الحركة السياسية
استقر رأي صنَّاع عصر النهضة اليابانية الحديثة على اختيار النموذج الغربي كإطار للدولة، وهنا واجهتهم مشكلة الاختيار بين دولة ليبرالية ديمقراطية، أو دولة أوتقراطية يستند الحكم فيها إلى بيروقراطية مركزية، فكان النموذج الأخير أكثر تقبُّلًا عندهم، فهو يهيئ للسلطة فرصة إجراء ما تشاء من إصلاحات دون أن تعرقل جهودها عقبات تأتي من جانب المجالس النيابية، كما أن الحكم المطلق والسلطة المركزية أكثر قبولًا لدى اليابانيين بحكم تراثهم الثقافي والسياسي.
ومن ثَم كان النظام الجديد حركةً إصلاحية في إطار الثقافة التقليدية اليابانية، تأثرت دوافعها — إلى حد كبير — بمصالح الفِئات الاجتماعية التي شاركت في صنعها، وإليها يرجع الفضل في تكوين اليابان الحديث.
ولما كان نظام مايجي قد أسقط مِن حسابه المشاركة الشعبية في صنع القرار، وإدارة أمور البلاد من خلال مجالس نيابية دستورية على النمط الغربي، فقد قامت حركة للمطالبين بالدستور عُرِفت باسم «حركة الحرية وحقوق الشعب»، ولعبت دورًا هامًّا في الحركة السياسية.
وكما تزعَّم فريق من الساموراي حركة تصفية نظام طوكوجاوا واسترداد سلطة الإمبراطور، ووضعوا أسس النظام الجديد، كان ثمة فريق آخر مِن مثقفي الساموراي تأثَّر بالفكر الليبرالي الغربي من خلال تعلمهم اللغات الأوروبية الحديثة، ودراستهم للتيارات الفكرية التي سادت في أوروبا في القرن التاسع عشر؛ فلم يكن الساموراي طبقة إقطاعية عسكرية فحسب، بل كانوا على قدر من الثقافة يتلقونها — في عصر طوكوجاوا — في مدارس خاصة بهم، حيث يدرسون المعارف الصينية وتعاليم الكنفوشية والرياضيات، كما التحق بعض أفراد الساموراي بمدارس أخرى للثقافة الحرة ظهرت في أواخر عصر طوكوجاوا، كان يختلف إليها — بالإضافة إلى الساموراي — أبناء التجار وأعيان الريف، وكانت تلك المدارس تُعنَى — في الأصل — بدراسة العلوم والفلسفة الصينية، ثم أصبحت في مطلع القرن التاسع عشر تُعنَى بدراسة «علوم الغرب» وهو مصطلح أطلق على العلوم الحديثة التي تخرج عن دائرة الثقافة التقليدية.
وتصدى هذا الفريق من الساموراي المثقفين لإدارة دفة المعارضة السياسية في عصر مايجي؛ لأنهم وإن اتفقوا مع مُؤسِّس النظام الجديد على ضرورة تصفية الإقطاع، وتوحيد البلاد تحت حكم إدارة مركزية حديثة، إلا أنهم رأوا ضرورة إقامة النظام الجديد على أساس يَسمح للجماهير بقدرٍ من المُشاركة في السلطة، ومن ثَم اختلف مفهوم «التحضُّر والتنوير» عندهم عنه عند غيرهم، فهم يَرون فيها حركة تجديد شاملة، تغير وجه المجتمع الياباني اقتصاديًّا واجتماعيًّا وفكريًّا، بينما رأى فيها خصومهم السياسيون سلطة أوتقراطية مركزية مستنيرة تدور حول محور الإمبراطور، باعتباره وحده — وليس الأمة — مصدر السلطات.
والتقت آمال مثقفي الساموراي مع أحلام أعيان الريف الذين كوَّنوا الزعامات التقليدية للريف الياباني في أواخر عصر طوكوجاوا، فكانت ثورات الفلاحين ضد الحكم الإقطاعي تهب بقيادتهم، وساعَد الإصلاح الزراعي الذي طبقه النظام الجديد على إزاحة نفوذ سادة الإقطاع مِن الريف، ففُتِح بذلك الطريق أمام الأعيان للسيطرة التامة على مقاليد الأمور في قُراهم، وتطلعوا إلى المشاركة في السلطة بقدر متكافئ مع ما لهم مِن وزن اقتصادي ومكانة اجتماعية في الريف لا سيما أنهم استمروا يمسكون بزمام قيادة نضال الفلاحين ضد السلطة في مطلع العصر الجديد حتى تم القضاء على ثورة ساتسوما (١٨٧٧م) فانتهت المعارضة المسلحة للنظام الجديد، وأصبح النضال ضد السلطة المطلقة نضالًا سياسيًّا سلميًّا.
وأصبح أعيان الريف على رأس حركة المعارضة السياسية بما لهم من نفوذ بين صفوف الفلاحين، بالإضافة إلى بعض الأفراد من نُخبة مُثقفي الساموراي الذين كانوا محور المعارضة السياسية بالمدن عامةً، وطوكيو خاصةً، والذين التمسوا في قيادة العمل السياسي ما يعوضهم عن المكانة التي كانت لهم من قبل، والتي جرفها التغيير في مطلع عصر مايجي.
حركة المطالبة بالحياة النيابية
وقد بدأت الحركة بعريضة قدمها إيتاجاكي وسبعة من زملائه من النخبة التي شاركت في صنع النظام الجديد، قدموها للحكومة (١٨٧١م) واستنكروا فيها استبداد السلطة، وطالبوا بإقامة مجلس نيابي يقوم الشعب بانتخابه، وبهذا الحدث بدأت الحركة السياسية التي عُرِفت باسم «حركة الحرية وحقوق الشعب» التي ضمت المطالبين بالحكم النيابي الدستوري.
