عرض مشكلة الترانسندنس
(١) تحديد أولي لمعنى الترانسندنس
فكرة العلو (الترانسندنس) في اللغة الفلسفية الشائعة فكرة متعددة المعاني، يحوطها الغموض الشديد في أكثر الأحوال؛ ولهذا يتعين علينا في البداية أن نحددها تحديدًا واضحًا دقيقًا؛ لكي نسترشد به فيما سنقدمه لها من شرح أو تفسير.
هذا ما سيقوله الفهم العام أو العقل السليم، ومن واجبنا ألا نستهين بأمثال هذه الاعتراضات أو نأخذها مأخذًا سهلًا، ولا بد أن ندخل في حوار معها؛ لأن العقل السليم يعاند العلو ويقف منه — كما أسلفنا — موقف الرفض أو عدم الاكتراث. ثم إن المشكلة لا ترجع للعقل السليم وحده؛ بل ترجع كذلك للعلو نفسه؛ لأن من طبيعته أن يفلت منا وينزلق بعيدًا عنا.
على أن هذه الاعتراضات توضح جانبًا آخر من المشكلة، فلا يكفي أن نفهم التعريف السابق للعلو فهمًا شكليًّا أو صوريًّا؛ لأن مهمتنا لن تقف عند هذا الحد، بل لعلها أن تبدأ منه.
علينا إذن أن نفلسف هذا التعريف، ونرتفع به من مستوى الفهم العام إلى مستوى الفكر الفلسفي. وهنا ترتفع الكلمات وتتحول ذلك التحولَ الذي أشرنا إليه من قبل؛ فكلمة «الكل» المستخدمة في لغة الكلام العادي غيرُ كلمة «الكل» في لغة الفلسفة، وكلمة «العدم» على لسان الفيلسوف غيرُها على لسان رجل الشارع، وليس حتمًا أن يؤدي العلو فوق كل شيء على وجه الإطلاق إلى العدم، وحتى لو حدث هذا، فليس حتمًا أن يكون هذا العدم عدمًا أو لا شيء بالمعنى السلبي السيئ.
لو مضينا في المناقشة على هذا النحو، فسنظل محصورين في نطاق التصور العادي المألوف، مقيدين بالمعنى الظاهر من الكلمة، ولن يمكننا عندئذٍ أن ندرك خطورة المشكلة التي وضعناها، أو بالأحرى: وضعتنا. ولهذا يتعين علينا الآن أن نُنعِمَ النظر فيها عن كثب.
(٢) أبعاد مشكلة العلو
علينا الآن أن نبين أبعاد المشكلة وحجمها ومداها، وهذه ضرورة تَفرضها علينا ظروفُ العصر الذي يتلاشى فيه الإحساسُ بالعلو؛ بحيث تضاءل كل شيء ولا يزال يتضاءل يومًا بعد، على الرغم من ضخامة الإنجازات التكنولوجية في كل مجال. لنناقش المشكلة إذن ولنمحص معًا خطوةً خطوة:
مشكلة العلو أكثر المشكلات شمولًا وإحاطة؛ لأن العلو فوق كل شيء على وجه الإطلاق معناه الإحاطة بما علونا فوقه، وهل هناك ما هو أشمل وأكثر إحاطةً من كل شيء؟
والعلو فوق كل شيء على الإطلاق معناه كذلك العلو فوق كل المشكلات على وجه الإجمال؛ ولهذا فليست مشكلة العلو هي أشمل المشكلات؛ لأن موضوعها هو أشمل الموضوعات فحسب، بل لأنها تعلو فوق كل المشكلات الأخرى وتتجاوزها.
