما يلي:
  • (١)
    الاسم الأكدي: يرى بعض المؤرخين أنه ربما كان الاسم الأكدي «كناجي، أو كناخني Kinakhni» الذي أطلقه البابليون عليهم، والذي ظهر في رسائل تل العمارنة في مصر، هو أصل هذه التسمية والذي يعني «اللون الأحمر الأرجواني»، وقد ظهر هذا الاسم أيضًا بصيغة نوزي كناخني أيضًا (انظر: حتي، ١٩٥٨م، ٨٧).
  • (٢)
    الاسم المصري: ورد اسم «بي-كنعان Pekanan» عند المصريين للدلالة على المناطق الجنوبية والغربية من سوريا.
    وكذلك استعمل المصريون منذ عصر الدولة القديمة كلمة «فنخو» للدلالة على شعب من شعوب الشام، ويرجع الأستاذ محمد أبو المحاسن عصفور بأن الإغريق استعملوا هذه اللفظة وحوروها إلى «فويفكس Phoivikes» للدلالة على فينيقيا و«فويفيكن Phoivikn» للدلالة على الفينيقيين (انظر: عصفور، ١٩٨١م، ١٣).
  • (٣)
    الاسم الكنعاني: استعمل الكنعانيون أنفسهم هذه الكلمة للدلالة عليهم في بعض الأحيان، يؤيد ذلك نص الملك أدريمي ملك ألالاخ، وهي المملكة الكنعانية-الأمورية التي ازدهرت خلال النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد في الشمال الغربي من سوريا (قرب أنطاكية) (انظر: السواح، ١٩٩٥م، ١٩).
  • (٤)
    الاسم العبري: تعني كلمة كنعان باللغة العبرية، بلاد الأرجوان، ولكن كلمة «ك. ن. ع» تعني باللغة العبرية أيضًا: انخفض، أو منخفض. وهذا يعني أن اسم الكنعانيين كان يعني «سكان الأرض المنخفضة».
  • (٥)
    الاسم العربي: لا يختلف الاسم العربي الذي قد يكون أصل هذه الكلمة عن ما يعنيه الاسم العبري؛ فكلمة «خنع، قنع، كنع» تشير إلى الهبوط والانخفاض والتواضع.
  • (٦)
    الاسم الحوري: يرى بعض الباحثين أن أصل كلمة «كنعان» مشتق من كلمة حورية هي «كناجي Kanaggi» أي الصبغة الأرجوانية أو القِرمزية التي اشتهر الكنعانيون بصناعتها، ولا نعرف ما إذا كانت هذه التسمية هي أصل التسمية الأكدية أم العكس؟ (انظر: حتي، ١٩٥٨م، ٨٥.)
  • (٧)
    الاسم الإغريقي: ربما حوَّر الإغريق الكلمة المصرية «فنخو» التي تحولت إلى «فينيكس» للدلالة على «الفينيقيين»، وربما ترجموا كلمة كناجي الحورية أو الأكدية للدلالة على اللون الأحمر الأرجواني الذي كان لون الصبغة التي يصنعها الكنعانيون، وفي حالتي التحوير أو الترجمة نحصل على كلمة «فينيقيا» التي أصبحت تطلق على الكنعانيين عند الإغريق منذ حوالي بداية الألف الأول قبل الميلاد.
  • (٨)
    الاسم الروماني: استعمل الرومان كلمة «بوني Poeni» للدلالة على الفينيقيين الغربيين، أي القرطاجيين، وهذه الكلمة تعني باللغة الرومانية: اللون الأحمر الأرجواني أيضًا، وهو لفظ محرف لاتينيًّا من اللفظ اليوناني، ومع ذلك فقد فرقوا بينهم وبين الفينيقيين في الشرق حيث أطلقوا على هؤلاء اسم «فوينيقي Phenices» وإن كانوا يعترفون بانتمائهم إلى جنس واحد (انظر: عصفور، ١٩٨١م، ١٤)، وتبدو لنا كل هذه الأسماء لاحقة على الاسم المجهول القديم الذي كان الكنعانيون يتسمون به.

    تظهر كلمة «فينيق» في المثولوجيا التاريخية للدلالة على مفيد كنعان وابن هيدرون، الذي هو ابن كنعان.

    أما على المستوى اللغوي، فهناك من يرى أن اسم «فينيق» يعني: إما النخلة؛ حيث يعني اسمها «الرامي» بسبب طلعها، أو الطائر الذي كان ينبعث من رماده بعد أن يحترق، وربما يرجع أصله إلى الطائر المصري «بنو» الذي كان عبارة عن اللقلق الذي يرمز لإله الشمس (رع)، الذي يقف عليها من الصباح إلى المساء.

إن ما نود التأكيد عليه هنا هو أن اسم «كنعان» كان قديمًا، وكان يدل على شيئين هما: الشعب الذي سكن الأرض المنخفضة. أو الذي كان مرتبطًا باللون الأحمر الأرجواني، إما من خلال لون بشرته الحمراء، أو من خلال صناعته لنوع من الصبغات الحمراء. ويتبع ذلك اسم «فينيق» الذي كان يشير أيضًا إلى اللون الأحمر، وكذلك إلى النخلة، أو اللقلق.

ونرى أن تسمية «كنعان» ثم «فينيق» للدلالة على الشعب الذي سكن سواحل بلاد الشام وجنوبها كانت لاحقة في جميع الأحوال، فقد كان لهذا الشعب اسم معين عندما هاجر من المكان الذي ظهر فيه واستعمل هذا الاسم لكنه اكتسب اسمًا، بل أسماء أخرى؛ منها: كنعان وفينيق. وقد كرَّس المؤرخون والآثاريون المعاصرون هذا الاسم استنادًا إلى خلفية توراتية واضحة، وأصبح هو الأكثر شيوعًا للدلالة على هذا الشعب الآن وليس في الماضي.

سنحاول في الصفحات القادمة الكشف عن احتمالات الاسم الحقيقي لهذا الشعب.

(٢) مراحل التاريخ الكنعاني

أول المعضلات تكمن في تقسيم التاريخ الكنعاني إلى مراحل متجانسة يمكن من خلالها فهم سيرة الشعب الكنعاني منذ بداية ظهوره وحتى نهايته.

نرى أن التاريخ الكنعاني ينقسم إلى أربع مراحل كبرى اكتسب فيها الشعب الكنعاني في كل مرحلة اسمًا جديدًا حسب البيئة الجديدة التي عاش فيها، وهذه المراحل هي:
  • (١)
    المرحلة القديمة (مرحلة الأصول): وهي المرحلة التي بدأ فيها هذا الشعب بالظهور قبل أن يهاجر إلى بلاد الشام. وتستمر هذه المرحلة ما يقرب من ألف سنة، تمتد من ٤٠٠٠–٣٠٠٠ق.م. وتشغل هذه الفترة ما يسمى بالعصر الحجري النحاسي وبداية العصور التاريخية.
  • (٢)
    المرحلة الكنعانية: وهي مرحلة الهجرة والاستقرار على السواحل الشرقية للبحر الأبيض المتوسط في بلاد الشام وفي جنوب بلاد الشام «أرض فلسطين» بشكل خاص. وتستمر هذه المرحلة حوالي ألفي سنة، وبشكل تقريبي من ٣٠٠٠–١٢٠٠ق.م.، وتشمل هذه الفترة ما يسمى بالعصر البرونزي بأكمله.
  • (٣)
    المرحلة الفينيقية: وهي مرحلة العصر الحديدي الذي امتد لما يقرب من ألف سنة من ١٢٠٠–٣٣٢ق.م.، ويصادف أن يشيع الاسم الذي كرسه الإغريق عنهم وهو «الفينيقيون»، وسنعتني في هذه المرحلة، حصرًا، بدراسة التاريخ الفينيقي الشرقي في السواحل الشرقية للبحر المتوسط في بلاد الشام.
  • (٤)
    المرحلة البونية والقرطاجية: وهي مرحلة تاريخ الفينيقيين الغربيين بعد أن هاجروا ثانية من بلاد الشام إلى جزر وسواحل البحر المتوسط في بلاد أوروبا وفي بلاد شمال أفريقيا، ويشغل الفترة السابقة ذاتها تقريبًا (١٢٠٠–١٤٦ق.م.).

(٢-١) المرحلة القديمة (الأصول)

٤٠٠٠–٣٠٠٠ق.م.

تبدو التقديرات الزمنية لهذه المرحلة غير دقيقة تمامًا؛ بل هي تقريبية، وربما قلَّت أو زادت أو تراوحت بمقدار ٥٠٠٠ سنة عن التاريخ المثبت أعلاه زيادة أو نقصانًا.

لنستعرض أولًا النظريات التي اقترحت المكان الأول للكنعانيين قبل هجرتهم إلى بلاد الشام، ثم نقدم رأيًا جديدًا حول هذا الموضوع.

  • (١)
    جزيرة العرب: لعل هذه النظرية هي الأكثر شيوعًا ليس فيما يخص الكنعانيين فحسب، بل جميع الأقوام السامية التي ينتمي لها الكنعانيون، وهي نظرية لا تؤيدها الآراء والوقائع القديمة، ولم تعد تصلح لتفسير الهجرات السامية. وأصحاب هذه النظرية يرون أن هذه الهجرات كانت تتجه من بلاد نجد والحجاز واليمن إلى بلاد الشام والعراق.

    يرى البعض أن هجرة واحدة ظهرت من الجزيرة العربية في حدود ٢٥٠٠ق.م. ذهبت باتجاه الصحراء السورية العراقية وهناك انقسمت إلى قسمين؛ هما: الأموريون، الذين بقوا في هذه الصحراء، ثم اتجه بعضهم نحو العراق القديم واصطبغوا بالمؤثرات الحضارية الرافِدَينية، والكنعانيون الذين استمروا في هجرتهم إلى السواحل الشرقية للبحر المتوسط في بلاد الشام وإلى جنوب بلاد الشام (فلسطين)، واصطبغوا بالمؤثرات المحلية لبلاد الشام آنذاك.

    ولا نعرف ما هي الأسانيد الآثارية التي تقدمها هذه النظرية سوى هذا السيناريو المكرر الذي نراه ذاته في الهجرات السامية الأخرى مع استبدال الأسماء.

  • (٢)
    سواحل الخليج العربي: طرح «سترابون» هذا الرأي وقال: إن سكان الخليج العربي كانوا يسمون بعض مدنهم بأسماء المدن الكنعانية، مثل: صيدا وصور وأرواد، وقد رجح أن تكون هذه المدن الخليجية هي الأقدم، وهي التي احتضنت أجداد الكنعانيين، وأن معابدهم كانت تشبه المعابد الكنعانية، ويضيف البعض بأن الكنعانيين ربما يكونوا قد انطلقوا من البحرين باتجاه سواحل البصرة، ثم باتجاه الطرق المؤدية إلى الساحل السوري.

    من مدنهم القديمة على ساحل الخليج «صور» على ساحل عُمان، وجبيل على ساحل الأحساء، وأرواد، وهو الاسم القديم لجزيرة الممرق (انظر: سليم، ١٩٨٩م، ٢٨٤-٢٨٥).

  • (٣)
    سواحل البحر الأحمر: ظل المؤرخون يطرحون مثل هذه الآراء على اعتبار أن الكنعانيين سكان السواحل المتوسطية الشرقية، ولذلك لا بد أن تكون أصولهم سواحلية أيضًا، ولذلك رأى «هيرودوت» أنهم نزحوا من البحر الإرتيري، أي الأحمر، إلى بلاد الشام.
  • (٤)
    سيناء والنقب: ظهر في بعض وثائق رأس شمرا ما يشير إلى أن سكانها قدموا من شبه جزيرة سيناء أو من النقب، من جزيرة العرب ومن سواحل البحر الأحمر معًا.
  • (٥)
    مصر: كان للعلاقة المميزة بين الكنعانيين والمصريين أثر كبير في ظهور رأي قديم مفاده أنهما من أصل واحد. ويظهر هذا الرأي في بعض الأساطير التي جمعها المؤرخ الإغريقي «إيسوب»، التي ترى بأن الإلهين «قدم» و«فينيق» جاءا من مدينة طيبة المصرية ليتملكا مدن صور وصيدا، وأن الإله أوزيريس خلال طوافه في الأرض أقام الإله «بوصير» متوجًا على فينيقيا (انظر: عبد الحكيم، ١٩٧٨م، ٥٤).

