مناقشة عامة لمشكلة العلو
ننتقل الآن إلى المناقشة المنهجية لفكرة العلو أو (الترانسندنس). وسنهتدي في هذا بالتعريف الذي قدمناه على الصفحات السابقة؛ العلو هو العلو فوق كل شيء على الإطلاق. ومهمتنا الآن هي الانتقال من الفَهم المنطقي والصوري لهذا التعريف إلى الفهم الفلسفي له؛ من مفهوم العلو إلى فكر العلو. ولا يمكن أن يتم هذا فجأةً أو دفعة واحدة، بل لا بد أن يتم بالتدريج خطوةً خطوة، ومستوًى بعد مستوى، وإن كانت المعرفة الحقيقية به تتكشف فجأة لمن يصل إليها، ولكن لا يتحتم أن يكون هذا التكشف مبهرًا ولا مثيرًا، بل قد يحدث ألا يفطن الإنسان إلى أنه قد «فهم» إلا بعد ذلك بوقت طويل. بيد أن هذا الفهم يحتاج في كل الأحوال إلى التمرس والصبر، لا من الفكر وحده، بل من الإنسان بأكمله.
(١) مناقشة حول مصطلح الترانسندنس (العلو)
نبدأ بالشرح اللغوي لكلمة الترانسندنس وما يقابلها بالألمانية، وليس هذا من قبيل التزيد ولا التحذلق؛ لأننا سنتبين بعد قليل أن هذا الشرح سيُفضي بنا إلى الموضوع نفسه، وسيكشف لنا عن جوانبه المختلفة ومصاعبه العديدة.
الترانسندنس اليوم تصور فلسفي يحيط به الغموض إلى حد كبير، ولا يتجلى الاختفاء العام للترانسندنس من الوجدان الحديث في كثرة استعمال الكلمة والشغف بترديدها، حتى لَتوشِكُ على أقلام الكثيرين أن تكون تتويجًا لشروحهم ومباحثهم الفلسفية والأديبة. ولكنه يتجلى بوجه خاص في إهمال الكُتَّاب أن يحددوها تحديدًا واضحًا، وهو الأمر الذي تفرضه أهمية الموضوع وخطره، وعدم تفرقتهم في معظم الأحيان تفرقةً كافية بين المعاني اللغوية المختلفة التي توحي بها الكلمة، التي قد تبلغ في اختلافها حدًّا كبيرًا. ويسري هذا أيضًا على قواعد بناء الكلمة نفسها.
ننتهي من هذه التأملات اللغوية البسيطة — وما كانت التأملات اللغوية لِتقفَ أبدًا عند حدود اللغة — إلى بعض الحقائق التي نرجو أن تساعدنا على تحديد فكرة الترانسندنس، وتَهدينا في نفس الوقت إلى المعاني الفلسفية التي تنطوي عليها.
والحركة الرأسية تشير إلى بُعد المكان والعمق، وهذا وحده يكشف عن العلاقة المتميزة بين العلو والمكان، وهي علاقة ستتضح أهميتها في الفصول الآتية، عندما نتبين أن فكرة العلو (الترانسندنس) تسترشد بالصور المكانية لا بالصور الزمانية. أما الحركة الأفقية فهي — على العكس من الرأسية — حركة مسطحة بطبيعتها. صحيح أنها تغطي البعد أو «تمسحه»، ولكنها لا تستطيع أبدًا أن تتجاوزه. وبهذا المعنى يكون كل تقابل وتضاد حركةً في الاتجاه الأفقي؛ لأن كل ما هو «ضد»، أو «عكس» إنما يفترض مستوًى مشتركًا يمكن أن يتم فيه التقابل واللقاء. ومهما تبلُغ حدة التضاد أو تعظُم درجته، فإن الأضداد تفترض مع ذلك نوعًا من التساوي أو الاتفاق في شيء مشترك. أما إذا علوتُ فوق شيء فإنني لا أعلو فوقه هو وحده، بل أعلو كذلك فوق ضده.
وهنا نجد كانط، كما نجده في حالات أخرى عديدة، لا يقتصر على نقل المفاهيم التقليدية إلى مستوًى آخر يتفق مع فلسفة الترانسندنتالية (أو الشارطية)، وإنما يزيد على ذلك بتفسيرها تفسيرًا جديدًا يحولها عن معانيها الأصلية. ولسنا نريد بهذا أن نلوم كانط أو نؤاخذه على فعله؛ إذ كيف كان يمكنه أن يصوغ الجديد الذي يريد قوله والتفكير فيه إلا في الألفاظ والمصطلحات التي وصلت إليه من التراث؟ فلو أنه ابتدع ألفاظًا ومصطلحات جديدة كلَّ الجِدَّة، لزاد الأمر سوءًا. والذين حاولوا هذه المحاولة في تاريخ الفلسفة لم يُكتب البقاء لكلماتهم الجديدة إلا في أحوال نادرة شديدة الندرة، ولعلنا أن نجد في تعدد المعاني التي تنشأ عن هذا، وفي تأرجح معاني المفاهيم واختلاف مستوياتها، شيئًا لا يمكن فصله عن اللغة الفلسفية في العصور المتأخرة. صحيح أننا نتفوق على القدماء بتجربة فكرية أكبر وتمرُّس فكري أشد، ولكن علينا أن نتقبل ما يترتب على هذا من تعقيد المفاهيم تعقيدًا مربكًا جاء نتيجةَ التطور التاريخي. ولعل تناهي الفكر واللغة ومحدوديتها ألا تظهر أوضح ولا أجلى من ظهورها عند تتبُّعنا لتاريخ المصطلحات الفلسفية الأساسية. وليس مرجع الارتباك هنا أن الفلاسفة أناس عاجزون عن التفكير الدقيق أو التعبير الواضح، وإنما هو ارتباك أساسي يرجع إلى اللغة نفسها ويعود إلى أصلها؛ لأن اللغة هي التي تميز الإنسان عن الحيوان؛ ومن ثم تجعله إنسانًا بحق، ولكنها كذلك هي علامة تناهيه وقصور قدرته. وينبغي عند الحديث عن مفهوم الترانسندنس أن نلتفت إلى ما يلي: إن الترانسندنس (العلو) من الناحية الصورية أو الشكلية علاقة بين طرفين؛ بين ما يعلو وما يُعلى إليه أو يُعلى فيه. وهي علاقة لا يمكن عكسها: ماذا كان «أ» عاليًا بالنسبة إلى «ب»، فإن العكس لا يصح ولا يجوز، ومعنى هذا أن علاقة العلو (الترانسندنس) ذات جانبين مختلفين أشدَّ الاختلاف؛ أولهما علاقة ما يعلو أو ما يُعلى منه بالعالي، وثانيهما علاقة العالي بما يعلو أو يُعلى منه. وكلاهما مختلف عن الآخر اختلافَ علاقة الإنسان مثلًا بالله عن علاقة الله بالإنسان.
ونحن عندما نتكلم عن العلو ينصرف تفكيرنا قبل كل شيء إلى العلاقة الأولى؛ أي: تلك التي تتجه نحو العالي. وهذا أمر طبيعي؛ لأن تفكيرنا يسير بوجه عام من الأقل إلى الأكثر، ومن الأصغر إلى الأكبر، ومن المتناهي إلى اللامتناهي. ومع ذلك فينبغي ألا ننسى تلك التفرقة الأوسطية المشهورة التي تقول: إن «الأول» بالقياس إلينا لا يحتم أن يكون هو الأول بالقياس إلى الموضوع نفسه. وسوف نتبين صدق هذه التفرقة فيما بعد. فكلما أخذنا فكرة العلو مأخذ الجِد؛ أي: كلما فكرنا في «العلو» تفكيرًا عاليًا حقًّا، ارتفع شأن الجانب الثاني من العلاقة السابقة، وازدادت أهميته لدينا، وأعني به علاقة العالي بمن يعلو أو من يُعلى منه. وإذا فكرنا في العالي من حيث علوُّه بصورة مطلقة خالصة، فمن الواضح في هذه الحالة أن العلاقة لا يمكن أن تتم إلا إذ كانت قد دُعمت وأُسست من قبلُ مِن جانب العالي نفسه. وإذن فالتدعيم أو التأسيس يأتي دائمًا من جانبه؛ أي: إن العلاقة الأولية هي علاقة العالي بمن يُعلى منه أو يعلى فوقه. فالأصل في حركة العلو ومبدؤها لا يمكن أن يقوم دائمًا في العالي وحده.
مهما يكن من أمر فسوف نستخدم كلمة الترانسندنس، أو العلو، كما فعلنا حتى الآن بمعناها اللفظي الذي تدل عليه، أي: بمعنى الصعود، دون أن نتقيد به وحده. فقد تضطرنا الحال إلى استعمال الكلمة بمعناها الثاني، فنقصد بها حينئذٍ ذلك الذي نبلغه عندما نعلو فوق كل شيء على وجه الإطلاق. وإذا لم يتضح المعنى الذي نقصده من السياق، فسوف نشير إليه إشارةً خاصة؛ بحيث لا يمكن أن يلتبس الأمر على القارئ.
