الفصل الثالث

المقدرات النوعيَّة

ما من شك في أن الألوف المؤلَّفة من أنواع الحيوان تختلف فيما بينها اختلافًا واسعًا بالنسبة لسلوكها، وهذا يرجع بطبيعة الحال وفي المقام الأول إلى اختلاف بنيانها التشريحي، وبخاصةٍ ما كان منه متصلًا بأعضاء الحسِّ التي تستقبل المنبِّهات الخارجية، وكذلك بأعضاء الحركة، وهي العضلات. فليس من المعقول أن يتساوى نَجمُ البحر مثلًا مع السمك، وإن كان كلاهما يعيش في البحر، على أنه مهما كان هذا الاختلاف قائمًا، إلَّا أن جميع الحيوانات تتفق معًا في وجود أجهزة استقبال من نوعٍ ما، وكذلك أعضاء حركة من نوعٍ ما أيضًا.

فالحيوانات تتفاعل مع عدد كبير من المنبِّهات تقع عليها من قريب أو بعيد، ويمكن تصنيف أعضاء الحسِّ التي تستقبل تلك المنبِّهات على أساس المسافة التي يستطيع العضو أن يستقبل منها المنبِّهات، فأعضاءُ اللمس تستقبل من البيئة التي تلامس الحيوان مباشَرةً، أما أعضاء الحس الكيماوي المتصلة بالشم والذوق فيمتد مَداها إلى أبعد من ذلك، بَيْد أنها مقيَّدة ببطءِ سرعةِ انتشارِ المواد المتطايرة في الهواء، أو المنتشرة في الماء، وما قد يعترض طريقَها من تيارات عاكسة للاتجاه، وأخيرًا هناك حاستا الإبصار والسمع، وهما يمكِّنان الحيوان من استقبال منبِّهات واقعة بعيدًا عن الحيوان، بعيدة غاية البُعد في بعض الأحيان كالضوء المنبعث من القمر والنجوم.

والأوليات الحيوانية، وهي المركَّبة أجسامُها ممَّا يشبه الخلية الواحدة، وهي حيواناتٌ دقيقة غاية في الدقة على وجه العموم ليس لها أعضاءُ حسٍّ خاص، ومع ذلك فإنها تسحب أجسامها إذا ما لمست أو رفعت درجة حرارة الماء الذي تعيش فيه، على أننا إذا ما تدرَّجنا في عالم الحيوان صعدًا لَوجدنا أن الجوفمعويات من أمثال الهدر وقناديل البحر والمراجين وشقيق النعمان وأشكالها، هي الشُّعبة الأولى التي تظهر فيها أعضاء لمس خاصة، هي عبارة عن خلايا تبرز من كلٍّ منها زائدةٌ صغيرة صلبة، إذا ما لمسها شيء انطلق منها ما يشبه الخيط لينغرز في جسم هذا الشيء إن كان فريسة أو عدوًّا، ثم تحقن فيه مادةً مخدِّرة. وتقع هذه الخلايا اللاسعة، كما تُسمَّى في علم التشريح، على زوائد من الجسم تُسمَّى اللوامس، ويتطور الأمر في الحيوانات الأعلى، فللحشرات زبانيان (قرنا استشعار) قد يطولان جدًّا كما نراهما في الصرصور مثلًا، ولبعض الأسماك شوارب كما في القراميط والبياض وغيرها، تقع في الخطم عند مُقدَّم الوجه، ولبعضها خطارات، وهي شعرات صلبة قوية، كتلك التي نجدها في القط والفأر وغيرهما، وتستطيع هذه الحيوانات بفضل تلك الأعضاء أن تحس بأشياء بعيدة عنها بُعْدًا يساوي طول تلك اللامسات حتى وهي في الظلام (شكل ٣-١).
fig1
شكل ٣-١: يبيِّن اللوامس وأعضاء اللمس المشابهة في عددٍ مختلف من الحيوانات. (١) قنديل البحر. (٢) حلزون. (٣) دودة بحرية. (٤) سمك من فصيلة القراميط. (٥) فأر القنغر (عن سكوت).

ويرد جميع الحيوانات على فعل الإحساسات اللمسية الضارة، وللعليا منها نهايات عصبية خاصة تستقبل بها منبهات الحرارة والبرودة والمُحدِثة للألم.

وبالمثل يختلف بعض الحيوانات عن بعضٍ بالنسبة لأعضاء الحس الكيماوي (الذوق والشم)، فالأوليات الحيوانية تحسُّ بالتغير الكيماوي في البيئة بجسمها كلِّه، فليس لها عُضيَّات خاصة، وللحشرات زبانيان تستخدمهما في اللمس، وأحيانًا في الذوق والشم. أما الفقاريات فلها براعمُ ذوقٍ تتركَّز في اللسان غالبًا، وإن كانت تنتشر في بعض الأسماك على الجسم كله، على أن لها أيضًا أنوفًا تشم بها، وقد تكون حَسَنة التكوين كما في كلاب البحر والكلاب والقطط، أو ضعيفتها كما في غالبية الطيور، ويستطيع معظم الحيوانات استقبال الذبذبات التي تحدث في الوسط المحيط به، سواء في الهواء أو في الماء، على أن لهذا الاستقبال أعضاءً خاصة تصل إلى منتهى تكوينها في الفقاريات؛ حيث تُوجَد في هذه الحيوانات أُذنٌ داخلية، كما أن للعليا فيها طبلةً أذنية تقع عليها الذبذبات أول ما تقع، وصيوانًا في الثدييات يجمع تلك الذبذبات فتسقط على الطبلة مركَّزة.