ولكن مشكلة العلو نفسها مشكلة، ولهذا فهي تنتمي لكل شيء على الإطلاق، ولا بد — بالتالي — أن تعلو فوق نفسها وتتجاوز نفسها، أفليس في هذا تناقض وسخف؟ هل يمكن أن تلغي المشكلةُ نفسَها بنفسها؟
ولكن السؤال الآن ليس عن إلغاء مشكلة العلو أو رفعها لنفسها، بل عن علاقتها بغيرها من المشكلات، ولا بد أن نقول إنها تتفوق على كل المشكلات، ما دام العلو بحسب التعريف السابق هو العلو فوق كل شيء على الإطلاق، وهذا يُفضي بنا إلى ملاحظة أخرى أساسية.
إن مشكلة العلو لا يمكن أن تكون مشكلة من نوع المشكلات الأخرى. وهنا نلمح طرفًا مما سنتحدث عنه بعدُ عن تفردها وتميزها عن غيرها.
مشكلة العلو هي أعمق المشكلات؛ لأن ما يعلو فوق كل شيء على الإطلاق لا بد أن يكون متقدمًا عليه سابقًا له؛ أي: لا بد أن يكون أعمق من كل شيء … والواقع أن العمق لا وجود له، ولا يمكن أن يوجد بغير العلو، فمِن غيره تصبح الأشياء والأحداث والعالم كله سطحيًّا ضحلًا.
ونود أن نوضح هذا بمثل مأخوذ عن نيتشه. إن نيتشه يغنِّي على لسان زرادشت «أغنيته السكرى» بعد أن جعل بطله يواجه عودة الشبيه الأبدية، ويرى كل هولها ورهبتها:
والبيت الأخير — ولولاه لكان البيت الأول تافهًا عاديًّا — يشير إلى العلو فوق كل شيء؛ أي: فوق كل شيء يستضيء بنور النهار، فوق كل موجود محدد أو ذي شكل، وباختصارٍ فوق كل شيء على الإطلاق. فالعالم عميق لأنه يصل إلى أعمقِ مما تصور النهار.
لا عمق بغير علو، العالَمُ الذي خلا من العلو عالمٌ ضحل، بل إننا نسبق الحوادث قليلًا فنقول: بغير العلو لا يكون ثمة عالَم على الإطلاق؛ لا عميق ولا سطحي. وقول نيتشه إن العالم أعمق مما تصور النهار أو فكر؛ لا يُفهم بهذا المعنى فحسب، بل ينبغي — جريًا على التراث الأفلاطوني الذي يربط الفكر بالنور والشكل — أن يكون أعمق من كل فكر ومن كل ما يمكن أن يتصوره الفكر. فالبيت السابق إذن يشير إلى العلو على الفكر نفسه؛ أي: إلى العلو على أفق الفكر الماهوي أو المعرفة العقلية بالماهيات بأكملها.
الواقع أن كلمة «الترانسندنس» لم ترِد في كتابات نيتشه على الإطلاق، غير أن المسألة هنا ليست مسألة كلمة بذاتها، كما أن الأمر في الفلسفة بوجه عام لا يتوقف على مصطلح بعينه، وإن كان هذا لا يمنع أن نحاسب الفيلسوف حسابًا دقيقًا على كل كلمة يقولها! أضف إلى هذا أن «الترانسندنس»، أو العلو، وإن لم يعد له حضور مباشر فيما كتب نيتشه — باستثناء مواضع قليلة كالأغنية السكرى التي ذكرناها منذ قليل — فهو مع ذلك موجود على نحو آخر يمكن أن نصفه بأنه علو أو «ترانسندنس سلبي». ومعنى هذا أن نيتشه لا يزال على وعي بالعلو، ولكنه يعتقد أنه لم يعُد في وُسعه أن يصل إليه، أو بالأحرى: لم يعُد يعتقد فيه. إن العلو يحدد تفكير نيتشه تحديدًا تامًّا، ولكنه يحدده على نحو يكشف عن حرمانه منه، وعذابه الذي يقاسيه لعجزه عن الاتصال به أو القدرة على هذا الاتصال. وعظمة نيتشه تتجلى في أمانته وصدقه وشجاعته في السير على هذا الطريق إلى آخر المدى، وتحرُّره من كل وهم أو عزاء.