وقد ذهبت التوراة في هذا المنحى؛ إذ سلخ التوراتيون كنعان من العائلة السامية ونسبوه هو إلى مصراييم إلى «حام» (انظر: سفر التكوين، ١٠: ٦).

وسنناقش الخلفية المثولوجية لهذا الرأي في الفصل القادم.

(أ) الأصل الرافدَيني القديم للكنعانيين

سنحاول في هذا الكتاب أن نطرح موجز نظرية تثبت الأصل الرافديني العراقي القديم للكنعانيين بعد أن استعرضنا الآراء السابقة التي تعاني من ضعف وقصور شديدين، وعلى ضوء ذلك سنحاول استنتاج الاسم الحقيقي في تلك العصور القديمة.

نرى أن الكنعانيين نشئوا أساسًا في أعالي وادي الرافدين وبلاد الشام (كغيرهم من الأقوام السامية) وأنهم كانوا مع الأموريين كتلةً واحدة، أي إن الأموريين ظهروا في وادي الرافدين أولًا، وكانوا يعيشون في مناطق لا تعتمد على الإرواء والأنهار؛ بل على الأمطار في البراري والصحاري، ويصعب علينا، في الوقت الحالي تحديد الموقع الدقيق الذي كانوا فيه، رغم أننا نرجح أن تكون الأرض على امتداد نهر الفرات في وادي الرافدين. وفي حدود ٣٥٠٠ قبل الميلاد انشطر الشعب الأموري إلى ثلاثة أقسام، هي:
  • (١)

    الأموريون الذين كانوا يسكنون حول نهر الفرات الأعلى والذين اتجهوا نحو المناطق المرتفعة والجبلية في شمال العراق وسوريا، وهو الشعب الذي عرف فيما بعد ﺑ «الآراميين»، إذ إن معنى «آرام» هو المناطقة المرتفعة.

  • (٢)

    الأموريون الذين كانوا يسكنون حول نهر الفرات الأوسط، والذين بقوا يجوبون الصحراء العراقية السورية، وتشكل منهم البدو الذين أطلق عليهم السومريون «مارتو» والأكديون «أمورو»، أي الساكنين إلى الغرب من الفرات.

  • (٣)

    الأموريون الذين كانوا يسكنون حول نهر الفرات الجنوبي وبمحاذاة سواحل الخليج العربي الممتدة آنذاك إلى تخوم مدينة أور وأريدو … وغيرهما، وهم الذين اتجهوا إلى السواحل الشرقية للبحر المتوسط في بلاد الشام وجنوب بلاد الشام وعرفوا هناك ﺑ «الكنعانيين»، رغم أن لهم اسمًا محددًا عرفوا به وهم في العراق.

لم يكن تكاثر وتكون وانقسام وهجرة الأقوام الأمورية أمرًا يسيرًا يحصل بين ليلة وضحاها؛ بل إنه استغرق مئات السنين، لكن أصلها الواحد كان واضحًا في تشابه الكثير من عادات وتقاليد وأديان هذه الشعوب المكونة لهم.

وإذا كنا قد طرحنا في كتبنا السابقة حول الآراميين والأموريين ما يمكن أن يشكل ملامح نظرية جديدة في أصولهم فإننا سنطرح هنا بإيجاز شديد ما يكمل ذلك حول الكنعانيين.

إن المثولوجيا الأمورية والآرامية والكنعانية تكاد تتشابه في كل شيء من الإلهة الأم الأولى، إلى آلهة الكون الكبار، إلى آلهة الكواكب والعوالم السفلى … لكن الفرق الوحيد هو أن المثولوجيا الكنعانية تترجم أسماء هذه الآلهة من اللغة السامية الشرقية إلى اللغة السامية الغربية، وأحيانًا تبقي على بعضها، أما الأساطير فتكاد تكون متشابهة.

طرحنا في كتبنا السابقة آراء مفادها أن اسم الأموريين اشتق من اسم إلههم القديم «مُر» أو «مار»، وأن اسم الآراميين اشتق من اسم إلههم القديم «رُم» أو «رام». أما الكنعانيون فيصعب أن نقول إن كنعان هو إلههم القديم، أو جدهم الأكبر؛ لأن مثل هذه التحليلات غير العلمية والفولكلورية لا تقودنا إلا إلى تكريس الأوهام والأخطاء، لذلك يجب البحث جديًّا عن إلههم الأقدم.

وقد قمنا بتنظيم شجرة دقيقة للآلهة الكنعانية خلَّصناها من أوهام الرواة والنصوص الدينية الفولكلورية، وأقمناها على أساس علمي آثاري دقيق (انظر الفصل الثاني: شجرة أنساب الآلهة الكنعانية)، وقد توصلنا إلى أن هناك أجيالًا من الآلهة الكنعانية القديمة يمكننا وصفها بالشكل الآتي:
  • (١)
    الإلهة الأم (يم): وهي الإلهة الهيولية المائية الأم الأولى التي ظهر منها الكون، والتي انتصر عليها «بعل» في أسطورة مبتورة ومشوهة عند الكنعانيين، ويمكن أن يكون اسم «اليميون» أحد أقدم أسماء الكنعانيين عندما كانوا في العراق القديم يعيشون على سواحل الخليج العربي التي يقال إنها كانت تمتد إلى شمال بغداد الحالية ذات يوم، ولذلك يكون من الطبيعي أن يكون اليميون، أي البحريون اسمهم الأقدم.

    هناك ما يؤيد هذه التسمية، فقد بقيت عالقة في ذاكرة الكنعانيين وكان تطلق على بعض الكنعانيين الذين سكنوا أرض باشان، وكان يطلق عليهم أيضًا اسم الرفائيين، وتقع أرض باشان شرقي الأردن، بين جبلي جرمود وجلعاد، وتحدها شمالًا أرض دمشق، وشرقًا بادية سوريا، وجنوبًا أرض جلعاد، وغربًا غور الأردن، ويقال إن موسى طرد الرفائيين واحتل باشان، وكان يسكن معهم الجشوريون والمعكيون الذين بقوا فيها، وهم من الكنعانيين أيضًا، وكان المؤابيون يسمون الرفائيين ﺑ «الأيميين» (انظر: الماجدي، ١٩٩٧م، ١٢٩).

    كذلك ورد اسم «الأميين» في التوراة ليدل على الأقوام التي سكنت في أرض أدوم جنوب الأردن وفلسطين.

  • (٢)
    إله السماء (شم أو شميم): وهو أول إله للسماء بعد انشطار المياه الأولى (يم)، ونرجِّح أن يكون اسم شم، الذي يمكن أن يكون أيضًا «شام»، هو الاسم الراسخ الذي أُطلق على الكنعانيين قبيل بداية العصور التاريخية وهم في وادي الرافدين، ثم حملوا هذا الاسم بعد رحيلهم غربًا باتجاه البحر المتوسط، ونتج عن ذلك تسمية الأرض التي استوطنوها شرق البحر المتوسط وعلى سواحله باسم «شام» ومعناها أرض السماء، كذلك نتج عن ذلك أن تسمى أقوامها ﺑ «الشاميين»، أو «الساميين»، والساميون هنا يدلون بدقة على الكنعانيين، أي الأقوام المهاجرة باتجاه بلاد الشام. ويقلب هذا الاستنتاج الأمور رأسًا على عقب، فبدلًا من أن تكون التسمية الشائعة للساميين دالة على أقوام كثيرة، فإنها كانت تدل قديمًا، كما نرى، على أقوام محددين هم سكنة بلاد الشام النازحين إليها من جنوب وادي الرافدين.

    أما أن يكون هؤلاء الأقوام قد سكنوا في أراض منخفضة بين جبال سوريا ولبنان والساحل وأُطلق عليهم «الكنعانيون»، أي سكان الأرض المنخفضة، فهنا أمر آخر نرى أنه جرى لاحقًا وكرَّسه أعداؤهم العبريون، الذين نرى أن اسم السماويين لم يرق لهم، فأحبوا أن يعكسوه تمامًا فأسموهم بالواطئين (الكنعانيين) ليحققوا أربعة أهداف في آن واحد؛ أولها: هو أن يحذفوا عنهم صلتهم بالخنوع والهبوط، وربما يصفونهم بلون أحمر يدل على بشرتهم أو الصبغة التي يستعملونها، ولكي نؤكد ما ذهبنا إليه فإنهم جلوا أنفسهم من نسل «شام» أو«سام»، وأخرجوا الكنعانيين منه … وهذه واحدة من أكبر التشويهات التي ارتكبها العبريون ثم اليهود في كتابهم التوراة. وسنناقشها مفصلًا في مكان آخر من هذا الكتاب.

  • (٣)
    أديم (أدم، أدمة): وهي إلهة الأرض التي يمكن أن تكون أيضًا مصدر تسمية للكنعانيين القدماء، ونرى أنهم (كلهم أو بعضهم) ربما كانوا يتسمون ﺑ «أديميون»، أو «آدميون» أو «أدوميون». ونرى أن هناك آثاريًّا ما يدل على ذلك أيضًا، فظهور «الآدميون» في جنوب الأردن وفلسطين وجنوب البحر الميت حتى خليج العقبة في برية قازان تحديدًا، والأدميون تسمية محدودة للكنعانيين تسمت بها الأقوام الكنعانية الجنوبية وتعني «الأرضيون»، كذلك يشير ارتباطهم بعيسى واللون الأحمر مرة أخرى إلى ما شاع عن الكنعانيين من لون أحمر؛ سواء عن طريق بشرتهم أو الصبغة التي استعملوها. وقد يقودنا هذا إلى استنتاج آخر، وهو: أن الشاميين كانوا يدلون على الأقوام الشمالية في بلاد الشام، والأدميون كانوا يدلون على الأقوام الجنوبية، وقد تم ذلك بدلالة السماء والأرض التي تُرادف الشمال والجنوب.
  • (٤)
    إيل: وهو كبير الآلهة الكنعانية، وربما كان الشعب الشامي يسمى «الإيليين» أو «إيليم»، وهي تسمية مقنِعة أتت بعد ذلك وذكرتها ملحمة اللآلئ؛ حيث يرى ميديكو أن «الشعب الكنعاني يطلق على نفسه لقب «شعب إيل» وسكان المدن يُدعون Krytm. إن العالم لودس في كتابه «إسرائيل: ص٦٤» يعتقد بأن لفظة كنعانيين تعني سكان المدن. وفي حكم الملك الكبير كانت البلاد كل سوريا وفلسطين» (ميديكو، ١٩٨٠م، ٢٨).

    وكانت لفظة «شعب إيل» هي الأشد شيوعًا كما كان ملكهم يتسمى دائمًا «ابن إيل»، أما كريتم فيدل على سكان المدن؛ حيث «كريت = مدينة»، و«كريتم = ساكن المدينة» وهو اسم معروف.

أما أن تكون فلسطين قد سميت أرض كنعان قبل مجيء العبرانيين فرأي خاطئ نقف بالضد منه، فقد كان اسم فلسطين هو «مريام، أو مريم Mrym»، وهو ما يرد في ملحمة اللآلئ (الملك الكبير) الكنعانية؛ حيث نقرأ:
«وفي مريام الشمالية تصاعد القمع والاستعباد ومن كان سبب سعادته طرده ليحصل على تاج مليكه» (ميديكو، ١٩٨٠م، ٢٠).
كذلك «وأصبح بعل هو الذي يسأل من قبل شعب مريام الشمالية، ومع هذا فإنه لا يدير وجهه إلى تعاستك، وشعب إيل أصبح يجب البلبلة إلى كل الذين يقتربون وقريبًا ستصبح مهاويهم منعمة» (ميديكو، ١٩٨٠م، ٥٩).