وعبر عن تلك الحركة تنظيم سياسي عُرف باسم «الحزب الوطني العام» الذي اختار صيغة الحزب السياسي ليميز نفسه عن الجمعيات السياسية العديدة التي ظهرت — في تلك الفترة — بغرض خدمة الأهداف والمصالح السياسية لأفراد بعينهم، وأصدر التنظيم الجديد بيانًا ضمنه برنامجه الذي ركز فيه على إقامة حكومة نيابية مُنتَخبة مِن الشعب.
ولكن وقوع ثورة ساجا التي تزعمها أحد الموقعين على العريضة جعل الحكومة تتجه إلى تصفية المعارضة السياسية، فبادر إيتاجاكي بحل «الحزب الوطني العام» (مارس ١٨٧٤م)، وعاد إلى موطنه طوسا بجزيرة شيكوك، حيث أسس جمعية سياسية عُرِفت باسم «جمعية المفكرين الأحرار» لنشر الوعي بالمبادئ الليبرالية والتفَّ حول تلك الجمعية فريق مِن الشباب المتعطش للمعرفة، وشكلت أفكار الثورة الفرنسية الأساس الأيديولوجي للجمعية، وكان كتاب روسو «العقد الاجتماعي» مصدر إلهام فكري لرواد الليبرالية في ذلك العصر، وذاع صيت «جمعية المفكرين الأحرار» حتى أصبحت طوسا مزارًا يقصده المئات من الشباب الياباني الذين أطلقوا على المدينة — فيما بينهم — اسم «مهد الحرية».
ورغم المحاولات التي بذلتها الحكومة لكبح جماح هذه الحركة، استمرت تحقق النجاح وتكسب الأنصار حولها يومًا بعد يوم، وبعد إخماد ثورة ساتسوما، فكر إيتاجاكي في تأسيس «جمعية الوطنيين»، وفي ربيع ١٨٧٨م أوفد الدعاة إلى مختلف أنحاء البلاد لشرح أهداف التنظيم السياسي الجديد ودعوة الناس للانضمام إليه، وفي سبتمبر من نفس العام عقدت الجمعية أول مؤتمر لها بمدينة أوساكا، أعلنت فيه عن تأسيسها وقررت أن تتخذ من طوكيو مقرًّا لها، وأن تُنشِئ فروعًا لها بالمحافظات.
وفي المؤتمر الثالث للجمعية (خريف ١٨٧٩م) تَقرَّر رفع عريضة إلى الإمبراطور للمطالبة بإقامة مجلس نيابي، وقَّع عليها أعضاء الجمعية الذين انتدبوا اثنين من زملائهم لتقديمها إلى «مجلس الدولة» و«مجلس الشيوخ» ورغم رفض المجلسين للعريضة، فقد نجحت الجمعية في تعبئة الرأي العام ضد الحكومة، وكشفت موقفها المُتعنِّت أمام الشعب، وطوَّف إيتاجاكي بأنحاء البلاد يخطب في الجماهير، ويطلب مساندتها للجمعية في مطالبها، واكتسبت الحركة المزيد من الأنصار من بين الصحفيين ورجال الأعمال وحتى موظفي الحكومة.
ولما كان قانون الرقابة على الصحف (٥ يونيو ١٨٧٥م) يجعل مِن الصحافة أداة محدودة النفع بالنسبة لحركة المطالبة بالحكم النيابي، لجأ زعماء تلك الحركة إلى عقد الاجتماعات العامة وإلقاء الخطب السياسية.
فلم تجد الحكومة مفرًّا من إصدار «قانون التجمهُر» (إبريل ١٨٨٠م) الذي قضى بضرورة الحصول على إذن مُسبَق مِن الشرطة قبل عقد أي اجتماع عام، وحظر على العسكريين ورجال الشرطة والطلبة الاستماع إلى الخطب السياسية، والاتصال بالمنظمات السياسية.
ورغم محاولات الكبت، تبلوَرت المعارضة السياسية في حركة تهدف إلى تأسيس «جمعية وطنية دستورية» في آخر السبعينيات من القرن التاسع عشر، وما كاد يحل مطلع الثمانينيات حتى نظَّم القائمون على تلك الحركة حملة لجمع التوقيعات على عرائض تطالب بالدستور، وبإقامة مجلس نيابي، وبلغ عدد التوقيعات التي جُمِعت نحو ربع المليون توقيع، وتم تأسيس عدد من الجمعيات السياسية — لهذا الغرض — في جميع أنحاء البلاد، بلغ عددها — في تلك الحقبة — نحو ١٥٠ جمعية وعُقدت الاجتماعات السياسية لمناقشة قضية الحكم النيابي، ونُظِّمت الحلقات الدراسية بغرض التثقيف السياسي الذاتي في معظم القرى الهامة، واستطاعت تلك الحلقات الدراسية تعبئة الرأي العام الريفي لمساندة حركة المطالبة بالحياة النيابية عن فهم واقتناع.
