بناء إمبراطورية آسيوية
ترجع الدعوة إلى بناء إمبراطورية آسيوية باعتباره ضرورة حيوية لليابان، إلى الأفكار التي طرحها بعض المفكرين اليابانيين المتطرفين في وطنيتهم في أواخر عصر طوكوجاوا، وكانت مبررات هذه الدعوة أن التوسع عن طريق ضم جزر الكوريل، وجزيرة سخالين وشبه جزيرة كمتشكا، وبعض مناطق سيبريا، إضافة إلى منشوريا وكوريا وفورموزا من شأنه أن يحوِّل اليابان إلى قوة إقليمية مهيبة تحسب لها القوى الكبرى ألف حساب.
وعندما طُرِحت تلك الأفكار كانت تبدو مُجرَّد أضغاث أحلام، غير أنها أثَّرت على فكر النخبة التي صنعت عصر مايجي، وألهمتها استراتيجية التوسع الإمبريالي على حساب الجيران التي وضعت في منتصف الثمانينيات من القرن التاسع عشر، وما كاد يحل عام ١٨٩٠م، حتى كان العسكريون ومجلس الوزراء على يقين من أن اليابان لا تستطيع المحافظة على استقلالها، إلا إذا توفرت لديها القدرة على الانضمام إلى محفل الدول الكبرى التي تسعى إلى الحصول على مطالب وامتيازات في آسيا، وبحلول عام ١٨٩٤م، أصبحت الرغبة في الاستيلاء على أراضي آسيا ذات الأهمية الاستراتيجية موضع اهتمام مجلس الوزراء والعسكريين وعندما نشبت الحرب مع الصين، أصبح الهدف الاستراتيجي لليابان: الاستيلاء على شبه جزيرة لياوتونج، وضمان استقلال كوريا واتخاذ فرموزا قاعدة بحرية يتحكم منها الأسطول الياباني في الطرق البحرية المؤدية إلى سواحل الصين، وتلك التي تؤدي إلى اليابان.
وكان من بين الدوافع التي وجهت السياسة اليابانية صوب التوسع الإمبريالي، التنافس الروسي-البريطاني في شرق آسيا.
وقدر مجلس الوزراء الياباني أن ذلك التنافس سوف يؤدي إلى زيادة الاضطرابات في المنطقة، وخاصة أن الدولتين طورتا تجارتهما ومراكزهما العسكرية بما يحقق لكل منهما مزايا استراتيجية. ولما كان الروس يفكرون في مد خط حديدي يخترق سيبريا ويصل إلى المحيط الهادي، قُدِّر له أن يتم عام ١٩١١م، كان على اليابان أن تأخذ الأمر مأخذ الجد، وتتأهب عسكريًّا، لمواجهة وصول السكك الحديدية الروسية إلى المحيط؛ لأن الروس سيسعون عندئذٍ إلى فرض سيطرتهم على آسيا.
ولما كان التنافس البريطاني-الروسي سيقود إلى صدام بين القوتين، فقد رأى مجلس الوزراء الياباني (١٨٨٦م) أن تكون اليابان على درجة من القوة العسكرية تمكنها مِن أن تُقرر ما يلائم مصالحها؛ فتبقى على الحياد، أو تنضم إلى أحد الطرفين المتنازعين ضد الآخر.
ورأى ياماجاتا (رئيس الوزراء) أنه في حالة تعرض كوريا للغزو فلن تَسلَم اليابان من الخطر، وكانت سياسة اليابان تهدف إلى الاحتفاظ بكوريا كدولة مستقلة لا ترتبط بالصين بروابط التبعية، والحيلولة دون قيام أيٍّ من الدول الأوروبية باحتلالها؛ لأن ما تتمتع به شبه جزيرة كوريا من موقع جغرافي يجعل مَن يحتلها في مركز القوة الذي يمكنه من التحكم في شرق آسيا، وتهديد سلامة الأراضي اليابانية، كذلك كان من الأهداف السياسية اليابانية إعاقة أية محاولة من جانب الصين لبناء جيش عصري قوي لأن ذلك يضر بأمن اليابان.
وفي نوفمبر ١٨٩٠م، قرر مجلس الوزراء ضرورة أن تكون اليابان على أتم استعداد للدفاع عن خطين: خط السيادة، وخط المصالح.
