الفصل الثالث

القصص والملاحم الكنعانية

دراسة في الآباء والبشر المؤلهين والأبطال عند الكنعانيين

ربما لا تقع مادة هذا الفصل في صلب العقائد الروحية الكنعانية؛ ولكننا وجدنا أنها تكمل الفصل السابق وتضيء بعض الجوانب التي خلطت بين الآلهة والبشر، وتفرز في الوقت نفسه الأساطير عن القصص والملاحم؛ فقد تعودنا مصادفة العبارة الخاطئة «أسطورة كرت» أو «أسطورة إمهات» … إلخ. وقد أمدتنا الكتب والروايات الشعبية بما يُحكى عن أبي الكنعانيين (كنعان)، وعن أبي الفينيقيين (فينيق)، وهذه كلها شوشت صورة المثولوجيا الكنعانية وزادتها غموضًا.

figure
ملك أوغاريتي يقدم آنية للإله إيل، نقش حجري من أوغاريت (رأس شمرا).

وقد وجدنا أن الطريق الأسلم لدراسة تحليلية في هذا المجال هو الذهاب لأبعد نقطة أي منذ خلق البشر، والتدرج في ذكر البشر الأسطوريين وتتبع جذورهم المثولوجية.

(١) قصص الجيل الأول من البشر (الآباء: آدم وسلالته)

ذكرنا مفصلًا في الفصل السابق أسطورة خلق الإنسان الكنعانية، وقد وضعنا الهيكل الفرضي لهذه الأسطورة التي نتمنى أن تكشفها الآثار ذات يوم، واعتمدنا في ذلك على الأسطورة العبرية التي نرى أنها نهلت من الأسطورة الكنعانية المفقودة.

(١-١) آدم

لا نملك القصة الكنعانية الآثارية عن آدم، لكن ما في حوزتنا من أخبار متواترة هي خليط من الروايات الكنعانية والعبرية والعربية عن آدم توضح لنا بعض ما يشبع الفضول.

إن قصة آدم في الفردوس الإلهي وقصته مع حواء والأفعى، التي نرجح أن تكون «تيفون»، هي أمور لا نستطيع تأكيد ما إذا كانت كنعانية أم لا؛ رغم أن هناك ما يشير إلى وجود مؤثرات سومرية معروفة فيها، وهو ما يُقرب لنا صورة الصلة بين السومريين والكنعانيين الذين كانوا في أصولهم الأولى يقطنون مكانًا واحدًا هو جنوب العراق.

كذلك تبقى قصة السقوط من الفردوس إلى الأرض غامضة، رغم أن هناك ما يشير إلى أن آدم هبط إلى جبل حرمون الكنعاني (جبل الشيخ)، وأن ولديه (قابيل وهابيل) أقاما طويلًا شرقَي الفردوس في سهل البقاء، ويستدل على صحة هذا التقليد اليوم من قبور هابيل وقابيل وشيت المقامة في المحل المشار إليه (انظر: عبد الحكيم، ١٩٧٨م، ٦٦).

وإذا قمنا بتحليل اسم آدم فلا شك أن معنى اسمه هو مذكر الأدمة لإلهة قشرة الأرض، وفي اسمه ما يفيد وجود الدم وهو سر الحياة عند الأولين. كذلك نرى أن اسمه يمكن أن ينقسم إلى قسمين هما «آد + أم»، ويعني مقطع «أد» الإله، و«أم» يعني الريح، وهو إله الريح، والأصح «الكائن الذي فيه ريح الإله» أو روح الإله، وهذا يتطابق مع ما ورثناه من أن الله نفخ في صورة آدم من روحه أو نفسه.

ويروي فينون سانخونتين رواية تحمل مؤثرات مصرية وإغريقية عن خلق الإنسانَين الأولَين، وهما «يون = الدهر أو الزمن» و«بروتوجون = حواء البكر»، ومنهما جاءت ذرية فينيقيا وعددهم مائتان، فسمَّوهم النور والنار واللهب، وبعد ذلك أنجب هؤلاء الكنعانيون أولادًا ضخامَ الأجسام، طوال القامات، وسميت الجبال التي ملكوها بأسمائهم، وهي: قاسيون، ولبنان، والتيلبنان، وبراتي (انظر: عبد الحكيم، ١٩٧٨م، ٤٥).

ويؤكد سانخونتين من ناحية أخرى على أن «بوتوس = الهواء المتحرك» لقح نفسه فوق الخواء فأنتج «موت = البيضة المضيئة» التي جعلت مياه المطر تنهمر بالحرارة وظهر منها الشمس والقمر والكواكب والنجوم والزوابع والعواصف، وظهرت من هذه كائناتٌ تتحرك وهي غائبة عن الوعي، ثم ظهرت منها كائنات ناطقة تتأمل السماء، فيما الذكر والأنثى فوق اليابسة وتحت الماء.

لكن سانخونتين، ومعه فيلون، يؤكدان أن بوتوس هذا كان يمثل الرغبة التي تزاوجت مع «أوميشيل»، أي الظلام، ونتج عن ذلك العقلُ المحض «إر» والصورة الحية من العقل «أورا»؛ حيث نتج عن ذلك العقل الأول «أوتوس». وكل هذه الأفكار الغنوصية والهيلنستية تطلي تلك الروايات القديمة عن الخلق البشري.

(١-٢) قابيل وهابيل

هناك ما يُروى عن أن دمشق كانت أرض آدم، وأنها الأرض التي شهدت الجريمة الأولى: قتل قابيل لهابيل؛ حيث إن اسم دمشق يعني شراب الدم إشارة إلى إراقة دم هابيل عليها.

وينتشر بين سكان جبل قاسيون (شمال دمشق) الاعتقاد بأن هذه الجريمة وقعت أعلى قمة الجبل، وينسب القزويني لصخرة دمشق الكبيرة أنها كانت المكان الذي قدَّم عليها قابيل وهابيل قربانهما، وحين لم يُقبل قربان قابيل قام بقتل هابيل وسال الدم على هذه الصخرة التي تجاورها مغارة تسمى «مغارة الدم» (انظر: المرجع السابق، ٦٦).

(١-٣) شيث

أما شيث الذي نرى أنه المقابل البشري للإله «سيتون» فهو الذي انحدر منه الجنس البشري بعد مقتل هابيل وفرار قابيل إلى منطقة بعلبك؛ حيث بنى فيها هذه المدينة وسكن فيها البشر والأشرار من نسله.

وربما اشتق اسم صيدا من شيت، رغم أن الإله صيد هو أساس الاشتقاق؛ لكن ذلك يدفعنا إلى المقاربة بين شيت وصيد واعتبارهما مرتبطين بالصيد البري والبحري.

وإذا اتخذنا من الرواية التوراتية مؤشرًا فسيكون نسل الأنبياء والرجال الصالحين القدماء منحدرًا من شيث، مثل (أنوش، قينان، مهلئيل، يارد، أخنوخ متوشالح، لامك، نوح)، وبالطبع فإننا لا نعرف الأسماء الكنعانية الدقيقة المقابلة لهذه الأسماء، والتي نرى أنها تشكل مع آدم وحواء وأبنائهما الجيل الأول من البشر، الذين نحتتهم الذاكرة الكنعانية من تراثها أو من تراث من سبقها ممن كان يعيش معها في مناطق نزوحها الأول.

(٢) قصص الجيل الثاني من البشر (البشر المؤلهين: بعد الطوفان)

لا نملك، لحد الآن، رواية كنعانية خاصة بأسطورة الطوفان، ونستغرب غيابها أو عدم ظهورها! في حين أن صلة الكنعانيين بالمياه قريبة.

إن ظهور جيل آخر من البشر بعد الطوفان أمر لا نلمسه بصراحة بعد خلق السماء والأرض مباشرة، أي إنهم يشبهون «آدم وسلالته»، وهذا غير جائز؛ لذلك نرجح أن يكون هؤلاء قد ظهروا بعد الطوفان (إن وجد عند الكنعانيين)؛ لأن أولهم، وهو كنعان، يتطابق مع سام أو ينحدر من حام وهما أبناء نوح بطل الطوفان.

لا بد أن نشير أولًا إلى مسالة نظرية في غاية الأهمية تفسر لنا علاقة الأسطورة بالدين من جهة، وبالتاريخ من جهة أخرى، حيث ينتج عن علاقتها بالدين مثولوجيا خالصة، أما عن علاقتها بالتاريخ فينتج نوع من المثولوجيا التاريخية.

المكان الطبيعي للأسطورة هو الدين، والآلهة محور الأساطير وجوهرها. وعندما تزحف الأسطورة نحو التاريخ فإنها تؤسطره، وينتج عن ذلك إما ملاحمُ ترفع الأبطال والملوك إلى مكانة الآلهة وتنسبهم لها، أو مدنٌ تقوم الآلهة ببنائها فتكون مقرًّا أرضيًّا لهم.

ولأن التراث الكنعاني كان على صلة كبيرة مع التراثَين العبري والعربي؛ فإنه تحول في بطون التاريخ إلى فُولْكلور وملاحم تاريخية ذات طابع شعبي وديني. وهكذا أصبحت المقابلة بين الأصول الأسطورية والنتائج الفولكلورية الشعبية صعبة للغاية.

ولكننا رغم ذلك حاولنا أن نرصد مجموعة من التحولات التي خاضت فيها المثولوجيا مع التاريخ؛ فقد تحول شام إلى كنعان وطُرد من العائلة السامية؛ بل وأصبح ابن حام (وهذه مفارقة توراتية معروفة)، وأصبح فينيق (الذي ربما كان دامور مثولوجيًّا) ابن كنعان! في حين أنه اسم مرادف له.

وأصبح صيد ابن كنعان، وأصبحت صور ابنة صيد، وهكذا تحول الآلهة إلى ما يشبه الملوك أو الأجداد المؤسسين لكنعان ومدنها.

ونرى أن الأسطورة تكون راسخة ثابتة قوية عندما تكون جزءًا من الدين، أما عندما ينهار ذلك الدين أو يستبدل به دينٌ جديد فإن عناصر الأسطورة تنهار معه وتتخفى وتتوارى وراء التاريخ؛ بل وتتحول إلى حكايات وخرافات شعبية وتندس في الملاحم الشعبية والقصص الخرافية.

ولا شك أن التوراة أولًا، ثم كتب أخبار الرواة وكتب المؤرخين القدامى، هي المكان الذي شهد انهيار الأساطير القديمة ورحيلها نحو التاريخ.

(٢-١) كنعان

تُعتبر التوراة المصدر الرئيسي للمثولوجيا التاريخية الكنعانية، فقد لعبت التوراة دورًا رئيسيًّا في تحريف وتشويه سيرة الكنعانيين وتغيير حقيقتهم التاريخية، وصياغة حكايات أسطورية عنهم.