والعلو (الترانسندنس) بالمعنى الثاني يتفق مع المقصود في معظم الأحيان من كلمة العالي (الترانسندنت)، ومع ذلك فيبدو أن من الأفضل بوجه عام — على الرغم من ازدواجية الكلمة — أن نتحدث عن العلو بدلًا من الحديث عن العالي؛ لأن الصيغة الأخيرة كثيرًا ما توقِع القارئ في تصورات شديدة التبسيط، كأن يتصور مثلًا أن العالي «شيء» أو «موضوع» أو «ذات» ما، له خاصية الارتفاع والعلو. فالحقيقة أنه ليست هناك موضوعات عالية (ترانسندنتية)، وإن سلمنا بأن هناك أمورًا لا تحلُم بها حكمتنا البشرية، كما تقول العبارة المشهورة في هاملت، ولا يمكن أن توجد مثل هذه الموضوعات المتعالية؛ لأن هذا التعبير الأخير يتناقض تناقضَ التعبير الكانطي المشهور عن الشيء في ذاته. ولعل من أعظم مآثر كانط أنه بيَّن هذا في شروحه البارعة الدقيقة التي بسطها في «نقد العقل الخالص»، وإن تكن هذه الحقيقة قد عُرفت قبله. ذلك أن التجربة الصوفية الحقة قد عرفت دائمًا أن العالي — سواء سمته الله أو الواحد — لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون موضوعًا أو شيئًا ولا شبيهًا بموضوع أو شيء. وكانط «العقلاني» لا يناقض التصوف، وإنما يؤكد تجربته الأساسية.
أضف إلى هذا كله أن تعبير «العالي الترانسندنت» يساعد العقل في ميله الفطري إلى «موضعة» أو «شيء» ما يستحيل أن يكون موضوعًا أو شيئًا؛ في حين أن التعبير الآخر (العلو/الترانسندنس) لا يفعل هذا أو يفعله بقدر أقل. هذا إلى أن صيغة اسم الفاعل (العالي) تسمح للكلمة بالدلالة على محمولات أوسع وأكبر.
وسوف نستخدم كلمة ترانسندنتالي (عالٍ/متعالٍ) في هذا الكتاب بالمعنى العام الذي يفيد ما يتعلق بالترانسندنس أو العلو ويتصل بماهيته. أما كلمة الترانسندنس (العلو) فسوف نستخدمها بالمعنى الذي حددناه من قبل؛ أي: بمعنى العلو فوق كل شيء على الإطلاق.
ملحق: فكرة المطلق
بقي علينا أن نلتفت إلى نقطة أخرى يمكن أن تفيدنا فيما نحن الآن بصدده من تمهيد الأرض للتفكير الفلسفي في مشكلة العلو. فالمطلق — أو المنطلق المتحرر من كل العلائق — هو في الحقيقة تعبير سالب، وإن كنا لا نفطن إلى هذا في كل الأحوال؛ شأنه في ذلك شأن كلمات مثل اللامحدود، واللامشروط، والمجرد من كل العلاقات، والذي لا يتوقف على غيره؛ إلى غير ذلك من كلمات تفيد معنى المطلق في اللغات المختلفة. هذا إلى أن الكلمة قد تترجم أحيانًا بمعنى الكامل أو التام.
بيد أن رؤية العلو وتجربته تجربةٌ باطنة لا بد أن تختلف اختلافًا أساسيًّا عن كل رؤية لما هو ذو شكل، بل لا بد أن تختلف عن كل إدراك يتم في نطاق هذا العالم، وهذا هو الذي سيتولى أفلوطين بعد ذلك توضيحَه وبيانه بمختلف السبل.
وهكذا نرى أفلاطون يصف الخير (الأجاثون) مرةً بأنه متعالٍ، ومرةً أخرى بأنه غير ذلك. ثم يلزم الصمت فلا يتحدث بعد ذلك عن مثال الخير؛ سواء في الجمهورية أو فيما جاء بعدها من محاورات. ولعل السبب في هذا أن يكون راجعًا إلى تردده فيما يتعلق بمسألة العلو بوجه عام.
ولسنا هنا بصدد الكلام عن أسباب هذا التردد وهذا التذبذب الذي نجده عند أفلاطون، ولكننا نلاحظ فحسب أن نفس التردد والتذبذب الذي بدأ لديه قد ساد التفكيرَ الفلسفي التقليدي في الغرب وتغلغل فيه. ولعل التصوف أن يكون هو الاستثناء العظيم الوحيد لهذه القاعدة، حيث نجده يفكر في علو الخير تفكيرًا نقيًّا يشبه تفكيره في الواحد.
وأخيرًا ينبغي أن نلتفت إلى الفرق بين فكرتَي العالي (ترانسندنت) والمطلق؛ فالمطلق — بصفته الضد المقابل للنسبي — يعني إنكار كل علاقة. والمطلق بالمعنى الدقيق للكلمة هو الذي لا تربطه بغيره علاقة. ومن حقنا أن نسأل إن كان من الممكن التفكيرُ في شيء كهذا؛ لأن كل تفكير هو في صميمه تفكير في شكل علاقات. فإذا فكرت في المطلق على وجه من الوجوه، فلا بد أن يوجد على أقل تقدير في علاقة بي أنا المفكر. أما العالي (الترانسندنت) فيراد به دائمًا علاقةٌ ما؛ لأنه مهما ارتفع العلو، فإن من يعلو يظل باستمرار على علاقة تربطه بما يعلو فوقه. وهذا هو الذي يجعلنا نقول إن فكرتَي المطلق والعالي غير متكافئتين على الإطلاق من هذه الناحية. بل إن التعبير الدقيق ينتهي بنا إلى القول بأن المطلق لا يمكن أن يكون عاليًا، وأن العالي لا يمكن أن يكون مطلقًا.
(٢) الحدود التقليدية الضيقة لمفهوم العلو (الترانسندنس)
تدل كلمة الترانسندنس من الناحية اللغوية والصورية على العلو، ويتحدد مضمون هذا المفهوم تحديدًا أدقَّ تبعًا لما يبدأ منه العلو وما ينتهي إليه. وكلا الأمرين يمكن أن يكون على أشكال مختلفة شديدة الاختلاف، كما أن التراث الفلسفي يقدم لنا عددًا كبيرًا من المفاهيم والتصورات عن العلو أو الترانسندنس.
يتميز الفكر الفلسفي بأنه لا يتوقف أبدًا عند حد معين، بل يمضي على الدوام إلى أقصى الحدود ثم يتجاوز ما وصل إليه. إنه لا يشغل نفسه بالعلو (الترانسندنس) كشيء عارض أو ثانوي؛ كأن يكون موضوعًا شائقًا طريفًا أو فكرة تأملية عسيرة، بل إن طبيعته نفسها تتحدد به.
غير أن التفكير الفلسفي الذي ينزِع بطبيعته إلى اللامحدود؛ لا يستطيع أن يقف عند علو جزئي، بل لا بد له لكي يحافظ على صميم ذاته أن ينزع كذلك إلى المزيد من العلو، بل من العلو فوق العلو، ولكن أقصى علو ممكن هو ذلك الذي يعلو فوق كل شيء على الإطلاق؛ ومِن ثم يكون التصور أو المفهوم الفلسفي الحقُّ للعلو (الترانسندنس)؛ هو ذلك الذي بدأنا منه هنا؛ أي: العلو فوق كل شيء على وجه الإطلاق.
علينا الآن أن نوضح أن هذا المفهوم هو أوسع مفاهيم العلو وأكثرها شمولًا، ونود أن نحقق هذا عن طريق التمييز بينه وبين عدد من أهم وأشهر المفاهيم التقليدية التي عرَفها تاريخ الفلسفة عن العلو؛ أي: إن علينا بعبارة أخرى أن نبين المحتوى التأملي للصيغة التي وضعناها؛ وذلك بتحرير مفهوم العلو، أولًا وقبل كل شيء، من الصور التقليدية التي ضيقته وقلبت معناه وما زالت تسيطر على تفكيرنا عنه سيطرة بالغة، والْتماسِ وسيلة لتخليصه من الجمود الذي لحقه والتجمُّدِ الذي التصق به في التراث الفلسفي.
على أن المفارقة الكامنة في طبيعة الموضوع من وجهة النظر الطبيعية؛ تؤدي بأصحاب الفهم العام إلى الإحساس بأن مفهوم العلو يفرغ من معناه ويزداد فراغًا كلما امتلأ بمضمون تأملي؛ ولكن هذا الإحساس لا ينبغي أن يَزيغ أبصارنا أو يَحيد بنا عن الطريق؛ فما هو في الحقيقة إلا الدليل على أننا نسير على الطريق الصحيح.
(٢-١) المفهوم الميتافيزيقي للترانسندنس (العلو)
والأمر الحاسم في كل مفهوم للميتافيزيقا هو طريقة فَهْمنا «للميتا» وتفكيرنا فيها. وحتى لو أكدنا المقطع الأخير من كلمة الميتافيزيقا، فسوف تظل «النبرة الباطنة» تؤكد الجزء الأول من الكلمة. ويمكننا أن نتتبع مفهوم كانط للميتافيزيقا مارِّين بفولف ومدرسته؛ حتى نصل إلى أرسطو وأفلاطون، إلى أن نبلغ في نهاية المطاف أصلَ التفكير الغربي والتفلسف الغربي بوجه عام. وعلى امتداد هذا الطريق الطويل الذي حددته الاتجاهات المتعددة والتأثيرات المتراكمة المتشابكة على نحو معقد بالغ التعقيد، نجد أن المفهوم لم يتلقَّ معناه النوعي المحدد الذي لا نزاع فيه إلا في الفكر الأفلاطوني الحديث، وسواء أكان الفضل في نشأة كلمة الميتافيزيقا للصدفة المشهورة التي جعلت «الميتا» مميِّزةً من ناحية المضمون لكتب أرسطو، التي جاءت في الترتيب بعد كتبه عن الطبيعة، أم أن المسألة لم تكن على هذه الصورة المسرفة في الخيال؛ فإن «الميتا» في كلمة الميتافيزيقا لم تُفهم لأول مرة بمعناها الحقيقي الدقيق — أي: بمعنى فوق/وراء؛ الذي تفيده السابقة اللاتينية «ترانس» — إلا عند المدرسة الأفلاطونية المحدَثة. والواقع أن هذا لم يأتِ بمحض الصدفة، بل يرجع إلى أن العلو والترانسندنس في تفكير هذه المدرسة — وفي تفكير أفلوطين بوجه خاص — قد أصبح لأول مرة وبصورة واضحة صريحة هو الواجب الأساسي المُلقى على عاتق الإنسان وفي ضميره؛ مما جعله يتغلغل في الحياة الباطنة إلى حدٍّ لا يمكن تصوره ولا تسنى لأحد بعدهم أن يدانوه فيه. على أنه إذا كان الجزء الحاسم من كلمة الميتافيزيقا هو جزؤها الأول، فإن جزءها الثاني ليس مجرد زيادة لفظية متصلة به، بل إن التصورَين معًا يؤثران على بعضها ويكوِّنان وحدة داخلية.