ولا يمكن أن نفهم فكرة العود الأبدي التي تتوِّج فلسفته كلها بسرٍّ محير عميق إلا من هذه الناحية؛ أعني من خلال العلو أو الترانسندنس السلبي، أو — إن سمح القارئ بهذا التعبير — من خلال محاولته اليائسة المتطرفة للوصول إلى علو بلا علو، أو ترانسندنس بلا ترانسندنس. وبغير هذا تصبح فكرة العود الأبدي نوعًا من اللهو أو العبث السخيف.
تلك كلمات سريعة عن نيتشه لا يسمح المقام بالإفاضة فيها، ولكننا سنضطر دائمًا للحديث عن نيتشه؛ لأنه آخر الفلاسفة الكبار في العصر الحديث الذين تحتل مشكلة العلو مركز تفكيرهم، وإن لم يسمِّها بهذا الاسم كما أسلفنا القول. وكل ما سوف نذكره عن نيتشه سينصرف بوجه خاص إلى كتابه زرادشت.
مشكلة العلو هي المشكلة الأخيرة؛ ذلك لأن من يعلو فوق كل شيء على الإطلاق، يبلغ آخر الأشياء أو يقترب مما لا يمكن العلو فوقه بعد ذلك. وهي كذلك المشكلة الأخيرة؛ لأنها تتخطى سائر المشكلات، ولا تقدر مشكلة أخرى على تخطيها، ومن ذا الذي يمكنه أن يلحق بمن ارتفع فوق كل شيء وتجاوز كل شيء؟! من ذا الذي يمكنه أن يعلو فوقه؟!
ومشكلة العلو من ناحية أخرى هي المشكلة الأولى؛ لأن من يعلو فوق كل شيء، لا بد أن يصل إلى ما يتقدمُ كلَّ شيء؛ أي: إلى أولها جميعًا.
مشكلة العلو هي أخطر المشكلات، وهي أخطرها من وجوه مختلفة ومن كل الوجوه؛ لأن مَن يعلو علوًّا حقيقيًّا على كل شيء، لا يقف بعدُ بقدميه ولا بقدم واحدة على أرض العالم. إن عليه أن يكون مستعدًّا لضياع الأرض من تحت قدميه، لا لكي يحلِّق في السحاب — كما سخر أرسطوفانيس من سقراط في مسرحية الظالمة عنه — بل لكي يكتسب أرضًا جديدةً أثبت وأقوى من كل أرض. ولكن هناك هُوَّةٌ سحيقة بين هذه الأرض وتلك الأرض، هوَّةٌ لا يمكن عبورها. وعلى من يقوم بالعلو من الواحدة إلى الأخرى أن تكون لديه الشجاعة للتأرجح لحظاتٍ في الفراغ.
من يعلو فوق كل شيء على الإطلاق، لن يجد شيئًا يستند إليه أو يتشبث به؛ فهو قد ترك كل شيء وراءه أو تحته. ولهذا يبدو خطر السقوط هنا أشدَّ، والسقوط نفسه أسوأ مما قد يحدث في أي مكان آخر؛ فبقدر ما يرتفع الإنسان إلى الأعالي، بقدر ما يسقط إلى الأعماق. ومن ارتفع فوق كل شيء، كان ارتفاعه أقصى ارتفاع، وكانت سقطته كذلك إلى هاوية بلا قرار — لا إلى المكان الذي بدأ منه ارتفاعه، بل إلى ما هو أعمقُ وأشد عمقًا. فلا يمكن مثلًا أن يهبط الإنسان إلى المستوى الحيواني بعد أن تجاوزه، ولكن في إمكانه أن يهبط إلى مستوًى أعمقَ وأدنى من مستوى الحيوان؛ أعني: إلى حيث لا يكون ثمة مستوًى على الإطلاق!
مشكلة العلو هي المشكلة الوجودية على الأصالة، ونحن نفهم من الوجود هنا ما فهمه كيركجارد عندما جدد هذه الفكرة وأضاءها بلهب الجدل العاطفي.