يذكر سفر التكوين أن كنعان هو أحد أبناء حام الأربعة (كوش، مصرايم، فوط، كنعان) (التكوين، ٦: ١٠).

وهذه هي المغالطة الأولى؛ حيث يستبعد كنعان من الساميين وينسب إلى الحاميين، ولأن اللغة الكنعانية تنتسب إلى اللغات السامية الغربية فلا مجال لوضع الكنعانيين ضمن النسب الحامي، الذي اتسم بسُمرة البشرة والسكن في شمال وشرق أفريقيا بشكل خاص.

ويبدو أن حُمرة البشرة الكنعانية أبعدهم عن الساميين (في نظر كتبة التوراة) وجعلها تنحشر مع البشرة الحامية السمراء.

ثم إن ربط الكنعانيين بمصر أمر يدعونا إلى الاستغراب والمزيد من التأمل في الوقت نفسه.

إننا نرى أن العلاقة المبكرة المتميزة التي ربطت بين بعض المدن الكنعانية الساحلية، مثل: جبيل، وبين مصر كانت سببَ هذا الربط؛ فقد ظهرت هذه العلاقة بوضوح منذ عهد الأسرات العتيقة والقديمة، أي من الأسرة الأولى وحتى السادسة بوضوح شديد. وكانت العلاقة اقتصادية ودينية، وقد اعتبر المصريون أن أوزيريس كان أخًا لكنعان. «وكان كنعان أول من ُسمي «فينقس»، فكانت أعياد قيامة الإله المصري أوزيريس تقام في مدينة جبيل الكنعانية أو اللبنانية، كما أن في مكان الإسكندرية القديمة، أو فاروس، كانت تقام أعياد وشعائر أدونيس الفينيقي، فقد جعلوا من كنعان أخًا لأوزيريس، دلالة على وحدة نسب الأمتين» (عبد الحكيم، ١٩٧٨م، ٤١).

ورغم أننا لا نملك في المثولوجيا المصرية أو الكنعانية ما يشير إلى ذلك؛ لكننا لا نستبعد وجود معابد متبادلة بينهما.

إن العلاقة بين الكنعانيين والمصريين أمرٌ مؤكد؛ ولكنه لا يصل إلى حد وحدة النسب؛ بل ربما كان هناك تأثر وتأثير ثقافي كبير بينهما، ويعزز ذلك الوجود المصري الطويل الأمد في المدن الكنعانية الساحلية، والبرية في فلسطين، والصراع الطويل الذي خاضه المصريون مع الحوريين والحيثيين لإخضاع بلاد الشام، وخاصة قسمها الكنعاني.

المغالطة الثانية هي في جعل الفلسطينيين والكريتيين يخرجون من أبناء مصرايم، حيث يقول سفر التكوين: «ومصرايم ولد لوديم وعناميم ولهابيم ونفتوحيم وفتروسيم وكسلوجيم الذين خرج منهم فلشتيم وكفتوريم» (التكوين، ١٠: ١٣، ١٤).

وفلشتيم يشير إلى فلستو، أما كفتوريم فيشير إلى جزيرة كريت التي كان المصريون يسمونها «كفتور»، ومعروف أن الفلستو هم أقوام بحرية إيجية ساهمت في الهجوم على مصر، وبعد أن هُزمت اتجهت نحو السواحل الكنعانية، فاحتلت مدنه الجنوبية واستقرت فيها. أما جزيرة كريت فقد هاجر إليها الكنعانيون مبكرًا ونقلوا إليها ثقافتهم التي كانت السبب المباشر في ظهور الحضارة الكريتية، كما أن اسم كريت نفسه يمكن أن يكون كنعانيًّا؛ حيث كلمة «كريت» تعني «قرية أو مدينة»، ولا يعرف إلى اليوم من هم سكان كريت الأوائل، رغم أن الاعتقاد السائد أنهم من أصل آسيوي.

المغالطة الثالثة هي في اللعنة التي لحقت بكنعان بعد أن صُبَّت على حام؛ حيث يروي سفر التكوين أن نوحًا بعد الطوفان أصبح فلاحًا وغرس كرمًا وصنع من الكرم خمرًا، وشرب فسكر وتعرى داخل خيمته، ودخل عليه حام (أبو كنعان) فشاهده عاريًا ورأى عورته فأخبر أخوَيه (سام ويافث)، فأخذ أخواه الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء لئلا يريا عورة أبيهما ووجههما إلى الوراء فلم يبصرا عورة أبيهما، فلما استيقظ نوح من غفوته وعلم ما فعل به ابنه الصغير حام قال: «ملعون كنعان، عبد العبيد يكون لإخوته. وقال: مبارك الرب إله سام. وليكن كنعان عبدا لهم.

ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام. وليكن كنعان عبدًا لهم» (التكوين، ٩: ٢٥–٢٧).

ونلاحظ هنا أنه بالرغم من أن حام هو الذي أخطأ لكن اللعنة تنصب على «ابنه المزعوم» كنعان. وهكذا نجد كنعان مهمشًا ملعونًا في التوراة لا لشيء إلا لأن العبريين احتلوا أرض الكنعانيين وأصبحوا أعداءً لهم، ولا بد من وصمهم دائمًا بالعار والخطيئة، وهو منهج سار عليه التوراتيون واليهود في علاقتهم مع مجاوريهم ومن حاربهم أو عاداهم.

وعندما نمعن النظر في مسلسل اللعنات الذي يبدأ من قابيل إلى حام إلى كنعان، فإننا نراه يستمر إلى إسماعيل، ونرى أن التوراتيين همشوا كل هؤلاء لأنهم أرادوا إبعاد كل ما هو خارج نسلهم بدءًا من آدم. وهكذا وصموهم بالخطيئة وعلقوا بهم دائمًا لعنات القتل (قابيل)، واللون (حام وكنعان)، والخطايا الجنسية (لوط وبنعمي ومؤاب)، وشكل الجسد (عيسو)، وضعة النسب (إسماعيل) … إلخ (انظر: الماجدي، ١٩٩٧م، ٢٧٨–٢٨٧).

وحذت كتب التراث العربية حذو التوراة فحقرت الكنعانيين واعتبرتهم مع المصريين من نسل حام، وقام العرب بمساواة الكنعانيين مع البربر والنوبيين «فكان كنعان أخًا لهم كما يقول النسابة العرب، فبعد اللعنة ولدت امرأةُ حام غلامًا لونه أسود، وسموه كوشًا، وولد لكوش الحبشة بن كوش، أما شقيقه الثانية الذي لحقته أيضًا لعنةُ أبيه هو ماريع بن حام، فقد ولد ثلاثة أولاد أو أجناس وهم كنعان وبربر والنوبة» (عبد الحكيم، ١٩٨٧م، ٤٠).

هكذا نُسج تاريخ الكنعانيين وفق مخيلة مثولوجية اندفعت — بقصد وبدون قصد — من منبع عدائي لهم ومن نظرة استعلائية، وقد تكون عنصرية، لها علاقة اللون الأسود أو الأحمر، وهو خطأ قاد إلى أخطاء أخرى كثيرة. ولذلك لا نستبعد أن يكون تكريس اسم «كنعانيون» له علاقة بمفهوم اﻟ «الشعب الواطئ»، أو اﻟ «الشعب الأحمر»، وهو ما تفضحه الكثير من الجمل والعبارات التوراتية الصريحة.

(٢-٢) فينيق

فينيق هو الاسم الذي أشاعه الإغريق للدلالة على الكنعانيين الذين كانوا يسكنون سواحل المتوسط الشرقية ويجوبون البحر وينشرون فيه حضارتهم.

وهناك مجموعة من الأفكار والمثولوجيات التاريخية التي رافقت ظهور وانتشار هذا الاسم ومصادره البعيدة والقريبة، وسنبدأ بأبعدها (انظر: مخطط (٨)).

(أ) طائر الشمس أو الطائر المحترق

هناك احتمال قوي أن يكون مصدر هذا الاسم من اسم الطائر الأسطوري المصري «بنو»، وهو الذي يوصف بأنه إله الشمس الذي ظهر على شكل «أتوم» في بداية الخليقة من البحر الأول «نون»، وعندما لم يجد له مكانًا صعد فوق حجر على هيئة مسلة «بن بن Bin bin» في مدينة أون (شكل ٣-١).
fig87
شكل ٣-١: الطائر الأسطوري المصري بنو.

ويقترب شكل هذا الطير من شكل اللقلق أو أبو قردان أو مالك الحزين، يرمز للشمس، وربما كان هو مصدر فكرة ارتباط الشمس بالنسر عندما تحول بعد ذلك طائر «بنو» إلى النسر الذي يمثل طورًا أكثر إفصاحًا عن الشمس المحرقة وهو رمز الإله «حورس» إله الشمس الأقوى في مصر.

وتذكرنا هذه المرجعية المثولوجية بالفكرة الشائعة عن طائر اسمه طائر الفينيق الذي يمثل فكرة الانبعاث الدائم، حيث يحترق هذا الطائر ومن رماده ينبعث من جديد، ولعلنا نجد جذرًا لهذه الفكرة في دورة الشمس؛ حيث يظهر النسر في الأساطير المصرية وهو يحمل في كل فجر الشمس بقدميه من الشرق، ويغرب أو يموت مع غروبها لينبعث مرة أخرى صباح اليوم التالي وهو يبعث الشمس معه من جديد … وهكذا.

لقد وحَّد المصريون الإله «بنو» بالإلهين «رع» و«أوزيريس»؛ بل إنهم عدوه في هليوبوليس كروح لأوزيريس، وهذا يعني أنه روح الخصب والشمس معًا.

واستطاع هيرودوت أن ينقل لنا صورة شائقة عن هذا الطائر عندما قال إنه يشبه العنقاء، وقال بأنه يظهر في مصر كل ٥٠٠ عام مرة واحدة، وأنه يولد أولًا في أعماق الصحراء، وما إن يولد حتى يطير مباشرة وهو يحمل جثمان أبيه ويقف بعد ذلك على مذبح معبد هيليوبوليس (معبد مدينة الشمس)؛ حيث يحترق بأعشاب المر، وتجري عملية الحرق هذه في احتفالات جنائزية ضخمة، يقوم فيها موكب من الناس والكهنة بدفنه بعد ذلك مصحوبًا بالعويل والبكاء (انظر: Larousse 1995: 46).

وهذا يعني أن فكرة احتراق طائر الشمس، أو الفينيق أتت من مصر ودخلت في العقائد الفينيقية.