وكلمة «مريام» مكونة من مقطعين هما «مر» و«يام»، وهي كلمة تجمع بين اسمي إله الأموريين الأقدم (مر)، والإلهة الأم الأولى للأموريين والكنعانيين (يم)، وهذا يعني أن هذه الأرض كانت مكانًا لسكن الأموريين والكنعانيين القدماء.

وتقودنا كل هذه الاستنتاجات إلى القول بأن اسم كنعان هو اسم لاحق، لا يدل على حقيقة هذا الشعب، وأن الاسم الأرجح لهم هو «شام» وهو ما يدل على الأرض والشعب، أما التسميات الأخرى مثل: «الأديميون» و«الأدميون» فهي أسماء أُطلقت على بعض الأقوام الشامية، وكذلك أرض «مريام» التي هي أرض فلسطين.

هنا نرى أن الوقت قد حان لاستبدال اسم «الشاميون» بدلًا من «الكنعانيون»، فهي التسمية القوية الراسخة القديمة الدالة على شعب عريق لعب الدور الأكبر في تاريخ أرض بلاد الشام وفي عقائدها الروحية.

أما اسم «الكنعانيون» فنرى أنه استعمل بشكل ضيق ومحدود جدًّا وقام العبريون بإشاعته في الألف الأول ق.م. دون جدوى. وحاول الآثاريون والمؤرخون، ذوي الخلفية التوراتية، إشاعة هذا الاسم في العصر الحالي ونجحوا مع الأسف.

لكن علينا اليوم القيام بتعديل اسم «كنعان» إلى «شام»؛ لأن هذا الاسم هو الذي يتطابق مع المعطيات الآثارية والاستنتاجات العلمية. ولنا وقفة مفصلة أخرى مع هذا الموضوع في الفصل الثاني (انظر: المثولوجيا التاريخية لكنعان).

(٢-٢) المرحلة الشامية

٣٠٠٠–١٢٠٠ق.م.

بدأت هذه المرحلة مبكرة إبان بدء العصور التاريخية؛ حيث بدأت الهجرة الكنعانية من السواحل العراقية للخليج العربي وضفاف الفرات الجنوبي.

وربما اتخذ مسار هذه الهجرة طريقين؛ الأول: مع نهر الفرات صعودًا ثم الاتجاه إلى السواحل الشامية الشمالية وتأسيس مدن «رأس شمرا» و«أوغاريت» و«أرواد» و«جبيل» و«صيدا» و«صور»، أي سواحل سوريا ولبنان.

أما الهجرة الثانية فكانت برًّا باتجاه فلسطين مباشرة، وقد استقر المهاجرون في مدن ساحلية وبرية، ونرجح أن يكون استقرارهم في المدن البرية هو الأقدم ثم نزحوا من هذه المدن وأسسوا المدن الساحلية الفلسطينية.

ومن المدن البرية في فلسطين «قادش»، «بيت شان»، «شكيم»، «أريحا»، «بوس (أورشليم)»، «بشر سبع»، «مجدو»، «السامرة» … إلخ.

أما المدن الساحلية في فلسطين فهي «عكا»، «دور»، «يافا»، «غزة» … إلخ. في حين استقرت الهجرة الأمورية في المناطق السهلية شرق نهر العاصي والليطاني في سوريا ولبنان وفي شرق نهر الأردن. أما الهجرة الآرامية فقد اتخذت لها من جبال العراق وسوريا مستقرًّا لقرون طويلة، ثم حلَّت محل الأموريين في سوريا بشكل خاص وحول ضفاف دجلة والفرات في العراق.

نرى أن المدن السورية الشمالية قادرة على الإفصاح عن اسم الكنعانيين الذي وفدوا به إلى بلاد الشام، فنحن نجد هذه المدن مثل «أوغاريت»، «رأس شمرا» تحمل الاسم العتيق جدًّا للكنعانيين، وكذلك مدن مثل «السامرة» و«سميرا» التي تتضمن كلمة شام في تركيبها وأصبح يطلق على عموم الأقوام المهاجرة اسم «شاميون» أو «شوام».

لم يستطع الكنعانيون أن يشكلوا دولة واحدة، واستقر نظامهم السياسي على نظام دولة المدينة city state، حيث لكل مدينة من يحكمها، ولها استقلالها، ولها إلهُها الخاص، رغم أن عموم الكنعانيين كانوا يتكلمون لغة واحدة ولهم آلهة كونية وكبيرة واحدة، ويرجح أنهم نقلوا نظامهم هذا عن السومريين الذين تميزوا به وافتتحوا به حياتهم السياسية.

ونرى أن الكنعانيين القدماء واصلوا هجرتهم بعد سواحل الشام إلى جزر البحر المتوسط الشرقية؛ مثل: قبرص وكريت، ونقلوا إليها عناصر حضارية متطورة.

ولا شك أيضًا أن الأقوام المهاجرة لم تجد أرضًا بكرًا في بلاد الشام، فقد كانت الأقوام التي ظهرت في العصرَين الحجري الحديث (النيوليت) والمعدني (الكالكوليت) قد كونت حضارات محلية خاصة بها، خصوصًا في تل المريبط وتل الرمد ومنطقة المنحطة والبيضا … وغيرها، وهكذا اندمجت الأقوام المهاجرة مع الأقوام المحلية، وبدأ عصر المدن في بلاد الشام. كان سكان المدن يتألفون من طبقتين: العليا هي طبقة النبلاء، وهي طبقة الإقطاع والفرسان المحاربين، أما الطبقة الثانية فهي طبقة الحرفيين، الصناع. وكان الفلاحون جزءًا من ملكية الأرض، وكانت هذه المدن صغيرة ومحصنة وملوكها يتمتعون بحكم مركزي.

ورغم أن حكم دويلات المدن كان يعطي للكنعانيين وغيرهم نوعًا من التنوع الروحي والثقافي والسياسي، إلا أن «تقسيم البلاد إلى دويلات كثيرة متناثرة كان له نتائج وخيمة على مستقبل البلاد السياسي، وهو أنه ساعد في بعض الأحيان على خلق توازن سياسي بين الأقطار المختلفة، إلا أنه كان عقبةً كَأْداءَ أمام نهوض دولة مركزية موحدة قادرة في الملمات على صد الغزو الخارجي ودرء أخطار الدول العظمى عنها، وعندما كانت تجتمع هذه الدويلات ضمن تحالف عسكري أمام عدو خارجي، فقد كان تحالفها مؤقتًا سرعان ما ينفرط بزوال الأسباب التي دعت إليه، والأسوأ من ذلك الأمر أن تلك الدويلات كانت في حالة مخاصمات مستمرة تتربص الواحدة بالأخرى» (أذزارد، ١٩٨٧م، ١٤٤).

يطالعنا تاريخ المرحلة الكنعانية في بلاد الشام بمراحل سياسية واجتماعية متجانسة في هذه المرحلة، فقد بدأ بتأسيس المدن الكنعانية على السواحل وفي فلسطين، سادت خلالها صلات تجارية وحضارية متينة بين هذه المدن ومصر.

ثم بدأت فترة جديدة عندما قامت مصر بإرسال أول حملة عسكرية إلى فلسطين، تلتها بعد قرنين حملة أخرى إلى سوريا … وهكذا سقطت أغلب بلاد الشام تحت النفوذ المصري لما يقرب من ٩٠٠ سنة.

ومع ظهور الحيثيين ثم الحوريين بدأ صراع المصالح على بلاد الشام مع مصر هناك واستمر حوالي ٣٠٠ سنة. وأخيرًا جاءت الضربة المدمرة للمدن الكنعانية من الغزو الفلستي (من أقوام البحر)، ثم الغزو الآشوري الذي اضطَر الكنعانيين إلى الهجرة بحرًا إلى شمال أفريقيا. وسنوجز هذه الفترات كما يلي:

(أ) فترة تأسيس المدن الكنعانية (٣٠٠٠–٢٤٠٠ق.م.)

وإذا كان تأسيس المدن الكنعانية يبدأ بعد استقرار الأقوام المهاجرة في البر والسواحل في حدود ٣٠٠٠ق.م. فإنه لا ينتهي عند (٢٤٠٠ق.م.) بل يستمر طيلة التاريخ الكنعاني، لكننا وضعنا هذا التاريخ لأنه يؤرخ لمرحلة جديدة تبدأ معها أولى الحملات العسكرية المصرية على المدن الكنعانية في فلسطين. ويمكننا جغرافيًّا أن نقسم هذه المدن إلى ما يلي:
  • (١)

    مدن سوريا الساحلية: رأس شمرا، أوغاريت، أرواد (جزيرة)، جبيل (ببلوس).

  • (٢)

    مدن لبنان الساحلية: جبيل (ببلوس)، بيروت، صيدا، صور.

  • (٣)

    مدن فلسطين الساحلية: عكا، أسدود، عسقلان، جت، غزة.

  • (٤)

    مدن فلسطين البرية (داخل فلسطين وشرق الأردن: قادش، حاصور، بيت شان (بيسان)، شكيم (نابلس)، بيت إيل، جبعون أريحا، يبوس (أورشليم)، بيت شمس، بيت لحم، مجدو، حازر، حبرون، عجلون، بيرشيبا، (بئر سبع)، جرار … إلخ).

ويربو عدد المدن الكنعانية الكبيرة والصغيرة في بلاد الشام حوالي ١٣٥ مدينة والقرى ١٢٠٠، وقد بلغت المدن الكبرى قمة الازدهار ونالت شهرة عالمية (انظر: الشريفي، ١٩٨٥م، ٥٩).

ولا يَسمح لنا هذا الاستعراض التاريخي السريع بالحديث عن نشأة كل منها ولذلك سنكتفي بذكرها، ثم نتحدث عن بعض تاريخها في الفترات والمراحل القادمة.

اتصلت مصر سلميًّا وحضاريًّا بالمدن الكنعانية، وكانت هناك علاقات تجارية ودينية، خصوصًا مع جبيل، فقد شاعت تجارة خشب الأرز معها، وشاعت أساطير أوزيريس المصرية ورحيل إيزيس إلى جبيل، وعبادة أدونيس الكنعاني في مدينة فاروس المصرية (الإسكندرية) … وغيرها من الأمور التي شغلت مراحل الأسر المصرية العتيقة (١، ٢) والأسر المصرية القديمة (٣، ٤، ٥).

(ب) فترة النفوذ المصري (٢٤٠٠–١٥٠٠ق.م.)

مع مجيء الأسرة المصرية السادسة قام القائد المصري «وني» في عصر الملك الأول لهذه الأسرة (تتي) بتجهيز جيش مصري ضخم مكون من عشرات الآلاف من الجنود وإرساله إلى بلاد فلسطين بعد أن تهددت المصالح التجارية لمصر هناك، ثم ظهرت ثورة أخرى في بلاد فلسطين، أرسل الملك القائد «وني» لإخمادها «فجهز جيشين أحدهما سار بطريق البر، وسار هو مع الجيش الآخر بطريق البحر فنزل عند مكان من المحتمل جدًّا أن يكون قريبًا من جبال الكرمل، وسار بعد ذلك في داخل البلاد وانتصر وقمع تلك الثورة» (فخري، ١٩٩٥م، ١٥٤).

وفي هذه الفترة بالذات نرجِّح أن قوات الملك السومري «لوكال زاليزي» ثم سرجون الأكدي قد وصلت إلى السواحل الشرقية للبحر المتوسط، ثم إلى قبرص، وهذا يعني اقتحامها لبعض المدن الكنعانية.

ومع مجيء عصر الدولة الوسطى في مصر كانت العلاقات المصرية الكنعانية تتجه نحو الانفراج وتأخذ المدن الكنعانية بسبل الاستقلال شبه الكامل عن مصر، وتدعم هذا الاستقلال عن مصر عندما خرج الهكسوس من بلاد الشام غزاة لمصر، ودخلوها وحكموا فيها لمدة تقارب القرنين من الزمان.