أما الخط الأول فهو حدودها، وأما الخط الآخر فيمر عبر أراضي جيرانها، أو المناطق التي تلامس خط السيادة (على حد تعبير رئيس الوزراء) وحتى تحافظ اليابان على استقلالها يجب أن تجد لنفسها موضعًا بين الدول الكبرى، وأن تخطو خطوة واسعة نحو الدفاع عن خط المصالح القومية الذي يشمل كوريا، وبذلك تصبح اليابان في وضع أفضل من الاكتفاء بالوقوف خلف «خط السيادة».
وهكذا ركز ياماجاتا (رئيس الوزراء) على الأهمية الاستراتيجية للتوسع في القارة الآسيوية على حساب جارات اليابان باعتباره «ضرورة أمن قومي» للدفاع عن استقلال اليابان، بل نجده في أواخر أيامه (عام ١٩١٥م) يؤكد أن منشوريا هي المجال الطبيعي للتوسع الياباني في القارة الآسيوية، وأنها تُعَد شريان الحياة بالنسبة لليابان؛ لأن اليابانيين لا بد أن يسكنوا آسيا والتوسع في منشوريا يحل مشكلة السكان في اليابان، كما يوفر — على حد زعمه — الحماية للآسيويين.
وراح بعض مفكري عصر مايجي يبرر حركة التوسع الياباني على ضوء نظرية دارون بالقول بأن البقاء للأقوى في عالم تسوده شريعة الغاب، وبأن التوسع في أراضي الجيران ليس عدوانًا أو اغتصابًا، ولكنه «مهمة حضارية» هدفها حماية تلك الشعوب، ومساعدتها على تحقيق التقدم وبلوغ درجة التحضر.
التوسع في كوريا
وقد طبقت اليابان عند توسعها في كوريا نفس الأسلوب الذي اتبعته الولايات المتحدة مع اليابان، ففي أغسطس ١٨٧٥م اقتحمت سفينة يابانية خليج كانجهوا الكوري، فأطلقت عليها قوات خفر السواحل الكورية النيران، واتخذت اليابان من ذلك الحادث مبررًا لإرغام كوريا على إقامة علاقات دبلوماسية وتجارية معها تحت تأثير التهديد باستخدام القوة العسكرية ضدها، وبعد ستة أشهر من ذلك الحادث (فبراير ١٨٧٦م) وقعت كوريا معاهدة غير متكافئة مع اليابان على نمط المعاهدات التي وقعتها كل من اليابان والصين مع الدول الغربية، وافقت بموجبها كوريا على فتح ثلاثة موانٍ أمام التجارة اليابانية واعتبرت المعاهدة كوريا بلدًا مستقلًّا، رغم أن الصين كانت تعدها من توابعها.
وفي عام ١٨٢٢م قامت ثورة ضد الأسرة المالكة الكورية، اتخذت طابع العداء ضد اليابانيين، فتدخلت الصين تلبيةً لطلب الأسرة الحاكمة ونجحت في قمع الثورة، وقنع اليابانيون بالتعويضات التي حصلوا عليها من الحكومة الكورية عما لحق بالمصالح اليابانية من خسائر خلال أحداث الثورة، غير أنهم بيَّتوا النية لتصفية الوجود العسكري الصيني في كوريا، فوضعت خطة لزيادة عدد الجيش الياباني وعدته على مدى عشر سنوات، بدأ تنفيذها عام ١٨٥٥م، كما وضعت البحرية اليابانية خطة لزيادة قدرتها القتالية.
وعندما قامت انتفاضات شعبية كورية ضد مظالم السلطة وهيمنة التجار اليابانيين والصينيين على الاقتصاد الكوري مما زاد من معاناة الشعب، فتوقفت تلك الانتفاضات عام ١٨٩٤م، فأتيحت الفرصة لأنصار التوسع الإمبريالي داخل الحكومة اليابانية لتحقيق أحلامهم التوسعية.
الحرب الصينية-اليابانية
استنجدت الحكومة الكورية بالقوات الصينية للقضاء على الانتفاضات الشعبية، فأبلغت اليابان الحكومة الصينية اعتزامها إرسال قوات عسكرية إلى كوريا، فحاولت الصين — عبثًا — منع الصدام المرتقب عن طريق طلب الوساطة من الدول الكبرى، واقترح رئيس الوزراء الياباني إرسال لجنة صينية-يابانية مشتركة إلى كوريا، ولكن الصين رفضت الاقتراح بحجة قدرتها وحدها على إخماد الانتفاضات ووعدت بالانسحاب فور انتهاء المهمة من كوريا ورفضت اليابان اقتراحَين أحدهما بريطاني والآخر روسي بانسحاب قوات الطرفَين من كوريا، والحق أن أحدًا لم يأخذ التهديد الياباني مأخذ الجد، سواء في ذلك الصين أو الدول الأوروبية الكبرى.