ولكن القديس هيرونيم يذكر لنا شيئًا مخالفًا؛ فيُرجع أصل هذا الطائر إلى الهند حيث يولد هذا الطائر هناك ويعيش لمدة ٥٠ عامًا، وبعد ذلك يجيء إلى فينيقيا ويبقى فيها لمدة ثلاثة أيام، ثم يعود إلى الهند، ويحصل له خلال وجوده في فينيقيا عبر هذه الأيام الثلاثة ما يلي:
  • اليوم الأول: يجمع الأعشاب الطيبة الموجودة في فينيقيا ليصنع منها عُشًّا يضعه على هيكل الأسرار في معبد الشمس (هليوبوليس) ربما في بعلبك بشكل خاص، ويضمخ طائر الفينيق هذا العش برائحة العنبر التي تخرج منه وينام فيه الليل كله.
  • اليوم الثاني: مع شروق الشمس تمس أشعة الشمس هذه الأعشاب والطيوب، فتحترق ويحترق معها طائر الفينيق، وتبقى في العش دودة وسط رماده.
  • اليوم الثالث: عندما تمس أشعة الشمس هذه الدودة تَنبُت لها أجنحة وتستعيد هيئة طائر الفينيق وتطير عائدة إلى البلاد الأصلية.

وتصير الدودة في الأساطير العبرية بيضة؛ حيث يعيش طائر الفينيق ألف سنة، وبعد انتهائها ينبعث في عشه لهبٌ فيحرقه، لكن بيضةً تبقى في العش يعاود منها الحياة، وأن هذه القيامة أعطيت لفينيق من عند الله؛ لأنه كان الطائر الوحيد الذي استنكر أكل حواء من الثمرة المحرمة (انظر: عبد الحكيم، ١٩٨٧م، ٦٠).

ولا نستبعد أن يكون «أبو الهول» ذكر «العنقاء» له علاقة بهذا الطير الشمسي الخالد.

(ب) النخلة والتمر (شجرة الفينيق) (فوانيكس)

كانت النخلة شجرة مقدسة عند عموم شعوب الشرق الأدنى السامية، وكانت تعتبر شجرة الحياة عند السومريين، وكان ثمرها يحظى باحترام وتقديس خاصَّين. ومن السومريين انتقل هذا التقديس إلى الشعوب السامية؛ حيث تفصح لوحة طينية عن ظهور رجل وامرأة (ربما كان آدم وحواء) وبينهما نخلة محملة بالتمر، وتظهر الأفعى خلف المرأة. وقد عد الباحثون هذه اللوحة أصل فكرة الخطيئة التوراتية في الجنة، واعتبروا النخلة شجرة الحياة أو شجرة المعرفة.

وتطابقت النخلة مع الإلهة عشتار، وكانت النخلة تسمى «فينيق»، التي تعني هنا «الدامي»، إذ إن شعوب البحر الأبيض عامة ارتبطت وربطت بين عمليات إخصاب النخيل، أو ما يعرف ﺑ «الطلوع»، أو التلقيح التي بدونها لا تطرح النخلة أو تثمر. فهناك علاقة بين النخيل وبين الموت ثم القيامة أو توالي الولادة والاستمرار (انظر: عبد الحكيم، ١٩٨٧م، ٥٩).

وهكذا رمزت النخلة أيضًا، مثلما رمز طائر الفينيق، إلى البعث المستمر.

إن ثمار شجرة الفينيق، التي هي النخلة، كانت تسمى أيضًا باسم يدل على الآلهة فقد كان ثمرها يشير إلى الإله «دامور» أو «تامور» أو «تامير»، وهو كما نرى: التمر، وقد عثر على آثار هذا الإله في جزر البحر المتوسط التي أسسها أو استوطنها أو استعمرها الفينيقيون، وقد سُكَّتْ بعض النقود التي تحمل شكل النخلة الوافرة الثمر للدلالة عليه.

وإذا ذهبنا إلى أعماق الآلهة القديمة لوجدنا أن هذا الإله موجود ضمن الآلهة الأمورية بصيغة «ذ.مرت»، وهو ابن الإله «دجون» إله الطقس الأموري، ويعني الإله الشديد القوي، وهو ما عبرت عنه بعض الكتابات الهيلنستية على أنه الإله «دماروس» الذي تطابق مع الإله «أمورو» وأنجب الإله ملكارت إله النار.

وإذا قارنا بين الآلهة الكنعانية والأمورية فإننا سنجد أن هذا الإله «ذمر»، الذي هو «دامور» يطابق من حيث الموقع إله صور «عوس» أو «عوص» أخا إله السماء «شاميم».

وينكشف لنا سر المطابقة عندما نعرف أن لون «عيسو» ابن إبراهيم كان لونه أحمر وذا شعر كثيف، وهو السبب الذي أقصاه لأجله التوراتيون عن النسل الرسمي لهم. وهكذا تكون النخلة وتمرها موحية بالاسم النباتي لفينيق، وهذا يعني أن فينيق والفينيقيين كان لهم طوطم مقدس نباتي هو النخلة والتمر، وحيواني هو العنقاء.

كان التمر هو الثمرة التي ينتج عنها الخمر بعد تخميرها، وبسبب طبيعتها المسكرة تنكشف أسرار النفس وأعماقها ويلهو بها الإنسان عن مشاكله وعن الموت والفناء، وعن طريق خمرة التمر كان المصريون يحنطون الجثث بتنقيعها في الخل، فهي قرينة الخلود ومضادة الموت. وهذا سبب علاقة الخمر بحام وكنعان في المثولوجيا التوراتية.

وهكذا نجد أنفسنا في مترادفات واحدة هي: النار والشمس وأبو الهول والعنقاء والاحتراق والبعث والخلود والنخلة والتمر والخمر. وهي كلها تجتمع في اسم فينيق الذي صار لزامًا علينا الاعتراف بشرقيته والعبور على اسمه الغربي الإغريقي.

ولكننا يجب أن نتساءل: لماذا أصبحت النخلة رمزًا فينيقيًّا في حين أن فينيقيا تخلو من النخيل؟ وقد تدفعنا الإجابة على هذا السؤال للبحث في أصل الفينيقيين الذين هم أجداد الكنعانيين الأوائل؛ وتعود بنا الإجابة هنا أيضًا إلى وادي الرافدَين ورمز النخلة أساسًا لهم؛ لأن النخل في جنوب وادي الرافدين كان لا حصر له، وهو دون بقاع الأرض كلها الأغزر في هذا المكان.

النخلة إذن رمز فينيقي يشير إلى الأصول العراقية القديمة للفينيقيين، أما ربطه بالشمس والنار وأبي الهول فأمور لاحقة فرضتها ظروف الفينيقيين الجديدة، بل فرضتها بالدرجة الأساس مسألة عدم وجود النخيل في فينيقيا وضرورة ربط هذا الرمز بمدلولات أخرى.

(ﺟ) الشعب الأحمر (فوانوس)

كان اسم «فوانوس» الذي يعني في اللغة اليونانية القديمة «أحمر» هو الاسم الذي يشير إلى الشعب الذي ارتبط باللون الأحمر؛ سواء في بشرته، أو في المكان الذي أتى منه، أو في الصبغة التي كان ينتجها ويصدرها. وسنتناول ما يخص هذا الشعب الأحمر في نظر القدماء الذين أشاعوا عنه هذه التسمية.

figure
مخطط (٨): الأصول الخمسة لاشتقاق كلمة فينيق.

(أ) البشرة الحمراء (النحاسية)

كان الكهنة المصريون، فيما مضى، يصنفون البشر إلى أربعة أصناف على أساس لون بشرتهم، وهم:
  • (١)
    روى: الشعب الأحمر، ويضم شعبين مرتبطين حضاريًّا وهما: الشعب الكنعاني في بلاد الشام، والشعب المصري في بلاد وادي النيل.
  • (٢)
    أمون: الشعب الأصفر، وهو الشعب الآسيوي.
  • (٣)
    هلاسيو: الشعب الأسود، وهو الشعب الأفريقي الزنجي، وربما كان هذا الاسم أصل كلمة «خلاس» العربية، بمعنى المضرب باللون الأسود.
  • (٤)
    تمحو: الشعب الأبيض، وهو الشعب الليبي الذي كانت تمثله قبائل التمحو آنذاك.

وربما كان تقسيم الكهنة المصريين هذا هو الذي أوحى بالأصل المشترك بين الكنعانيين والمصريين وربطهما باللون الأحمر، وهذا التقسيم كما نرى يفتقر إلى سعة الاطلاع على شعوب الأرض القديمة آنذاك، وهو في حقيقة الأمر يقسم شعوب مصر وجيرانها أكثر مما يقسم شعوب الأرض.

لكن الإغريق القدماء رأوا في الشعب الكنعاني أو الفينيقي ما يدل على البشرة الحمراء أو النحاسية المختلفة عن لون بشرتهم البيضاء، فأطلقوا عليهم اسم «فوانوس» الذي كان أحد مصادر كلمة فينيقيا.

(ب) البحر الأحمر (الإرتيري)

ربما كان الاعتقاد القائل بأن الكنعانيين قد نزحوا من البحر الأحمر الذي كان يسمى «الإرتيري» والذي كان يتميز باحمرار لون مياهه بسبب تراب قاعه وضفافه الحمراء اللون والحاوية على أكاسيد الحديد الحمراء، ربما كان هذا الاعتقاد سببًا في إطلاق اسم «فوانوس»، الذي يعني «الأحمر»، على هذا الشعب القادم من هناك.

كان المؤرخ هيرودوت أول من رأى بأن الكنعانيين قد خرجوا من شواطئ «بحر إرتيرية» على أثر زلزال مدمر حصل هناك، فنزلوا على ضفاف الممرات المحاطة بالمستنقعات، ثم واصلوا السير إلى شواطئ البحر المتوسط (البحر الداخلي) وأسسوا صيدا.

وقد أيَّد سترابون هذه الفكرة وأضاف لها أن سكان الخليج العربي أخبروه بأن أصل الكنعانيين من شواطئ البحر الإرتيري التي ما زالت تحوي مدنًا بأسماء «صور، صيدا، آراد» وأن هياكلها تشبه هياكل الفينيقيين.

أما المؤرخ يوستينوس فلم ينفِ آراء هيرودوت ولم يرفض آراء سترابون عن بلاد الفينيقيين الأصلية؛ ولكنه قبل أن يجعل مقرهم على شواطئ البحر المتوسط حيث شيدوا مدنًا أسموها «صيدا»، قال بأنهم أقاموا أولًا على ضفاف «البحيرة الآشورية» دون أن يأتينا بأي معلومات عن تلك البحيرة التي ربما كانت بحيرة «برس» جوار بابل، أو هي «البحر الميت، الذي كان يسمى: بحر الأسفلت» الذي أطلق عليه يوستينوس اسم «بحيرة آشورية» (انظر: بنت بطوطة، د.ت، ٢٢).