إذا كنا في السطور السابقة قد أخذنا على المفهوم الميتافيزيقي التقليدي أنه لا يعلو إلا على الجانب الفيزيائي أو الحسي؛ أي: يقتصر على مجال جزئي دون العلو على الكل، فإن الأمر في هذا النقد لا ينصرف إلى حجم العلو أو الترانسندنس من جهة المظهر أو الكم، بل إن ما نقصده من ذلك هو أن ما يُعلى فوقه يحدد كذلك طريقة العلو وأسلوبه. كما أن التوسع في الحجم يدل كذلك على تصاعد في ماهية العلو. إن مجال ما يُعلى به أو فوقه وحجمه يحددان نوع عملية العلو وأسلوبها. وأيًّا ما كان فَهمنا للميتافيزيقا، فإن العلو يحددها ويعيِّن صورتها الباطنة. والأمر كذلك مع الفلسفة؛ لأن الفلسفة من حيث هي كذلك ميتافيزيقية. وهي إذا خلت من الميتافيزيقا لم تعُدْ فلسفةً بل نظريةً في العلم، أو مبحثًا في الأسس التي يقوم عليها، أو حكمةً تَهدي الحياة، أو شيئًا آخر غير ذلك. ولما كانت الفلسفة — بحسب ماهيتها وأصلها التاريخي — شيئًا يونانيًّا غربيًّا محددًا، فكذلك الشأن مع الميتافيزيقا، ولكن هذا لا يصدُق بنفس الدرجة على مفهوم العلو، وبخاصة إذ أخذناه بمعناه الواسع الرحب كما ينبغي لنا أن نفعل في هذا المقام.
ذكرنا الآن اسم أفلوطين وقلنا إنه هو المفكر الذي بلغ عنده العلوُّ غايةَ السمو والارتقاء. ويوصف أفلوطين فضلًا عن هذا بأنه متصوف، بل إنه لَيعدُّ، إلى جانب «الميستر إكهارت»، أعظمَ المتصوفين الذين ظهروا في الغرب، وإذا جاز القول بأن كل فلسفة تنطوي على جانب صوفي؛ لأن الميتافيزيقا موجودة في كل فلسفة، كما أن المطلق يدخل في كل ميتافيزيقا؛ فلا يجوز مع ذلك بنفس الطريقة أن نقول بالعكس؛ لأن التصوف غير مقصور على الغرب وحده، بل هو موجود كذلك في الشرق، ولعل حظَّه منه أن يكون أكبر من حظ الغرب، وهو موجود هناك كما قلت، على الرغم من أن بعض الفرق البوذية تُنكر الميتافيزيقا والفلسفة إنكارًا صريحًا. والجدير بالذكر أن أفلوطين — وهو أول متصوف غربي عظيم — كان يونانيَّ اللسان، ولكن جنسيته غير معروفة، ويحتمِل أن يكون قد وُلد في مصر. إننا نلمس عنده شيئًا غريبًا على الروح اليونانية الكلاسيكية، شيئًا مختلفًا عنها كلَّ الاختلاف. وهو لا يزال إلى اليوم غريبًا على معظم المثقفين؛ على الرغم من حركه البعث التي أخذت تدب في الدراسات الأفلوطينية في السنوات الأخيرة.
وإذا كان مفهومنا للعلو في هذا المجال سيُلزمنا بتوجيه النقد للميتافيزيقا، فلا بد من القول بأن هذا النقد يختلف اختلافًا أساسيًّا عن النقد الذي وجَّهه كانط إلى الميتافيزيقا التقليدية، وأصبح كذلك منذ عهد نيتشه نقدًا تقليديًّا. على أن نقدنا للميتافيزيقا سيكون كذلك من داخلها — وقد أوضح كانط في تحليلاته للمعرفة البشرية المتناهية بما لا يقبل الشكَّ أن العالي (الترانسندنت) لا يمكن أبدًا أن يُعرف معرفةً موضوعية؛ لأنه لا يمكن أن يكون موضوعًا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. وقد أصبح هذا اليوم من قَبيل الحقائق الفلسفية التي يكاد أن يعرفها كلُّ إنسان. غير أنه إذا كانت الميتافيزيقا التقليدية لا تزال «تُموضِع» العالي والمطلق و«تُشيُّئُهما»، مخالِفةً في ذلك المعقول، وإذا كان الفَهم الطبيعي العام لا يزال يفعل هذا حتى اليوم، وسيظل يفعله ما بقي؛ فإن السبب في هذا — ولعل هذا ألا يكون من قبيل الحقائق الشائعة — لا يرجع في الواقع إلى زيادة في الترانسندنس (العلو) بقدر ما يرجع إلى نقص شديد فيه. وإذا كانت الميتافيزيقا المدرسية والتقليدية تطمح إلى تجاوز كل ما هو فيزيقي أو حسي، فإن إخفاقها في هذا السبيل يرجع إلى أنها لا تأخذ هذا التجاوز مأخذًا جادًّا؛ إذ الواقع أنها لا تبلغ من ذلك شيئًا أكثر من المظهر؛ لأن علوَّها نفسَه لا يخرج عن كونه مجرد مظهر. ويتضح القصور في العلو الذي تقوم به من الناحية الشكلية — كما لاحظنا هذا من قبل — في أنها تقصُر ما يراد العلو فوقه على ما هو فيزيقي. ولا ينبغي مع ذلك أن نتصور أن الميتافيزيقا التقليدية عاجزة عن تحقيق العلو أو التجاوز؛ لأنها لا تتجاوز إلا ما هو فيزيقي، بل ينبغي علينا أن نفكر في المسألة من أساسها، فنقول: إن الميتافيزيقا التقليدية لا تعلو إلا على ما هو فيزيقي؛ لأنها لا تتصور «الميتا» أو «ما بعد» — وهي التي تحدد ماهيتها — تصورًا كافيًا، ولا تفكر فيها تفكيرًا كافيًا؛ ولهذا فإن الميتافيزيقا تظل «ميتافيزيقا»؛ أي: إنها تظل مقيَّدة «بالفيزيقا»، كما تحدد علاقتها بها وتوجه انتقاداتها إليها منذ البداية على أساس المقارنة بكل ما هو فيزيقي، وبكل العلاقات التي تربط الأشياء الفيزيقية بعضها ببعض.
ما الدروس التي نستفيدها من هذه التأملات فيما يتعلق بمفهومنا عن العلو أو الترانسندنس؟ إذا كنا نريد أن نعلو فوق كل شيء على وجه الإطلاق، فلا يجوز لنا أن نكتفي بالعلو فوق الأشياء وحدها؛ سواء كانت هذه الأشياء موجودة في عالم الواقع أو كانت قائمة في مخيلتنا، بل ينبغي علينا أن نحقق العلو فوق كل الموضوعات على وجه الإطلاق. ولكن هل يمكننا أن نقوم بهذا؟ أليس تفكيرنا وإحساسنا مرتبطَين بالضرورة بكل ما هو شيئيٌّ وموضوعي؟
وإذا تيسر لنا أن نتحرر منها، ألَا يفضي بنا ذلك إلى الفراغ المطلق؟
نود قبل التعرض لهذه الأسئلة أن نبدأ بتناول بعض التصورات والمفاهيم التقليدية عن العلو. وسوف يتبين لنا أن الشكوك التي أبديناها الآن لن تختفي بل سيزداد عددها وتشتد حِدَّتُها.
(٢-٢) المفهوم اللاهوتي الترانسندنس (العلو)
هل يمكن العلو أيضًا فوق هذا الإله الذي يتحدث عنه باسكال؟ لا بد أن تكون الإجابة بنعم، فمهما يكن تأويل التجربة التي مر بها باسكال، فإننا نعلو فوق الشيء في اللحظة نفسها التي ننطق فيها باسمه، ربما نتردد قليلًا ونسأل: أليست هذه كلها محض تأملات شكلية؟ ولكن أيًّا كان تصورنا لفكرة الله، أليس أهم ما يوصف به أنه هو ذلك الذي يستحيل العلو فوقه؟ ولكنني إذا أخذت فكرة استحالة العلو مأخذًا جادًّا، فيتحتم عليَّ أن أتخلى عن كل تسمية؛ أي: يتحتم عليَّ أيضًا أن أتخلى عن إطلاق صفة «الله» عليه. بهذا تكون عبارةٌ كهذه: «الله هو الذي يستحيل العلو فوقه» — لو فكرنا فيها تفكيرًا دقيقًا — عبارةً سخيفة لا معنَى لها.
إن القلب عند باسكال هو أداة الإدراك المباشر، ومثل هذا النص الذي أوردناه يشهد بأنه كان متصوفًا.