وفي يونيو ١٨٩٤م وصل الوزير المفوض الياباني إلى العاصمة الكورية على رأس قوة عسكرية تمثل جميع فروع القوات المسلحة اليابانية، وقابل ملك كوريا وأملى عليه شروطًا لإصلاح الحكومة، وأجبر الملك الكوري على إعلان إلغاء المعاهدة الكورية-الصينية، وأن يطلب من اليابانيين طرد القوات الصينية من بلاده.
ورغم ذلك ظل حكام الصين يستهينون باليابان، ولا يعتقدون في قدرتها على خوض غمار حرب من أجل كوريا، واعتقدوا أن اليابان ليست جادة في تهديداتها، وعندما التقت ثلاث سفن حربية صينية — كانت تتولى حراسة ناقلة جنود صينية على متنها ١٢٠٠ جندي — بثلاث سفن حربية يابانية في طريقها إلى كوريا (٢٥ مايو)، أطلقت عليها النار، فنشبت معركة بحرية صغيرة راحت ضحيتها ناقلة الجنود الصينية بمن عليها، وأُسِرت إحدى السفن الحربية الصينية، وأعقب ذلك هجوم القوات اليابانية في كوريا على القوات الصينية، وألحقت بها هزيمة ساحقة دون أن تعلن الحرب رسميًّا.
وجاء إعلان الحرب من جانب اليابان في أول أغسطس، وتبعه إعلان الحرب من جانب الصين، وآثرت الدول الكبرى الوقوف على الحياد ظنًّا منها أن الصراع سينهك الطرفين لمصلحتها، فإذا بالجيش الياباني ينزل إلى كوريا ويتجه إلى منشوريا ويستولي على المواقع الصينية الهامة، ويقيم حكومة عسكرية في الإقليم، وفي نفس الوقت، اتجه جيش ياباني آخر إلى شبه جزيرة لياوتونج، استولى على أهم مواقعها واتجه إلى شبه جزيرة شانتونج فاستولى على أهم مدنها، واضطُر الأسطول الصيني أن يستسلم للأسطول الياباني (١٢ فبراير ١٨٩٥م).
وفي مارس، اتحد الجيشان اليابانيان، وزحفا صوب بكين حيث استوليا على أهم المدن في الطريق، وتوالت الهزائم على الصين دون أن يلوح في الأفق أمل تحول المد لصالحها، ولجأت الحكومة الصينية إلى الروس والإنجليز طالبةً التدخل لوقف إطلاق النار دون جدوى.
وبعد محاولات فاشلة من جانب الصين لفتح باب المفاوضات مع اليابان حول الصلح، التقى نائب الإمبراطور الصيني مع رئيس الوزراء الياباني في ميناء شيمونوسيكي (الياباني) حيث توصل الطرفان إلى اتفاق حول هدنة بلا قيد أو شرط (١٩ مارس) وتم التوقيع على معاهدة الصلح في ١٧ إبريل، وخلال المفاوضات قدم الأمريكيون والإنجليز النصح والمشورة للطرفين.
وبموجب معاهدة الصلح، اعترف الطرفان باستقلال كوريا استقلالًا تامًّا، وتنازلت الصين لليابان عن شبه جزيرة لياوتونج، وجزيرة فرموزا، وجزر البسكادور، وتعهدت بدفع تعويض مالي كبير، كما وافقت على فتح أربع مدن صينية أمام التجارة اليابانية.
لم تتمكن الدول الكبرى من الحيلولة دون تحقيق اليابان لهذا النصر فقد كانت العمليات الحربية اليابانية تُدار بكفاءة عالية وتنسيق تام؛ برًّا وبحرًا، وخلال ثمانية أشهر هزمت تلك الدولة الجزرية الصغيرة إمبراطورية الصين العريقة ذات التعداد السكاني الهائل والموارد المتنوعة، وقضت على قواتها العسكرية، واضطرتها إلى الإلحاح في طلب الصلح وكان ذلك كله بعيدًا عن تقدير الدول الكبرى لمدى ما بلغته اليابان من قوة ففضلت الوقوف على الحياد، ولكنَّ نتيجة الصراع جاءت مخيبة لتوقعاتها.