(ﺟ) القارة الأطلسية (أطلنطا)

وتسمى أيضًا القارة الكوكبية «أسترال Astral»، وهي القارة التي رأى أفلاطون في كتابه «كريتياس» بأنها القارة الغارقة في المحيط الأطلسي، وأن هذه القارة كانت قبل غرقها مسكونة بجنس الأطالسة الأحمر القوي، والذي قام بغزو مصر، قبل عصر «مينا»، وشواطئ إرتيريا وما وراء بلاد الكلدان، وأن فروع هذا الجنس العملاق، أو بعبارة أدق ما تبقى منه، قد يكون أصل هؤلاء الفينيقيين (بنت بطوطة، د.ت، ٤١-٤٢).

وقد ناقش المؤرخون المحدثون قضية هذه القارة المفقودة في بحوث وكتب كثيرة، وذهب بعضهم إلى أن هذه القارة كانت مسكونة بالجنس الأحمر ثم تعرضت إلى كارثة عظيمة أجبرت سكانها على الهجرة شرقًا باتجاه البحر المتوسط؛ حيث استقروا في مصر وبلاد الشام وهم «الكنعانيون والمصريون»، وغربًا باتجاه قارة أمريكا وهم الهنود الحُمر، في أميركا الشمالية وقبيلة الأزتيك في المكسيك، وانتشر بعضهم في جزر الباسفيك على شكل سلالات بولينزية كثيرة، وهؤلاء أصحاب حضارة معروفة. وقد يفسر هذا الرأي الصلات المشتركة بين حضارات أميركا والحضارة المصرية القديمة.

وهكذا يكون الشعب الأحمر وفقًا لهذه النظرية هو شعب القارة الأطلسية الغارقة أو المفقودة.

(د) الصبغة الحمراء (الأرجوان)

اشتهر الكنعانيون بإنتاج نوع من الأصباغ البحرية المنشأ ذات اللون الأحمر، وكانوا يصبغون بها الملابس التي تسمى الملابس الأرجوانية، واشتهروا بتجارة هذا النوع من الأصباغ والأقمشة، ومن المرجح أن تكون شهرتهم هذه المرتبطة بالأصباغ والأقمشة الأرجوانية سببًا إضافيًّا لنعتهم بكلمة «فونوس»، التي يرى البعض أنها ترجمة لكلمة «كنعان» التي تدل على هذه الصبغة الأرجوانية.

وكان الكنعانيون يحصلون على هذا اللون الأرجواني من حيوان بحري قشري يدعى «موركس Murex» الشائع الانتشار على شواطئهم.

وكانوا يصبغون أشرعة سفنهم بهذا اللون أيضًا، ويقال إن سفينة كليوبترا التي كانت تقود الأسطول البطلمي في معركة أكتيوم عام ٣١ق.م. كانت تحمل شراعًا أرجوانيًّا.

وتروي الأسطورة أن الإله «ملكارت»، ملك وإله صور، كان يتنزه مع الحورية تيروس «صور» على طول شاطئ البحر المتوسط، وكان معهما كلبهما الذي عض حيوانًا رخويًّا (محارًا أو أفعى بحر) فتلطخ فمه باللون الأحمر الأرجواني، فلاحظ ملكارت ذلك وصبغ عباءته بهذا اللون وقدمها لرفيقته.

ويرى العلماء أن هناك أنواعًا من الرخويات في البحر المتوسط تحمل غددًا تحت خياشيمها تمثل المادة الكيميائية الخام للصباغ الأرجواني، وقد تخرج هذه الحيوانات باتجاه المياه الضحلة والسواحل الصخرية لتتزاوج في أواخر الربيع، وهذه الحيوانات هي (انظر: مكغفرن، ١٩٩٢م، ٤).

Purpura hameostoma, Murex brandaris, Murex trunculus.

وقد تم وصف عمليات الصباغة لأول مرة في كتاب «التاريخ الطبيعي» (الكتاب التاسع، ﺟ من ٦٠ إلى ٦٥، الفصول ٣–٤١). لبليني الأكبر من العهد الإمبراطوري الروماني؛ حيث وصف كيفية صيد تلك الرخويات باستعمال سلالة خادعة بعد بزوغ نجم الكلب، ثم تجتث وتقطع غدد هذه الرخويات وتوضع في قدر معدني ويضاف إليها الماء والملح وتبقى على النار مدة عشرة أيام، يتم خلالها، من حين لآخر، قشط المواد العضوية الطافية في ذلك المزيج، وكيفية فحصه للحصول على خواصه الصبغية (انظر: مكغفرن، ١٩٩٢م، ٥-٦).

وقد اكتشف الآثاريون في مدينة «ساربطة»، التي تقع في منتصف الطريق بين صور وصيدا، مجموعة من القدور الفخارية التي تحمل راسبًا أحمرَ منذ القرن الثالث عشر قبل الميلاد، ووجد قربها ركام من الأصداف المسحوق من نوع موركس ترنكلوس. وقد أثبت التحليل الكيميائي لهذه الرواسب أنها تتكون من أرجوان حيوانات رخوية (انظر: مكغفرن، ١٩٩٢م، ٥-٦).

(ﻫ) الجد الأسطوري

فونكس أو «فينيق»، وهو إله مدينة صور القديم جدًّا، والذي يرجح أن يكون ابنًا من أبناء صيدون من زوجته صور، هو ومجموعة من الآلهة ذات الملامح البشرية، مثل: قدم، أوروبا، قيليق، فينيق، سور، تاس، سيبول، فينين، دريال … إلخ.

ويعتقد أن فينيق وقدم أسَّسا مدينة طيبة في مصر، ثم قدما إلى سواحل لبنان وسكنا مدينة صور.

(٢-٣) صيدا (صيدون)

إذا كان كنعان ابنَ حام مثولوجيًّا، وإذا كان فينيق ابنَ كنعان فإن صيدا هي الابنة البكر لكنعان، وقد سميت مدينة صيدا على اسمها فكانت العاصمة الأولى للفينيقيين.

وترد صيدا في العهد القديم على أنها مدينة صيدون ابن كنعان البكر (التكوين،١٠: ١٥)، أما «صور» فهي مثولوجيًّا ابنة «صيدا» أو «صيدون».

وتعتبر صيدا وصور أقدم المدن الكنعانية «ومع ما كان من تناوب السيادة بين المدينتين العظيمتين (صيدا وصور) فإن بعض ملوك صور كانوا يحملون لقب ملك الصيداويين، ويغلب على الظن أنه كان معقودًا لأولئك الملوك لواء السيادة الفخرية على مدينة صيدا، ومن جهة أخرى فإن نقود صيدا تشير إلى صور باعتبارها ابنة صيدا، وقد أطلق هوميروس نفسه على الفينيقيين اسم «الصيداويين».» (بنت بطوطة، د.ت، ٥٠-٥١).

وأغلب الظن أن «صيد» هو إله كنعاني قديم ظهر في أسماء الأعلام الكنعانية على شكل «صيدياتون» بمعنى: الإله صيد يعطي، والاسم مشتق من جذر في اللغات السامية يظهر في الأوغاريتية على شكل «ص. و. د»، وفي الأكدية «صادو»، وفي العربية «صيد»، ومعناه كما هو في جذر الكلمة العربية «صَيْد». وقد عثر على معبد لهذا الإله في قرطاجة (انظر: أذزارد، ١٩٨٧م، ٢٢٠).

وهذا يعني أن الإله «صيد» هو إله الصيد عند الكنعانيين، ومعروف أن مدينة صيدا دُمرت ثلاث مرات تدميرًا كاملًا، المرة الأولى على يد الآشوريين عام ٦٧٨ق.م. عندما أحرقها أسرحدون، ثم على يد الفُرس في عصر أحشويرش الثالث (٣٤٦ق.م.)، ثم على يد الرومان عام ١٤ق.م. على يد أوكتافيوس أغسطس.

ونرى أن الإله الإغريقي «بوزيدون» مشتق من الإله «صيدون»؛ حيث «بوصيدون» تعني خادم صيدون، وهو إله نظير للإله صيدون، ومعروف أن بوزيدون ارتبط، مثل صيد أو صيدون، برعاية الصيد البحري والبري، وكان أهم عُبَّاده من البحارة ومدربي الخيول ومروضيها، وأهم الألعاب التي أقيمت له في اليونان هي «ألعاب البرزخ» كل أربع سنوات. وأن واحدًا من رموزه الدَّلافين وأداة صيد السمك ذات الأنياب الثلاثة، وقد عثر في جرش (في الأردن) على عصا بوزيدون هذه منقوشة على لوح يحيط بها اثنان من الدلافين (شكل ٣-٢).
fig89
شكل ٣-٢: الإله بوزيدون مع شوكته.
figure
شوكة بوزيدون يحيط بها اثنان من الدلافين.

ونعود إلى ما سبق أن ذكرناه «وهو أن أصل بوزيدون من بوصيدون، وأصل هذا من صيد، وأصل هذا من سيتون الذي هو أخو إيل، مثلما كان بوزيدون أخا زوس. وهذا يعني أن بوزيدون أصله من صيدا مثلما كانت أثينا أصلها من عناة.»

figure
مخطط (٩): أنساب المثولوجيا التاريخية لكنعان.

(٢-٤) صور

ربما وضعت الأسطورة التي وردت على لسان فيلو الجبيلي ثم سانخونتين مدينة صور في بداية الخليقة؛ حيث تتبَّعا فيها مشهد الخليقة الأولى من «الهواء والرياح» حتى ظهور أنصاف الآلهة العماليق السبعة (انظر: المثولوجيا الكنعانية).

وقد يكون اسم صور مشتقًّا من اسم الإله «أوسوس»، الذي يعتبر إله الملاحة الأول الذي بنى مدينة صور ووضع فيها نظام العبادة والحضارة، وأول من قاد سفينة في البحر، وقد اختلط اسم هذا الإله بالإله ملكارت الذي يعني اسمه «ملك المدينة»، والذي قابله الإغريق بالإله «هرقل» وهو إله شمسي ناري.

وربما كان لاسم صور علاقة بكلمة «سار» التي تعني في السومرية الملك، السنة، المحيط الكوني. ثم صارت داله على إله كنعاني هو إله القمر وهو «شار» أو «سحر» أو «شهار».

ويرد اسم إله آخر هو الإله «عوس» كإله حامٍ لمدينة «صور»، ويرجح أنه نفسه الإله «أوسوس»، حيث تحكي الأساطير عنه وعن شقيقه الإله «شميم» أي إله السماء بأنهما أقاما هياكل لإلهي الريح والنار بعد أن شب حريق هائل في صور.

وكان ﻟ «عوس» ولدان هما «دامور» أي: النخيل والتمر، و«هرقل» الذي هو ملكارت، والذي أنجب ولدًا اسمه «سرد» أسس مدينة على جزيرة سردينيا. وكان ملكارت سيد الأرجوان والنار.