ولكن ما معنى العبارة التي أوردناها من قبلُ عند الكلام عن إكهارت؛ إذ نصح مَن لا يفهم أفكاره التأملية بألا يشغل بها قلبه؟ معناها أنه ينصحه بألا يشغل نفسه بها حتى لا تؤثر أدنى تأثير على تجربته المباشرة بالله؛ لأنها تجربة تتجاوز بطبيعتها كل إدراك عقلي أو ذهني.
ما الشأن إذن مع مشكلة الله؟
إننا حين ننطق بكلمة «الله» ونأخذها مأخذًا جادًّا، فإنما نفعل ذلك بقصد الإشارة إلى كائن يعلو بطبيعته وماهيته على وجودنا، أو بقصد التنويه بأن مثل هذا الكائن الذي يعلو علينا قد يلمسنا وأثَّر علينا كما نفعل ذلك أخيرًا لكي نثبت هذه التجارب ونحافظ عليها، ولكن الذي يعلو علينا علوًّا مطلقًا لا يمكن بطبيعته أن يقبل التعبير عنه أو النطق به، فإن نحن حاولنا أن نعبر عنه ونأخذ هذا التعبير أخذًا مباشرًا، زيَّفنا قصدنا أو تجربتنا؛ لهذا يصح أن نقول مع الميستر إكهارت: إن علينا أن نتخلى عن الله من أجل الله، أو نتركه حبًّا فيه.
إن اللاهوت المسيحي يتصور الله باعتباره خالق العالم الذي أبدعه من العدم، فإذا أنكر وجود الله — وهذا شيء يختلف كلَّ الاختلاف عن ترك الله من أجل الله — فلا يبقى من شيء يعلو على العالم إلا العدم. بهذا نصل إلى المفهوم العلمي للعلو، وهو ما سنتحدث عنه فيما بعد بالتفصيل.
(٢-٣) المفهوم الذاتي للعلو (الترانسندنس)
ويُفهم العلو بمعنى تجاوز الوعي؛ بحيث يتم الانتقال من الأنا أو الذات إلى الموضوع أو الشيء الذي يقع خارجهما.
ويوصف هذا المفهوم في أغلب الكتابات الفلسفية بأنه مفهوم متعلق بنظرية المعرفة. على أن المهم في هذا الشأن هو ألا يغيب عن بالنا أن الحديث عن نظرية المعرفة يصبح أمرًا متعذِّرًا إذا لم نتحرك في إطار تفسير فلسفي محدد الوجود في مجموعه، وهذا التفسير ليس مجرد «نظرية»، وإنما ينبع من موقف ميتافيزيقي، وإذا أُريدَ لهذا الموقف الميتافيزيقي أن يكون قادرًا على بناء الواقع، فلن يكون موقفًا متعسفًا أو متهالكًا على غير أساس، بل سيكون، في صميمه وبحسب ماهيته، موقفًا لا يمكن تعليله، ولا يُستطاع تبعًا لذلك أن يُقام عليه الدليل كما يُقام مثلًا على قضية من قضايا العلوم المنصبة على دراسة الواقع؛ ولهذا يُستحسن أن نتحدث عن ميتافيزيقا المعرفة بدلًا من الحديث عن «نظرية» المعرفة.
والموقف الميتافيزيقي الذي ينبني عليه التفكير الحديث كله في المعرفة — كما يسبقه ويفترضه — هو تفسير العارف بوصفه ذاتًا، والمعروفِ بوصفه موضوعًا.
ولهذا نود أن نطلق على مفهوم العلو الذي نجده في ميتافيزيقا المعرفة هذه اسمَ المفهوم الذاتي.
ولكن العلو فوق كل شيء على وجه الإطلاق لا يمكن أن يكون معناه الانتقال من ذات إلى موضوعٍ خارجها؛ فالذي يعلو فوق كل شيء على وجه الإطلاق لا يعلو فوق الذات وحدها، بل يعلو كذلك فوق الموضوع أيًّا كان نوعه، كما يعلو فوق الموضوعات في مجموعها، أيًّا كان التصور لهذا المجموع.
لقد قدمنا على الصفحات السابقة مبدأً منهجيًّا فحواه أن حجم العلو ونوعه متطابقان تطابقًا أساسيًّا. والواقع أن العلو فوق الذات لا يتحقق في العلو الذاتي؛ لأن الموضوع الذي أصل إليه عن طريق هذا العلو؛ يظل منطويًا على الذات باعتبار أنها هي التي تجعل الموضوع ممكنًا؛ أي: إن الذات في مثل هذا العلو لا يُعلى فوقها علوًّا كاملًا ولا تُترك تمامًا. إن مفهومَي الذات والموضوع في ميتافيزيقا المعرفة الحديثة — التي أسسها ديكارت — مفهومان متطابقان أو متناظران؛ فما من موضوع بغير ذات، وما من ذات بغير موضوع؛ ولهذا يمكننا أن نصف مفهوم العلو هذا بأنه مفهوم موضوعي بمثل ما وصفناه بأنه مفهوم ذاتي. ونحن نفضِّل الوصف الأخير لأنه يُعبر في رأينا عن الجانب الميتافيزيقي المهم في هذا التفسير؛ كما يعبر في نفس الوقت عن الظروف التاريخية التي نشأ فيها. وهذا الجانب الهام الذي نقصده هو تحوُّل الجوهر إلى ذات وما صحِبه من تحول الأنا المفكرة، ثم ما ترتب عليه من تحول الإنسان إلى ذات.
ومع ذلك، فإني حين أُبطل انشطار الذات والموضوع أو أرفعه — على فرض أن هذا ممكن — فإني لا أحقق العلو فوق الموضوع، بل أتَّحد به وأذوب فيه.
(٢-٤) المفهوم الأنطولوجي للعلو
يُفهم العلو في الفلسفة الوجودية وفلسفة الوجود المعاصرتين في أغلب الأحيان بمعنى العلو فوق الموجود في اتجاه الوجود. ونود أن نطلق على هذا المفهوم اسم المفهوم الأنطولوجي. ولكننا إذا فهِمنا العلو بمعنى العلو فوق كل شيء على وجه الإطلاق، فلن نستطيع أن نكتفي بالمفهوم الأنطولوجي أو نقف عنده.
إنه لن يفي بالمطلب الذي قصدناه في هذا الكتاب من العلو، وسيكون شأنه في هذا شأنَ المفاهيم التي سبقته، فنحن إن أخذنا العلو فوق كل شيء مأخذ الجد، فسيتحتم علينا أن نعلو كذلك فوق الوجود، إننا سنكون ملزَمين بالعلو أيضًا فوق الأنطولوجيا.
علينا أن نقف وقفة قصيرة عند الدلالة التي يضفيها الفكر الفلسفي المعاصر على الأنطولوجيا؛ هنا نجد أننا نقف عند نقطة تتفرق عندها الطرق وتتشعَّب المسالك. إن كلمة «الوجود» هي إحدى الكلمات الرئيسية في الفلسفة الغربية القديمة، بل لعلها أن تكون هي كلمتها الرئيسية؛ ولهذا كانت واحدة من أغنى كلماتها من ناحية المضمون، كما كانت كذلك من أشدها إثارةً للخلاف؛ بحيث تعرضت على مدى تاريخ هذه الفلسفة لتحولات عديدة وتأويلات لا حصر لها. وقد وضعت فلسفة الوجود المعاصرة مشكلة السؤال عن الوجود في صورة جديدة، وتطورت بها عندما رجعت إلى الفلسفة اليونانية القديمة وأهابت بها بشكل صريح.
ولكن هل هو حقًّا كذلك؟
وليس أفلوطين هو أول من ذهب إلى هذا؛ فإن شمول الفكر الأفلاطوني يتجلى مرةً أخرى في كون القسم الجدلي الكبير من محاورة بارمنيدز التي تُعد بمثابة «ملخص» للجدل الأفلاطوني، وشرح كل المفاهيم التأملية الأولية — كالكل، والجزء، والحد، والشكل، والسكون، والحركة، والتساوي، والخلاف، والزمان، والوجود — شرحًا متجددًا على الدوام؛ هذا القسم الجدلي من المحاورة يستهدي بمفهوم الواحد لا بمفهوم الوجود.
في العلو أو الترانسندنس الأنطولوجي يتم العلو فوق الموجود الفرد في اتجاه الوجود العام الشامل. وهذا الوجود نفسه لا يُعلى عليه، وإنما يصبح «أفقًا» يشمل كل شيء أو كل موجود، وطبيعي أن «الأفق» هنا مجرد تعبير مجازي. وعلى الرغم من أن كلمة «الوجود» نفسها كلمة بسيطة، فإن الغموض لا يكتنف ما نفهمه منها وحسب، بل يتعدى ذلك إلى الوظيفة اللغوية التي نستخدم بها هذه الكلمة، فهل تسمى شيئًا؟ هل تتحدث عن شيءٍ ما من حيث هو شيء؟ أم أنها تشير فحسب إلى شيء لا يمكن التعبير عنه؟ وما طبيعة هذا الشيء الذي تتحدث عنه أو تشير إليه؟ وما نوعه؟
لقد أكدت فلسفة الوجود المعاصرة ضرورة التمييز القاطع بين الوجود والموجود؛ فالموجودات شيء، وموجوديتها شيء آخر. ومن الواجب في رأيها أن ننتبه إلى هذا الفارق أو هذا الخلاف الأساسي عندما نعلو من الموجود إلى الوجود. وإذن فلا يجوز أن نتصور الوجود نفسه قياسًا على تصورنا لموجود أو شيء أو موضوع تكون صفته هي الوجود.