ولا نقصد من هذا كله أنها مشكلة نظرية أو مسألة تأملية فحسب، تعرِض نفسها على الإنسان بمجرد أن يبدأ في التفكير في نفسه وتأمُّل وجوده، بل نقصد أنها أعظم وأصعب وأول مهمة تواجهه عندما تصدُق عزيمته على تحقيق وجوده الخاص، أو هي بالأحرى أعظم وأصعب وأول مهمة يواجه بها تحقيق وجوده. بهذا المفهوم تصبح هي المشكلة الوجودية الأصيلة، أو المهمة والواجب الوجودي الأصيل.
مشكلة العلو هي أعظم المشكلات وأكبرها، فقد تبيَّن من كل الجوانب والزوايا التي ناقشناها؛ منها أنها تسمو على سائر المشكلات، فهي أشملها، وأعمقها، وأعلاها، وأولها، وآخرها، وأخطرها، وآصَلُها من ناحية الوجود. ومن السهل أن نَزيد من هذه الصفات مستخدمين صيغة أفعل التفضيل. فهي كذلك أشد المشكلات تجريدًا؛ لأن العلو فوق كل شيء معناه صرفُ النظر عن كل شيء؛ أي: التجريد من كل شيء، ولكنها من ناحية أخرى أشد المشكلات تعيُّنًا وواقعية؛ لأن هذا العلو — إذا تم على النحو الذي ينبغي أن يتم به — يجب أن يحققه الإنسان بكل قواه، لا بعقله وحده، وهي بعد ذلك أبعد المشكلات وأدناها، ثم إنها أكثر المشكلات حظًّا من التأمل والنظر … وهكذا يمكن أن نزيد من صيغ المبالغة … على أننا يجب أن نتنبه إلى أن عِظم المشكلة لا يقتصر في الحقيقة على المعنى الكمي ولا على المبالغة والمفاضلة، بل إن عِظم مشكلة العلو سيُلزمنا — كما سنرى بعد قليل — برفض صيغ المبالغة التي ذكرناها والاعتراض عليها جميعًا.
وعندما قال نيتشه في شبابه: «كل شيء يتوقف على تعليم العظمة تعليمًا صحيحًا.» «إن التربية تقوم على هذا الأساس؛ هذا هو المقياس الذي نقيس به عصرنا.» وكل هذه الأقوال تذكر العظمة دون أن تقصد من ورائها المعنى الكمي.
تحدثنا من قبلُ عن تلاشي العلو من عصرنا، والحقيقة أننا نستطيع أن نَقيسه بتلاشي العظمة والإحساس بالعظمة في هذا العصر الذي أصبح يتعبد كل ما هو ضخم وهائل، ويؤكد بذلك فِقدان الإحساس بالعظمة الحقيقية.
(٣) تفرد مشكلة العلو
تحدثنا في السطور السابقة عن عظمة مشكلة العلو، وبينَّا بصيغ المبالغة والتفضيل المختلفة أنها تسمو على سائر المشكلات، ولكننا لا نستطيع أن نقف عند هذا الحد؛ لأن الموضوع نفسه يُلزمنا بالسير خطوةً أخرى أبعد من الخطوات التي قطعناها؛ لنرى أن المجال الذي تضعنا فيه المشكلة مختلفٌ تمامَ الاختلاف عن مجال الأشياء المألوفة في خبرتنا اليومية.
لا بد لنا الآن، بعد أن رأينا أن الصيغ السابقة تصدق على مشكلة العلو، بل تصدق عليها هي وحدها صدقًا مطلقًا (وهو أمر كان يحتاج منا إلى مِران أطولَ وجهد فكري أشقَّ من الجهد الذي نلجأ إليه مضطرين في هذا المجال). أقول: لا بد لنا الآن أن نرد هذه الصيغ جميعها ونرفضها ونتخلى عنها. ولا بد أن نخطوَ إلى أبعد من ذلك، ونقول: إن مشكلة العلو ليست هي أشملَ المشكلات وأعمقها وأسماها، وليست أولاها وآخرَها، وليست هي أخطرها ولا أعظمها ولا أشدَّها وجوديةً على الأصالة.