الرمز الثالث الذي ارتبط ﺑ «صور» هو قدموس وأخته أوروبا، اللذان نسجت أسطورتهما المحلية الإغريقية على ضوء أسطورة كنعانية قديمة، وربطت فيها بين كنعان والإغريق من خلال زواج أوروبا من زيوس وولادة الملك مينوس ملك كريت.

(٣) قصص عصر البطولة الكنعاني (الملاحم الأوغاريتية)

لكل أمة من الأمم القديمة عصر بطولة يظهر فيه مجموعة من الأفراد المتميزين الذين يحملون، دون غيرهم، مهمة صياغة الشعور الجماعي وبلوَرة شخصية الأمة أو الشعب الذي ينتمون له.

وقد وجدنا أن بعض الملاحم التي عثر عليها في أوغاريت يمكن أن تحقق هذا الغرض؛ فهي تروي حكايات ملوك وحكماء وأبطال ينحدرون من الآلهة ويقومون بأعمال جليلة.

وربما كانت أعمال بعضهم (مثل الملك الكبير) عبرةً من عبر التاريخ؛ لذلك جاءت قصص هؤلاء أقرب إلى الملاحم الصغيرة التي شاعت في حدود منتصف الألف الثاني قبل الميلاد، والتي لا نجزم بوجودها في التاريخ؛ بل هي نسج بين الأسطورة والتاريخ، أو ما عبرنا عنه بالمثولوجيا التاريخية التي تميل نحو الملحمة أكثر من ميلها نحو الخرافة. وسنستعرض قصص أربعة من هؤلاء:

(٣-١) كرت

ما زالت ملحمة كرت ناقصة؛ إذ لم يُعثر على بدايتها ونهايتها، ولكنها تخبرنا في ثلاثة ألواح من أوغاريت عن قصة كرت (ملك خوبور) المفجوع بموت عائلته وأولاده ومرضه، فيظهر له إيل في المنام ليواسيه ويطلب منه الاغتسال وتقديم الأضاحي والقيام بحملة عسكرية على مملكة «آدوم»، على ألَّا يقبل من ملكها أي تنازلات أو إغراءات، ويصر على طلب يد ابنته «حورية» التي ستعوضه عائلته الأولى التي تبددت وتنجب له الأبناء. ويفعل كرت ذلك ويتزوج حورية وينجب «ثمانية أبناء» منهم ولدان هما «يصيب والحاء»، وبنات أصغرهن «ثتمانه» التي يعني اسمها «الثامنة» التي نالت حق البكورية، أي: «مساواتها مع يصيب». ويصاب كرت بعد سبع سنوات بالمرض ويكاد المرض ينهي أمره، فيعجب لذلك ولده يصيب؛ لأن كرت نصفه بشر ونصف إله ولا يناله الموت، وهو من الخالدين، يتدخل الإله إيل ويستدعي أولًا الإله «إلش» وهو الإله الصانع أو النجار الذي يستنزل المطر عن طريق تعاويذه ليقوم بدوره في شفاء كرت وإعادة الخصب والوفرة للملكة، وبعد أن يسأل الإله إيل الآلهة سبع مرات يتدخل هو فيشفي كرت؛ لكن ابنه «يصيب» يطلب من كرت أن يتنازل له عن العرش، فيغضب منه بشدة ويدعو الآلهة لمعاقبته ولا نعرف بقية القصة.

ولهذه القصة ما يوازيها في آداب وأحداث المنطقة، فهي تشبه في بدايتها قصة «أيوب» وفي نهايتها قصص محاولات الاستيلاء على العرش من قبل الأبناء عند الآلهة والملوك.

إذا حاولنا العثور على شخصية الملك كرت التاريخية فإننا سنخفق؛ لكن مكتشفات رأس الشمرا تقول إن كرت هو ابن إيل، وربما كان اسمه «كريت» وكان ملكًا على «سدوم»، وقد أمره أبوه إيل بالقيام بغزوة تقودها الإلهة «تيرا» أو «طيرة» لتأديب شعب زبولون، وبعد أن عاد كرت من حروبه اشترى زوجة أنجب منها طفلًا جميلًا (تعشتر كريما كانت …) هو دانيال (انظر: عبد الحكيم، ١٩٧٨م، ٥٠).

(٣-٢) دانيال

عرفنا أن كرت أنجب أبناءً منهم دانيال، الذي تتحدث عنه حكايات فتقول إنه ما إن ولد حتى دوَّى صوته صارخًا بعبارة أنا أكره الأعداء، وقد كان طفلًا عجيبًا في قصة مولده، يروي عنه الدميري في كتابه «حياة الحيوان» قصة غريبة فحواها أن دانيال ولد في زمن ملك ظالم تنبأ له العرافون بأن طفلًا ولد في تلك الليلة سيفسد عليه ملكه، فأمر بقتل كل من ولد تلك الليلة لكن أم دانيال وضعته في حظيرة أسد ولبوة يلحسانه الليل كله حتى نجاه الله، ويبدو أن دانيال لما كبر أصبح حكيمًا وتبحر في فن العرافة، حتى أنه أورث الفن لابنته التي سميت «ملكة كل الأسرار» (انظر: عبد الحكيم، ١٩٧٨م، ٥٠).

(٣-٣) إقهات

لا نعرف فيما إذا كان دانيال الذي تحدثنا عنه هو نفسه دانيال والد إقهات الذي سنتحدث عنه في هذه الملحمة الصغيرة، رغم أننا نرجح أن يكون هو.

وتروي الملحمة أن الرجل الصالح الحكيم دانيال كان يخاف آلهته ويقدم لها الأضاحي، ويقيم الشعائر الخاصة بأسلافه الموتى، ويعمل على حماية والده ضد الأعداء ويحافظ عليه ويغسل ثيابه، ويشارك في ولائم بعل في معبد الإله بعل، وكان يقيم العدل بين الناس لأنه كان قاضيًا معروفًا؛ ولكنه كان يبتهل دائمًا إلى الآلهة لأن ترزقه بولد يخلفه، وبعد سبعة أيام من الابتهالات المتواصلة للإله بعل يرق له قلب هذا الإله ويتوسطه عند الإله إيل ليمنحه الخصب، ويتم له ذلك، فتلد زوجته ولدًا يسميه «إقهات». يقيم دانيال احتفالًا بهذه المناسبة لمدة سبعة أيام تحضره «كوثرات» إلهات الولادة والنسل إكرامًا لها. وذات يوم يرى دانيال الإله «كوثر» إله الفنون والحرف، يحمل قوسًا مدهشًا ويقترب منه فيدعوه إلى بيته ويأمر زوجته «دينيتيا» لتعد وليمة فاخرة له يهدي في نهايتها الإله كوثر القوس إلى دانيال، فيقوم دانيال بإهداء هذا القوس إلى ولده اليافع «إقهات» ليتعلم به الصيد والقنص في البراري.

وعندما تشاهد الإلهة «عناة» هذا القوس بيد إقهات تحاول إغراءه بالفضة والذهب ليعطيه لها؛ لكنه يرفض بحزم ويعدد لها فضائل هذا القوس المصنوع من خشب أرز لبنان، وأوتار الثور البري، وقرون الماعز الجبلي، وأوتار ركب الثيران، ومن القصب، وينصحها بأن تجلب هذه المواد إلى الإله «كوثر» ليصنع لها مثل هذا القوس؛ لكنها تصر على امتلاك هذا القوس بالذات، وتعرض على إقهات بأن تمنحه الخلود مقابل ذلك فيرد عليها إقهات بحزم أيضًا ويقول لها بأنه لا يفضل الخلود ويود أن يعيش مثل الناس، ويتهمها بالخداع لأنها لا تستطيع ذلك أصلًا، ثم إنها لا تعرف استعمال القوس فلماذا تريد ذلك؟ فتسخر عناة منه وتذهب إلى والدها «إيل» وتهدده بأن تخضب شعره الأبيض بالدم إن لم ينتقم لها من إقهات، فيرضخ إيل لذلك ويُسَخِّر لها الكائن «يطفن» ليقتل إقهات. وتمسخ عناة يطفن وتحوله إلى عقاب وتخبئه في حزامها وتطير به مع سرب من الصقور فوق رأس إقهات، وينطلق يطفن كالبرق ليخطف روح إقهات، فتبكي عناة على ما فعلت؛ إذ لم تكن تقصد قتله؛ بل خطف قوسه الذي ينكسر هو الآخر ويختفي.

وهكذا تُجدب الأرض وتجف النباتات، ويحل القحط بسبب موت إقهات. وعندما يعلم دانيال ويرى الصقور وهي تحوم في السماء ينتابه البكاء والحزن، ويمزق ثيابه متضرعًا إلى السماء لتنجده بالمطر المحبوس في السماء. وهنا تشاهد ابنته «يوغات» والدها والعقبان تحوم حوله وهو ممزق الثياب فتجهش بالبكاء، ثم يمتطي حماره ويتجول في الحقول الميتة عطشًا ويمسك سنبلة بيده مداعبًا إياها ومتمنيًا على «إقهات» أن يجمع سنابل الحقل ويخزنها في المستودعات فيتقدم إليه الخدم يبكون نادبين، فيقسم دانيال أن ينتقم من القتلة شر انتقام.

ويقدم دانيال بالدعاء إلى بعل ليكسر أجنحة الصقور التي تحوم حوله، فيفعل، وتسقط الصقور عند قدميه ويبحث في بطونها عن رفات ابنه وعظامه ليدفنها في قبر يليق به، ويفشل أولًا، ثم يعثر على ما يريد في أحشاء الصقر «صمل» ويدفن رفات ولده، ويهدد بقية الصقور بأن بعلًا سيكسِر أجنحتها إن هي حامت فوق قبر ولده ثلاث مدن تقع قرب موقع الحادث، ثم يعود إلى قصره ويأمر بالحداد على ولده سبع سنوات.

وتقوم «بوغات» أخت «إقهات» بالدعاء إلى الآلهة لتأخذ بثأر أخيها، فتتبرج بالمساحيق وتعطر نفسها، وتلبس عدتها المحاربة وفوقها الملابس النسائية، وتذهب إلى مجموعة من البدو ليدلوها على كائن اسمه «يطفن» قد يقوم بمساعدتها في ذلك، فتلتقي به دون أن تعلم أنه قاتل أخيها ودون أن يعلم هو أنها أخت القتيل، ويستضيفها في بيته ويشرب معها الخمر ويخبرها بأنه قاتل إقهات، فتعطيه المزيد من الخمر حتى تتمكن بوغات من قطع راس يطفن بالسيف الذي تخبئه تحت ثيابها. وهناك ما يشير في نهاية الملحمة إلى بعث إقهات (الذي ربما كان بعثًا رمزيًّا)، وعودة الاخضرار للمراعي والخصب للحقول والحياة.