والواقع أن هذا هو أول خلطٍ وارتباك يقع فيه الفكر الطبيعي عندما يبحث عن أصل جميع الأشياء ومبدئها، فيضع هذا المبدأ منذ البداية في موضع الشيء، وعندما يُسأل عن مبدأ جميع الموجودات فيتصور هذا المبدأ منذ البداية على أنه موجود. أجَل، إن الفكر الفلسفي الحق يبدأ بالانتباه إلى هذا الفارق الأساسي، ولكن التراث الفلسفي التقليدي يبدو أنه وقع كذلك في هذا الخطأ، عندما وصف مبدأ جميع الأشياء بأنه هو الماء أو الهواء أو النار — كما فعلت الفلسفة اليونانية مثلًا في بداية عهدها — أو عندما وصفه بأنه مادة أو روح؛ على نحو ما نرى من بعض المفاهيم الشائعة في عصرنا. ففي كل هذه الحالات نجد المبدأ أو الأصل كما نجد الوجود «يُشَيَّأ» و«يُمَوْضع»، كما نجد ثمة موجودًا أو شيئًا ذا كيان مادي مستمَد من عالم الأشياء المألوف يُتصور؛ بدلًا من التفكير في الوجود نفسه مجردًا من كل شيء أو موضوع؛ ولهذا فإن كل هذه الإجابات لا ترضينا منذ البداية، ولا تلزمنا أيضًا في نهاية الأمر.
ولكن يبقى علينا أن نسأل إن كان طاليس الملطي قد وقع في مثل هذا الخطأ الفكري الأوَّلي الذي أشرنا إليه؛ أعني: إن كان قد تصور ذلك الذي يتقدم على جميع الأشياء الفردية كما يتصور الشيء. لقد لاحظنا من قبل أن الماء الذي يقول به طاليس يختلف تمام الاختلاف عن العنصر الكيميائي الذي نعبر عنه اليوم بهذه الصيغة يد ٢ أ؛ كما يتعين علينا أن نرى إن كان المتأخرون — ابتداءً من أرسطو — قد افتقروا إلى المسلَّمات الجوهرية التي اعتمد عليها هؤلاء المفكرون الأوائل في تفلسفهم؛ بحيث استندوا في دراستهم لهم وحديثهم عنهم على تصورات ومسلمات لا تناسبهم ولا تنطبق عليهم.
إن الهدف الذي نقصده من هذا الحديث يمكن توضيحه على النحو التالي: كل ما تمكن تسميته والتعبير عنه هو شيء متعيِّن وذو شكل. والعلو فوق كل ما يوجد أو يكون معناه العلو فوق كل متعين وذي شكل. يترتب على هذا أن ما أصل إليه من وراء هذا العلو لا يمكن أن يكون شيئًا يقبل التسمية والتعبير؛ ولهذا فإني لا أخطئه فحسب عندما «أُمَوضِعه» على أي نحو من الأنحاء، بل إني أكون قد أخطأته بمجرد تسميته؛ سواء أكان هذا الاسم هو «الوجود» أم «العالم». إن الفكر يعود في هذه الحالة فيعلو إلى شيء يمكن التفكير فيه؛ بدلًا من أن ينطلق إلى ما يعلو فوق كل موضوع للفكر، وما يستحيل تبعًا لذلك أن يقبل التفكير فيه أو التعبير عنه. هذا والانطلاق إلى ما يستعصي على التفكير لا يُعفي على الإطلاق من التفكير، ولا يعني بالضرورة أن نودع التفكير الوداعَ الأخير، وإنما يُلزم الفكر ببذل أقصى ما يقدر عليه من جهد؛ لأننا لا نستطيع أن ننطلق إلى ما يستعصي على التفكير، ولا نستطيع أن نصطدم به إلا عن طريق التفكير، لا؛ بل عن طريق البلوغ بالتفكير إلى أبعد مدًى يمكنه بلوغه؛ أي: من خلال التحقق المباشر الحي لحركة الفكر، ومن خلال هذا فحسب. هنا يتعذر على الفكر أن يتجه إلى شيء موضوعي أو يقف عنده ليتأمله؛ إذ يتحتم عليه أن يحقق نفسه ويواصل تحقيقها بأقصى إمكاناته، إذا أراد أن يظل على إخلاصه لقضيته. وإذا كان العلو فوق كل شيء على الإطلاق يؤدي إلى ما يستعصي على التفكير، فليس معنى هذا هو التوقف عن التفكير؛ بل معناه التصعيد فيه إلى آخر المدى. وليس من قبيل الصدفة أن يكون أعظم المتصوفين الغربيين، وهما أفلوطين وإكهارت، من أشد المفكرين تأججًا بالعاطفة، ومن أكثرِ الجدليين توهجًا بالانفعال.
إن النزعة الحديثة التي تُلح على تأكيد هذا العالم أو هذه الدنيا، كما يتضح في ولع بعض الكتَّاب باستخدام صيغ وتعبيرات لا تخلو من اسم الإشارة «هذا» مثل «هذا العصر»، و«هذا العالم» و«هذه الحياة»؛ هذه النزعة تميل ميلًا واضحًا إلى التعرض للشبهة التي ذكرناها في نهاية الفقرة السابقة، ولكن علينا أن نتنبه إلى أنه لا يمكن أن يكون هناك «هذا العالم» بغير «ذاك العالم»، ولا أن تكون هناك «حياة دنيا» بغير «حياة أخرى»، وأن «الدنيا» المزعومة ليست في أغلب الأحيان إلا «الأخرى» مقلوبة؛ إذ تُرفع «الدنيا» إلى مستوى «الأخرى»، ويُجعل منها شيءٌ مطلق، بغير أن يؤدي هذا بحال من الأحوال، كما يزعم البعض، إلى تجاوز الأخرى أو التغلب عليها تمامًا.
إذا كان النقد الذي نطبقه في هذا المجال يَفرض علينا، فيما يفرضه، أن نفكر في الميتافيزيقا واللاهوت والفلسفة الذاتية والأنطولوجيا تفكيرًا متعاليًا أو ترانسندنتاليًّا لا يعلو عليها جميعًا ويتجاوزها، فليس معنى هذا أبدًا أننا نُبطلها أو نُلغي مفاهيم العلو النسبية التي تنطوي عليها بضربة يد واحدة. إن تصرفًا كهذا بإزاء المجهود الفكري الضخم الذي يرتبط بهذه الأشكال المختلفة من التفلسف؛ لن يكون إلا تصرفًا طائشًا أحمق؛ فالواقع أن هذا النقد إذا أُحسن فَهمه، لن يؤدي فحسبُ إلى الحفاظ على ما أنجزه ذلك الفكر، بل إنه سيسلط عليه النور؛ لأن النور الحق هو وحده الذي يعلو على كل شيء، ويسبق كل شيء.
سنحافظ إذن على منجَزات هذه الفلسفة التقليدية، وكل ما نطلبه هو ألا نقف عندها أو نكتفي بها، فقد تبين لنا مما سبق، وبخاصة في كلامنا عن الميتافيزيقا، أن كل هذه المفاهيم التي سقناها عن العلو لا تكفي نفسها بنفسها، ولا تفي بالغرض الأصلي المقصود منها؛ وهو العلو بالفكر فوق الكل.
لقد أردنا من النقد الذي طبقناه ألا يكون نقدًا خارجيًّا، بل نقدًا داخليًّا، ولم نفعل هذا بدافع التعالم، وإنما اقتضت ذلك طبيعةُ الموضوع نفسه الذي نتناوله هنا بالبحث؛ من حيث إنه لا يمكن التعبير عنه إلا إذا عبرنا عما ليس من طبيعته؛ ولهذا كان الغرض الوحيد من النقد هو أن يؤدي بنا إلى العلو المنشود فوق كل شيء على وجه الإطلاق، كما كان هذا النقد جزءًا لا يتجزأ من الموضوع نفسه.
وعند هذا الموضع يتجدد الاعتراض الذي لمسناه من قبل لمسًا خفيفًا، ويزداد قوة؛ ألَا نحمِّلُ العلو (الترانسندنس) فوق ما يَحتمل بهذا النقد وبالتحديد الأساسي الذي يقوم عليه؟ فإلى أين يسوقنا العلو فوق كل شيء على الإطلاق — حتى فوق الله والذات المطلقة والوجود — إلا إلى الفراغ الكامل والعدم الخالص؟ وماذا عسى أن يكون لمثل هذا العلو، إن لم يكن مجرد (يوتوبيا) محضة، من دلالة أو معنًى؟ ثم ماذا نكسب منه أو نجني من ورائه؟
يمكننا من الناحية الشكلية أن نردَّ بسهولة على الاعتراض الأول؛ فنقول: إن مَن يعلو فوق كل شيء على الإطلاق يعلو كذلك فوق الفراغ والعدم. ولن يكون هذا الرد مجرد تخلص جدلي، بل إنه سيشير من جديد إلى أننا نعود إلى التفكير في ذلك الذي علينا أن نعلو إليه والكلامِ عنه كما لو كان شيئًا؛ أي: إن الأمر يقتصر على نفي المتجاوز للمحسوس أو الله أو الوجود أو سائر ما عرفناه في المفاهيم التقليدية للعلو، دون ملء الفراغات التي نشأت عن ذلك بشيء جديد، وبهذا نظل محصورين في نطاق ذلك التفكير في العلو، وكذلك نفعل لو سألنا عن قيمته ومعناه.