وهزت الهزيمة النظام الإمبراطوري الصيني ليسقط نهائيًّا بعد عقدين من الزمان، على حين حققت الحرب لليابانيين الكثير فانبهر المراقبون الأجانب بمستوى الأداء العسكري للجيش والبحرية، وأخذ العالم يتقبل اليابان كواحدة من الدول الحديثة وأيقنت الدول الكبرى أن اليابان قوة لا يمكن تجاهلها عند رسم سياستها الخاصة بالشرق الأقصى.
وبذلك أعلنت الحرب الصينية-اليابانية عن مولد قوة إمبريالية جديدة، تنتمي إلى الشرق وليس إلى الغرب، وكان معيار النجاح الذي يمكن أن تحققه هذه القوة الجديدة (اليابان) يتوقف على مدى تقبُّل القوى الإمبريالية الأخرى لها، وخاصة تلك التي لها مصالح في الشرق الأقصى، أما بريطانيا فقد عبَّرت عن ترحيبها بالنصر الياباني وارتياحها لنتائجه؛ لأن من مصلحتها أن تلعب اليابان دور المناوئ للوجود الروسي في المنطقة الذي كان موضع ضيق الإنجليز، وأما روسيا فكانت أكثر الدول استياء من نتيجة الحرب لأنها تعرقل مخططاتها الخاصة بكوريا ومنشوريا، وتضع العقبات في طريق تحقيق الأطماع الروسية في الشرق الأقصى، لذلك حثت فرنسا وألمانيا على مساندتها في معارضة استحواذ اليابان على شبه جزيرة لياوتونج.
وأيدت فرنسا المطالب الروسية لارتباطها مع روسيا بحلف ثنائي، أما ألمانيا فقد أعطت تأييدها لروسيا حتى تصرفها عن الاهتمام بالشئون الأوروبية، وتستنفد طاقتها في الصراع حول الشرق الأقصى، رغم أن ألمانيا — بدورها — كانت تطمع في أن تنال نصيبًا من الامتيازات التجارية في الصين.
ولذلك تقدمت الدول الثلاث: روسيا وألمانيا وفرنسا بمذكرة إلى الخارجية اليابانية قبل تبادُل وثائق التصديق على معاهدة الصلح بعشرة أيام، طالبت فيها اليابان بالتنازل عن شبه جزيرة لياوتونج، ولما كان الرفض يعني الدخول في حرب مع الدول الثلاث مما قد يحرم اليابان مِن جَني ثمار انتصارها على الصين، وافقت اليابان على تعديل نص المعاهدة مقابل زيادة التعويض المالي الذي تدفعه الصين.
ولكن التدخل الثلاثي أصاب الرأي العام الياباني بصدمة قاسية، جعلته يشعر بأن الدول الثلاث قد امتهنت كرامة اليابان، وحوَّل العسكريون ودعاة التوسع هذا السخط إلى موجة عداء عارمة ضد روسيا، كما استغلت الحكومة هذا السخط لزيادة الإنفاق العسكري، فتقرر زيادة الجيش من سبع فرق (عام ١٨٩٤م) إلى ١٣ فرقة (عام ١٩٠٣م) وزيدت قدرة الأسطول من ٦٣٫١ ألف طن إلى ١٥٣ ألف طن، وبذلك أصبحت ميزانية الدفاع تستحوذ على ٥٥٫٦٪ من الموازنة العامة للدولة بعد أن كانت تمثل ٢٩٫٥٪ من الموازنة واستمر الإنفاق العسكري في استئثاره بالقسط الأكبر من الإنفاق الحكومي بعد ذلك.