ونرى أن هذه الملحمة تتشابه في بعض أوجهها مع:
  • (١)

    أسطورة «أوريون» الإغريقية، التي ربما أخذت من الملحمة الكنعانية، حيث تغضب ديانا على أوريون وتقتله ثم تحوله إلى نجم «أوريون» في السماء يختفي مع نهاية نيسان ليشرق في تموز، وخلال ذلك تنحبس الأمطار وتجنى الأرض. وهو ما أشار إليه ت. ﻫ. غستمر (انظر: أذزارد، ١٩٨٧م، ١٧٣).

    ونرى أن الحادثتين تعودان إلى مرجع، حيث أسطورة إنانا مع الفلاح شوكليتودا الذي تحوله إلى نجم بعيد.

  • (٢)

    حكاية يوديث وهولوفيرن في العهد القديم في نهاية الملحمة.

  • (٣)

    ولادة إقهات المشابهة لولادة إسحاق وشمشون وصموئيل ويوحنا المعمدان في العهد القديم.

  • (٤)

    صبر دانيال المشابه لصبر كرت وصبر أيوب وبطل «حوارية العدالة الإلهية البابلية» ساحل كينا موبيب، وبطل حوارية «لأمجدن رب الحكمة» البابلية المسمى شوبش مشري شكان.

والحقيقة أن هذه التشابهات تأتي عن طريق البنى الأسطورية والملحمية المتداخلة التي سادت في منطقة واحدة هي الشرق الأدنى القديم.

لكن ما نود التأكيد عليه هو أننا وجدنا تسلسلًا مدهشًا لمجموعة من الأبطال شبه الأسطوريين القدماء في كنعان، فقد ولد الإله إيل ابنًا نصف إلهي هو «كرت» امتاز بالصبر والورع، والذي ولد ابنًا نصف إلهي هو «دانيال» امتاز بالصبر والحكمة، وهذا ولد ابنًا نصف إلهي هو «إقهات» الذي امتاز بالحيوية والشباب. وبذلك يكون تسلسلهم كما يلي:

إيل كرت دانيال إقهات

وربما أشار ذلك في بعض من الوجوه إلى أن هؤلاء المنحدرين من أصل إلهي يشكلون ما اصطلح عليه ﺑ «عصر البطولة الكنعاني»؛ حيث تنتج الأمة في عصورها الذهبية القديمة سلالة شبه إلهية من الأبطال والحكماء والملوك يشكلون مادة عصرها البطولي، وهو ما حصل مع عصر البطولة السومري المكون من «مسكيكاشر ثم أنمركار ثم لوكال ثم جلجامش»، وعصر البطولة الإغريقي وغيرها.

ثم إن جيل الآلهة الأقدم من إيل كان قد أنجب أبطالًا عظامًا، مثل: قدم وفينيق وأوروبا … إلخ، لكن إيل أنجب هذا الجيل من العصر البطولي الكنعاني.

(٢) الملك الكبير

وهي ملحمة كبيرة عثر على نصوصها الطينية في أوغاريت «رأس شمرا»، وقام بترجمتها ودراستها العالم ه. ي. ديل ميديكو، والتي نشرها كجزء من كتابه الشهير «التوراة الكنعانية»، وهو اسم أدبي مستعار يحتوي على التراث الكنعاني والفلسفي والديني والاجتماعي الذي كتبه الأوغاريتيون قبل ظهور الشعب العبري والديانة اليهودية، والتي تشكل الظهير الروحي للتوراة الحقيقية أو ما نسميه ﺑ «العهد القديم».

أما الجزء الخاص بملحمة «الملك الكبير» فهو نص كتبه كاهن أوغاريت الأكبر رئيس مقدمي القرابين والمطهرين المدعو «إيلي ميلكو» وقد كتبها بناء على أمر الملك الأوغاريتي «نقمد» خلَف الملك الكبير، وقد أطلق عليها إيلي ميلكو اسم «اللآلئ» ليشير إلى «المرأة ذات اللآلئ»، وهي سُرِّية أو مَحظِية الملك الكبير التي لعبت دورًا كبيرًا في حرف ديانته من عبادة إيل إلى عبادة بعل.

ويرجح ميديكو أن المقصود ﺑ «الملك الكبير» ربما كان ملك أوغاريت «يربعل-أبيمالك» ويركز على «أبيمالك» ضمن استنتاجاته الخاصة بذلك؛ لأنه يسبق «نقمد» الذي أمر بكتابة قصة سلفه ليكون عبرة لمن اعتبر، خصوصًا أن هذا الملك حكم أجزاء كبيرة من بلاد كنعان، منها فلسطين ولبنان، وصادف عهده اجتياح القبائل العبرية بقيادة يشوع ثم يهوذا الذي أدى إلى احتلال أورشيليم في القرن الرابع عشر قبل الميلاد (انظر: ميديكو، ١٩٨٠م، ١٢٩–١٣٥).

وخلاصة الملحمة أن الملك الكبير كان قد تعرض إلى كارثة حربية وغضب فيها الإله بعل على الملك والبلاد، وسلط عليه أتباعه الكروبييم كي يصرعوه وبعث له بسُريه (محظية) أجنبية تحرضه على تغيير معتقداته الدينية من الإيمان بالإله «إيل» الذي يدين بعبادته الشعب، ويعتبر نفسه شعب إيل، إلى الإيمان بالإله «بعل»، وهكذا شن الملك الحرب على إيل وأشيرة، وترافق ذلك مع هجوم بعض القبائل على فلسطين، مما اضطره للانكفاء على المدن الشمالية التي كانت تعبد «بعلًا»، وأراد الملك أن يوحد العبادة نحو طقوس بعل. وتحاول عناة أن تتدخل عند الإله إيل ليرفه عن الملك، لكن الملك كان قد فتح «بيت اللعنات» وأعلن إلحاده بالإله إيل.

ويبدو أن الملك يخسر أمام قوة أجنبية أخرى ويخذله حلفاؤه، وهكذا تسقط البلاد في الفوضى والخراب؛ فلا يجد الملك سوى عناة يركع عند قدميها، خصوصًا أن إيل مد يده المنتقمة حتى أحشاء القصر الملكي، فتبددت ثروة العاهل في الذل، وتقوم عناة بالتأكد من خراب المدينة بمحراثها (قرنها) وأجنحتها؛ حيث تتجول في سماء المدينة، وتتدهور أمور الملك الكبير أكثر من ذلك فيؤدي طقوس التوسل لبعل وهو عارٍ ليعينه على وضعه.

وفي هذه الأثناء يهجم أعوان «عبدي عشيرتا»، وهو ملك عمور، والمسمَّون «الأشرتيم»، وهنا تظهر «عشيرة» لتنصح الشعب بأن يصهر ما يملكه الملك من ذهب وفضة، تماثيل الآلهة الأجنبية، ليسدوا بها حاجة الحرب. وعلى الملك أن يذوق طعم الجوع ليشعر بآلام الناس.

وبدلًا من أن يستجيب الملك لهذه الطوارئ نراه يرفض ذلك وينغمس في شرب الخمر ويرمي بتماثيل أجداده في النار، ويتراءى له موكب إله الجحيم بعل وزوجته أشتار (عشتروت) ويرتمي الملك خاضعًا لمساعد بعل حارس الأموات، وتفشل محاولات عناة في إنقاذ الملك من حالة التردي. ويفسر النص تحالف رؤساء اليوديم مع أنصار عبدي عشيرتا ضد الملك التصدي الروحي للملك. وهكذا تغرق البلاد في الشقاق والمجاعة ويتظاهر الشعب أمام قصر الملك ويقترح بناء معبد لبعل؛ إذ ربما لكونه لا بيت له، فإنه فعل كل هذا بالبلاد، ويستحسن إيل هذا المقترح؛ لكن الملك رفض ذلك وزاد كنوزه واعتمد على شعوب مريام الشمالية؛ بل إنه تمادى في غيِّه ومن أجل أن ينفرد بالثروة، قتل إخوته وكل ذكر في عائلته.

وفي جلسة أشبه ما تكون ببيع النفس إلى الشيطان، يدعو الملك، ملك الأموات، وبعلًا ويتوسل لهما أن يطهرا قصره؛ لكنهما لا يصغيان إليه، فيقوم الملك بإحراق القصر وتحترق كنوزه كلها ويستمر الحريق سبعة أيام، ويعمد الملك في نوبة غضب إلى ذبح ورجم مواشيه وقتلها، وتسوء الأمور أكثر ويخذله الحلفاء والشعب، ولا يبقى أمام الملك سوى انتظار الموت … إذ هو غير قادر الآن على العودة لعبادة إيل؛ وبذلك يغرق في شرب الخمر ويغضب جميع الآلهة عليه بما فيهم بعل وعناة، وعندما يضع الملك التاج على رأس السرية الأجنبية ينتهي كل شيء. وتبدأ جموع الشعب بالزحف إلى قصره، بينما الملك الكبير يطلب من بعل أن يبعث من الموت إخوتَه الصغار. فيتضايق الشعب أثر ذلك معتقدًا أن أمرًا ما سيقع، وهكذا تهجم جموع الشعب على الملك وتضربه وتعضه، فيُطرح أرضًا ويدوسه الناس وينزف حتى الموت وهو يسمع تهكم الناس من حوله. ويرحل إلى العالم الآخر مرافقًا الأبالسة وحارسي الأموات؛ حيث تنحدر روحه نحو المهاوي.

وهكذا توضح لنا هذه الملحمة قصة ملك متجبر يحتقر الشعب ويشغله بحروب خاسرة، ويزيد من جوعه وعذابه، ويترك عقائده ويصغي لملذاته، حتى يأتيه عقاب الشعب الذي يقتله علنًا. ويبدو أن الملك «نقمد» يأمر الكاهن «إيلي ميلكو» بكتابة هذا النص ليكون عبرة للملوك القادمين، رغم أن نقمد يخصص ضريحًا جديدًا للملك الكبير الذي ذهب إلى الظلمات احترامًا منه لتقاليد دفن الملوك السابقين.

(٤) قصص عصر البطولة الفينيقي (أبطال صيدا)

لا أمتلك النص الكنعاني الذي يروي لنا أسطورتي أوروبا وقدموس، كل ما في حوزتنا النص اللاتيني الذي رواه لنا الشاعر الروماني أوفيد في كتابه «مسخ الكائنات».

قبل أن نعيد رواية الأسطورتين معًا لا بد لنا من البحث عن الجذور الكنعانية/الفينيقية لها. والحقيقة أننا لا نملك إلا بعض مرويات الأخبار والنسب التي تعيد خلط الأوراق بين نسل كنعان ونسل إيل ولا تفرق بينهما.