وهكذا تعزز استقلال المدن الشامية كلها (الكنعانية والأمورية) وانتعشت الممالك الكنعانية في هذه المرحة بسبب ضعف كل من مصر والعراق في الوقت نفسه.

وبرزت في نهاية هذه الفترة ممالك مثل أوغاريت (وملكها نقمد)، ورأس شمرا وجبيل … وغيرها، وكان الملك الكنعاني «أدريمي» يتردد بين ألالاخ ويمخد وحلب. وظهرت صورة ملوك أوغاريت منقوشة على لوحات الحجر والعاج (شكل ١-١)، وكذلك ظهرت آثارهم النفيسة (شكل ١-٢)، ومع ظهور عصر الدولة الحديثة في مصر وظهور الدولة الحيثية ثم الميتانية انتهى استقلال هذه المدن وصارت مسرحًا لصراع هذه الأقطاب الثلاثة.
fig3
شكل ١-١: لوحة عاجية من أوغاريت من ٣٠٠٠ قبل الميلاد. وجدت خلال التنقيب في أوغاريت القديمة. تصور اللوحة ملك أوغاريت وهو يعاقب عدوًّا. عن المتحف الوطني بدمشق، سوريا.
fig4
شكل ١-٢: خنجر مصنوع من الذهب تحمل قبضته الهلالية الشكل نقوشًا نافرة لمناظر صيدٍ، عُثر عليه في «معبد المسلات» في مدينة جبيل (ببلوس).

(ﺟ) فترة الصراع المصري الحوري الحيثي (١٥٠٠–١٢٠٠ق.م.)

إذا كان الملك الحيثي خاتوشيلي الأول (١٥٧٠–١٥٣٠ق.م.) قد مهد للنفوذ الحيثي في شمال بلاد الشام عندما غزا إمارة حلب فإن الحوريين هم الذين تنفَّذوا فعليًّا خلال هذه الفترة في شمال سوريا «وانفصل النصف الشمالي من بلاد الشام عن السلطة المصرية في عهد الملكة «حتشبسوت»، وتعاظم نفوذ المملكة الميتانية في شمال شرق بلاد الشام، وتزعمت حلفًا قويًّا ضد الملك تحوتمس الثالث (١٥٠٢–١٤٥٠ق.م.) الذي حكم مدة اثنين وعشرين عامًا مع أخته حتشبسوت. وعندما تسلم مقاليد الأمور في وادي النيل، كان أول عمل قام به هو استعادة نفوذ وادي النيل في النصف الشمالي من بلاد الشام وإذلال المملكة الميتانية» (سليمان، ١٩٨٥م، ٣٦٤).

بلغت حملات تحوتمس الثالث على فلسطين وسوريا سبع عشرة حملة، وقد استطاع احتلال مدينة وحصن «قادش» خلال الحملة السادسة، وكانت هذه المدينة قد تزعمت الحلف. ثم هزم حلفًا آخر تشكل ضده في فلسطين قادته مدينة مجدو (تل المتسلم) التي احتلها أيضًا.

ولم يكد تحوتمس الثالث أن ينتهي من بسط نفوذه على شمال وجنوب بلاد الشام حتى قامت الدولة الحورية-الميتانية بتحريض مدن الشمال السوري والقيام بثورة ضد النفوذ المصري؛ ولذلك جرد تحوتمس حملة توغل فيها في الأراضي الحورية بعد أن دمر جيشها.

ثم عاد الحوريون للانفصال بعد وفاته، فقام خلفاؤه (أمنحوتب الثاني، ثم تحوتمس الرابع) بحملات مضادة لهم، وانتهى الصراع الحوري المصري على بلاد الشام عندما تقاربت الدولتان من خلال زواج سياسي، حيث تزوج أمنحوتب الثالث من ابنة الملك الحوري «شوتارنا»، ثم أنجبا الملك أمنحوتب الرابع، «إخناتون» الذي لم يعتنِ بأمور مصر الخارجية. وكان الحوريون قد اتفقوا مع مصر على النفوذ في شمال بلاد الشام مقابل ذلك الزواج. وهكذا تركز النفوذ المصري في جنوبها. وانقسم النفوذ المصري إلى ثلاث مناطق إدارية (انظر: سليمان، ١٩٨٥م، ٣٦٨).

  • (١)
    عمورو: تقع إلى الشمال، وكان مقر المراقب الفرعوني في «سومورو = سيميرا».
  • (٢)
    أوبي: تقع جنوبها، وكان مقر المراقب الفرعوني في «قومودية = قامد اللوز»، وتبعتها دمشق.
  • (٣)
    كنعان: وهي أرض فلسطين، وكانت مدينة «غزة» هي مقر المراقب الفرعوني.

أما النفوذ الميتاني فكان عن طريق «رابطة القسم» بين الأمراء الكنعانيين والأموريين والملوك الميتانيين، ثم استبدلت ﺑ «المعاهدات المكتوبة».

وما أن ضعف النفوذ المصري في بلاد الشام بدء من عصر إخناتون وبرزت القوة الحيثية ثانية، ووسعت حدود مناطق نفوذها في شمال بلاد الشام في عهد ملكها المعروف «شوبيلو ليوما»، وتنصل الأمراء الموالون لمصر عن ولائهم وناصروا الملك الحيثي دون أن تقوم مصر بعمل شيء، واغتنم هذه الفرصة ملكٌ أموريٌّ طامح هو «عبدي عشيرتا» ثم ابنه «عزيرو»، وحاول عن طريق الحيلة والمراوغة توحيد بلاد الشام في مملكة واحدة، فاستولوا على المدن والإمارات الأمورية والكنعانية الواحدة بعد الأخرى، مثل: «توينب» (قرب حماة)، و«سومورو»، و«جبيل»، و«بيروت» وانفصل النصف الشمالي من بلاد الشام على يد «عزيرو» وتحت حماية حيثية، ثم قام الحيثيون بالاستيلاء على هذا النصف الشمالي وفرض الجزية على أمراء المدن الشامية.

ثار أموتد الشمال الشامي على الحيثيين، وخصوصًا أمراء أوغاريت حينما كانت تعيش عصرها الذهبي.

وعندما اعتلى الفرعون «سيتوس» الأول العرش (١٣١٥–١٣٠١ق.م.) أدرك خطورة النفوذ الحيثي فقاد جيشه وأخضع أولًا جنوب فلسطين تمامًا له ثم احتل «مجدو» و«حوران» و«لبنان» … إلخ.

وتكررت مثل هذه الحملات حتى أبرمت معاهدة صلح بين الملك الحيثي «مواتالي» والمصري «سيتوس الأول» حيث أصبح شمال بلاد الشام تابعًا للنفوذ الحيثي وجنوبه للنفوذ المصري.

figure
خارطة (١) بلاد الشام في الألف الثاني قبل الميلاد.

واستقرت بلاد الشام لما يقرب من قرن كامل تحت ظل هذا الاتفاق، وكانت الحروب قد أنهكت الحيثيين والمصريين وبلاد الشام نفسها.

لكن العاصفة المدمرة هبت مع مطلع القرن الثاني عشر عندما بدأت غزوات الفلستو والآشوريين والعبريين لتدمر مدن بلاد الشام خلال قرنين من الزمان تدميرًا شاملًا.

(د) فترة تدمير المدن (الغزو الفلستي والآشوري والعبري) (١٢٠٠–١٠٠٠ق.م.)

غرقت بلاد الشام كلها في وصول كارثة لم يشهد لها تاريخها مثيلًا ابتدأت بالغزو الكاسح والمدمر للقبائل الإيجية، وخصوصًا الفلستية منها، ثم سحقت القوات الآشورية أغلب مدنها، وأخيرًا تسربت القبائل العبرية في غزو مخاتل إلى قلب فلسطين وأقامت دولة غريبة فيها.

figure
خارطة (٢): بلاد الشام (كنعان) (٣٠٠٠–١٣٠٠ق.م.).

الغزو الفلستي

سقطت الدولة الحيثية عام ١١٩٠ق.م. على يد قبائل غريبة عن المنطقة هاجمت من الغرب والشمال الغربي، ويمكننا القول: إن هذا الغزو بأكمله كان جزءًا من حركة الغزو والهجرة التي كانت تقوم بها القبائل الإغريقية من وسط وشمال أوروبا نزولًا إلى بلاد اليونان واستمرارًا إلى آسيا الصغرى وجزر البحر المتوسط والسواحل الشرقية له.

وتألف الغزو بمجمله من ثلاثة محاور، هي:
  • (١)
    من اليونان باتجاه آسيا الصغرى: وتكوَّن من «الفريجيين والمسيين والكاشكيين»، وقد دمر هذا المحور قلب الإمبراطورية الحيثية.
  • (٢)
    من كريت وقبرص إلى مصر: وتكوَّن من القبائل اﻟ «شاردانية» واﻟ «لوكية» واﻟ «ميسية» وكان الغزو بحريًّا وتحالف مع القبائل الليبية وغزا السواحل المصرية، لكن رمسيس الثالث أوقفه ورد الغزاة في معركة فاصلة برًّا وبحرًا في دلتا النيل، فاتجه ما تبقى من الغزاة نحو فلسطين.
  • (٣)
    من كريت وقبرص إلى السواحل الشامية: وتكوَّن من قبائل «فلستو، الليرية، الزاكارية» ثم انضمت لها القبائل المهزومة أمام رمسيس الثالث، ودمرت هذه القبائل معظم المدن الكنعانية الساحلية، واستطاعت قبائل «الفلستو» الاستقرار والتمركز في خمس مدن ساحلية كنعانية النشأة، وهي: «عكا، أسدود، عسقلان، جت، غزة»، وأصبحت أسدود عاصمة لدولة فلستية (فلسطينية) وانصهرت فيها القبائل الإيجية الغازية مع القبائل الكنعانية التي كانت تسكن هذه المدن.

وستتحول هذه الدولة إلى دولة مضادة للعبريين الذين غزوا بقية بلاد كنعان في فلسطين.

وهكذا انقسم الشريط الكنعاني إلى قسمين شغل ثلثَيه العلويَّيْن الكنعانيون (الذين سيترسخ اسمهم تحت عنوان الفينيقيين) والثلثَ الأسفلَ الفلسطينيون.

وكان الغزو الإيجي قد خرَّب أيضًا أوغاريت، حوالي سنة ١١٨٠ق.م.، والتي لم تقم لها بعد قائمة مطلقًا.

الغزو الآشوري

ما أن سقطت الإمبراطورية الحيثية حتى شعر الآشوريون بأن الوقت قد حان ليحتلوا مكانها المؤثر وتبوُّءِ زعامة الشرق الأدنى بأكمله، وإذا كانت في البداية قد اضطرت إلى التراجع داخل حدودها الإقليمية في شمال العراق، فإنها سرعان ما عاودت الهجوم.

قام العاهل الآشوري «تجلات بلاسر الأول» (١٠٩٠–١١١٦ق.م.) باجتياح جنوب سوريا للحصول على أخشاب الأرز، واضطرت جبيل لتقديم الجزية له. واحتل أرواد لفترة من الزمن.

figure
قطعة عاجٍ منقوشة من مجدُّو حوالي (١٣٥٠–١١٥٠ق.م.) توضح مشهدين لملك عائد من حملة وهو يجلس على عرشه ويتسلم التقدمات والهدايا (عن: Gary 1964).

الغزو العبري

لم تمنحنا الآثار شيئًا عن الوجود العبري في فلسطين خلال الألف الأول قبل الميلاد، وما زال تاريخهم مشوبًا بالغموض رغم أن التوراة تتحدث عن تاريخ القبائل العبرية قبل وبعد استيطانها في فلسطين.