التنافس الروسي-الياباني
كان لروسيا مصالح تجارية في كوريا جعل لها وجودًا إلى جانب المصالح اليابانية، مما وفر فرصة احتكاك بين الطرفين، كذلك كان للروس وجود في منشوريا حيث كانوا قد حصلوا من الصين على امتياز مد خط حديدي يصل الخط الروسي — عبر سيبريا — بالمحيط، ولما كان لليابان وجود في جنوب منشوريا، فقد أصبح تعايُشهما معًا في كوريا ومنشوريا من المستحيلات، وخاصة أن روسيا لم تحترم نصوص المعاهدات التي أبرمتها مع اليابان عام ١٨٩٦م وعام ١٨٩٨م حول حصول كل منهما على امتيازات متساوية في كوريا، كذلك أقلقت السياسة الروسية الرَّامية إلى تحويل منشوريا إلى محمية روسية اليابان وبريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا، وأدى عدم وفاء روسيا بتعهُّداتها بالجلاء عن منشوريا إلى حدوث تقارب بريطاني-ياباني تحول فيما بعد إلى تحالف بين الدولتين لمواجهة الأطماع الروسية في منشوريا، وجاء رفض الروس للجلاء عن منشوريا ممهدًا لتصعيد الأزمة التي قادت إلى إشعال نار الحرب الروسية-اليابانية.
التحالف البريطاني-الياباني
يرجع التقارب البريطاني-الياباني إلى عهد وزارة روزبري التي حثت الدول الأوروبية على التنازل عن حقوق القضاء القنصلي التي حصلت عليها من اليابان منذ عام ١٨٥٨م، وفي عام ١٨٩٥م، ازداد هذا التقارب عندما امتنعت بريطانيا عن الاشتراك مع روسيا وألمانيا وفرنسا في التدخل للحيلولة دون حصول اليابان على شبه جزيرة لياوتونج الصينية، وكان مِن نتيجة ذلك ترحيب اليابان باحتلال بريطانيا لميناء وي هاي وي، واستئجارها له بعد ذلك لتوازن الاحتلال الروسي لميناء بورت آرثر.
وخلال عام ١٩٠٠م، بُذلت جهود دبلوماسية بريطانية ويابانية، لاستطلاع موقف ألمانيا وفرنسا في حالة نشوب صراع روسي-ياباني بالشرق الأقصى، ولكن اليابان لم تكن قد حسمت الخلاف داخل الحكومة بين مؤيدي التحالف على بريطانيا، ودُعاة التقارب مع روسيا على أساس الاعتراف بالمصالح الروسية في منشوريا في مقابل الاعتراف الروسي بالمصالح اليابانية في كوريا.
كذلك لم تكن الحكومة البريطانية قد توصلت إلى قرار بشأن هذا التحالف حتى إبريل ١٩٠١م، حين كلفت الحكومة اليابانية وزير خارجيتها، باستطلاع مدى إمكانية عقد التحالف بين البلدين.
وفي نفس الوقت الذي كان فيه وزير الخارجية الياباني يتفاوض مع زميله البريطاني حول بنود اتفاقية التحالف (يوليو ١٩٠١م)، توجه مبعوث ياباني إلى موسكو لمحاولة الوصول إلى اتفاق روسي-ياباني حول الشرق الأقصى، ولكن الروس تشددوا في مطالبهم، وعاد المبعوث الياباني بخُفَّي حُنَين، مما وحَّد صفوف الحكومة اليابانية وراء التحالف البريطاني-الياباني الذي تم إبرامه في لندن (٣٠ يناير ١٩٠٢م)، وأثار الإعلان عنه في كل مِن لندن وطوكيو (١١ فبراير) دهشة عواصم العالم، وتمادى البعض في استنكاره لهذا التحالف، فاتهم بريطانيا بخيانة العنصر الأبيض لصالح «العنصر الأصفر العدواني الوضيع».
ومهما كان الأمر، فقد أصبح باستطاعة اليابان أن تخطط للحرب مع روسيا دون أن تخشى دخول دولة ثالثة — طرفًا في الصراع — إلى جانب الروس، وأن تضمن عدم تكرار التدخل الدولي الذي حرمها من بعض ثمار انتصاراتها على الصين، ولكن بريطانيا لم تخرج من التحالف صفر اليدين، فقد كان التحالف يخدم مصالحها في الإقليم، وبإبرام التحالف بدأ العد التنازلي للحرب.
الحرب الروسية-اليابانية
ففي ١٣ يناير ١٩٠٤م، قدَّمت اليابان آخر مقترحاتها إلى روسيا لحل النزاع حول منشوريا وكوريا، ولكن تلك المقترحات اتخذت طابع الإنذار، مما جعل أصحاب الدعوة إلى سياسة التوسُّع الخارجي على حساب الصين في الحكومة الروسية يعدون العُدَّة للقيام بعمل تأديبي ضد اليابان تتخذ كوريا مسرحًا له، وفي نفس الوقت، كانت اليابان قد اتخذت قرار الحرب بالفعل بعد أن اطمأنَّت إلى موقف ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية.