لا يعني هذا كله — بطبيعة الحال — أن هناك مشكلةً أخرى تفوقها وتسمو عليها؛ لأننا قد أوضحنا من قبل — ونرجو أن يظل هذا واضحًا في كل ما سنقوله فيما بعد — أنه ليس هناك ما هو أشمل وأعظم، ولا يمكن أن يكون هناك ما هو أخطر أو أصعب من العلو فوق كل شيء على وجه الإطلاق. ويترتب على هذا أنه لا يمكن أن تكون هناك مشكلة أخرى أشملُ أو أعظم أو أخطر أو أصعب منها. والمعنى الذي نقصده من رد الصيغ السابقة هو أن مشكلة العلو ليست شيئًا من هذه الصيغ كلها؛ لأنها مشكلة فريدة في نوعها. فلو قلنا إن مشكلة العلو هي أشمل وأعظم وأعمق المشكلات، فلا بد أن يُفترض هذا سلفًا، أو لا بد أن يتضمن في نفس الوقت القول بأنها مشكلة يمكن أن تقارَن بغيرها من المشكلات. والواقع الذي تقرره طبيعة المشكلة نفسها هو أنه لا سبيل إلى مقارنتها بغيرها من المشكلات، وليس هناك مستوًى للمقارنة يجمع بينها وبين غيرها؛ بحيث يمكن أن تقاس بها؛ لأن لها مستواها الخاصَّ أو مجالها المتفرد؛ ومن ثم فلا سبيل إلى مقارنتها بغيرها. إنها لَتبلغُ من الشمول والعظمة والعمق حدًّا يجعل المبالغة في هذه الصفات غير كافية للتعبير عن شمولها وعظمتها وعمقها.
وهذا أول مَثل على التجربة الفريدة التي سنمر بها كلما نجحنا في مواجهة مشكلة العلو، أو بالأحرى كلما أمكننا أن نضع أنفسنا في مواجهتها. وأعني بها أن المبالغة في أية قضية أو عبارة تُلزمنا في النهاية بردِّها والتخلي عنها. ويمكن أن نعبر عن هذا بقولنا: لما كانت مشكلة العلو هي أشمل المشكلات وأعظمها وأعمقها، فلا يمكننا أن نقف عند هذه الأوصاف، ولا بد لنا من القول بأنها ليست شيئًا من هذا كله.
و«اللَّيسَ» التي أشرنا إليها — أي: نفي صيغ التفضيل والمبالغة — لا تردَّنا إلى الموضع القديم المألوف الذي بدأنا منه؛ حيث كان هناك مجال للأقل والأكثر والمقارنة، بل تنقلنا إلى مجال جديد يتميز بتفرد ما سنلقاه فيه.
إن مشكلة العلو مشكلة فريدة ويمكننا أن نوضح هذا بالتأمل فيه قليلًا، فلو لم تكن مشكلة فريدة، لكانت مشكلة من بين مشكلات عديدة، مهما يكن حظُّها من التميز أو الامتياز، ولوجدنا — مثلًا — مشكلة التفاهم بين الشعوب، أو مشكلة التوازن الاجتماعي، أو تضخم عدد السكان، أو التسلح الذري، أو مشكلة الجنس أو التمييز العنصري؛ إلى جانب مشكلة العلو. ولكننا نحس من هذا الكلام أن القضية لا يمكن أن تمضي بنا على هذا النحو؛ لأننا لو فكرنا بهذه الطريقة وتناولنا المشكلة مع مجموعة أخرى من المشكلات، لَمَا كانت بالمشكلة التي نأخذها مأخذ الجد، أو التي تضعنا أمامها بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة. وقد يمكن في هذه الحالة أن يهتم امرؤ بهذه المشكلة ويهتم امرؤ آخر بسواها. صحيح أننا نسمع من يقول إنه يهتم بالفلسفة. ولكن من الواضح أن الإنسان لا يمكنه أن يهتم بالفلسفة أو لا يهتم بها؛ لأن أقصى ما يمكن أن يهتم به هو مظهرها الخارجي أو جانبها الأدبي أو التاريخي، الذي تطويه صفحات الكتب. إن الفلسفة إما أن تستولي على الإنسان وتتملكه وتأخذه أخدًا، أو لا تكون فلسفة على الإطلاق؛ أي: لا تكون فلسفة بمعناها الجوهري الحق الذي يحدده العلو.