يمكننا تلخيص هذه المرويَّات التوراتية، التي لا صحة لها على المستوى الآثاري: إن القبائل العبرية المجهولة المنشأ قد زحفت بشكل بطيء ومتدرج نحو بلاد الشام. وفي حدود ١١٠٠ق.م. أجهز العبريون على ما تبقى من المدن الكنعانية في فلسطين، واستقروا هم فيها وفرضوا عليها عاداتهم وتقاليدهم، واصطدموا في عام ١٠٥٠ق.م. بالفلستينيين الذين كانوا متطورين بأسلحتهم وعدتهم فانهزموا أمامهم، وكان ذلك مدعاة لإعادة تنظيم العبريين لأنفسهم فاختاروا في حدود ١٠٠٠ق.م. شاؤول ملكًا لهم على أول مملكة عبرية، ثم خلفه رواد، ثم جاء سليمان، وبعدها انقسمت الدولة العبرية إلى قسمين.

وما يهمنا هنا هو أن الغزو العبري كان مشابهًا للغزو الفلستي في آثاره المدمرة للمدن الكنعانية وإزالة هويتها الكنعانية الأصيلة، أما الغزو الآشوري فكان ذا طابع اقتصادي وسياسي أكثر من كونه عسكريًّا واستيطانيًّا.

•••

وهكذا ساهمت هذه الغزوات الفلستية والآشورية والعبرية بتغيير الطابع الديموغرافي الكنعاني لبلاد الشام الجنوبية لفترة، ثم عاد الكنعانيون وملَئوا البلاد كلها.

أما الكنعانيون، الذين كانوا قد تحرروا نسبيًّا من النفوذ المصري، فقد واجهوا الضغط الآشوري بشكل خاص واستثمروا خُلُو البحر المتوسط من القوة المصرية المؤثرة، ولذلك، ركبوا البحر وتدفقوا منذ ١٢٠٠ق.م. إلى جزر البحر المتوسط وسواحل البلقان وإيطاليا، وبشكل خاص سواحل شمال أفريقيا ليبدأ عصر جديد لها هناك وليستمر تاريخها بالتدفق في بلاد فينيقيا الشامية بمرحلة جديدة.

(٢-٣) المرحلة الفينيقية (١٢٠٠–١٤٦ق.م.)

(أ) الفينيقيون الشرقيون (١٢٠٠–٢٣٢ق.م.)

بعد أن دُمرت معظم المدن الكنعانية البرية والساحلية وتغيرت هويتها على يد الفلستينيين والعبريين معًا غرقت هذه المدن، وما تبقى من المدن الأخرى، في تاريخ منحدر طويل من الغزوات والاحتلالات الجديدة على يد المصريين والآشوريين والبابليين والفرس والإغريق، ثم تلا ذلك الرومان والبيزنطيون، ففقدت في نهاية الأمر هويتها الكنعانية.

  • (١)
    الاحتلال المصري: قام الفرعون بسوينس (من الأسرة الحادية والعشرين) في حدود (١٠٠٠ق.م.) بالهجوم من جديد على جنوبي فلسطين واستولى على مدينة «جزر» الكنعانية وأحرقها، ثم أعطاها هدية أو مهرًا لابنته عند زواجها (انظر: فخري، ١٩٩٥م، ٤١٩).

    وحصل الغزو المصري الأكبر خلال هذه الفترة على يد الفرعون شيشناق الأول (٩٥٠– ٩٢٩ق.م.) وأبدت ذلك نقوش هذا الفرعون في الكرنك ونصوص التوراة (انظر: سفر الملوك الأول، ١٤: ١٠).

    وكان السبب الرئيسي لهذه الحملة هو قيام الفلسطينيين والكنعانيين ومعهما مملكة إسرائيل (ملكها يربهام) بطلب النجدة ربما ضد ملك دولة يهودا (رحبعام) فجهز شيشناق حملة عظيمة إلى فلسطين بدأت من عاصمته بوبيتيس في الشرقية باتجاه الفرما ثم سينا ثم غزة واستولى على المدن الفلسطينية وقام باكتساح ١٥١ مدينة في آسيا وفلسطين، وغنم شيشناق من دولة يهودا (رحبعام) في أورشليم كنوز الملك سليمان، وتتسابق حكام وولاة فينيقيا على كسب شيشناق، وعادت فلسطين الكنعانية والعبرية والفلستينية مصدرًا مهمًّا من مصادر المواد الأولية الخام لمصر.

  • (٢)
    الاحتلال الآشوري: بدأت الحملات الآشورية الكبيرة لتوسيع رقعة الدولة الآشورية مع عهد الملك آشور دان الثاني (٩٩٣–٩١٠ق.م.) ثم تبعه خلفاؤه في تلك الحملات، وخاصة في عهد الملك آشور ناصر بال الثاني (٨٨٣–٨٥٩ق.م.)

    واستمرت الحملات في عهد ابن شلما نصر الثالث (٨٦٠–٨٢٥ق.م.)، الذي أخذ الجزية من صور وببلوس مرات عدة، ولما خرجت أرواد عن الطاعة لآشور هزمها في معركة حاسمة.

    وقام أدد نيراري الثالث بحملة على سوريا عام ٨٠٥ق.م. ثم نعمت سوريا وفينيقيا بهدوء نسبي إلى أن اعتلى عرش آشور «تجلات بلاسر الثالث» (٧٤٥ق.م.) الذي قام بحملة على سوريا وفرض الجزية على صور وصيدا.

    وكان الاحتلال الآشوري لفينيقيا يمتاز ببسط السيادة والنفوذ وفرض الجزية أكثر من كونه احتلالًا دائمًا.

    وفي عهد الملك الآشوري شلما نصر الخامس وقفت «صور» بوجه الغزو الآشوري الذي كان يستهدف احتلال قبرص بأسطول بحري كبير، حيث دمرت الأسطول الآشوري وأسرت ما يقرب من خمسمائة جندي آشوري، فحاصرها شلما نصر الخامس.

    ومع مجيء الأسرة السرجونية إلى آشور بدأ عصر جديد من الغزو العنيف للمدن الكنعانية، وخصوصًا في عهد سنحاريب الذي انتصر على حلف المدن السورية الآرامية والفينيقية في حدود ٧٠١ق.م. حيث فر ملك صور وصيدا إلى قبرص ومات هناك.

    واستمر أسرحدون على النهج نفسه وقسم فينيقيا إلى ثلاث ولايات آشورية هي «سميرا»، «صيدا»، «صور»، وكانت صور قد استجابت لطلب الفرعون المصري «طبرقا» بالانفصال عن آشور، فكان لها أسرحدون بالمرصاد.

  • (٣)
    الاحتلال البابلي: سقطت الإمبراطورية الآشورية عام ٦١٢ق.م. وتنفست المدن الكنعانية الصعداء، لكن الفرعون المصري «نخاو» توغل في فلسطين وأراد فتح بلاد الشام كلها؛ لكنه اصطدم بقوة الملك البابلي الكلداني نبوخذ نصر الذي انتصر عليه في معركة قرقيش عام ٦٠٥ق.م.

    وكان هذا الانتصار مدخلًا للاحتلال البابلي لبلاد الشام، حيث حاصر نبوخذ نصر صور وصيدا وغيرها، وقام نبوخذ نصر بتعيين ملوك فينيقيين على هذه المدن، لكنه استبدلهم بعد ذلك بحكام بابليين، ولا تُسجل علامات رفاه للمدن الفينيقية في العصر البابلي الحديث؛ فقد كانت بلاد الشام، كلها تابعة للنفوذ البابلي.

  • (٤)
    الاحتلال الفارسي: بعد أن أسقط كورش الدولة الكلدانية عام ٥٣٩ق.م. ظل حكام المدن الشامية البابليون يحكمون هذه المدن باسم الدولة الفارسية.

    وعندما تولى قمبيز الحكم استبدل بهؤلاء الحكام حكامًا فرسًا، وكانت بلاد الشام معبرًا لطموحات الدولة الفارسية في السيطرة على مصر والسودان وشمال أفريقيا وبلاد اليونان، ولذلك قامت المدن الشامية والفينيقية بشكل خاص بمعاونة الملوك الفرس في تحركاتهم هذه مقابل حرية سياسية للمدن الفينيقية، حيث حصلت على نوع من الاستقلال الذاتي، واتحدت هذه المدن في القرن الرابع قبل الميلاد، واتخذت المدينة التي أُسست آنذاك وسماها الإغريق تريبوليس (طرابلس اليوم) مركزًا للاتحاد؛ لأنها تكونت من ثلاث مستوطنات أقامها أهل أرواد وصيدا وصور، وكان الاجتماع السنوي لممثلي المدن الثلاث يعقد في هذه المدينة (هبو، ١٩٩٩م، ٢٧١).

    وقبل نهاية الحكم الفارسي ثارت مدينة صيدا فدمرها الفرس تدميرًا شاملًا. ثم جاء الإسكندر المقدوني الذي هزم الفرس عام ٣٣٣ق.م. في معركة إيسوس. وقاومت مدينة صور غزو الإسكندر؛ لكنه فتحها بعد حصار طويل، في حين سقطت كل المدن الفينيقية في قبضته، وبدأ عصرٌ جديد.

    ومع مجيء الاحتلال المقدوني والثقافة الهيلنستية (البطلمية والسلوقية) بدأت المدن الفينيقية تفقد طابعها الخاص، واضمحلت اللغة الفينيقية أمام الإغريقية والآرامية، وتكرس هذا مع مجيء الرومان عام ٦٤ق.م.

•••

لا شك أن الكنعانيين والفينيقيين قدموا للبشرية أعظم المنجزات الحضارية طيلة تاريخهم الطويل، ولم يمنع عدم تكوينهم لدولة أو إمبراطورية واحدة من تعطيل عطائهم الحضاري.

ولعل أقدم منجزاتهم الحضارية تأسيسهم لتك المدن العظيمة التي كان لها الأثر الأكبر في العالم القديم. ثم إنهم عُرفوا بالملاحة؛ حيث درسوا طرقها البحرية وربطوا بلادهم بخطوط بحرية مع بلاد اليونان غربي البحر المتوسط وشمال أوروبا والخليج العربي والهند … وغيرها. وهم أول من اكتشف المحيط الأطلسي، وأول من دار حول أفريقيا واكتشف سواحلها. وهم الذين جعلوا حوض البحر المتوسط كله مسرحًا لحضارتهم وتجارتهم منذ منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، أي قبل الرومان بأكثر من ألف وخمسمائة سنة. ولعل أعظم اختراع قدمه الفينيقيون إلى البشرية هو اختراعهم للأبجدية، حيث عثر على أقدم كتابة أبجدية بالحروف الفينيقية على التابوت الحجري للملك جبيل «أحيرام» الذي حكم حوالي ١٠٠٠ق.م. (شكل ١-٣) ويبلغ طول التابوت مترين ونصفًا ويقوم على تماثيل لأسودٍ جالسة.
fig8
شكل ١-٣: تابوت الملك «أحيرام» ملك جبيل (ببلوس) مصنوع من الحجر ويرجع تاريخه إلى القرن العاشر ق.م.، منقوش على حافة غطاء التابوت أقدم وأطول كتابة فينيقية معروفة (المتحف الأهلي، بيروت).