وفي ٤ فبراير ١٩٠٤م، أخطرت اليابان الحكومةَ الروسية بقطع المفاوضات مع الاحتفاظ بالحق في اتخاذ أي عمل مستقل للدفاع عن مصالحها. وفي ٦ فبراير، أبحر الأسطول الياباني في المياه الكورية صوب ميناء بورت آرثر لتدمير الأسطول الروسي الرابض هناك، ونجحت اليابان فعلًا في تدمير بعض السفن الحربية الروسية، وأعلنت اليابان الحرب رسميًّا (١٠ فبراير)، وقامت خطة اليابان العسكرية على شل حركة الأسطول الروسي في المحيط الهادي بقاعدة بورت آرثر، فأغرقوا بعض السفن التجارية القديمة في البوغاز المؤدي إلى الميناء وزرعوا الألغام البحرية في الجزء المتبقي من البوغاز، وحققوا أكبر انتصاراتهم عندما نجحوا في إغراق سفينة القيادة الروسية وعلى ظهرها قائد الأسطول و٦٠٠ جندي روسي.
وفي البر حققت القوات اليابانية الزاحفة مِن العاصمة الكورية صوب الشمال انتصارًا على القوات الروسية، وفي أواخر أبريل بدأت معركة نهر يالو، وتوالى سقوط المواقع الروسية في أيدي اليابانيين على طول مجرى النهر، كما نجح اليابانيون في الاستيلاء على المواقع الروسية بشبه جزيرة لياوتونج وتحركوا للاستيلاء على بورت آرثر — أكبر المعاقل الروسية بالشرق الأقصى — حيث أجهزت مدفعيتهم على ما تبقى من الأسطول الروسي.
وفي صيف ١٩٠٤م، دفع اليابانيون القوات الروسية أمامهم عند زحفهم في جنوب منشوريا، وشنوا عليها هجومًا شاملًا جعل الروس ينسحبون إلى موكدن، وبعد ستة أشهر من القتال الضاري سقطت بورت آرثر في أيدي اليابانيين، واستسلم لهم القائد الروسي ومعه ٢٥ ألفًا من الجنود، وغنم اليابانيون خمسمائة مدفع روسي، وبذلك تفرغ الجيش الياباني لخوض المعركة الفاصلة في منشوريا، حيث دارت رحى معركة موكدن التي تعد من المعارك الكبرى الحاسمة في النزاع والتي سقطت بيد اليابانيين بعد أسبوعين من القتال الشرس العنيف، وبلغت خسائر الروس — حتى ذلك الحين — ١٥٠ ألفًا بين قتيل وجريح، بينما لم تصل خسائر اليابانيين إلى الخمسين ألفًا.
أصبح الموقف العسكري الروسي حَرِجًا للغاية فحاول الروس تعويض هزائمهم بتوجيه أسطول بحر البلطيق إلى العمل في الشرق الأقصى وبعد رحلة شاقة — قطعها الأسطول مِن غرب أوروبا إلى الشرق الأقصى — اشتبك مع الأسطول الياباني في الطريق إلى كوريا (٢٨ مايو ١٩٠٥م) فأغرق اليابانيون سفينة القيادة وست سفن أخرى، بالإضافة إلى خمس مدمرات وخمس ناقلات جنود، وأربع سفن خدمات وسفينة دفاع سواحل، وأسروا خمسًا من قطع الأسطول الروسي، وقُدِّر عدد القتلى والغرقى مِن جنود البحرية الروسية بثلثَي عدد رجال الأسطول، على حين لم يخسر اليابانيون في تلك المعركة سوى ١١٦ قتيلًا، و٥٣٨ جريحًا، وثلاثة من زوارق الطوربيد، ولم ينجُ من أسطول البلطيق سوى ناقلة جنود ومدمرتين، وصلوا إلى ميناء فيلاديفوستك بعد جهد جهيد.
ولم يَعُد أمام الروس — بعد هذه الهزيمة الساحقة — سوى طلب الصلح، وخاصة أن الثورة اندلعت في روسيا ضد استبداد القيصر، كما أن الدول الأوروبية التي وقفت على الحياد رغبت في إنهاء الحرب بعد أن حققت أهدافها الاستراتيجية؛ فألمانيا قنعت بما أصاب روسيا من ضعف عسكري، وفرنسا أرادت الاحتفاظ بما بقي من قوة روسيا لتدعيم الحلف الثنائي الذي يجمع البلدين.