واتخذت تلك الحلقات الدراسية شكل مدارس متوسطة أقامها الأعيان على نفقتِهم الخاصة، أو عن طريق جمع التبرعات من أهالي مجموعة من القرى المتجاورة، وكانت تلك المدارس تُقام مهما بلغ عدد الصبية الراغبين في الالتحاق بها، فقد كانت مقصد الكبار الذين ينشدون الثقافة العامة لذاتها، وعلى سبيل المثال، كانت نسبة عدد التلاميذ دون سن الرابعة عشر، بذلك النوع من المدارس بمحافظة كانازاوا لا تتعدى ٢٠٪ من جملة عدد التلاميذ بتلك المدارس، بينما كان بقية التلاميذ من البالغين، وكانت تلك المدارس لا تقتصر جهودها على تدريس العلوم المختلفة، بل امتدَّ نشاطها إلى التثقيف السياسي والاجتماعي، وبعد قيام الحكومة بإخضاع هذه المدارس لإشرافها حوَّل الأعيان تلك المدارس إلى «حلقات دراسية» لنشر المعرفة العامة ولم تَعُد تستخدم اسم «مدرسة»، وتركزت غالبية تلك الحلقات في شرق البلاد، وانتشرت — بدرجة أقل — في بقية أنحاء البلاد، وكانت أقل واحدة منها تضم ما بين ١٢ و٣٠ عضوًا، وإن كان ثمة حلقات تجاوز عدد أفرادها المائة عضو.
وبلغ حماس بعض الأعيان للحركة واهتمامهم بتلك الحركات حد فقد ملكياتهم الزراعية عن طريق رهنها مقابل قروض أُنفِقت على تلك الحلقات التثقيفية وعلى الحركة السياسية، وتحوَّلت تلك الحلقات الدراسية إلى جمعيات سياسية، عقدت سلسلة من الندوات لمناقشة قضية الحكم النيابي، وبلغ عدد الجمعيات السياسية التي دعت إلى عقد الندوات نحو ١٥٠ جمعية، انتشرت في جميع أنحاء اليابان؛ مما يقدم دليلًا على اتساع قاعدة الحركة، واضطرت الحكومة إلى تشديد الرقابة على الصحف والمطبوعات، واهتمت بتطبيق «قانون التجمهُر» غير أن تلك الإجراءات الصارمة لم تنجح في إحباط الحركة السياسية، فكسبت الحركة — بذلك — المزيد من تأييد الجماهير، وخاصة أن بعض مفكري «حركة الحرية وحقوق الشعب» قدموا المفاهيم الليبرالية المكتسبة من الغرب في إطار كنفوشي، فعند شرحهم لتلك الأفكار كانوا يتخذون من الكنفوشية قالبًا للتعبير عن أفكار المساواة والتزام الإمبراطور نحو شعبه الذي يجعله مُلزَمًا بالاستجابة لمطالبه وهي هنا المطالبة بالدستور، ونقد الاستبداد من خلال فكرة العدل عند كونفوشيوس، وكذلك الحال بالنسبة لفكرة المساواة، ولم تجد الجماهير (وخاصةً الفلاحين) صعوبة في استيعاب الفكر الليبرالي إذ قُدم لهم في وعاء كنفوشي، لا يجعله يبدو غريبًا عن واقع المجتمع الياباني، أو بعيدًا عن إدراك الجماهير، ولعل ذلك يُفسِّر التفاف الجماهير حول تلك الحركة التي اكتسبت صبغة شعبية.
لذلك أيقنت الحكومة أنها بصدد حركة منظمة يقودها رجال من الأعيان الذين عاشوا في الريف لأجيال بعيدة، وتمتعوا فيه بنفوذ كبير، ولديهم القدرة على تعبئة سكان القرى في حركة سياسية ضد الحكومة، والأساس الذي قامت عليه سلطتها، ولم تكن الحكومة مهيَّأة — عندئذٍ — لمواجهة هذه الحركة بإجراءات قمع صارمة فآثرت السلامة، وسارعت بإصدار بيان (١٢ أكتوبر ١٨٨١م) أعلن فيه الإمبراطور أنه ينوي إقامة نظام نيابي تدريجيًّا، وذلك في السنة الثالثة والعشرين من حكمه (أي عام ١٨٩٠م) وحذَّر البيان جميع طبقات الشعب «أعلاها وأدناها» مِن التسرُّع، والدعوة إلى الطفرة في التغيير؛ لأن ذلك يؤدي إلى إشاعة الاضطرابات في البلاد.
وكان صدور البيان الإمبراطوري نقطة تحوُّل في تاريخ حركة المطالبة بالحياة النيابية، إذ أُعِيد تنظيمها في شكل حزبين سياسيَّين؛ هما: «حزب الأحرار» و«حزب الإصلاح» في الوقت الذي كانت فيه الحكومة تدبر أمر تصفية الحركة، فقد أُبعِد أنصار الليبرالية من الحكم، وانفرد أنصار الأوتقراطية ومركزية السلطة بإدارة أمور البلاد.
ومنذ ذلك الحين، أصبح النشاط السياسي يتركز حول الأحزاب السياسية وحدها، وتحولت الجمعيات السياسية المنتشرة بالريف إلى خدمة أغراض أخرى، فلم يعُد نشاطها مقصورًا على المطالبة بالدستور، وإنما تعدَّاه إلى مطالب أخرى ذات طابع اقتصادي، وتتفق — إلى حد كبير — مع مصالح الأعيان، فدعت إلى الاهتمام بالتعليم، وعدم قصر الوظائف العامة على فئة معينة من الناس، وتشجيع الصناعة.
وبدأ الأعيان يرغبون عن السياسة، وزادت الهُوَّة التي أوجدتها سياسة الانكماش الاقتصادي اتساعًا بينهم وبين جماهير الفلاحين، فعلى حين عانى الفلاحون من تدهور أسعار الحاصلات الزراعية كانت ضرائب الأطيان تواصل ارتفاعها، مما جعل رِيع أطيانهم لا يكفي لسداد ما عليهم من ديون. كان الأعيان يتشددون في تحصيل الديون التي اقترضها الفلاحون منهم، واتجهوا إلى استثمار أموالهم في الصناعة والنشاط المصرفي فاختلفت بهم وبالفلاحين السبل.