أما الأعضاء المختصة باستقبال الضوء فأكثر ظهورًا في عالم الحيوان؛ نظرًا لما لهذا المنبه من أهمية قصوى في حياة الحيوان، حتى في الأوليات الحيوانية تُوجَد لبعضٍ منها بقعةٌ عينية تقود الحيوان نحو الضوء الأمثل، كما توجد في الديدان المفلطحة الحرة تراكيبُ مماثلة. على أن هذه التراكيب البسيطة لا تكوِّن صورَ الأشياء الواقعة أمامها، ومن ثَمَّ لا يستطيع الحيوان منها أن يميِّز أمامه سوى الضوء أو الظلمة، غير أن الجهاز الذي يستطيع أن يكوِّن صورَ الأشياء (العين) إنما ينشأ في ثلاث شُعَب فقط من شُعَب الحيوان، وهي الرخوياتُ كالمحار والحلازين والأخطبوط، ومفصلياتُ الأرجل كالجمبري والحشرات والعقارب والعناكب، والفقاريات، على أن هذه العين تغيب من بعضٍ من جماعات هذه الشُّعَب، فلبعض الرخويات، مثل الأخطبوط والسبيط، عيونٌ كبيرة على نمط عيون الفقاريات، أما عيونُ مفصلياتِ الأرجل فمن طِرازٍ مختلف؛ ذلك أنها تتركب — كما في الحشرات — من عُيَيْنات متعدِّدة، ولبعض هذه العُيَيْنات تبويرٌ قصير، ولبعضها الآخر تبويرٌ طويل، ومن ثَمَّ تستطيع تلك الحشرات أن تدرك ما إذا كانت المرئيات قريبةً منها أم بعيدةً عنها، كما أن العُيَيْنات تستطيع أن تركز في أيِّ اتجاه. أما عين الفقاريات فتبلغ درجةً من الكفاية نعرفها تمامًا لأنها موجودة فينا، وهي تمكِّن الحيوان من الرؤية على مسافات بعيدة.

وتتناسب قوةُ تكوين أعضاء الحسِّ مع بنيان الحيوان المركب، وتارةً ما تطغى إحدى الحواسِّ على ما عَداها من الحواس الأخرى، فللطيور مثلًا قوةُ إبصارٍ حادَّة بينما هي في الغالب ضعيفةُ حاستَي الذوق والشم. وعلى أيَّة حال، فإن حاستَي السمع والبصر تمكِّنان الحيوان من الاتصال بالبيئة إلى مسافات طويلة أطول ممَّا تمكِّنه بها الحواسُّ الكيماوية؛ وعلى ذلك فإن الحيوان الذي يحسن فيه تكوينهما أقدرُ على أن تتكوَّن فيه طرز من التكيُّف السلوكي، وأعقد وأرقى من غيره، على شرطِ أن تتوفَّر فيه الأجهزةُ الحركية وأجهزةُ التنسيق اللازمة.

وتعتمد على أجهزة الحركة قدرةُ الحيوان على التكيُّف، ومن ثَمَّ يستطيع أن يغيِّر بيئته، على أن هناك حيواناتٍ لا قِبَل لها على الحركة كالسفنج، ومن ذلك لا نعرف عن هذا الحيوان في أطواره المثبتة حتى مجرد السلوك، أما البقية الباقية من الحيوانات فلها القدرة على الحركة القليلة أو الحرة النشيطة، وتتفرع أجهزة الحركة فيها من أرجل كاذبة إلى أهداب إلى أسواط إلى الحركة بالنفث، كما في بعض حيوانات الماء الدنيا، إلى الحركة الدورية بتقبُّضات الجسم، إلى الحركة بالزوائد التي قد تكون زعانفَ أو أرجلًا، وتُعرَف الزعانف عمومًا في الأسماك، أما الأرجل بصورتها المعروفة لدينا في طوائفِ رباعيةِ الأرجل، فيختلف بعضها عن بعض من حيث الكفاية، كما أنها قد تغيب كليَّة كما في الثعابين.