يمكننا أن نعبر عن تفرد مشكلة العلو بقولنا إنها هي المشكلة (أي: مع تأكيد أداة التعريف).
خذ — مثلًا — هذه القضية التي تدل على تحصيل الحاصل: «كل الجبال الذهبية ذهبية.» فهي عبارة صادقة حقًّا، ولكنها لا تفيدنا شيئًا عن وجود أو عدم وجود جبال ذهبية في الواقع الخارجي، ويمكن أن نجمل الكلام السابق بقولنا إن تحصيل الحاصل صادق حقًّا، ولكنه فارغ.
ولكن إذا كان تحصيل الحاصل فارغًا، فليس معنى هذا أنه خالٍ من المعنى.
ففي هذه العبارة مجموعة من قضايا تحصيل الحاصل، وهي على التحديد ثلاث قضايا تعُد الثانية منها مجرد تَكرار للأولى.
أو لنعُدْ بالذاكرة إلى ليبنتز الذي اعتقد بأن في الإمكان ردَّ جميع المعارف في آخر الأمر إلى عبارات أو قضايا على صورة مبدأ الهوية (أ هي أ)؛ وذلك إذا استطعنا أن نمضي بالتحليل إلى غايته.
وأخيرًا فلنفكر في العبارات التي وضع بها فيشته في كتابه «نظرية العلم» (وكان يقصد به الفلسفة) أسسَ المثالية الألمانية.
لقد كانت الفلسفة منذ بداية أمرها — وستبقى على الدوام — في صراع مع ما يسمى بالفهم العام المشترك أو العقل السليم أو الحس السليم. ولا شك في أن أمثال القضايا التي ذكرناها على صورة تحصيل الحاصل تسبِّب للفهم العام أو للعقل السليم ضيقًا لا مزيد عليه. ولا مناص من هذا الضيق ما بقي الفهم العام متمسكًا بطبيعته مقيَّدًا بحدود نفسه، عازفًا عن الخروج من هذه القيود؛ لأن قضايا تحصيل الحاصل ستظل في نظره قضايا فارغةً لا تقول شيئًا.
ولكن إذا كانت أمثال هذه القضايا التي يزرى بها الفهم العام أو العقل السليم؛ تَرِد في مواضع بارزة من الفكر الفلسفي؛ فليس هذا من وحي الصدفة، ولا هو ولع خاص باللعب بالألفاظ، وإنما يرجع إلى أن الموضوع الذي يتناوله لا يمكن التفكير فيه ولا التعبير عنه تعبيرًا أنسب من هذا التعبير. فإذا صح أن الموضوع الأساسي في الفلسفة هو العلو (الترانسندنس) — وهذا هو الذي نريد أن نؤكده على هذه الصفحات — فمن الصحيح أيضًا أن يزداد عدد قضايا تحصيل الحاصل التي يصطدم بها الفكر، أو يضطر إلى اللجوء إليها كلما ازداد حظه من التفلسف. وإذا كنا قد وصلنا في هذا العرض الأولي لمشكلة العلو إلى صيغة من نوع تحصيل الحاصل — وهي الصيغة التي عبرنا عنها بقولنا إن مشكلة العلو هي المشكلة — فلا يعني هذا بحال من الأحوال أن تفكيرنا قد انساق بنا إلى فراغ، وإنما يعني أننا نسير على الطريق الصحيح.