وقد يمكننا من الناحية الجدلية أن نلاحظ في هذا الصدد ما يلي: إن «الكل» و«العدم» — سواءً أكانت نظرتنا إلى هاتين الكلمتين نظرةً سطحية أو عميقة، غامضة أو محددة — هما في الحقيقة مفهومان متضادان. ولكن العلو لا يمكن أن يؤدي بنا إلى الطرف المضاد لما نريد أن نعلو عليه؛ لأن الضد، كما لاحظنا، يقع على نفس مستوى الضد المقابل له؛ ولهذا فإن العلو فوق كل شيء على الإطلاق لا يمكن أن ينتهي إلى العدم، بل لا بد أن يتجاوز الكل والعدم جميعًا.
بيد أننا لم نتعود على مثل هذه التأملات الجدلية على الرغم من بساطتها ووضوحها، ومع أننا ندرك أنها سليمة من الناحية الصورية والمنطقية، فإنها لا تُفلح في إسكات الشكوك التي تثور في صدورنا. إن هناك شيئًا في أنفسنا يتحفز دائمًا للوقوف في وجه كل علو ومقاومته؛ وبخاصة إذا كان علوًّا شاملًا كالذي نطلبه في هذا السياق، ونحن لن نأخذ هذه المقاومة الباطنة مأخذًا سهلًا؛ لأنها تكشف في الحقيقة عما نريد أن نسميه هنا بالفهم المشترك أو العام. ولهذا الفهم العام مفهومُه عن العلو، وهو يتلخص في إنكاره والقول بأنه عدمٌ ولا شيء.
(٣) الفهم العام ومفهومه العدمي عن العلو
سنستخدم هنا تعبير الفهم العام أو المشترك بمعنًى أشملَ وأعم مما يُستخدم به عادةً في معظم الأحوال؛ بحيث نصف به كل موقت فكري يرفض العلو بوجه عام وينكره؛ أي: إننا لن نستخدم هذا الاصطلاح للكشف عن الأسلوب الشائع في التصور والحكم وتعريته، بل للدلالة به على موقف ميتافيزيقي. صحيح أن الشيء الذي يميز الفهم العام هو وقوفه موقفَ العداء من الميتافيزيقا؛ بيد أن كل عداء للميتافيزيقا يقوم هو نفسه على موقف ميتافيزيقي مسبق. ومن المألوف أن يكون هذا الموقف الميتافيزيقي الذي يخفى على الفهم العام نفسِه تفكيرًا ميتافيزيقيًّا تقليديًّا أصابه الذبول والضحالة والجمود.
إذا كنا نصف الفهم العام بأنه موقف عدائي من الميتافيزيقا، أو بمعنى أدقَّ بأنه إنكار للعلو، فإن هذا يدل على أننا لا نقلل من شأنه أو نأخذه مأخذًا هينًا أو نعُدُّه شيئًا تافهًا مبتذلًا، على الرغم من أن التفاهة والابتذال هما المجال الحقيقي الذي يدور فيه فكره «الفلسفي». إننا لَنعتقد على خلاف ذلك بالأهمية البالغة للفهم العام، ونحاول ما وَسِعَنا الجهد أن نتعمق ماهيته؛ أي: أن نفكر فيه من ناحية العلو. ومعنى هذا أننا لا ننظر إليه على أنه ظاهرة انحلال وتدهور عقلي، أو نتيجة إهمال أو خمول فكري، وكأن في الإمكان أن نتغلب عليه بمزيد من الدقة والحدَّة في التفكير. لقد قلنا إن الفهم العام ينكر العلو ولا يكتفي بنفيه، وفي كل إنكار وجهٌ من الفاعلية، ولكن الفاعلية الإنسانية الخالصة التي تنبع من نفسها فحسب شيءٌ لا وجود له، ففي كل ما يفعله الإنسان شيء يرتفع دائمًا فوق هذا الفعل ويعلو عليه، وإذ كان الفهم العامُّ يسُدُّ أذنيه ويوصِد أبوابه دون هذه الفكرة الأساسية، فإن ذلك يرجع إلى طبيعته وماهيته؛ إذ يعتقد أنه قادر على القيام بكل شيء من ذاته وبالاعتماد على ذاته وحدها.
إن تداول تعبير «الفهم العام» وشيوعَه يتضمن وجوده بصورة دائمة في كل تفكير، وليس التفلسف بمعناه الأوسع إلا التغلب على الفهم العام الكامن فينا. والواقع أن التغلب التام على الفهم العام والتخلص النهائي منه أمر مستحيل؛ إذ إنه يظل دائمًا على نشاطه، ويستيقظ فينا من جديد بمجرد أن يتراخى التفكير الفلسفي الحق.
وجدير بالملاحظة أننا لا نستخدم كلمة «عام» أو مشترك في هذا المجال بمعنًى تقويمي، بل للتمييز والوصف؛ فالعام أو المشترك بحسب معناه الأصلي هو الذي «ينتمي لعدد كبير من الناس أو ينسُب إليهم طريقة متساوية»، ثم هو كذلك أمر يتعلق بالجميع على نحو متساوٍ. بيد أن العلو لا يمكن أبدًا أن يكون شيئًا مشتركًا أو يصبح شيئًا عامًّا، بل الأحرى أن يقال عنه إنه يُعزل ويُفرد. وليس في إمكان أحد أن يقوم بالعلو بالاشتراك مع غيره، بل لا بد لكل إنسان هنا أن يتولى وحده كل شيء. إن الإنسان الذي يعلو إنسان وحيد، وهل يمكن لمن يعلو فوق كل شيء على الإطلاق أن يكون مع أي شيء أو مع أي إنسان؟ إن الفهم العام على العكس من ذلك هو الشيء المشترك بين الجميع بغير خلاف، فهو لا يتعلق بالفردية ولا بالشخصية، بل إنه بطبيعته وماهيته عدوُّ كل خصوصية وتفرُّد.
إذا كان من المستحيل أن يصبح العلو شيئًا عامًّا مشتركًا، فليس معنى هذا، كما قد يتبادر إلى الأذهان، أن الذين يتفردون عن طريقه يمثلون كثرة منعزلةً انعزالَ الذرات عن بعضها البعض. فالحق أنهم متحدون اتحادًا يزيد في أصالته وقوته — أي: اتحادًا مطلقًا — عما يمكن أن يحدث نتيجة أي نوع آخر من أنواع الاتحاد؛ لأن هذا الأخير سيظل في نهاية الأمر اتحادًا نسبيًّا.
وهذه هي بعض الخصائص الرئيسية التي تُميز الفهم العام بمعناه المقصود في هذا السياق.
(٣-١) الفهم العام والكمون (الإمانتس)
من طبيعة الفهم العام أن يميل إلى الانغلاق وسد الأبواب في وجه كل علو، ومن ماهيته كذلك أن ينكمش على ذاته ويتحجر في ذاته، فالفهم العام يعُد كل ما يقع خارجه عدمًا، ولكنه ليس العدم الذي نقصده في لغة الفلسفة، وإنما هو العدم بمعناه المبتذل الميت. أما العقل الذي لا يعادي العلو، فمن طبيعته الارتفاع وتجاوز الذات والانفتاح. الفهم العام يعُد كل ما يقع خارجه لا شيء، ولما كان في نظر نفسه هو كل شيء، فإن هذه المقولة تصدُق عليه: الكل كل، والعدم عدم. سنصف هذه المقولة بأنها هي المقولة الأساسية في ميتافيزيقا الفهم العام. إنها المقولة التي يؤكد بها نفسه بصورة ميتافيزيقية في وجه كل ميتافيزيقا، ويحاول بها أن يحصِّن نفسه من كل علو.
إن الفهم العام لا يعرف غير المقارنة وأفعل التفضيل، ولكنه لا يعلم شيئًا عن «ما وراء» أو هو لا يفهم من «الماوراء» إلا المزيد والتصعيد الكمي. إن الكم هو مجاله الحقيقي الذي يتحرك فيه، وهو لا يعرف عن اللامتناهي إلا أنه ما لا نهاية له؛ ولهذا فهو يُقدِّر كل شيء ويَقيس كل شيء بمقياس العدد. ومع أنه يسعى في كل مجال إلى كل ما هو لامحدود، فإنه مع ذلك لا يعرف شيئًا عن العظمة بالمعنى الذي حددناه من قبل ووصفاه بأنه من أهم الخصائص المميِّزة للعلو. وهو يحاول أن يشد هذه المنظمة حيثما وجدها إلى عالَمه الصغير؛ لأن كل شيء في نظره صغير، وينبغي أن يظل صغيرًا حتى يتسنى للجميع أن يشاركوا فيه.
(٣-٢) الفهم العام والبقاء
من طبيعة الفهم العام وماهيته أن تكون إرادته محض نشاط وعناد؛ فالفهم العام لا يتخلى فحسب عن العلو، بل يسد أبوابه في وجهه ويغلق نفسه دونه. إن إنكاره للعلو إنكار فعال، ولا بد أن يكون كذلك لأنه لا يستطيع أن يؤكد نفسه إلا بهذه الطريقة، ولأن إرادة تأكيد الذات هي إرادته الحقيقية؛ ولهذا فإن جهوده منذ القدم لا تقف عند ترك الفلسفة والتباعد عنها، بل تتعدى ذلك إلى كراهيتها والحقد عليها؛ لأنها تزعج طمأنينته الزائفة وتُقلق أمنه الكاذب، وحيثما اصطدم بالفلسفة وجدناه يسارع بالهجوم عليها.
والفلسفة لا تستطيع أن تدافع عن نفسها في وجه هذه الهجمات التي تأتيها من جانب الفهم العام، فليس مجالها هو «الضد» بل «الماوراء». وحيثما حاولت الدفاع عن نفسها فقدت ماهيتها الحقة؛ ولهذا وقف الشامتون والساخرون من الفلسفة دائمًا في جانب الفهم العام.