ويمكننا غربلة تلك الأخبار والأنساب المختلطة والخروج بنتيجة مفادها أن الإله «سيتون» ابن «شميم (إله السماء)» يوصف في قصص الأخبار بأنه ابن كنعان، وأحيانًا أخو إيل. ونرى أنه ذاته الذي أصبح اسمه يطلق على مدينة «صيدون»؛ حيث تحرف اسمه قليلًا من «سيتون» إلى «صيدون» وربما إلى «زيدون»، ويبدو أن «اسم صيدون ابن كنعان عُمم فشمل كل القبائل الكنعانية. كما أن التوراة لقبت الكنعانيين بالصيدونيين في أماكن عدة، وذلك لأسباب عدة منها: أن صيدون كان بِكرَ كنعان الذي تضخم فأصبح أممًا بدوره، ومنها أنهم كانوا أممًا ساحلية، تعمل بالصيد والتجارة؛ فلفظ صيدون يدل في أصله على صيد السمك والطيور» (عبد الحكيم، ١٩٧٨م، ٥٢).

وصيد أيضًا هو أحد معلمي البشر من العماليق الذين كانوا مهتمين بالصيد البحري والبري.

وتمضي الأخبار بذكر أن صيدون بعد أن تملَّك مدينة صيدا أصبح ملكًا على كل فينيقيا، وتزوج «صور» وأنجب منها بدوره أبناء كثيرين كرمل البحر، منهم: «قدم، فينيق، قيليق، سور، تاس، سيبول، فيني، دريال، أوروبا». وتملك هؤلاء الأبناء الآلهة بدورهم على كل الممالك الكنعانية ومصر وآسيا الصغرى بحسب ما تشير به أساطيرهم (راجع المرجع السابق).

هكذا يكون قدم «قدموس» وأوروبا من نسل صيدون وصور. وهما يشيران إلى العصر الفينيقي، أو عصر البطولة الفينيقي.

(٤-١) أوروبا

إن الرواية الرومانية تنسب أوروبا وقدم إلى «أغينور» أو «أجينور» ملك صيدا الفينيقي الثري. وتبدأ أسطورة أوروبا بالحلم الذي تراه في منامها ابنة غينور «أوروبا» الفتاة الجميلة؛ حيث ترى في حلمها أن مرضعتها ومربيتها «آسيا»، التي تمثل قارة آسيا، كانت تختصم مع امرأة أخرى تمثل القارة الشمالية التي تنفصل عن آسيا بواسطة البحر (وهي قارة أوروبا فيما بعد). وكانتا المرأتان/القارتان تتخاصمان على الفوز بالإلهة «أوروبا»، وكانت النتيجة تنازل آسيا عن الفتاة لصالح المرأة الأخرى، وهو ما أفزع الإلهة أوروبا وأيقظها من نومها.

صلَّت أوروبا لتحميها الآلهة من الشرور وارتدت ثوبًا أرجوانيًّا (لون كنعان) وخرجت مع صديقاتها من بنات صيدا إلى مرج أخضر على شاطئ البحر تقطف الورود الحمراء، فوقعت عليها أنظار الإله «زيوس»، وهو ما يقابل الإله بعل، الذي كان يطارد السحب، فعزم على اختطافها ومسخ نفسه إلى عجل جميل وهبط إلى المرج فهبت بنات صيدا نحوه يداعبنه، وتقدمت نحوه أوروبا وصارت تداعبه وهو يلحس يدها ويتملقها، فأحاطت رأسه بيديها وقبلته فركع عند قدميها وكأنه يطلب منها أن تعتلي متنه، واعتلته أوروبا وهمت الفتيات بالركوب إلى جانبها لكن العجل نهض فجأة وانطلق نحو البحر (شكل ٣-٣).
fig92
شكل ٣-٣: أوروبا تمتطي ظهر الثور زيوس ويعبران البحر، إيروس يطير فوقها وإلى اليمين ظهر أبوها الملك أغينور (رسمٌ على مزهرية) (عن: حاتم، ١٩٨٨م، ٢٠٥).
ومضى يمخر عباب أمواجه الذهبية كالدلفين، وخرجت النيرندات (حوريات البحر) يسبحن معه، وكذلك خرج الإله بوزيدون (إله البحر) ليفسح السبيل أمام أخيه زيوس حتى لاحت جزيرة كريت، فحلَّا فيها وتزوجا وأنجبت أوروبا من زيوس ثلاثة أبناء هم:
  • (١)

    مينوس (الذي أصبح أول ملك لكريت).

  • (٢)

    رادامانت.

  • (٣)

    ساربيدون.

وكان هؤلاء الثلاثة أبطالًا وحكماء في العالم القديم (انظر: حاتم، ١٩٨٨م، ٢٠٤–٢٠٦).

وتوضح هذه الأسطورة مجموعة أمور، لعل أهمها هو أن إلهة صيدا الفينيقية هي التي منحت اسمها للقارة «أوروبا»، ويشير هذا أيضًا إلى انتقال نواميس الحضارة من فينيقيا إلى كريت ثم إلى أوروبا.

كذلك تفسر هذه الأسطورة المنشأ الإلهي لملك كريت الأول مينوس، ولا بد من الإشارة إلى أن الإلهة «آسيا» التي كانت بمثابة أم «أوروبا» أخذت اسمها، كما نعتقد، من «آش» أي النار أو الشمس، وهي دلالة واضحة إلى هذه القارة المشمسة، وإلى نزوح الحضارة نحو الشمال من آسيا عبر البحر، وانتماء أوروبا حضاريًّا إلى فينيقيا.

(٤-٢) قدموس

حزن أغينور حزنًا شديدًا على اختطاف ابنته، واستدعى أبناءه الثلاثة (فوينيكس، كيليكس، قدموس) وهم يقابلون كنعانيًّا (فينيق، قليق، قدم)، وأمرهم بأن ينتشروا في الأرض ويبحثوا عن أختهم، فانتشروا وأسس فوينيكس مملكة فينيقيا، وكيلكس مملكة كيليكيا، أما قدموس فظل يبحث عن أخته حتى وصل إلى «دلفي» في بلاد الإغريق وذهب ليستشير كاهن أبولو فيها عن المكان الذي يؤسس فيه مدينته، فأشار عليه الكاهن بأن يذهب إلى مرج معزول ويتبع بقرة تخلو رقبتها من النير، وعندما تتوقف وتبرك فوق عشب أخضر فهناك ستكون مدينة قدموس التي اسمها «بيوتيا»؛ ففعل قدموس ذلك وكان برفقته أتباعه من صيدا وهم يمجدون أبولو، وعندما بركت البقرة أقام قدموس معبدًا، وأراد أن يقدم قربانًا للإله زوس فاحتاج إلى الماء وأرسل أصحابه ليجلبوا له الماء من نهر يجري في مغارة عميقة مجاورة، فذهب أصحابه ورأوا عند المغارة ثعبانًا ضخمًا يدعى «أريس» ملتفًّا يغط في نوم عميق، وعندما حاول أصحابه جلب الماء من النهر استيقظ الثعبان وفتك بهم جميعًا.

ولما طال انتظار قدموس شهَر سيفه وذهب باتجاههم ورأى الكارثة، ودارت معركة قاسية بينه وبين الثعبان الشرس استطاع في نهايتها قدموس قطع رأس الثعبان وتعليقه على بلوطةٍ قديمة.

وما أن استرخى قدموس وهو يتأمل ما فعله حتى ناداه هاتفٌ خفي بأن لا ينظر إلى رأس الثعبان هكذا لأنه سيتحول إلى ثعبان ذات يوم.

ثم نادته الإلهة أثينا-بالادا بأن ينتزع أنياب الثعبان وينثرها كالبذور في حقل بعد أن يحرثه، وفعل ذلك قدموس فنبتت الأرض من هذه الأنياب محاربين مدججين بالأسلحة والتروس والسيوف، وأراد قدموس أن يحاربهم؛ لكنهم تواجهوا فيما بينهم ودارت بينهم معركة شرسة تساقطوا فيها قتلى ولم يبق منهم سوى خمسة من المحاربين الذين رموا أسلحتهم واصطلحوا وصاروا أتباع قدموس، وبنوا معه قلعة «طيبة» التي اسمها «كادميا» ذات البوابات السبع. ثم بنى قدموس مدينة «طيبة» وشرَّع للناس القوانين ونظم شئونها، وأهدت الآلهة لقدموس زوجته «هارمونيا» ابنة الإلهين آريس وأفروديت (شكل ٣-٤).

أصبح قدموس واحدًا من أغنى ملوك الأرض، وصار اسم كل واحد من قواده الخمسة «سبارتي»، أي الذين أنبتتهم الأرض، وكان كل منهم على رأس جيش عظيم، وعاش قدموس زمنًا طويلًا حافلًا بالمسرات.

ثم بدأت الأحزان بالنزول إلى ساحته فقد ماتت ابنتاه «سميلا وإينو»، ومات حفيده أكيتون وحزن عليه حزنًا شديدًا.

وهجر قدموس وهارمونيا طيبة عندما أصبحا عجوزين، وذهبا إلى «إيليريا» البعيدة، وهناك تذكر الهاتف الذي صاح به ذات يوم بعد أن قتل الأفعوان، فصرخ بالسماء أن تحوله إلى ثعبان إذا كانت خطيئة قتله للثعبان هي سبب المصائب التي حلت به، فتحول قدموس شيئًا فشيئًا إلى ثعبان، وطلبت هارمونيا أن تتحول هي الأخرى إلى أفعى لتشاطره مصيره فتحولت، وأخذا يجوبان الغابة وهما على هذه الهيئة حتى أدركهما الموت.

fig93
شكل ٣-٤: رسم على مزهرية يوضِّح أسطورة قدموس وعناية الآلهة به من اليسار إلى اليمين:

(١) الإله بوزيدون يحمل شوكته المثلثة الشعاب، (٢) هارمونيا زوجة قدموس، (٣) قدموس وقد جرد سيفه وتظهر فوقه ربة النصر، (٤) الإلهة أثينا تسلمه إكليلًا، (٥) الثعبان آريس، (٦) الإلهة ديمترا خلف الثعبان من الأعلى، (٧) كيرات «بيرسفوني» إلهة الجحيم خلف أمها ديمترا (٨) حورية طيبة تحت ديمترا يظهر عند قدميها إله الحب إيروس يحملُ إكليلًا (عن: حاتم، ١٩٨٨م، ٢٠٩).