ومع ذلك فلا يمكننا أن نقف أو نستريح عند هذه العبارة التي تقول إن مشكلة العلو هي المشكلة، بل لا بد من المضي خطوةً أخرى أبعدَ منها فنردُّ هذه العبارة نفسَها ونُبطلها.
(٤) شمول مشكلة العلو
لو فكرنا إذن في هذه العبارة وأطلنا التفكير، لوجدنا أن كلمة «مشكلة» سيسري عليها ما يسري على الكلمات حين تدخل في لغة الفلسفة فتتحول وترتفع؛ بحيث يصبح معنى «المشكلة» في بداية العبارة ونهايتها واحدًا، ولكنه لا يدل على الشيء نفسه، وسيأتي هذا التحول من آخر العبارة، فإذا كانت مشكلة العلو هي المشكلة، فمعنى هذا — كما أسلفنا — أنه لا توجد مشكلات أخرى بجانبها، وأنها لا يمكن أن تقارَن بهذه المشكلات. ومعناه مرةً أخرى وبتعبير أدق: أنه لا يمكن وصفها بأنها مشكلة؛ لأن مجرد الحديث عنها كشيء من الأشياء يُدخلها في مجال المقارنة بغيرها. وإذن فكلمة المشكلة في عبارة تحصيل الحاصل؛ تتحول بحيث لا تعود تسمي شيئًا أو تصفه وصفًا مباشرًا، وإنما تشير إلى ما يستعصي على التعبير ويفلت منه. فإذا فهمنا المشكلة بالمعنى المتفق عليه في لغة التخاطب المألوفة، وجب علينا الآن أن نقول إنه لا توجد في الحقيقة مشكلة للعلو؛ أي: إن مشكلة العلو تختفي؛ بمعنى أننا لا نستطيع أن نتناولها بصورة واضحة كمشكلة، ولكنها تعود بعد أن تحولت إلى صورة أخرى؛ أعني أنها هي التي «تتناولنا» — إن صحت هذه الكلمة — بحيث لا يمكننا أن نبتعد عنها؛ كأن نقف منها موقف الاهتمام أو عدم الاهتمام مثلًا؛ لأنها عندئذٍ ستتغلغل فينا وتستولي علينا.
لقد فقدت القدرة على التعبير عنها تعبيرًا مباشرًا، ولكنها من ناحية أخرى قد صارت شيئًا يتملكنا ويتحكم في كل عرق ينبض فينا ويسري في كياننا. وإذا حدث هذا فقد تم التحول الذي تحدثنا عنه على الصفحات السابقة؛ بحيث يمكننا أن نقول: لسنا نحن الذين نضع مشكلة العلو، بل هي التي تضعنا.
ولكن كيف تضعنا مشكلة العلو؟ تضعنا بحيث تصبح على الدوام مطلبًا حاضرًا أمامنا، وواجبنا يفرض علينا القيام به. ولكن من طبيعتنا المتناهية المحدودة بحدود هذا العالم ألا نستطيع الوفاء بهذا المطلب إلا في لحظات قليلة نادرة. صحيح أنه يلح علينا إلحاحًا متصلًا، ولكننا لا نملك الاستجابة له، ولا نقوى على لمسه أو الإحساس بجلاله غير المحدود إلا في لحظات نادرة. ومهما تصورنا هذا الجلال مستعينين بالعمليات العقلية المختلفة، ومهما تمثلنا عظمته ومداه، فإننا مع ذلك نضعه على مستوًى واحد مع غيره من المشكلات التي تؤرقنا وتلح علينا. وتصورنا أن مشكلة العلو على نفس مستوى المشكلات الحيوية الأخرى هو في حقيقته وهم قد نعرفه، ولكننا لا نقدر على التخلص منه إلا في أحيان قليلة. ومرجع هذا إلى أن المشكلة تتملكنا وتستولي علينا إلى غير حد، ولكننا كذلك كائنات محدودة، ولا يسَعُنا أن نواجهها إلا في لحظات قليلة نادرة. وليس في إمكاننا أن نستحضر هذه اللحظات كيفما أردنا أو كيفما شاء لنا الهوى. فمشكلة العلو بمعناها الحق لا «تضعنا» إلا حين تُفاجئنا. وإلا فنحن في العادة نتهرب منها ونتحاشاها، وواجبنا إذن هو أن نهيئ أنفسنا لمفاجآتها.