وأخذ الفلاحون يُعيدون تنظيم أنفسهم لمواجهة السلطة والأعيان معًا، فبعد أن كانت انتفاضات الفلاحين بقيادة الأعيان، أصبحت قيادة الانتفاضات بيد عناصر من الفلاحين أنفسهم على نحو ما شهدته بعض جهات الريف في الثمانينيات من القرن التاسع عشر.
قيام الأحزاب السياسية
كان «حزب الأحرار» في طليعة الأحزاب السياسية التي شُكِّلت عقب صدور البيان الإمبراطوري (١٨٨١م)، وانتُخب إيتاجاكي أول رئيس له، وحدد أهدافه بالعمل على إقامة حكم نيابي، وتوسيع نطاق الحريات، وحماية وتدعيم حقوق الشعب، وتحقيق الرخاء والرفاهية له، والعمل على النهوض بالبلاد، وضمان تحقيق المساواة بين اليابان والدول الأخرى، والعمل على تحقيق التقدم الوطني.
وانفصل فرع حزب الأحرار في أوساكا ليكون حزبًا آخر سُمِّي «الحزب الدستوري» ليعبر عن وجهة نظر الجناح المتطرف في حركة المطالبة بالحياة النيابية.
وفي مارس ١٨٨٢م، تكوَّن «حزب الإصلاح» الذي عبر عن المثقفين من أبناء الطبقة الوسطى الذين يميلون إلى الاعتدال من كبار رجال الأعمال والعلماء والشخصيات البارزة من النخبة، وحدد الحزب أهدافه بالحفاظ على مكانة الأسرة الإمبراطورية والعمل على تحقيق الرفاهية للشعب، والنهوض بالإدارة وزيادة قوة الأمة، وإقامة نوع من الإدارة الذاتية في المحافظات تخفف من قبضة الإدارة المركزية، والحفاظ على الحد الأدنى من العلاقات السياسية مع الدول الأجنبية وتقوية العلاقات التجارية بقدر الإمكان، وبذلك لم يعلق «حزب الإصلاح» أهمية كبرى على قضية الدستور والحكم النيابي، فكان أميل إلى الاعتدال من «حزب الأحرار» الذي اتخذ موقفًا متشددًا من السلطة، وركز على اعتبار الشعب مصدر السلطات.
وعندما رأت الحكومة الحماس الذي استُقبل به الحزبان الجديدان، قررت أن تُنشئ حزبًا سياسيًّا يعبر عن وجهة نظر الحكومة ومصالحها، فأسست «الحزب الإمبراطوري» (١٨ مارس ١٨٨٢م) وجاءت قيادته من أقطاب الحكم، وضم في عضويته كبار موظفي الإدارة المركزية والمحافظات والمجالس البلدية، ورجال الدين، والمعلمون المشتغلون بمدارس الحكومة، ورجال الأعمال المتصلون بدوائر الحكم، ورغم محدودية العضوية في «الحزب الإمبراطوري»، تمتع بنفوذ كبير اكتسبه من مساندة الحكومة ورعايتها له، وحدد برنامجه بالتأكيد على تنفيذ قرارات الحكومة الخاصة بإصدار الدستور، وإقامة المجلس النيابي، وتقديم العون للحكومة في تنفيذ سياستها، والرد على الحملة الدعائية التي تشنها المعارضة على الحكومة. وأصدر الحزب — لهذه الغاية — العديد من الصحف التي تكيل المدح للنخبة الحاكمة، وتصد عنها هجوم المعارضة.
وسعى كل حزب لنشر أفكاره السياسية، والعمل على أن يأتي الدستور المرتقب محققًا للحكم النيابي على النحو الذي يراه الحزب، وكان «حزب الأحرار» يرى أن الحكومة لم تُخلَق من أجل حاكم أو من أجل حفنة من الناس، ولكنها خُلِقت من أجل الشعب، وأكد على أن السيادة للشعب وحده، وأن إعداد الدستور وصياغته لا بد أن تتم على يَد مَن يمثلون الشعب تمثيلًا حقيقيًّا، أما «الحزب الإمبراطوري» فكان يرى أن السيادة من حق الإمبراطور وحده؛ لأنه «يملك الأرض والناس»، فإذا رأى أن يمنح الشعب دستورًا، فلا مُعَقِّب لكلمته، وإذا رأى غير ذلك فلا تثريب عليه، ووقف «حزب الإصلاح» بين هذين النقيضَين، فذهب إلى أن المجلس النيابي إنما يمثل الإمبراطور والشعب معًا، وبذلك يمثل سلطة السيادة كما هو الحال في البرلمان الإنجليزي.
وإزاء تعسُّف السلطة مع النشاط الحزبي المعارض، عانى كل من «حزب الأحرار» و«حزب الإصلاح» الضعف في الفترة السابقة على افتتاح المجلس النيابي (الدايت) عام ١٨٩٠م، فعاد «حزب الأحرار» إلى الظهور من جديد بعد أن كان قد جمد نشاطه ولكن النص في الدستور على الملكية كشرط للتمتع بحق الانتخاب قصر عضوية الحزب على المُلاك، كما أصبحت مواقف الحزب — في تلك المرحلة — تتسم بالاعتدال، ومن ثَم أصبح يُعرف باسم «جمعية أصدقاء الحكومة الدستورية» منذ سبتمبر عام ١٩٠٠م، عندما عقد لواء قيادة الحزب لكبار الملاك المزارعين.
وضع الدستور
في ٦ سبتمبر ١٨٧٦م، أصدر الإمبراطور أمرًا بدراسة النظم الدستورية المختلفة، والعمل على وضع مشروع للدستور الياباني، ونتيجة لذلك أنشئ «مكتب دراسة النظم الدستورية» في صورة لجنة منبثقة عن مجلس الشيوخ، وقد بدأ المكتب عمله على الفور.