ويعود أصل الخطوط الأبجدية إلى بداية الألف الثاني قبل الميلاد عندما طور مجموعة من العمال الساميين (الكنعانيين) الكتابة الهيروغليفية المصرية باتجاه أبجدي وتسمى «أبجدية السينائية المبكرة»؛ لأنها نشأت في سيناء بين القرنين العشرين والثامن عشر قبل الميلاد، وكلمة المبكرة تميزها عن أبجدية سينائية أخرى انتشرت في سيناء في عصر متأخر، وبالتحديد في القرن الثالث والرابع الميلاديين، وترجع في أصلها إلى الأبجدية النبطية، نشأت الأبجدية السينائية المبكرة في منطقة سيرابيط الخادم بسيناء على يد شعب ساميٍّ بسيط كان أفراده يعملون تحت إشراف المصريين في استخراج النحاس والفيروز (عبد الحليم، ١٩٩٩م، ١٤)

والطريقة التي تحولت فيها بعض العلامات الهيروغليفية إلى خطوط أبجدية كانت عن طريق استعمال طريقة أطلق عيها العلماء: «الأكروفونية acrophonic»، وهو مصطلح مكوَّن من كلمتين يونانيتين هما «أكرو: بمعنى رأس أو مقدمة» و«فون بمعنى صوت»؛ حيث يتخذ الصوت الأول في نطق الاسم الدال على شكل العلامة ليكون مدلولًا صوتيًّا مفردًا للعلامة مثل كلمة «بر» الفرعونية التي معناها بيت تكون دالة على حرف «ب» في الأبجدية السينائية، ويلاحظ أننا ما زلنا نستخدم هذه الطريقة في تعليم الأطفال نطق الحروف الأبجدية، فنرسم للطفل شكل منزل ونكتب بجواره «بيت»، ثم نكتب حرف الباء (انظر المرجع السابق: ١٤-١٥)، وهكذا رسموا رأس الثور الذي يعني بالكنعانية ألف؛ ولكنهم لفظوا هذه العلامة «أ». ورسموا شكل البيت البسيط، واسمه بالكنعانية بيت؛ ولكنهم لفظوه «ب». وهكذا فعلوا ببقية الأشكال التي أصبحت تمثل حروفَ (أصوات) لغتهم الكنعانية، ثم انتشر هذا النوع من الكتابة بين كنعانيي فلسطين، ووصل إلى أشقائهم على الساحل اللبناني (الفينيقي)، ومنهم أهل جبيل الذين طوروا الأشكال وتوصلوا إلى ٢٢ شكلًا تمثل اللغة الكنعانية وهي: أ، ب، ج، د، ﻫ، و، ز، ح، ط، ي، ك، ل، م، ن، س، ع، ف، ص، ق، ر، ش، ت (حسب الترتيب المعروف: أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت)، ودعيت هذه الكتابة أبجدية «أهذ ألفبائية» نسبة إلى ترتيب حروفها الأولى (انظر: هبو، ١٩٩٩م، ٢٦١). وانتشرت وتطورت هذه الأبجدية عند الأقوام القريبة حتى نشأ نظام أبجدي جديد في الشرق الأدنى واليونان والرومان (انظر: جدول ١)، وهكذا حلت الأبجدية تدريجيًّا محل الكتابة المقطعية والهيروغليفية في كل أنحاء العالم.
figure
جدول (١): جدول الخطوط الأبجدية منذ الأصل الأوغاريتي المسماري لها حتى خطوطها المتنوعة في الشرق والغرب (هبو، ١٩٩٩م، ٢٦٣).

أما في أوغاريت، فقد كان الأمر مختلفًا؛ إذ يبدو أن الخلفية الرافدينية، التي كانت تسيطر على ثقافة أوغاريت، جعلت الكتابة العراقية القديمة (المسمارية) وليس المصرية (الهيروغليفية) هي التي تكون نواة الأبجدية الأوغاريتية. فقد عثر المنقبون في أوغاريت عام ١٩٢٩م على رقم مسمارية تختلف عن الكتابة المسمارية العراقية (السومرية والأكدية)، ثم استطاعوا فك رموزها فوجدوا أنها مكونة من ٣٠ حرفًا مسماري الشكل، بينها ثلاثة تمثل الهمزة بحركاتها المختلفة (مفتوحة ومضمومة ومكسورة) وهي مرتبة كما يلي: (أ، ب، ج، خ، د، ﻫ، و، ز، ح، ط، ي، ك، ش، ل، م، ذ، ن، ط، س، ع، ف، ص، ق، ر، ث، غ، ت، أُ (مضمومة)، إِ (مكسورة)، أَ (مفتوحة)).

لقد تأكد الباحثون أن هذه الكتابة الأبجدية المسمارية أقدم من الكتابة الأبجدية الخطية على تابوت أحيرام بأكثر من خمسة قرون، أي إنها تعود إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وقد كتبت بها نصوص أدبية واقتصادية وسياسية متطورة مما يوحي بأن جذورها تعود لأبعد من هذا التاريخ. ونرجِّح أن اختراع الأبجدية الأوغاريتية سبق اختراع الأبجدية السينائية المبكرة، التي كانت محدودة جدًّا في الشام، كتبت بها اللغة الأوغاريتية الشديدة القرب من اللغة العربية ومن اللغات السامية الأخرى كالأكدية والعبرية.

لقد تقلص عدد الحروف المسمارية الأوغاريتية إلى ٢٢ حرفًا في نهاية القرن الثالث عشر قبل الميلاد وبداية القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وغدت قريبة من اللغة الفينيقية واللغة العبرية.

إن إنجاز الكتابة الأبجدية يعد من أعظم الإنجازات البشرية بعد اختراع الكتابة؛ لأنه يسَّر تطابق اللغة مع الكتابة وجعل أمم الأرض تبتكر لنفسها أبجدياتها وتكتب بها تراثها.

figure
جدول الأصل الأوغاريتي المسماري الأبجدي، والخط الأبجدي السوري الغربي.
figure
مخطط (١): مراحل تطور تاريخ الكنعانيين.

(ب) الفينيقيون الغربيون (البونيون والقرطاجيون)

١٢٠٠–١٤٦ق.م.

ضجر الفينيقيون الشرقيون المقيمون في مدن السواحل الشامية من بناء الحصون العالية لحماية مدنهم من الغزوات المتلاحقة ومن دفع الجزية المستمر ومن انتهاكات الأقوام الغازية واحتلالها لأراضهم وموانئهم … وقد شهدنا تلك العاصفة المدوية التي حصلت لمدنهم مدة قرنين من الزمان من قبل أقوام البحر والفلستينيين والعبريين والآشوريين، وهكذا بدأت أفواج منهم بالرحيل عن الشواطئ والمدن الكنعانية والفينيقية والاتجاه نحو البحر الأبيض المتوسط بجزره وسواحله الشمالية والجنوبية.

ولا شك أن دافع التجارة والاقتصاد كان في المرتبة الثانية عندهم، هذه المرة، فهم أعظم رواد البحار وأصحاب أكبر الأساطيل والسفن البحرية التجارية، وكانوا يتاجرون بالأخشاب والبرونز والعاج والعظام والزجاج والخمور والأصباغ والقماش وقد أظهر الفينيقيون مقدرة فائقة في صناعة الأقمشة المصبوغة باللون الأرجواني، والتي كانت صبغتها تستخرج من بعض الأصداف البحرية التي عثروا عليها عند سواحلهم. وكان توسعهم التجاري في البحر المتوسط يستوجب ضرورة إنشاء محطات ومراكز مستقرة في البحر أو على سواحله الأخرى.

كذلك لم تظهر المدن الفينيقية القدرة على تكوين دولة واحدة متحدة تواجه بها الأقوام الخارجية، فقد اقتصرت على إنشاء بعض الاتحادات السياسية بين المدن الفينيقية أثناء حدوث بعض الأزمات والتي كانت تنهار أمام القوى السياسية الكبرى المحيطة بها.

وهكذا اجتمعت العوامل السياسية والبشرية والاقتصادية والبيئية لتدفع بعض الفينيقيين إلى الرحيل بحرًا نحو السواحل الأوروبية والأفريقية للبحر المتوسط بالإضافة إلى الجزر المنتشرة فيه.

(١) المرحلة الفينيقية (الانتشار والاستيطان) (١٢٠٠–٨١٤ق.م.)

ربما تكون هذه المرحلة قد بدأت قبل (١٢٠٠ق.م.) عندما ارتاد الفينيقيون البحر المتوسط واستقروا في جزره بشكل خاص، ولكنها ازدادت بعد هذا التاريخ.

ويمكننا من الناحية التصنيفية تقسيم المناطق التي انتشر واستعمر واستوطن فيها الفينيقيون إلى أربعة أقسام:

(أ) جزر البحر الأبيض المتوسط

لا شك أن الكنعانيين هم الذين ألهموا سكان جزيرة كريت سبل الحضارة بالإضافة إلى المصريين؛ ولكن العناصر الكنعانية في الحضارة الكريتية كانت واضحة جدًّا وربما تكون قد بدأت في الألف الثالث قبل الميلاد، ولا نرجح أن استيطانًا كنعانيًّا قد حصل في تلك الأزمان، بل أن اتصالًا ثقافيًّا وروحيًّا وفنيًّا كان يجري من كنعان إلى كريت بوضوح شديد. وقد ظل هذا حتى بعد أن دمر إغريق موكناي حضارة كريت.

الجزيرة الثانية التي ارتحل إليها الفينيقيون هي جزيرة قبرص، فقد كانت قريبة من سواحل كنعانية وفينيقية، تلك التي عثر فيها على أكروبول فينيقي يعود إلى القرن الحادي عشر. ويبدو أن صُورَ أنشأت لها في قبرص مقاطعة صغيرة خاضعة لها، وقد ظهرت في كيتيون أسرة فينيقية حوالي (٤٥٠ق.م.) ضمها بعد ذلك بطليموس الأول إلى دولته البطلمية.

ومن المستوطنات الأخرى في هذه الجزيرة جولجوي وأيدليون وتلماوس وماريون ولابيتوس التي خضعت للاحتلال الآشوري لفترة طويلة، أما جزيرة صقلية فقد شهدت استيطانًا فينيقيًّا في «سيلينونتي» و«موتيا» و«بالرمو» و»سولونتو»، واستوطن الفينيقيون في جزيرة مالطة وفي «جوزو» و«بانتلليريا» و«لامبيدوس».

وكذلك استوطنوا في «سردينيا» خصوصًا في «نورا»، «سوليس»، «كارولفورت»، «ثاروس»، وكذلك في جزيرة «كورسيكا». واستوطنوا كذلك في جزر البليار، وجزر إيجه مثل «تكوس»، «كيثيرا»، «ميلوس»، «ثيرات» (انظر: الشريفي، ١٩٨٥م، ٥٧).

(ب) السواحل الأوروبية للبحر الأبيض المتوسط

استوطن الفينيقيون مبكرًا في السواحل الإسبانية وأسسوا مدينة قادس، معنى اسمها (سور) على الساحل الجنوبي لإسبانيا في شمال غرب جبل طارق عام ١١١٠ق.م.

ومن المدن الأخرى في شبه جزيرة أيبيريا (إسبانيا) مدينة تاريتتوس جنوب غربي إسبانيا التي عرفت ﺑ «تارشيش»، وكذلك مدينة قرشيش، وهذا الاسم هو اسم فينيقي يعني المنجم، أو مكان الصَّهر (انظر: ١٩٨٩م، ٢٩٥).

كانت سواحل بلاد اليونان مكانًا لهم، خصوصًا بعد أن قضى أقوام البحر والدوريون على حضارة موكناي، فأدى ذلك إلى ظهور واضح للفينيقيين على السواحل اليونانية منذ القرن الحادي عشر قبل الميلاد، ثم العاشر ثم التاسع. وقد خلق هذا الحضور احتكاكًا تجاريًّا مع الأقوام الإغريقية الوافدة إلى بلاد اليونان. وأسس الفينيقيون هناك مدن كومايس (كوماي)، وكورنثوس وساموس (الشمس) ورودس (انظر: الشريفي، ١٩٨٥م، ٥٧).

(ﺟ) السواحل الآسيوية للبحر الأبيض المتوسط

كان للفينيقيين حضور واضح في السواحل الآسيوية رغم قوة الحيثيين في آسيا الصغرى، فقد ظهرت آثارهم في مدينة ياليسوس وجزيرة رودس ومدينة أفيسوس ومدينة ساردس … ومدن أخرى.

(د) السواحل الأفريقية للبحر المتوسط

لا شك أن الحضور الفينيقي في السواحل المصرية كان قديمًا، وقد أخذ طابعًا تجاريًّا ولم يأخذْ طابعًا استيطانيًّا رغم أن العبادة الفينيقية في منطقة الإسكندرية (التي كانت تسمى فاروس) كانت معروفة، وكان هناك حي من أحياء منف يسمى «ساحة صور». وكانت السواحل المصرية مراكز ومحطات تجارية أكثر من كونها مناطق استيطانية فينيقية.