(٣-٣) الفهم العامة والموضوعية
غير أن فاعليته هذه لا تنبثق من فعل بالمعنى الحقيقي للكلمة — إذ إن الجمود والخمول من أهم خصائص الفهم العام — بل تأتي من التهرب من الالتزام الذي يحققه العلو. إن الفهم العام يتريث ويتلبث، ويجمُد ويتحجر، ويصمُد ويُصر، وهو لهذا بلا تاريخ، وبقاؤه غير تاريخي. على حين أن العقل هو الذي يتغير باستمرار ويتحول بغير انقطاع؛ ولهذا فإن الميتافيزيقا المنهارة التي فقدت كل قدرة حقيقية على صنع التاريخ؛ لا تزال قادرةً على البقاء بصورها وأشكالها الظاهرة إلى ما شاء الله في الفهم العام.
لا يعترف الفهم العام إلا بكل ما هو شيء وموضوع؛ كل ما لا يستطيع أن يُمسكه ويقبض عليه؛ فهو في نظره غير واقعي، وهو لهذا يطالب بأن يقوم كل شيء على «التجربة» أو يُرد إليها. وكل ما لا يحمل بطاقة الشيء والموضوع يُعد في رأيه مجردَ مظهر وهمي لا يلزم أحدًا من الناحية النظرية، ولا يُجدي نفعًا من الناحية العملية. ومن ثم كانت حجته الأساسية في إنكار العلو هي: أن كل ارتفاع فوق المحسوس أو تجاوز لما له شكل لا يمكن أن يؤدي إلا إلى الفراغ والعدم.
ويعبر أفلوطين عن هذه الحجة في رسالته عن «الخير والواحد» بقوله: «ولكن بقدر ما تتغلغل النفس فيما لا شكل له — وهو الذي تجد نفسها عاجزة عجزًا تامًّا عن إدراكه؛ لأنها لا تتحدد به ولا تُطبع بخاتمه — بقدر ما تنزلق عنه ويملؤها الخوف من أن ترتد عنه فارغة اليدين. من أجل هذا ينالها التعب من مثل هذه الأمور، فتهبط عن طيب خاطر؛ إذ تجد أنها تُفلت منها جميعًا في كل مرة، حتى تصل إلى ما يدرَك بالحس وتستريح على أرض ثابتة، مثلما يتعب البصر من رؤية الأشياء الصغيرة ويميل إلى الاستقرار على الأشياء الكبيرة.»
إن هذه السطور تقدم لنا صورة ملموسة رائعة للصعوبة المجردة التي يلاقيها الفكر عندما يحاول الارتفاع فوق كل ما له شكل. ومعظم شروح أفلوطين في هذه الرسالة وغيرها ينصبُّ على التغلب على المقاومة الباطنة؛ التي تجعلنا بالطبيعة أو تجعل الفهم العام فينا يعارض هذا الارتفاع ويقف في طريقه. ولا بد في هذا الموضع من التعرض باختصار لمشكلة التجربة وعلاقتها بالعلو.
ملحق: العلو والتجربة
إذا كان كانط ينفي إمكان قيام تجربة العلو وإمكان المعرفة بالعالي، فإنه مصيب في هذا الموقف الذي ينطلق فيه من الفروض والمقدمات التي وضعها لفلسفته؛ ولكن علينا أن نتذكر أن مفهومه عن العالي شأنه في هذا شأنُ مفهومه عن التجربة والفكر؛ كلها مفاهيمُ ضيقة قاصرة، تقوم على أساس موقف ميتافيزيقي حددته ظروف تاريخية، ولم يضعه كانط نفسه موضع السؤال، ولا كان في مقدوره أن يفعل؛ ذلك أن كل فلسفة تبدأ بوضع ميتافيزيقي أساسي. صحيح أن هذا الوضع ليس تعسفيًّا ولا خاضعًا للهوى الشخصي، ولكنه، كوضع للأساس، لا يقبل هو نفسُه تأسيسًا أو تبريرًا. و«الوضع» الذي نقصده لا يجوز أن يُفهم على معنى الصنعة البشرية — فالفلسفة لا تُصنع على الإطلاق — بل على معنى التأسيس الميتافيزيقي.
إن مفهوم العالي (الترانسندنت) عند كانط مفهوم ضيق؛ لأنه فَهِم العلو بالمعنى الذي فهمتْه الميتافيزيقا المدرسية التقليدية عند فولف وأصحابه، فرأى أنه هو الأفكار العقلية الثلاث: الله، والحرية، وخلود النفس … ومفهومه عن الفكر مفهوم ضيق؛ لأنه يفهم الفكر على أنه هو «الأنا أفكر» للفهم والعقل، ومفهومه عن التجربة مفهوم ضيق؛ لأنه متعلق تعلقًا تامًّا بالمعطى الحسي.
ولا يمكن على أساس الفروض والمقدمات السابقة أن تكون هناك تجربة بالعلو؛ لأن تجربة شيء ما سيكون معناها أن أحتويه في نفسي وحواسي وفهمي. ولكنا لو أخذنا التجربة، كما نحاول أن نفعل في هذا الحديث، على نحو مخالف للمعنى الديكارتي الحديث الضيق المحدود — إذ إن مفهوم كانط عن التجربة يرجع في نهاية الأمر إلى الموقف الميتافيزيقي الأساسي لديكارت — لو فعلنا هذا وفهمناها (أي التجربة) بالمعنى الواسع الذي تدل عليه الكلمة في أصلها اللغوي، لأمكننا القول بأنه ليست هناك تجربة بالعلو فحسب، بل إن هذه التجربة لَتفوقُ في قوتها وعمقها ودقتها أية تجربة دنيوية وحسية، هذا إن كان هناك سبيل لمقارنتها بها على الإطلاق.
إننا نصطدم بشيء لا نقوى على تغييره أو تبديله في قليل ولا كثير، ويفوق قدرتنا ويتجاوزها تجاوزًا تامًّا، شيء لم يُصنع ولا يقبل الصنع على الإطلاق، مهما أخذنا الكلمة بمعناها الرحب أو بمعناها الضيق. إننا نصطدم بما لم يُصنع. وهذا الذي يفوق قدرتنا ويعلو على كياننا هو الشيء الهائل المذهل، وعالم القوانين والعلاقات الرياضية بأسره عالم مذهل، ولا يرجع هذا إلى ثرائه العظيم وغناه بأمور عجيبة وظواهر مدهشة، بقدر ما يرجع إلى أننا نصادف فيه شيئًا أو يصيبنا منه شيء لم يُصنع. ولكن قوانين الفكر الخالدة التي يعبر عنها المنطق تصيب أنفسنا أيضًا وتؤثر عليها. وإذن فنحن لا نجرب — بالمعنى الواسع الحي لهذه الكلمة — بحواسنا فحسب، وإنما نجرب كذلك بفكرنا، بل إن الإنسان بقدر ما يفكر تفكيرًا حقيقيًّا — والمعروف أن هذا شيء نادر جدًّا في حياتنا — ولا يكتفي بممارسة النشاط الذهني بطريقة آلية وخارجية، وهو الأمر الطبيعي السائد بين الناس؛ بقدر ما يقوم بتجاربَ تفوق في دقتها ونفاذها كلَّ تجاربه المبنية على الإدراك الحسي، ويزداد حظه من النفاذ والعمق بمقدار ما يزداد تفكيره نقاءً وقوة؛ أي: بقدر ما يزداد تجريدًا. ذلك أن الفكر وما يصيب الإنسان أثناء التفكير أقرب إلينا وأشدُّ التصاقًا بحياتنا الباطنة؛ ومن ثم فهو أدق من الإدراك الحسي ومحتوياته. الواقع أن هذا كله معروف، ولكن يبدو ألا ضير من التذكير به في هذا المجال. بيد أن الفكر وما ينطوي عليه من التقنين ليس هو الشيء الوحيد الذي يصيبنا ويؤثر فينا إلى جانب الإدراك الحسي. إننا نجرب أنفسنا كذلك، لا من حيث ارتباطًا بطبيعتنا الجسدية والعقلية والنفسية المتفردة فحسب، ولا من حيث اختلافنا من ناحية الجنس؛ كأن يكون الواحد منا رجلًا أو امرأة، بل كذلك من حيث إننا لم نصنع أنفسنا ولا نملك القدرة على صنعها. وهذه التجربة التي تتصل بتجربة الأنا اتصالًا جوهريًّا هي بدورها تجربة أقوى وأعمق من كل تجربة حسية وفكرية. وقد رأى ديكارت أن خبرة الأنا المفكرة بذاتها تبلغ من القوة مبلغًا جعله يعتقد أن في إمكانه أن يجعلها الأساس الذي تقوم عليه الفلسفة بأكملها، والهدف الحقيقي من تأملاته العظيمة هو أن يبين بوضوح أن اليقين الكامن في تجربة الأنا يفوق كل ما عداه من ضروب اليقين؛ بما في ذلك اليقين الرياضي نفسه. وإذن فالتجربة لا تقتصر على ما تدركه عن طريق الحواس؛ فنحن نقوم في مجال التفكير والخبرة الذاتية، كما بينا من قبل، بتجاربَ تفوق في حدتها وعمقها ونفاذها كل التجارب الحسية. ولكن إذا كان العالي، بوصفه ذلك الذي لا يُصنع، يدخل كذلك في هذه التجارب — لأن من الواضح أن أية تجربة لا بد أن يصحبها أو يدخل فيها نوع من العلو — فليست هذه التجارب مع ذلك بتجارب العلو الذي نسعى إليه، ولا هي بالتجارب المتعالية الحقة. ربما كان الغرض الوحيد من هذه التأملات هو زعزعة التحيز الطبيعي الذي يسيطر على الفهم العام، ويصور له أن التجربة مقصورة على التجربة الحسية. إن تجربة العلو بمعناه الدقيق الشامل لا بد أن تكون مختلفة تمامَ الاختلاف عن كل تجربة حسية، بل عن كل تجربة فكرية موضوعية؛ سواء تمت هذه التجربة الفكرية في مجال الرياضة أو في إطار المقولات، وسواء كانت تجربة منطقية أو أنطولوجية؛ لأن العالي نفسه لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون موضوعيًّا ولا أن يكون موضوعًا. إن خلاف الذات–والموضوع، وهو الخلاف الذي يميز كل تجربة طبيعية ودنيوية، لا يمكن تطبيقه على تجربة العلو، بل إن تجربة الوعي المرتكزة على نفسها تتحدد كذلك من خلال هذا الخلاف أو هذا الفارق الأساسي الدنيوي. صحيح أن الذات والموضوع يلتقيان في تجربة الذات أو خبرة الأنا بنفسها، ويصبحان شيئًا واحدًا. وصحيح أن هذه التجربة تفوق في تلقائيتها ويقينها كلَّ ما عداها من تجارب طبيعية — كما أوضح ديكارت بصورة رائعة في تأملاته — ولكن يبقى مع ذلك أن الذات تجرب نفسها فيها كما تجرب موضوعًا، كما أنني أُصبح بالنسبة لنفسي موضوعيًّا على نحو من الأنحاء، وإن لم يبلغ بي الأمر أن أصير شبيهًا بشيء من الأشياء الموجودة في العالم الخارجي.