وفي ٢٢ يوليو ١٨٧٨م، صدر مرسوم إمبراطوري بتنظيم مجالس المحافظات عن طريق الاقتراع، وبذلك وُضِعت قاعدة الحكم النيابي الذي أقيم بعد ذلك باثني عشر عامًا، وبموجب ذلك المرسوم، مُنِح حق الاقتراع لجميع الذكور ممن بلغوا العشرين عامًا على الأقل، بشرط أن يكون الناخب ممن يدفعون ضريبة أطيان لا تقل عن خمسة ينات سنويًّا (وكانت تلك الضريبة تُدفع على ما يقرب من الفدانين)، وأصبح مِن حق مجلس المحافظة أن يقر الموازنة الخاصة بالمحافظة، ويحدد طريقة جباية الضرائب. ثم استُكملت هذه الخطوة التمهيدية لإقامة الحكم النيابي بصدور مرسوم يناير ١٨٨٠م، الخاص بإنشاء مجالس الأحياء والمدن بنفس الطريقة.
وعندما قام جرانت — أحد الرؤساء الأمريكيين السابقين — بزيارة اليابان (يونيو ١٨٧٩م)، حرص الإمبراطور الياباني على استشارته فيما يتعلق بالحكم النيابي، في وقت كانت حركة المطالبة بالحكم النيابي قد بلغت ذروتها، فأشار الرئيس جرانت على الإمبراطور بأنَّ مِن مصلحة بلاده الاعتماد على حكومة ينتخبها الشعب، ومجلس نيابي يراقب الشعب من خلاله عمل الحكومة ولكنه حذر الإمبراطور من عواقب التراجع عن الحكم الدستوري بعد إقراره؛ لأن حرمان الشعب من هذا الحق — بعد منحه له — قد يؤدي إلى كارثة، ومن ثَم وجب على الحكومة اليابانية أن تتوخى الدقة عند إعداد الدستور.
وفي ٦ يوليو ١٨٨١م، قدم رئيس الوزراء إلى «مجلس الشيوخ» تقريرًا طالب فيه بأن يصاغ الدستور الياباني على نسق الدستور الألماني وليس الإنجليزي، وقد تأثَّرت سياسة الحكومة الرامية إلى إقامة مجلس نيابي في ظل نظام دستوري بالأفكار التي طُرِحت بذلك التقرير، نظرًا لما يوفره النموذج الدستوري الألماني من ضمانات للنخبة الحاكمة، ولانطباقه على الإطار السياسي لنظام الحكم في عصر مايجي، ولذلك استُبعدت نهائيًّا فكرة الاستفادة من النظامين الإنجليزي والفرنسي عند صياغة الدستور الياباني.
ولما كانت دراسة النظم الدستورية الغربية تتطلب الوقوف على أسلوب تطبيقها، فقد أوفدت بعثة من الوزراء إلى أوروبا لدراسة تلك النظم على الطبيعة (مارس ١٨٨٢م) وقبل أن تُغادِر البعثة اليابان، وضعت في اعتبارها دراسة النظام الدستوري الألماني.
وعندما وصلت البعثة إلى ألمانيا، استمع أعضاؤها إلى محاضرات من فُقَهاء الدستور هناك، واقتنعت البعثة بالنظام الدستوري الألماني من حيث الأخذ بمبدأ ثنائية السلطة التشريعية (من خلال إقامة مجلسَين نيابيين)، واشتراط نصاب معين من الملكية فيمن يتمتع بحق الاقتراع، مع الاحتفاظ للإمبراطور بسلطات سياسية وعسكرية واقتصادية واسعة، وعدم الميل إلى إقامة حكومات حزبية تجعل من الهيئة السياسية مصدرًا للقوة السياسية.
وعادت البعثة من أوروبا — في صيف ١٨٨٣م — بعد غيبة دامت أكثر من العام، وقد توثقت عرى الصداقة بين إيتو — رئيس البعثة — وبسمارك المستشار الألماني، وأصبح إيتو على يقين تام أن ألمانيا وحدها تستطيع أن تُقدِّم لليابان النموذج الدستوري الملائم لظروفها، ومِن ثَم أصبحت القومية والعسكرية والبيروقراطية الألمانية مثلًا يُحتذَى عند إعادة تنظيم أداة الحكم في اليابان، ووجه إيتو الدعوة إلى العديد من الأساتذة والخبراء الألمان، وأسند إليهم بعض الوظائف في الوزارات المختلفة، وفي مارس ١٨٨٤م، أنشأ مكتبًا لدراسة النظم الإدارية أُسنِدت إليه مهمة إعداد مشروع الدستور ومراجعة اللوائح الخاصة بإدارات الحكومة، ووضع المقترحات الخاصة بإصلاح النظام الإداري، وتولى إيتو رئاسة هذا المكتب، بالإضافة إلى منصبه كوزير للبلاط الإمبراطوري.
وكخطوة أولى في الطريق إلى تنظيم أداة الحكم، وضع إيتو نظامًا يقضي بإقامة «هيئة النبلاء» صدر به مرسوم خاص في ٧ يوليو ١٨٨٤م، جعل هيئة النبلاء اليابانية تحاكي مثيلتها في ألمانيا، فضمت خمس مراتب: أمير، ماركيز، كونت، فسكونت، بارون، ووضع تصنيفًا لرجال الدولة لتسكينهم على تلك المراتب، فأصبحت «هيئة النبلاء» تضم: نبلاء البلاط القدامى، وحكام المقاطعات السابقين، وصغار الساموراي الذين تقلدوا الوظائف الكبرى، وبلغ عدد أفراد الأرستقراطية الجديدة ما يزيد على ٥٠٠ عضو، وتم استبعاد بعض الشخصيات السياسية التي أدت خدمات جليلة للدولة؛ لأنها كانت — عندئذٍ — تتصدر صفوف المعارضة السياسية.