على السواحل الليبية قام الفينيقيون بتأسيس مدينة «أوبا»، التي يطلق عليها اسم «أوبا ملكرت» واسم «ماكاريا» واسم «أويا» التي هي طرابلس الحالية، ومدينة «لبكي» التي هي مدينة لبدة الحالية، ومدينة «صبرات» وتعني «سوق القمح» وهي مدينة صبرا الحالية.

هناك مدن ثانوية أخرى مثل «أيبوت أكر» و«كراكس» و«توريس أفرانتس» و«ماكومكا» و«كفالي» و«غرافارا» و«زوفيس» (انظر: الجربي، ١٩٩٦م، ٧٦–٧٨).

وفي السواحل التونسية أسسوا مدينة أوتيكا عام ١١٠٠ق.م. ومدينة «هاردميتم» و«هبو، عنابة»، و«تابسوس»، و«أخولا»، و«قرطاجة» التي تأسست عام ٨١٤ق.م. والتي سيكون لها الشأن الأعظم في تاريخ الفينيقيين الغربيين، وكذلك «هرماكون» و«رأس بون» و«حضرموت» التي أصبح اسمها «سوسة».

وفي السواحل الجزائرية أسسوا مدن «فيليب فيل» و«قسطنطينة»، التي كان اسمها «كرت» أي القرية، ومدينة «تشوللو» و«جيجلي» و«تيباسا» و«جورايا».

وفي السواحل الغربية أسسوا مدن «ميليلللا» و«إيمسا» و«سيدي عبد السلام» و«تامودا»، وليكسوس على الساحل الأطلسي، وكان اسمها «تشميش» أي مدينة الشمس، ومنها انطلقوا لاكتشاف مجاهل المحيط الأطلسي، ومدينة طنجة ومدينة مولي بوسلوام وجزيرة الصويرة المغربية، وروسدير (مليلة).

figure
خارطة (٣): التوسع الفينيقي في حوض البحر المتوسط وسواحله وجزره (عن: عصفور، ١٩٨١م).

يشير هذا الانتشار والاستيطان الواسعَين إلى أن الفينيقيين قد أسسوا فيما بين القرون الثاني عشر والسادس قبل الميلاد إمبراطورية يحق لنا أن نسميها «إمبراطورية حوض البحر الأبيض المتوسط»، أو «الإمبراطورية المتوسطية الفينيقية»، التي شملت سواحل ومدن وحوض وجزر البحر الأبيض المتوسط.

ولكن ظهور الإغريق أولًا ثم الرومان جعل هذا البحر المتوسط منطقة صراع معها لأكثر من أربعة قرون متصلة، حتى استطاعت روما قبل مطلع القرن الميلادي الأول جعل هذه الإمبراطورية ما يمكن تسميتها «الإمبراطورية المتوسطية الرومانية».

(٢) المرحلة البونية (٨١٤–٥٥٠ق.م.)

يشير مصطلح «البوني» أو «الفوني» إلى «الفينيقي»، ولكننا أردنا أن نميز هذه المرحلة عن سابقاتها باستخدام مصطلح البوني الذي شاع استخدامه عند الرومان، في حين شاع مصطلح «فينيقي» عند الإغريق، ولِنُميزه عن المرحلة السابقة.

تبدأ هذه المرحلة مع تأسيس مدينة قرطاج عام ٨١٤ق.م. وتنتهي بظهور الأسرة الماجونية في قرطاج؛ حيث بدأت قرطاج بعدها تلعب الدور السياسي والحضاري المعروف لها، وتمتد كدولة كبيرة تشمل سواحل شمال أفريقيا من خليج سرت شرقًا حتى سواحل المحيط الأطلسي غربًا.

يسود رأي عامٌّ مفاده أن مدينة صور الفينيقية (على سواحل لبنان) لعبت دورًا بارزًا منذ بداية الألف الأول قبل الميلاد في هِجرة الفينيقيين إلى شمال أفريقيا، وبشكل خاص إلى تونس، وأنها تعتبر الأم المباشرة لمدينة قرطاج، وهناك حكاية يمكن عدها من المثولوجيا التاريخية تبحث في تأسيس الأميرة الصورية إليسا، أخت الملك الصوري بيجماليون، لمدينة قرطاج، وهي حكاية تتأرجح بين الأسطورة والواقع سنذكرها في الفصل القادم.

كان شمال أفريقيا قبل مجيء الفينيقيين مسكونًا بالقبائل الليبية والبربرية، ومن المرجح أنه لم تحصل مصادمات أو عمليات إبادة بين السكان الأصليين والوافدين؛ وذلك بسبب غلبة الطابع الاقتصادي للهجرات الفينيقية.

لقد كان موقع قرطاج السهلي وابتعاده عن الساحل الصخري، بالإضافة إلى أهمية موقعها الجغرافي نسبيًّا من الوطن الأصلي بالمقارنة بالمراكز الأخرى البعيدة، كما أن طبيعة موقع قرطاج تسمح بالتوغل لحد ما في الداخل أكثر من المراكز الأخرى (انظر: الناظوري، ١٩٨١م، ١٦٩).

كان اسم قرطاج الفينيقي «قرت حشدت» أي «المدينة الجديدة» وكان لها اتصال منذ بداية تأسيسها بالحصن الجنوبي «بيرسا» قرب لوكرام ثم بقاعدة «أوتيكا» المجاورة ومدينة حضرموت في تونس. وقد أصبحت قرطاج بسرعة مدينة جديدة فعلًا؛ «لأن أصلها ملكي، ولأن قسمًا من أرستقراطية صور قد هاجر مع ثرواته إليها، وهكذا غدت قرطاج صورًا جديدة وذاعت شهرتها لا لموقعها الجغرافي وحسب؛ بل لأنها ورثت أيضًا عن صور دورها التاريخي» (ميادان، ١٩٨١م، ٥١).

تطورت قرطاج خلال القرن السابع قبل الميلاد كثيرًا، وأسست لها مستعمرة في جزيرة «إيبيسا»، وفي القرن السادس استولى «مالكس» على السلطة في قرطاج بعد أن نجحت حملاته العسكرية في صقلية وسردينيا وفي أفريقيا أيضًا (انظر: ميادان، ١٩٨١م، ٥١).

(٣) المرحلة القرطاجية (٥٥٠–١٤٦ق.م.)

(أ) تأسيس دولة قرطاج

مع مطلع القرن السابع قبل الميلاد تأسست دولة قرطاج وفي منتصف القرن السادس قبل الميلاد انتقل الحكم إلى أسرة قوية هي الأسرة الماجوية (الماجونية) نسبة إلى ماجو، وقد استطاع القائد ماجو أن يؤسس جيشًا قرطاجيًّا قويًّا مؤلفًا «من الجنود المرتزقة من كافة العناصر الليبية، أي البربرية، الذين كانوا يعملون كمشاة في الجيش، وكذلك العناصر البربرية النوميدية الذين تميزوا بقدراتهم في مجال الفروسية، وأيضًا العناصر الغالية … وغيرها. ولم يتردد اليونانيون في الانخراط في صفوف الجنود المرتزقة في الجيش القرطاجي» (الناظوري، ١٩٨١م، ١٧٣).

وعقدت الأسرة الماجونية معاهدات مع الأتروربيين في إيطاليا، وبنيت الأسوار والحصون والثكنات، وبني الأسطول القرطاجي، وتحولت دولة قرطاج إلى دولة سياسية أكثر منها دولة اقتصادية، وبدأت تدير مقاليد الأمور في حوض البحر الأبيض المتوسط.

تأسست دولة قرطاج قبل ظهور الأسرة الماجونية مع مطلع القرن السابع ق.م. إذن، بعد مدينة قرطاج تكونت دولة قرطاج التي شملت المدن الفينيقية في شمال أفريقيا (باستثناء مصر) وصارت مدينة قرطاج عاصمة لهذه الدولة على يد الأسرة الماجوية أو الماجونية؛ بل إن قرطاج الدولة والعاصمة أصبحت بديلًا لمدينة صور (العاصمة الأم للفينيقيين الشرقيين)، وهكذا تهيأت ظروف جديدة انحدرت فيها صور وصارت قرطاج عاصمة بديلة لكل الفينيقيين.

حاولت قرطاج قبل هذه المرحة مد أذرعها إلى البحر المتوسط فقامت بتأسيس مدينة «أبيزا» بين عامي (٦٥٤–٦٠٣ق.م.) لتؤمن لنفسها ميناءً على الطريق بين سردينيا وإسبانيا (وتقع هذه المدينة «أبيزا» في البليار) واستقر القرطاجيون أيضًا في سردينيا وصقلية ثم اتخذوا لهم مستعمرات في هاتين الجزيرتين، وهكذا بدأت الطموحات الإمبراطورية لقرطاجة في جزر وسواحل البحر المتوسط.

(ب) فترة الصراع القرطاجي الإغريقي

بدأت ملامح هذا الصراع قبل تأسيس الأسرة الماجونية بقليل، ففي عام ٦٠٠ق.م. انهزم القرطاجيون أمام الإغريق الذين أسسوا مستعمرة لهم في مرسيليا وتحدوا القرطاجيين، وفي ٥٥٠ق.م. نجح القائد القرطاجي «مالخوس» في الانتصار على الإغريق في صقلية، واحتل جزءًا من الجزيرة ثم توجه إلى سردينيا حيث هُزم هناك، وفي عام ٥٣٥ق.م. اشتبك الأسطول اليوناني مع الأسطول القرطاجي وأدى ذلك إلى طرد اليونان من سردينيا وجعل القرطاجيون حلفاءهم من أهل أتروريا يحلون محلهم، وظلت قرطاجة تشن غاراتها على سردينيا والشاطئ الإسباني حتى استطاعت أن تثبت مستعمراتها فيها (انظر: عصفور، ١٩٨١م، ٧٣).

figure
خارطة (٤): قرطاج والطرق التجارية للفينيقيين.

تبع مالخوس في الحكم «ماجو» أو «ماجون» مؤسس الأسرة الماجونية التي أدارت الصراع مع اليونانيين بكفاءة نادرة رغم أن هذا الصراع انتهى في النهاية لصالح الإغريق.

ويعتبر ماجون وابن هامليكار أهم ملوك الأسرة الماجونية الذين برزوا في هذا الصراع.

  • ماجون: بدأ ماجون الكفاح ضد الإغريق بالتحالف مع الأتروسكيين والتصدي للإغريق في الإليا في كورسيكا حيث هزموهم في عام ٥٣٥ق.م. وصارت إيطاليا من جبال الألب إلى كامبانيا من نصيب الأتروسكيين، بينما أصبحت المنطقة الواسعة في الجنوب بما فيها المنطقة التي احتلها اليونان من نصيب القرطاجيين.
  • هامليكار بن ماجون: استطاعت روما أن تضعف الأتروسكيين، وانتصر الإغريق على الفرس في معركة سلاميس البحرية، وهكذا ضعفت قرطاج أمام أعدائها الإغريق. واستطاع دكتاتور سيراكيوز في صقلية (جيلو) الانتصار على هاميلكار القرطاجي في معركة هميرا عام ٤٨٠ق.م. حيث قتل هامليكار. وأنهى القرطاجيون بعد ذلك حكم أسرة ماجون.
  • قضاة قرطاج (صوفية suffetes): بعد هزيمة الأسرة الماجونية نفى القرطاجيون بقية أعضائها وشكلوا هيئة حاكمة من مائة شخص وضعوا على رأسها شخصًا أعطوه لقب «قاضٍ»، وحدُّوا من صلاحياته ومدة حكمه حمايةً لقرطاج من الدكتاتورية، كذلك جرى إصلاح ديني واضح؛ حيث ظهر الإله بعل حامون والإلهة تانيت بعد أن كان الإله «بعل» ينفرد بتزعم مجلس الآلهة، كذلك فقد أنهت حكومة قرطاج العلاقة التجارية مع اليونان وهو ما أضر بقرطاج كثيرًا.