وتوسطت الولايات المتحدة لعقد الصلح، الذي بدأت مفاوضاته في ١٠ أغسطس ١٩٠٥م، تحت رعاية الرئيس الأمريكي.
ووقَّع الطرفان اتفاقية الصلح التي نصت على الاعتراف بالمصالح اليابانية المتميزة في كوريا، وانتقال حقوق روسيا في شبه جزيرة لياوتونج إلى اليابان، والتنازل لليابان عن القسم الجنوبي من سكك حديد منشوريا، وكذلك عن النصف الجنوبي من جزيرة سخالين، وانسحاب قوات البلدين من منشوريا، فيما عدا قوات حراسة السكة الحديد، وتعهَّد البلدان بعدم التدخل فيما تتخذه الصين من إجراءات تطوير الصناعة والتجارة في منشوريا، واستغلال السكك الحديدية للأغراض التجارية، فيما عدا الخط الحديدي بشبه جزيرة لياوتونج فيُستَخدم لأغراض استراتيجية.
لقد أسفرت الحرب الروسية-اليابانية عن مَولد قوةٍ شرقية، نجحت في إلحاق الهزيمة بدولة أوروبية استعمارية كبرى، وفي تحديد حجم الدور الروسي في الشرق الأقصى، ولفتت الحرب أنظار الصين إلى ما أحرزته اليابان من تقدُّم، فبدأت تستلهم التجربة اليابانية، وتدفَّق الطلاب الصينيون على اليابان بأعداد كبيرة لتلقي العلم والدراسة، فأعادوا للأذهان ذكرى حركة مماثلة — ولكنها عكسية — عندما كان طلاب العلم من اليابانيين يحجون إلى الصين لدراسة الكنفوشية والفَلك والرياضيات قبل ذلك بثلاثة قرون.
وكان للنصر الياباني صداه الكبير في مصر، حيث كانت الحركة الوطنية قد بلغت ذروتها بزعامة مصطفى كامل باشا، الذي ألف كتَيِّبًا بعنوان «الشمس المشرقة»، أشاد فيه بالنهضة اليابانية الحديثة، وبقدرة الشرق على إلحاق الهزيمة بالغرب، وصاغه بأسلوب رومانسي يخاطب الوجدان أكثر مما يخاطب العقل، وغاب عن مصطفى كامل أن اليابان تحولت — منذ عام ١٨٩٥م — إلى قوة إمبريالية تمارس مع الشعوب الخاضعة لها نفس أساليب القهر التي يُمارِسها الإنجليز في مستعمراتهم، وأنَّ حربَها مع روسيا كانت إحدى حلقات التنافس بين البلدين حول السيطرة على كوريا والصين، وأنها كانت أداة من أدوات الصراع الإمبريالي في الشرق الأقصى، وظل انتصار اليابان في تلك الحرب مخلدًا في قصيدة شاعر النيل حافظ إبراهيم الذي اختار لها عنوان «الغادة اليابانية» والتي تغنَّت بها أجيال من الشباب المصري.
وجنت اليابان من وراء انتصارها في تلك الحرب اعتراف الدول الكبرى بها كقوة هامة، لا يُبرم أمر يتعلق بالشرق الأقصى بدونها، وكفلت لها المكاسب الإقليمية التي حصلت عليها تحقيق حلم قديم، طالما راود ساستها بأن تصبح ذات ركيزة قارية، وبدأت بعض الدول الغربية تشعر بعدم الارتياح لما حققته اليابان من مكاسب استراتيجية، وما أحرزته من مكانة دولية، فأحس الرئيس الأمريكي أن توازن القوى في المحيط الهادي قد اختل، لذلك كان حريصًا على عدم تصفية الوجود الروسي نهائيًّا — رغم ميله إلى كسر شوكة الروس — ضمانًا لتوازن القوى في الإقليم، ومن ثَم كانت مساعدته للموقف الروسي خلال مفاوضات الصلح، وبدأت المصالح الأمريكية تتعارض مع المصالح اليابانية في المحيط الهادي، وأخذت شُقة الخلاف بين البلدين في الاتساع تدريجيًّا، حتى كان الصدام بينهما في الحرب العالمية الثانية صدامًا مروعًا.