ومِن الجَلي، أن إقامة تلك الهيئة الأرستقراطية كانت مناورةً سياسيةً بارعة، قُصِد بها خلق طبقة جديدة ذات امتيازات خاصة يكفلها القانون لتكون عونًا للحكومة على تطبيق سياستها، بعدما انفض صغار الساموراي من حولها، واشتركوا في قيادة وتوجيه المعارضة السياسية، ووفرت إقامة تلك الأرستقراطية — في نفس الوقت — العضوية اللازمة للمجلس الأعلى، الذي جعل منه الدستور رقيبًا على سلطات وأعمال «المجلس الأدنى» الذي يضم نواب الشعب، وبذلك خرجت الحكومة على مبدأ المساواة بين الطبقات الذي روجت له في بداية العهد، فكان تشكيل هيئة أرستقراطية بمثابة نكسة للحياة السياسية وردة عن طريق تحقيق المساواة بين المواطنين التي تم إقرارها عندما أُلغِي نظام الطبقات الاجتماعية في مطلع العهد.
وخلال عامي ١٨٨٦-١٨٨٧م، واصلت لجنة إعداد مشروع الدستور عملها — بسرية تامة — مستعينة بأحد فُقَهاء القانون الدستوري الألماني هو الدكتور هرمان روسلر، الذي عمل مستشارًا للجنة، التي فرغت من عملها في ربيع ١٨٨٨م، وتم تشكيل مجلس — بطريق التعيين — لبحث مشروع الدستور وإقراره عُرف باسم «المجلس الخاص»، اقتصر عمله على دراسة مشروع الدستور والقوانين الخاصة بالمجلسين النيابيين ومجلس البلاط، ومجلس النبلاء، واختير أعضاء المجلس الخاص من كبار رجال الدولة، ومن طبقة النبلاء الجديدة، وكان بمثابة مجلس استشاري للإمبراطور، عليه أن يقدم المشورة له فيما اتصل بتفسير الدستور والقوانين المتعلقة به، ووضع مشروع التعديلات الدستورية، ووضع نصوص القوانين وتعديلها ومراجعتها، ووضع الخطط الخاصة بالتنظيم الإداري، وصياغة نصوص المراسيم الإمبراطورية الهامة، والفصل في المنازعات المتعلقة بموازنة الدولة وحساباتها، وتولى إيتو رئاسة «المجلس الخاص» الذي أصبح مصدر السلطة الحقيقية في البلاد.
وبدأ المجلس الخاص النظر في مشروع الدستور، وراء أبواب مغلقة داخل القصر الإمبراطوري في سرية تامة، حتى لا يتسرب شيء إلى الصحافة والرأي العام، قد يؤدي إلى قيام موجة من النقد تعوق إنجاز الدستور على النحو الذي تريده الدولة، وحرص الإمبراطور على حضور الجلسات، والمشاركة في مراجعة مشروع الدستور مراجعة دقيقة … وانتهى المجلس من مهمته في يناير ١٨٨٩م، وأعلن صدور الدستور (في ١١ فبراير) في حفل متواضع حضره ممثلو الدول الأجنبية، وكبار رجال الدولة، ورؤساء مجالس المحافظات.
وقد نصَّ الدستور على إقامة هيئة نيابية أطلق عليها «المجلس الإمبراطوري» (الدايت)، تتكون من مجلسين: أحدهما مجلس النواب، والآخر مجلس النبلاء، وركزت السلطة كلها في يد الإمبراطور فكان من حقه إصدار مراسيم بقوانين دون الرجوع إلى الدايت، بشرط أن يحصل على موافقة «المجلس الخاص» عليها (وهو مجلس معين وليس مجلسًا منتخبًا) يُختار أعضاؤه من الموالين للإمبراطور، واحتفظ الإمبراطور لنفسه بحق الاعتراض على قرارات الدايت بمجلسَيه، ولم يكن مِن حق الدايت النظر في المعاهدات التي تُبرَم مع الدول الأجنبية، فقد كان ذلك حقًّا خالصًا للإمبراطور وحده، يقرره بعد استشارة «المجلس الخاص».
وكانت صلاحيات الإمبراطور — وفقًا للدستور — لا تحدها حدود، فهو الذي يدعو الدايت بمجلسَيه إلى الانعقاد، وله أن يحل مجلس النواب متى شاء، وأن يُغَيِّر ويبدِّل في مؤسسات الدولة المختلفة، وله حق تعيين وعزل كبار الموظفين والوزراء الذين كانوا مسئولين أمامه وحده، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة، له حق إعلان الحرب وإبرام الصلح، وإعلان الأحكام العرفية ومنح الألقاب المدنية والرتب العسكرية، وتعيين القضاة وعزلهم مِن مناصبهم، ولا رقيبَ على الإمبراطور في سلطته تلك، وله — إذا شاء — أن يرجع إلى مستشاريه فيما يعنُّ له من أمور، والإمبراطور يمارس السلطات التي كفلها له الدستور — بشخصه — ممارسةً فعلية، ولكنه مارسها من خلال كبار رجال الدولة الذين أداروا دفة الحكم باسمه ومن خلاله.
ورغم إقرار الدستور لمبدأ الفصل بين السلطات تمتع مجلس الوزراء بسلطات فاقت تلك التي كانت للسلطة التشريعية، واختُص «المجلس الخاص» بإقرار دستورية القوانين واللوائح الإدارية، بدلًا من إعطاء ذلك الحق للمحكمة العُليا، وأُقيم «مجلس المحاسبة» الذي نص الدستور على تأسيسه للاضطلاع بعبء مراجعة حسابات الحكومة، (مايو ١٨٨٩م)، ثم أصبح من حقه — بعد ذلك بعشر سنوات — أن يتولى مراقبة تنفيذ الموازنة العامة للدولة.