    لقد جعلت هذه الأمور قرطاج تبدو وكأنها تدخل مرحلة جديدة أسفرت عن استقلال قرطاج الثقافي والديني عن أصلها الفينيقي الأول، ولذلك توسع القرطاجيون داخل أفريقيا، ومدت قرطاج نفوذها وتجارتها باتجاه سواحل إسبانيا وفرنسا.

  • هانيبال بن جزجو: في عام ٤٠٩ق.م. قام هانيبال مدينة «سيلبنونتة» في صقلية ضد الإغريق، ودمر هذه المدينة ومدينة هميرا وقتل ٣٠٠٠ أسيرٍ انتقامًا للقائد القرطاجي السابق هامليكار، ثم قاد حملة أخرى عام ٤٠٦ق.م. هاجم فيها أغريقنتوم وهزمها ودمرها لكنه مات بالطاعون، فاستمر بعده هيميلكو.
  • هيميلكو: استمر في حصار مدينة جيلا وأصبحت صقلية اليونانية مهددة بأكملها، فقام الإغريق بتعيين ديونسيوس قائدًا لصقلية اليونانية فأحرز انتصارات أولية، ثم هزمه هيميلكو في معركة بحرية، ثم انتشر الطاعون في الجيش القرطاجي، وعقدت معاهدة بين القرطاجيين والإغريق حيث أصبح ثلث صقلية تابعًا للنفوذ القرطاجي.
  • هسرروبال: في عام ٣٤٠ق.م. انتصر تيموليون الكورنثي على هسيدروبال القرطاجي وأجبر على عقد معاهدة نقص في نفوذ القرطاجيين.
  • هامليكار: مع بدء غزو الإسكندر المقدوني للشرق (صور) عام ٣٣٢ق.م. قام «أجاثوكليس» سيراكيوز الطاغية بالخروج على قرطاج فهزموه وحاصروه في مدينته، فقام بتنفيذ خطة جريئة جدًّا حيث قاد أسطولًا حربيًّا وتوجه نحو «رأسجون» على الساحل الأفريقي ثم أشعل النار في سفنه واتجه نحو قرطاج العاصمة، وضرب المدن القرطاجية في طريقه ثم حاصر قرطاج العاصمة، بينما كان القرطاجيون يحاصرون مدينته سيراكيوز في صقلية، واستطاع هزيمة الجيش القرطاجي حول قرطاج.

وبينما كان هامليكار يحاصر سيراكيوز قام أجاثوكليس بالتحالف مع الوالي البطلمي على برقة (أوفيلاوس) على أن يحصل هذا على شمال أفريقيا وأجاثوكليس على صقلية، وبعد أن تقدم أوفيلاوس بجيشه الكبير قام أجاثوكليس بقتله، وانتهز أجاثوكليس مؤامرة بوملكار للحكم في قرطاج فاحتل أوتيكا وهيبواكرا، ثم ذهب إلى صقلية وترك جيشه وحيدًا.

قام القرطاجيون بالهجوم على الجيش واستعادوا أماكنهم في شمال أفريقيا، وعبثًا حاول أجاثوكليس إنقاذ الموقف حتى عقدوا معه معاهدة أدت إلى نهاية الحرب بينهما واحتفظت قرطاج بكل ممتلكاتها في أفريقيا وفي صقلية إلى نهر هاليكوس (أي ثلثها) وحصل أجاثوكليس على بعض الأموال كتعويض رمزي لما فقده من الأرض.

هكذا انتهى الصراع القرطاجي اليوناني، والذي دار بشكل أساسي حول صقلية وتنازع النفوذ فيها، وذلك لأهميتها في السيطرة على البحر المتوسط بجزئيه الشرقي والغربي.

(ﺟ) فترة الصراع القرطاجي الروماني (الحروب البونية)

انشغلت كل من روما وقرطاج طيلة القرون الماضية بمشاكلهما الداخلية والخارجية من دون أن ينتبها إلى خطورة إحداهما على الأخرى.

ولم يبدأ الاحتكاك المسلح بينهما إلا بعد أن وجدت روما أرض إيطاليا وأخضعتها لسيادتها. وهكذا كانت قوة روما البرية ومحيطها الأوروبي، بينما كانت قوة قرطاج بحرية ومحيطها أفريقي. ولكن البحر المتوسط بجزره وسواحله كان مكان الصراع والاحتكاك.

فبعد أن استولت روما على بلاد اليونان أرادت أن تضم إليها صقلية التي كانت تحت سيطرة قرطاج. ونشأ عن ذلك ثلاث حروب متقطعة استغرقت ١١٨ سنة، وهي كما يلي (انظر: الناظوري، ١٩٨١م، وعصفور، ١٩٨١م):

(١) الحرب البونية الأولى (٢٦٤–٢٣٤ق.م.)

كان السبب الرئيسي لهذه الحروب هو محاولة السيطرة على جزيرة صقلية، أما السبب الثانوي فهو طموح روما لبسط نفوذها على جزيرة سردينيا، وكان السبب المباشر الذي أشعل فتيل الحرب هو قيام مرتزقةٍ طليان بدخول مسينا (في صقلية)، والاستيلاء عليها، فقام حاكم سيركوز والقرطاجيون لإنهاء هذا الوضع الشاذ، فاستنجد المرتزقة بروما التي هبت لنجدتهم وبدأت الحرب.

وعندما خذل حاكم سيراكوز قرطاجة، انسحب القرطاجيون إلى البحر واستعدوا لخوض معركة بحرية مع الأسطول الروماني الفَتِيِّ فتغلب عليهم الرومان أولًا، ثم تغلب القرطاجيون، وفكر الرومان بنقل الحرب إلى أرض أفريقيا فأنزلوا قواتهم شرق عنابة في تونس، واستعد القرطاجيون بقيادة «همليكار برقة» لمقاومة حصار روما لقرطاج العاصمة ونجحوا في ذلك؛ بل وهزموا الرومان وأسروا قائدهم؛ لكن الرومان أعادوا الكرة فغزوا الساحل القرطاجي ولكنهم فشلوا أيضًا.

انتهت الحرب البونية الأولى بمعركة كبيرة في صقلية عام ٢٤١ق.م. وانتصر فيها الرومان واضطرت قرطاج لعقد اتفاقية سلام مع روما تقضي بجلاء قرطاج نهائيًّا عن صقلية، ودفع غرامة مالية كبيرة على مدى ٢٠ سنة. وهكذا ضعفت قرطاج وخرج الخلفاء الليبيون على جيش همليكار فحاربهم لثلاث سنوات، كانت روما خلالها قد بسطت نفوذها الكامل على جزيرتي سردينيا وكورسيكا.

(٢) الحرب البونية الثانية (٢١٨–٢٠٢ق.م.)

حاولت قرطاج أن تعوض ما فقدته من نفوذ وخسائر في الحرب البونية الأولى فشددت على بناء قوتها الداخلية ووسعت نفوذها باتجاه شبه جزيرة أيبيريا (إسبانيا)؛ حيث قام همليكار برقة بقيادة هذا المشروع، ثم أكمله زوج ابنته «هروبال»، الذي بنى مدينة قرطاجنة (قرطاجة الجديدة) على ساحل إسبانيا الوسطى.

وبدأت الحرب البونية الثانية مع تولي «هانيبال» ابن همليكار برقة حكم دولة قرطاج، فقرر الانطلاق من إسبانيا لمحاربة روما، وبدأ بحصار مدينة ساجنتوم الموالية لروما فأعلنت روما الحرب عليه، وكان هو قد خطط لتسلق أوروبا كلها ثم النزول على إيطاليا من أعلاها، وهو ما لم يخطر ببال الرومان الذين توقعوا الحرب في صقلية، أو على السواحل الأفريقية.

ترك هانيبال أخاه «هسروبال» في إسبانيا ليكون ظهيرًا له يرسل الإمدادات له بانتظام، وخرج هانيبال من إسبانيا بجيش جرار تتقدمه الفِيَلة، فهزم أولًا قبائل أيبيريا عام ٢١٨ق.م. ثم عبر جبال البرانس، ثم عبر جبال الألب (١٢ ألف قدم فوق سطح البحر)، ثم عبر مضيق الرون، ثم عاد فعبر السلاسل المتبقية من جبال الألب وقمم فيزو وخاض معركة بلاسنتيا (٢١٨ق.م.) مع القبائل الخالية والكلتية، بعدها نزل إلى حوض نهر البو، حيث كان الرومان بانتظاره.

وفي إيطاليا خاض هانيبال ثلاث معارك كبيرة (تريبيا، ترازيمين، كاناي) انتصر فيها انتصارًا ساحقًا على الرومان، وكان مهيئًا لحصار روما ودخولها، ولكنه لم يكن يملك أدوات الحصار المناسبة، فقامت روما بتشتيت قوته بحصارها للمدن البعيدة في إيطاليا مثل: «سيراكوز، كابوا، تارينتوم»، ثم قاد سقيبو الأفريقي الجيش الروماني ليهزم هيسدروبال في معركتين متتاليتين (قرطاجنة، ميتاروس) وليقطع الإمدادات نهائيًّا عن هانيبال.

وإزاء ذلك وبسبب طول الزمن الذي قضاه هانيبال في روما (١٥ سنة) طلب أهل قرطاجة من هانيبال العودة لبلاده فعاد، لكن سقيبو الأفريقي لم يقتنع بذلك فوجه الجيش الروماني نحو قرطاج وخاض مع جيش هانيبال المعركة الفاصلة في «زاما»، فمُني هانيبال بهزيمة واضحة فرَّ على إثرها إلى الشرق، إذ تعاون أولًا مع السلوقيين ضد روما من دون جدوى، ثم مع ملك ليديا ضد الرومان من دون جدوى … فلم يجد مفرًّا من الانتحار.

(٣) الحرب البونية الثالثة (١٤٩–١٤٦ق.م.)

figure
مخطط (٢): الحرب البونية الثانية وصعود هانيبال إلى أوروبا ثم غزوه لإيطاليا.

رغم الخسارة الكبيرة التي تكبدتها قرطاج في الحرب الثانية نلاحظ أنها حاولت، عن طريق بناء اقتصادها، إعادة العافية لمدنها المحيطة بالعاصمة قرطاج عند الساحل الأفريقي. واستطاعت ذلك خلال ما يقرب من عشرين عامًا، وهو ما أفقد صواب روما التي رفعت شعار (يجب محو قرطاج من الوجود) على إثر زيارة «كاتو» لقرطاج للفصل في منازعتها مع نوميديا، فهاله ما رآه من حياة نشطة وأخشاب مكدسة عند الموانئ فادعى أن قرطاج ستبني أسطولًا بحريًّا جديدًا، وكان ملك نوميديا ماسينيا قد أشعل فتيل الأزمة عندما دخل طرابلس التابعة لقرطاج وهو يلاحق ثائرًا ضده من دون أن يستأذن من قرطاج أو روما، ومع ذلك جاء اللوم على قرطاج من قِبل روما، ثم طلبت روما أن يرحل القرطاجيون عن العاصمة مسافة عشرة أميال حتى يتسنى للرومان تدمير المدينة كلها.

فأدرك القرطاجيون أن روما تريد إبادتهم، فأغلقوا أبواب مدينتهم واستعدوا للحصار والحرب، وقاوموا حصار الرومان ببسالة ثلاثة سنوات متصلة شعر الرومان خلالها بالفشل، فعينوا قائدًا جديدًا لقواتهم هو «إميليانوس» وطلبوا منه اقتحام قرطاج بأي ثمن، وتمكن من ذلك عام ١٤٦ق.م. ثم قام بتدميرها وإحراقها وباع سكانها كرقيق وزرع أرضها بالملح، ثم وزعت أرضها على الفلاحين الرومان، وحولت روما إقليم قرطاج إلى ولاية جديدة هي «أفريقيا» جعلت «أوتيكا» مقر حاكمها وتبعيتها للحكم الروماني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