كيف يتم هذا؟
إكهارت (المعروف بالميستر إكهارت): وُلد حوالي ١٢٦٠م في هوخهايم بالقرب من مدينة جوتا، ومات حوالي سنة ١٣٢٨م في مدينة كولونيا قبل محاكمته بقليل. أعظم المفكرين المتصوفين في العصور الوسطى المسيحية، وأكثر المتصوفين الألمان بغير نزاع. قام بالتدريس في باريس وشتراسبورج قبل أن يستقر في كولونيا — بعد اتحاد النفس بالله. تجربته الدينية الكبرى التي عاشها تجربة شخصية حية، وعبَّر عنها تعبيرًا جدليًّا نادرًا يمتاز بجسارته وعمقه وغموضه، واعتماده على أسلوب المفارقة النابع من عاطفة جياشة بالإيمان والأمانة، الغني بالصور والاستعارات والاصطلاحات الجديدة. ويجمع إكهارت بين العاطفة الصوفية الأصيلة التي تأثر فيها بالتراث الروحي الذي يرجع للقديس أوغسطين والأفلاطونية المحدثة، وبين الفكر المدرسي للدومينيكان الكبار من أمثال ألبير الأكبر وتوماس الأكويني. ولهذا كان إكهارت مفكرًا ومتصوفًا وواعظًا، سيطرت عليه تجربة واحدة عاشها وعبَّر عنها في عظاته الألمانية (التي دوَّنها المستمعون المتحمسون)، وكتاباته اللاتينية وشروحه لبعض أسفار الكتاب المقدس.
يُلح إكهارت في كل عظاته على فكرة «التخلي» عن العالم وكل ما يمُتُّ له بسبب؛ لكي تتعرى «الشرارة» الآلهية؛ أي: الروح الإنسانية، وترجع إلى مبدئها وأصلها الذي خرجت منه، ولا بد أن تتحد به؛ لأن ماهيتهما في الحقيقة واحدة. في حالة «التخلي» هذه يتخلى الإنسان كذلك عن نفسه، فلا يعود يعرف أو يريد أو يفعل إلا بالله وفي الله، وبهذا يتحد مع كل ما هو كائن، ويتحد مع الحقيقة الأبدية؛ أي: مع الله. وهذا يتطلب منه الجهد والصبر والتعب الذي لا بد للإنسان أن يحققه ويكابده؛ لكي تتحد النفس بمبدئها، ولكي «يولد» الله فيها ويحيا، وتولد هي أيضًا فيه. هذا؛ وقد سعى الفرنسيسكان لدى البابا يوحنا الثاني والعشرين لإدانة إكهارت في ثمانٍ وعشرين عبارةً اتُّهم فيها بالزيغ عن العقيدة، وتقرر محاكمته في سنة ١٣٢٦م بتهمة الزندقة، وسافر في سنة ١٣٢٧م إلى مدينة آفينيون للدفاع عن نفسه، ثم صدر الحكم بإدانته في السابع والعشرين من شهر مارس ١٣٢٩م؛ أي: بعد حوالي سنة من وفاته. ولكن هذا القرار البابوي لم يقلل من تأثيره الهائل على المتدينين والمؤمنين المتحمسين له. وقد تأثر به تلميذاه تاولر ووزيزه وروَّجا تعاليمه؛ كما تأثر به عدد كبير من المتصوفة والمفكرين؛ من نيقولاوس الكوزاني إلى يعقوب بومة والشاعر أنجيلوس سيلزبوس وفرانزفون بادر وهيدجر.