على أننا نستطيع أن نُجمِل القول بأن هذه الأرجل تختلف في مختلِف تلك الطوائف، فتارةً تكون كلُّها مُعَدَّة للحركة وحسب، وعندئذٍ يكون الفم المحاط بالفكَّيْن هو المسئول عن الإمساك بالأشياء كما في العواشب واللواحم، وبالطبع لا يكون الفم في مثل فاعلية اليدين، وإن كان منقار الطيور في الواقع عضوًا فعَّالًا جدًّا، ويستطيع أن يستخدمه الطائر في بناء عشٍّ مُنسَّق غاية التنسيق، كما في أبي نسَّاج والطائر المعرش اللذيْنِ يبنيان عِشاشًا مركبة البناء، وتتولَّد في الحيوان القادر على استعمال يديه مهارةٌ تُوصَف بالذكاء، كما وصلت إليه الحال في الرئيسيات، وبخاصة المتأنسة منها (القِرَدة والإنسان)، وعندما تكون الإبهام قادرة على الانقلاب على بقية الأصابع في اليد أو القدم على السواء، فإنها تجعل هذه أو تلك أقدر على الإمساك بالأشياء، وللفيل شهرة واسعة في استعمال خرطومه في الإمساك بالأشياء الكبيرة والصغيرة معًا، وهو لذلك إذا ما دُرِّب على شيءٍ أتقَنَه، لوجودِ أداةٍ فعَّالة للقبض عنده؛ فذاعت شهرته على أنه حيوان ذكي.

ومجملُ القول أن الوسائل التي يتكيَّف بها الحيوان لبيئته إنما تتأثَّر تأثُّرًا كبيرًا بمقدرته على الحركة وعلى جهازه الحسي، على أننا لم نتعرَّض بعدُ لبنيان الجهاز العصبي من مخٍّ وحبل شوكيٍّ وأعصاب، فهذه تختلف اختلافًا واسعًا في شُعَب الحيوان المختلفة، وتتصل اتصالًا مباشرًا بأنواع الحس والحركة، كما أن بنيان الجهاز العصبي يؤثِّر بدون شكٍّ في سرعة الفعل العصبي ومدى التناسُق العام الموجود في الجسم، فالمنبِّه العصبي يستطيع أن يقطع في مخ القط ١١٩ مترًا في الثانية الواحدة؛ أي إن هذا المنبه مستطيعٌ أن يمر من أنف القط إلى طرف ذنبه في جزء صغير جدًّا من الثانية، بينما لا يقطع المنبه العصبي في قنديل البحر سوى ٠٫١٥ من المتر في الثانية الواحدة، هذا إلى أنه تُوجَد في الحيوانات العليا مراكزُ عصبيةٌ تُسيطِر وتوزِّع وتنسِّق بين أعضاء الاستجابة والتحكم في الأفعال، وتختلف هذه المراكز بعضها عن بعض، فلا جدوى مثلًا من وجود مركزٍ عصبيٍّ يتحكم في عضلات أصابع اليدين في الكلب شبيهٍ بالمركز العصبي المتحكِّم في عضلات أصابع اليدين في القرد؛ ذلك لأن الكلب غيرُ قادر على أن يحرك أصابع يديه بمثل كفاءة القرد؛ وعلى ذلك إذا ما نحن أجرينا تجرِبةً مع الكلب والقرد، وأعطينا كلًّا منهما عصوَيْنِ تَدْخُل إحداهما في الأخرى؛ وذلك لكي يتناول أيُّ الحيوانين بهما شيئًا على بُعْدٍ منه بقَدْرِ طولِ العصوَيْنِ معًا، وفي غير متناول يده، فالتجرِبةُ مع الكلب غير ذات معنًى ولا جدوى، أما مع القرد فإنه قد يُدخِل إحدى العصوَيْنِ في الأخرى ويصل بهما إلى الشيء البعيد عن تناوُل يديه؛ لأنه قادر على تحريك أصابع يدَيْه، فيستطيع أن يتناول بها العصوَيْنِ فيُحكِم الواحدةَ في الأخرى، ومن ذلك لا يحقُّ لنا القول بأن القرد أذكى من الكلب (وإن كان هذا صحيحًا) على أساسِ تجربةٍ من هذا القبيل؛ لأننا وضعنا الكلب في موضع امتحان غير متكافئ بالنسبة للقرد.

على أننا لسنا بصدد دراسة تشريح الجهاز العصبي، وإنما كلُّ ما يهمنا في هذا الصدد هو مَقْدرة الحيوان على تنظيم سلوكه، وهذا أمر يتعلَّق تعلُّقًا كبيرًا بفاعلية أدوات الحركة والحس عند الحيوان، وكلما تعقَّد بنيان الحيوان استطاع أن يُكيِّف نفسه بسرعة أكبر كثيرًا من تكييفِ الحيوانِ البسيطِ البنيان؛ وعلى ذلك نجحت الحيوانات المعقَّدة البنيان في أثناء التطور وحلَّت محلَّ البسيطةِ البنيان، كالأسماك مثلًا حلَّت محل اللافقاريات العليا البحرية التي كانت سادةَ البحار منذ ملايين ملايين السنين، كما أن الحيوان الثديي قادرٌ على أن يربط بين المنبِّهات الحسية والأفعال الحركية بطرقٍ مختلفة، ويستطيع بفضل مخِّه الكبير أن ينظِّم سلوكه على أساس التعلُّم والتجربة، ومن ثَمَّ سادت الثدييات العالم منذ ملايين السنين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