وهكذا كان الدستور الياباني عصريًّا شكلًا لا موضوعًا، فدعم حكم الأوليجاركيه التي أمسكت بزمام الحكم بيد من حديد منذ مطلع عصر مايجي، وبافتتاح الدايت عام ١٨٩٠م، بدأ الحكم الدستوري في اليابان.
الحياة النيابية
بدأت الحياة النيابية في اليابان بانتخابات الأول من يوليو ١٨٩٠م، وكانت أكثر الانتخابات جدية ونجاحًا مقارنة بالانتخابات التي تمت بعهدها، وكان ذلك يرجع إلى نقص الخبرة عند الحكومة، وخشيتها من الانتقادات التي قد توجهها الدول الغربية إلى أسلوبها في إدارة الانتخابات، كما كان المرشحون والناخبون على درجة كبيرة من تقدير المسئولية، ظنًّا منهم أن إقامة الدايت سوف تؤدي إلى تصفية نفوذ الأوليجاركيه الحاكمة، ووضع حد للاستبداد، وتخفيف أعباء الضرائب.
وبعد أن تم انتخاب أعضاء مجلس النواب (٣٠٠ عضو) شُكِّل «مجلس النبلاء» (المجلس الأعلى) من ٢٥٠ عضوًا من طبقة النبلاء وبعض كبار الموظفين الذين أدوا خدمات جليلة للدولة، وكبار دافعي الضرائب وكان ذلك بالتعيين بمعرفة السلطة.
واستطاعت الأحزاب السياسية أن تنظم معارضة قوية داخل مجلس النواب، حيث حصل «حزب الأحرار» على ١٣٠ مقعدًا، بينما حصل «حزب الإصلاح» على ٤١ مقعدًا، فائتلف الحزبان معًا ليكونا أغلبية داخل المجلس (٥٧٪ من جملة المقاعد)، وخاصةً أن مجلس النواب كان الموقع الوحيد الذي تُمارَس فيه حرية التعبير دون التعرض لمضايقات السلطة، فواجهت الحكومة هجومًا عنيفًا من جانب المعارضة بسبب عجزها عن تعديل المعاهدات غير المتكافئة، وعندما أدركت المعارضة عدم جدوى الضغط على الحكومة في أمر يتعلق بالسياسة الخارجية، اتجهت إلى انتقاد السياسة المالية للحكومة، فطالبت بضغط الإنفاق الحكومي حتى يمكن تخفيف أعباء الضرائب، وأثمرت جهود المعارضة عندما خفضت موازنة الدولة بنسبة تزيد قليلًا عن ١٠٪.
وعندما عارض المجلس برنامج الحكومة الخاص بتدعيم البحرية، وتأسيس مصانع للحديد والصلب، وتأميم السكك الحديدية صدر مرسوم إمبراطوري بحل المجلس في ٢٥ ديسمبر ١٨٩١م، وبذلك أثبت النظام عجزه عن التعايش مع التجربة الدستورية الأولى في تاريخ البلاد.
وجرت انتخابات المجلس الجديد (١٥ فبراير ١٨٩٢م) في جو غلب عليه بطش الشرطة وتدخلها في الانتخابات، وشراء الأصوات مما أدى إلى وقوع مصادمات بين مؤيدي الأحزاب والشرطة أُطلِق خلالها الرصاص على المتظاهرين، وتم إحراق منازل بعض المعارضين، ورغم ذلك كله حصلت المعارضة على ١٥٢ مقعدًا في المجلس الجديد، وأُطلِق على أنصار الحكومة بالمجلس الذين جاءوا نتيجة تدخل الشرطة في الانتخابات لقب «الأطفال غير الشرعيين».
وعندما افتُتح الدايت الجديد (٦ مايو ١٨٩٢م) بادر بإدانة الحكومة لعجزها عن تحقيق الرخاء للبلاد والرفاهية للشعب، واتخذ مجلس النواب قرارًا بسحب الثقة من الحكومة لتدخُّلها في الانتخابات، فقامت الحكومة بتعطيل جلسات المجلس لمدة سبعة أيام بدلًا من تقديم استقالتها كما تقضي بذلك الأعراف الدستورية، وعندما تقدمت الحكومة بمشروع قرار اعتمادات مالية إضافية أنقص المجلس الاعتماد المقترح بمقدار الثلث، فاعترض «مجلس النبلاء» على هذا التخفيض، مما أثار أزمة دستورية حول مدى أحقية مجلس النبلاء في نقض قرارات مجلس النواب، واحتكم النواب إلى الإمبراطور، فأحال الأمر بدوره إلى «المجلس الخاص» الذي أفتى لصالح مجلس النبلاء، مسجلًا بذلك سابقة دستورية كان لها أثرها فيما بعد، وفي موقف آخر احتكم فيه كل من مجلس النواب والحكومة إلى الإمبراطور، عقد الإمبراطور اجتماعًا دعا إليه رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس النبلاء ورئيس مجلس الوزراء وأمر الجميع بتنسيق العمل بينهم من أجل مصلحة الأمة، فسجل بذلك سابقة أخرى هامة قطعت الطريق أمام تحقيق مبدأ المسئولية الوزارية وفرغت الحياة النيابية من مضمونها.
ولذلك كان من السهل على الحكومة أن تحل الدايت (٣٠ يناير ١٨٩٤م) عندما عارض مجلس النواب التشدد في تطبيق قوانين التجمهر، وحظر عقد الاجتماعات العامة، ومصادرة الصحف المعارضة، وإطلاق يد الشرطة للعمل ضد الأحزاب السياسية، وتم حل التنظيمات السياسية.