ولكي نكمل صورة الأسطورة الفينيقية الأصل حتى تخومها النهائية نود أن ننوه بأن الإله الإغريقي «ديونسيوس» ومقابله الروماني «باخوس»، هو إله الخمر والقصف والمجون، هو ابن زوس «جوبيتر الروماني» جاء به سفاحًا من سيميله (وهي من بني الإنسان ابنة قدموس ملك طيبة)، وتروي الأساطير عنه أن زوس أراد أن يُري سيميله قدرتَه بِناءً على طلبها فأرسل عليها صاعقة قضت عليها وهي حامل بديونسيوس، وعندما انتقل جنينها إلى فخر أبيه، حيث قضى ما بقي له من مدة الحمل، ثم وضعه أبوه بجبل تيرا حيث قامت بحضانته إحدى حوريات الماء، ولما اشتد ساعده تعلم زراعة الكرم من سيلين الذي كان بمثابة نصف، إله ووظيفته إضحاك الإلهة كمهرج (انظر: وافي، ١٩٧٩م، ٤٥).

ونرى أن الإله ديونسيوس يكاد يتطابق في بعض صفاته مع الإله أدونيس، وأن اسميهما يقتربان من اشتقاق واحد، وأن أصلهما التموزي هذا هو الذي وحَّد صفاتهما وإن لم يوحد أسطورتيهما كليًّا (شكل ٣-٥).
fig94
شكل ٣-٥

(٥) قصص عصر البطولة القرطاجي (أبطال صُوْر)

تعرفنا بإيقاع متساوق على الأبطالالم الملحميين أو الأسطوريين لكل مرحلة من مراحل التاريخ الكنعاني، ويقينًا أن الآثار تخبئ الكثير من قصص هؤلاء؛ لكننا، للأسف، لا نملك الحيلة للوصول إليها.

إن ارتباط «صور» كأم لمدينة «قرطاج» على الساحل التونسي كان له الأثر البعيد في ظهور قصص حول هذا الارتباط، وقد ظل الحبل السُّري بين صور وقرطاج قويًّا حتى القرن الخامس قبل الميلاد، حين تغيرت العقائد الدينية الصورية في قرطاج وظهرت عقائد قرطاجية ذات طابع محلي.

ولا شك أن فجر قرطاج ظهر من صور، وظهرت معه أساطير تاريخية تحمل ذكرى الولادة هذه وتشير إلى الأفواج المتدفقة من صور إلى سواحل تونس وتأسيسها لهذه المدينة.

(٥-١) إليسا: مؤسسة قرطاج

لعل أشهر أسطورة تاريخية ترتبط بقرطاج هي الأسطورة التي تم تأسيسها على يد الملكة الصورية الأصل «إليسا Eliasa».

وتتلخص حكاية «إليسا» في أنها كانت مع أخيها «بجماليون» أبناء الملك الصوري «متان الأول» و«مطو الأول» الذي حكم في النصف الثاني من القرن التاسع قبل الميلاد ملكًا على صور، وكانت «إليسا» تتمتع بذكاء وجمال نادرين، فتزوجها عمها أو خالها الكاهن الأكبر «عاشر باص»، الذي كان بمثابة نائب الملك وصاحب الكنوز الكبيرة التي أخفاها في مكان بعيد عن منزله، وهو كاهن الإله ملكارت.

كان «بجماليون» طامعًا بعرش أبيه، وكان خائفًا من حب الناس للكاهن الأكبر، وطامعًا بكنوز عاشر باص؛ ولذلك قام بقتله، فما كان من زوجة عاشر باص أخت بجماليون إلا الهرب مع حاشيتها إلى قبرص حيث تلقَّاهم كاهن الجزيرة واختفى بهم.

وكان من العادات الدينية في قبرص إرسال الفتيات إلى معبد الإله «فانوس» للتضحية ببتولتهن على يد الكهنة، فاختارت «إليسا» ثمانين عذراء منهن ليكنَّ زوجات للشباب الذين انتقلوا معها من مدينة صور إلى قبرص. وسرعان ما شدوا الرحال جميعًا إلى رحلة مجهولة في البحر الأبيض المتوسط.

ورست سفن «إليسا» وأصحابها على سواحل بلاد البربر في تونس، فرحب بها ملك البربر «يوباس»، ثم قررت أن تبني مدينة في مكان نزولها ففاوضت ملك البربر الذي كان يملك الأرض، وتقول الأسطورة التاريخية إن إليسا اختارت شبه جزيرة خارجة من البحر لها شبه كبير بالموقع الجغرافي الذي تأسست فيه مدينة صور، وكان حولها خليج يسمى خليج عوتيقة «أوتيكا» المسمى باسم مدينة فينيقية قديمة كانت قد تأسست هناك قبل هذا الوقت بحوالي قرنين، وقد فاوضت إليسا ملك البربر على أن تشتري أرضًا بمساحة جلد ثور تملؤه ذهبًا، فلم يصدق ملك البربر هذا العرض ووافق فورًا، فأعطته إليسا الذهب وأخذت جلد الثور وقطعته على شكل سيور أو خيوط نحيفة جدًّا حتى حصلت على أرض واسعة.

وعلى هذه الأرض بنت إليسا مدينتها التي سمتها «قرت حدشت» التي تعني «القرية الحديثة» والتي صار اسمها فيما بعد قرطاج، ثم أقبل سكان مدينة «عوتيقة» أو «عتيقة» واختلطوا بمواطنيهم الفينيقيين بعد أن طارت شهرة إليسا في الآفاق وعرفوا نفوذ أصحابها.

وقد أطلق الشاعر الروماني فرجيل اسم «ديدو» أو «ديدون» على «إليسا». وكان تأسيس المدينة حوالي ٨١٤ق.م.

وتستمر الأسطورة التاريخية لإليسا على لسان فرجيل في الإيناذة (الأنشودة السابعة) لتقول لنا إن إليسا أحبت القائد الطروادي الذي قاد فلول الطرواديين «إيناس»، وهو ابن أسطوري من زواج الإلهة فينوس من أنخيس ملك طروادة؛ لكنه هجرها فغرقت في الحزن. وخلال ذلك يقوم ملك البربر «يوباس» بعرض الزواج عليها، فيكون ردها بين حزنها ورفضها بأن تقيم لها محرقة كبيرة عند أبواب المدينة وتقدم أولًا ضحايا كثيرة، ثم تطعن نفسها منتحرة فوق حطب المحرقة ثم تحترق لتقدم نفسها ضحية لروح زوجها الأول الكاهن الكبير والإله ملكارت. وبعد موتها ظلت تكرم كل عام في مكان موتها، مثل إله، حتى سقوط قرطاج (انظر: دبوز، ١٩٦٤م، ١٠٩–١١٥، الناظوري، ١٩٨١م، ١٦٢-١٦٣، ميادان، ١٩٨١م، ٣٧–٤٠).

لا تخلو هذه الأسطورة التاريخية من حقيقة وخيال معًا، ويسهل علينا فرز الحقيقة عن الخيال؛ فلا شك أن الفينيقيين استقروا في قرطاج في هذه الفترة (فاسم بيجماليون الذي شاع استعماله في قرطاج وجد مكتوبًا في النقوش، والوشائج النبوية التي تربط قرطاج بصور، أكدتها قصة تلك البعثات التي كانت تنطلق كل سنة من قرطاج، لتحمل الجزية إلى الوطن الأم بمناسبة عيد ملكارت) (ميادان، ١٩٨١م، ٤٠).

ويقول المؤرخ اليوناني العلماني «أبيان» في القرن الثاني الميلادي: إن قرطاج أُنشئت بمجهود مهاجرين سياسيين من فينيقية هما زوروف Zourf وكرشيدون Carchedon، والاسم الأخير يذكرنا باسم قرطاج، لكن هذا لا يمنع من لجوء إليسا إلى قرطاج هاربة من تسلط بجماليون مع مجموعة من المعارضين لحكمه في جزء من أسطول صُور.

كذلك تبدو لنا حادثة جلد الثور رمية أكثر من كونها واقعية، وكذلك ظهور إيناس كعشيق لإليسا وهو يحمل ذلك النسب الأسطوري من فينوس ليكون سببًا في نهايتها.

أما المحرقة أو المذبح الذي انتحرت فيه إليسا فقد عُثر على ما يؤكد وجوده هو ومرفأ «سلامبو»، وهي امرأة فينيقية أخرى شِبه أسطورية، كتب عنها الروائي الفرنسي الشهير فلوبير رواية باسمها.

ويمكننا ترتيب الأسطورة التاريخية لاليسا كما يلي:

figure

وإذا عدنا إلى إنيادة فرجيل فسنرى أن السبب الرئيسي في موت إليسا، التي تسمى «ديدو» أو «ديدون»، هو هجران إيناس للملكة ومغادرته لمملكتها.

وإيناس هو الأمير الطروادي الشهير الذي قاد الفلول المتبقية من الطرواديين بعد خسارتهم في حرب طروادة عبر البحر الأبيض المتوسط في رحلة مغامرات تشبه رحلة يولسيس ليصل إلى أرض هسبيريا (إيطاليا)، ويكوِّن هناك سلالة من الملوك يؤسسون فيما بعد مدينة روما، التي تتطور وتسيطر على كل أرض إيطاليا ثم تكون الإمبراطورية الرومانية. ولكن إيناس هذا يصادف في رحلة التيه التي بدأ بها من طروادة مدينة قرطاج، وتستقبله ملكتُها وتقع في هواه ثم تتزوجه، لكن الآلهة تحثه بعد أن استرخى في أحضان ديدو «إليسا» ومملكتها على المضي إلى هدفه فيغادرها فجأة، وتحاول منعه؛ لكنها تفشل في ذلك، فتهيئ محرقة كبيرة تضع فيها كل ما تبقى من إيناس، سيفه وثيابه وصورته مدعية بأنها ستحرق ما يخصه بينما سفينته تستعد للرحيل؛ ثم تصعد المحرقة وتسل سيف إيناس وتحرق من غمده، وتشعل النار وترمي نفسها على الفراش قائلة:

«إنني أسلم الآن روحي، وقد أنهيت عملي، فبنيت مدينة جبارة وانتقمت لزوجي من قاتله، ولو لم تأتِ سفن الطرواديين إلينا لسعدت؛ بل لتمَّت لي السعادة. ثم قبَّلت الفراش وأجشهت قائلة: هل أموت من غير أن يُثأر لي؟ ومع ذلك فلْأمُت، وسيشاهد رجل طروادة هذه النار من البحر الذي يمخره فيحمل معه شؤم الموت» (فرجيل، ١٩٧٨م، ٩٨).

وهكذا يبدو لنا السبب المباشر والوحيد لموت إليسا هو غرامها الشديد بإيناس، وهجره لها دون أن يكون هناك ذكر لملك البربر، وطلبه الزواج منها ورفضها ذلك ثم انتحارها.

ويبدو لنا إيناس رمزيًّا وكأنه «البحر المتوسط» الذي تنتقل سيادته من قرطاج إلى روما وهو ما شهده التاريخ فيما بعد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