وعلى كل، فقد تحركت اليابان بسرعة لتدعيم مكاسبها الجديدة، ففي نوفمبر ١٩٠٥م حصلت من بكين على تأكيد لما جاء بمعاهدة الصلح مع روسيا فيما يتصل بتأجير لياوتونج ومنشوريا، وبالإضافة إلى ذلك حصلت من الصين على امتيازات جديدة لمد الخطوط الحديدية، وإقامة المشروعات الاقتصادية في منشوريا، وعملت على إحباط جهود الدول الأخرى الرامية إلى الحصول على امتيازات خاصة في منشوريا فعقدت اتفاقية سِرية مع روسيا عام ١٩٠٧م، أصبح جنوب منشوريا — بموجبها — منطقة نفوذ يابانية، وشمال منشوريا منطقة نفوذ روسية، وبذلك قطعت الطريق على المساعي الأمريكية الرامية إلى الحصول على امتياز لإقامة خط حديد بمنشوريا.
أما بالنسبة لكوريا، فقد وسعت اليابان دائرة نفوذها هناك، وأبرمت اتفاقًا مع الولايات المتحدة الأمريكية (يوليو ١٩٠٥م) تعهدت فيه الأخيرة بعدم الإقدام على عمل يمس المصالح اليابانية في كوريا، في مقابل تعهُّد اليابان بعدم مد نفوذها إلى الفلبين، وعندما حددت معاهدة التحالف مع بريطانيا أضيف إليها بند نص على اعتراف بريطانيا بسيادة المصالح اليابانية في كوريا، وبعد ذلك أخذت اليابان تُحوِّل كوريا إلى محمية يابانية، ثم إلى مستعمرة، وأصبح المندوب السامي الياباني هو الحاكم الفعلي للبلاد، وأجبر ملك كوريا على التنازل عن العرش لولده (يوليو ١٩٠٧م) الذي نُصِّب ملكًا على البلاد، وحصل منه المندوب السامي الياباني على تفويض بإدخال ما يراه من إصلاحات، وانتهزت اليابان فرصة اغتيال أحد أقطاب الحكومة اليابانية على يد شاب كوري (٢٦ أكتوبر ١٩٠٩م) فأعلنت ضم كوريا وأخذت تنسج سياستها الخاصة بالسيطرة على كوريا على منوال السياسة البريطانية في مصر، وتُرجِم كتاب كرومر «مصر الحديثة» إلى اليابانية (١٩١١م) ليستفيد به اليابانيون في إدارتهم لكوريا.
أثر التوسع الإمبريالي على النمو الاقتصادي
وبانتهاء الحرب الروسية-اليابانية، تبدأ المرحلة الثانية والهامة من مراحل النمو الاقتصادي لليابان، والتي تمتد حتى نهاية الحرب العالمية الثانية فقد حققت الصناعات الخفيفة تقدُّمًا كبيرًا، كما بلغت الصناعات الثقيلة أقصى درجات تطورها، وبذلك اكتمل نضج الإنتاج الرأسمالي، وازداد إيقاع النمو الاقتصادي الحديث بسرعة، واتسع نطاق التجارة الخارجية.
ومما دعَّم مِن مَركز الصناعة اليابانية، تعديل التعريفة الجمركية عام ١٩١١م بما يحقق الحماية للإنتاج الوطني، مما أدى إلى زيادة معدل نمو رأس المال الوطني، فتطوَّرت الشركات اليابانية وامتد نشاطها إلى كوريا ومنشوريا، بل وإلى أوروبا وأمريكا، وامتد مع نشاط الشركات نشاطُ رأس المال المصرفي الياباني إلى كوريا ومنشوريا وفورموزا، وأصبحت البنوك اليابانية التي أُنشئِت في تلك البلاد تتحكم في اقتصادياتها تمامًا بحكم كونها بنوك إصدار للعملة.
وهكذا أتاحت سياسة التوسُّع الإمبريالي المناخ الملائم لنمو القطاع الاقتصادي الحديث، بتوسيع نطاق السوق الخارجية المناسبة لتصريف الإنتاج الصناعي الياباني والتي تتمتع بالحماية الجمركية، وتم تأمين مجالات جديدة لاستثمار رأس المال الوطني الياباني، وحقق نهب الشعبين الكوري والصيني فرصة ذهبية لتراكم رأس المال الياباني واستكمال نمو الرأسمالية مما كان له انعكاسه على الحركة السياسية في عصر النهضة، وفي الفترة الممتدة حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.