وأجريت الانتخابات الجديدة (في أول مارس) عندما كانت سحب الحرب الصينية- اليابانية تتجمع ف الأفق، فتشددت الحكومة في إصدار التعليمات إلى المحافظين ورجال الشرطة بعدم التدخل في الانتخابات التي تمت في جو تسوده الحرية، وجاءت نتيجة الانتخابات بزيارة في عدد المقاعد التي فاز بها «حزب الأحرار» وعادت المعارضة قوية كما كانت من قبل، فتعذَّر على الحكومة متابعة العمل في ظل تلك الظروف، فقررت حل الدايت بعد ثلاثة أشهر من انعقاده (٢ يونيو ١٨٩٤م).
وعندما نشبت الحرب مع الصين، نسيت المعارضة خلافاتها مع الحكومة، وأبدت استعدادها التام للتعاون معها، وتمت الانتخابات في هدوء تام (سبتمبر ١٨٩٤م) بعدما اختفت الخلافات بدعوى الحرص على الوحدة الوطنية، وعندما اجتمع المجلس الجديد (١٥ أكتوبر) وافق على مشروعات القوانين التي قدمتها الحكومة دون أدنى اعتراض، بما في ذلك ميزانية الحرب، وكالت الأحزاب السياسية المديح للحكومة لنجاحها في إدارة دفة الحرب، ووقف حزب الأحرار موقف المدافع عن الحكومة عندما هاجمتها أحزاب المعارضة بعد تعديل اتفاقية شيمونوسيكي نتيجة لتدخل الدول الثلاث (على نحو ما رأينا فيما سبق).
وما لبث الصراع أن عاد من جديد بين الحكومات والمعارضة بعدما انقضت الظروف التي دعت إلى الائتلاف، وإذا كانت الحكومة التي وقعت تحت سيطرة أوليجاركيه محدودة ظلت تدير البلاد بنفس الطريقة التي درجت عليها منذ تأسيسها للنظام، ومن ثَم لم تَستطِع استيعاب متطلبات الحكم الدستوري، وضاقت ذرعًا بالأحزاب السياسية، فإن الأحزاب السياسية تعلمت — بدورها — الكثير من صراعها مع الحكومة داخل الدايت، وكان أهم درس أفادت منه تلك الأحزاب ضرورة نبذ الفرقة والإحن وتوحيد الصفوف في جبهة واحدة للتصدي لمحاولات الحكومة الاستبداد بالسلطة، وميلها إلى تفريغ الحياة النيابية من مضمونها، وهكذا أخذت بعض الأحزاب تندمج مع بعضها البعض لتدعيم صفوفها، فظهر «الحزب التقدمي» من اندماج «حزب الإصلاح» مع بعض الأحزاب الأخرى، ثم اندمج «حزب الأحرار مع الحزب التقدمي» ليكونا معًا «الحزب الدستوري» (١٨٩٨م)، لتبدأ بذلك مرحلة جديدة في الحركة السياسية، فتحت الباب أمام تشكيل حكومات حزبية مسئولة أمام الدايت.
لقد بدأت الحياة السياسية — في عصر مايجي — بنضال جماهيري للمطالبة بتقييد السلطة الأوتقراطية بقيود دستورية، وعندما صدر الدستور كان مجرد محاولة للتوفيق بين اتجاه الحكومة إلى تركيز السلطة في يدها ورغبة الجماهير في الحكم الدستوري فغلب الاتجاه الأول على الاتجاه الآخر، وتحول الحكم الدستوري إلى إطار يحوي في جوهرة سلطة أوليجاركيه، فظلت مقاليد الأمور بيد حفنة محدودة من «كبار السياسة» الذين كانوا مجموعة صغيرة من (أهل الثقة)، وقع على عاتقهم بناء النظام ووضع أسس النهضة الحديثة لليابان، ومارسوا السلطة الفعلية في ظل الدستور، فكانوا يحددون الأشخاص الذين يتولون الوزارة من بينهم، كما كانوا يشكلون أعضاء «المجلس الخاص» الذي تمتع بسلطات واسعة كادت أن تكون مطلقة، ورغم أن نفوذهم السياسي بدأ يتقلص بعد غروب شمس عصر مايجي (١٩١٢م)، إلا أنهم ظلوا يوجهون السياسة الداخلية والخارجية للبلاد — بصورة أو بأخرى — حتى عام ١٩٢٢م.
واستمر دستور مايجي ساري المفعول حتى هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية، ولعل السبب في استمرار العمل بذلك الدستور يرجع إلى شعور الرأسمالية اليابانية — التي شبت عن الطوق وبلغت المرحلة الإمبريالية في زمن قياسي — بالحاجة إلى سلطة مركزية قوية ترعى مصالحها، وتفتح أمامها آفاق الاستثمار داخل البلاد وخارجها، أكثر من حاجتها إلى طبقة معينة تعبر عن مصالحها، وتعمل على تنميتها ورعايتها من خلال المؤسسات النيابية الدستورية، ومن ثَم كانت تلك الظاهرة التي كادت تنفرد بها اليابان، ونعني بها ظاهرة الوفاق التام بين رجال السياسة ورجال المال، والتي ما زالت تحدد إطار الحياة السياسية في اليابان حتى اليوم.
غير أن الحياة السياسية في عصر مايجي — بإيجابياتها وسلبياتها — هيأت المناخ الملائم لنمو الأفكار الجديدة التي عكست التأثر بالثقافة الغربية، ومحاولة أجيال ذلك العصر تمثل تلك الثقافة في إطار ياباني، طُوعت فيه تلك الأفكار لحاجات المجتمع الياباني، ومن ثَم طُبِعت الحياة الفكرية في ذلك العصر بطابع خاص.