ومع ذلك، فلا يمكن بحال من الأحوال أن يصبح العالي موضوعيًّا. إن حضوره من نوع آخر مختلف عن الحضور الموضوعي؛ فهو موجود هناك، ولكنه ليس موجودًا بحيث أناله أو أضعه في قبضتي. أضف إلى هذا أن العالي لا يمكن التفكير فيه كما لو كان شيئًا ما؛ لأنني إذا فكرت في شيء بوصفه شيئًا ما — وكل تفكير طبيعي من خلال المقولات هو من هذا النوع — فإنني بذلك أُدخله أو أُدرجه في تفكيري؛ على حين أن العالي هو الذي يتجاوز كل تفكير ويسمو عليه، فلا يمكن للفكر أن يجربه عن طريق التفكير فيه؛ لأن كل ما يملكه الفكر هو أن يصطدم به؛ بحيث يعجِز عن النَّفاذ إليه والتغلغل فيه، ويرد إلى نفسه بواسطة ذلك الذي اصطدم به، وبحيث إن ما يجربه الفكر في لحظة الاصطدام هذه يستعصي على التفكير فيه أو التعبير عنه. وإذن فإن الفكر المتعلق بالعلو مختلف تمامَ الاختلاف عن الفكر الطبيعي المعتاد الذي يتم وَفقًا لمقاييس الذهن؛ لأن هذا الفكر الأخير يفكر في موضوعه بوصفه شيئًا ما، ويستطيع أن يركز على ما يريد التفكير فيه، وأن يتريث عنده ليتأمله ويتدبره. أما ذلك الفكر فلا يمكنه أن يتصور موضوعه ولا أن يمسك به. إنه لا يستطيع أن يصل إليه إلا من خلال حركة تؤدي به حقًّا إلى نوع من «الاحتكاك» يفوق كل إدراك موضوعي، ويسمو عليه سموًّا لا حدَّ له، ولكن هذا «الاحتكاك» ولا يكون إلا شيئًا خاطفًا كالبرق الذي يلمع في الأفق لحظة واحدة. إن الملموس يردُّ على الفور من يلمسه ويُلقي به بعيدًا عنه. ولا يملك هذا أن «يتلبث» عند «موضوعه» إلا إذا كرر حركة الفكر من جديد. صحيح أن الموضوع قد يُفلت مني أيضًا عندما أفكر من خلال المقولات؛ وذلك حين أعجِز عن التركيز عليه تركيزًا كافيًا، وهذا شيء يتكرر على نحو أو آخرَ باستمرار. ولكن الأمر في حالتي هذه يختلف عن ذلك؛ فكلما اتجهت بكل تفكيري نحو «الموضوع»، وكلما أصبته أو خُيِّل إليَّ أنني أدركته، أُلقيتُ بعيدًا عنه ورُددت إلى الخلف.
إذا كنا نحاول من وراء هذه الملاحظات أن نشير إلى اختلاف تجربة العلو عن التجربة الموضوعية اختلافًا تامًّا، فإن واجبنا الأساسي هو أن نبين قصور هذه الحُجج وأمثالها. إننا نقف بذلك، إن صح هذا التعبير، على أرض التجربة الطبيعية بالعالم، ونرتكز على الفهم العام، محاولين الكشفَ عن تجربة العلو. ولكن هذا أمر لا سبيل إلى تحقيقه بغير تحفظات عديدة، بل إنه، إذا شئنا الدقة التامة، شيء متناقض أشدَّ التناقض. صحيح أننا أشرنا خلال هذا الشرح كله إلى عدم موضوعية العالي، ولكننا مع ذلك قد تكلمنا عنه كما نتكلم عن شيء يتصف بصفات الموضوع. ونحن نفعل هذا عندما نتكلم عن «العالي» أو نذكر اسمه، كما أن الاستعارات والصور التي استخدمناها في حديثنا عنه، مثل الإصابة واللمس والارتداد عنه، كلها استعارات وصور مستمدة من عالم الأشياء والموضوعات. وقد كان الهدف من اللجوء إلى أسلوب الاستعارة والتصوير في الفكر والقول؛ أن نوجه انتباه القارئ إلى مغايرة تجربة العلو لكل تجربة سواها. ولم يكن هدفنا على الإطلاق أن نعبر عنها أو نحاول تفسيرها. إننا سنجد أنفسنا ملزمين هنا أيضًا بطرح «السلالم» التي أشرنا إليها من قبل وإلقائها بعيدًا. وهذا أمر تحتِّمه الضرورة حتى لا نقع بسهولة في أسْر التحليلات السيكولوجية الزائفة، فتجربة العلو بمعناها الدقيق تجربة لا يمكن إدراكها بوسائل علم النفس؛ لأنها ليست حدثًا من الأحداث التي تتم داخل العالم، كما أنها لا تدرَك بوسائل علم الوجود (الأنطولوجيا). ومرجع هذا إلى أن العالي ليس وجودًا (أون) ولا موجودًا.
لا سبيل إلى تجربة العلو إلا في لحظة أو لحظات خاطفة خلال حركة فكرية، وحينئذ لا يمكن للمجرب نفسه أن يقبل التفكير فيه؛ ومن ثم لا يمكن التعبير عنه؛ ولهذا يتعذر كذلك الاحتفاظ به أو إعادةُ تذكُّره، وليس من سبيل للإبقاء عليه وتعمقه إلا بتكرار حركة الفكر مرةً بعد مرة.
وإذا كنا نتكلم هنا عن الهداية أو التوجه الباطني لحركة الفكر، فينبغي علينا قبل كل شيء أن ننبه إلى أن حركة الفكر لا يصح بحال من الأحوال أن تتم لتحقيق هدف أو غرض؛ لأنني إن حققتها لكي أصطدم بالعالي أو أحتكَّ به، فقد أخطأت العلو من بداية الأمر.
إن حركة الفكر المتعالي ينبغي أن يتم توجيهًا من الباطن، وهذا شيء يمكننا أن نستخلصه من الشرح الذي قدمناه في موضع سابق، فقد أكدنا هناك أن حركة الانتقال ممن يُعلى فوقه إلى العالي لا تتم إلا إذا سبقها تأسيس علاقة من العالي مع من يعلو فوقه.
يقول جوته: «إن كل ما يعبر عنه الإنسان تعبيرًا طبيعيًّا حرًّا هو في حقيقته علاقة بالحياة.» وعلاقة العلو هي أعمق وأصدق «علاقة بالحياة»، ومع أن العلو نفسه لا يعبر عنه، فلا بد أن يكون من الممكن الكلامُ عنه كلامًا طبيعيًّا حرًّا، والعظات الألمانية التي ألقاها الميستر إكهارت دليل حي على صدق هذا القول.
إن لهذه التجربة درجاتٍ مختلفة من الشدة والعمق، ومن الممكن تحقيق تجارب الآخرين بشكل من الأشكال دون أن نكون قد خبَرناها بأنفسنا. ولو لم يكن الأمر كذلك، لَمَا أمكننا على الإطلاق أن نفهم كلمات من النوع الذي ذكرناه في عبارة إكهارت السابقة. ومن ناحية أخرى فإن تجربة العلو تجربة نعانيها كاملةً أو لا نعانيها على الإطلاق، ولا بد أيضًا أن نقوم بها وحدنا وبأنفسنا، وكلا الأمرين لا تناقض فيه؛ إذ يستحيل في هذا أيضًا أن نسير في تفكيرنا على درب واحد.
إن هوان شأن العالم وكل ما يتصل به لَمِن أهم خصائص تجربة العلو الأصيلة. وأود في هذا الموضع من الحديث أن أسوق ثلاثة شواهدَ ترجع إلى أزمنة متباعدة:
يقول أفلوطين في رسالته أو تاسوعته السادسة (٧ و٣٤) عن نفس الإنسان الذي ارتفع فوق كل شيء: «هناك لن ترضى أن تقايض بذلك (أي بالواحد) أيَّ شيء (أيْ: شيء من أشياء العالم كما تقول ترجمة ريشارد هاردر) حتى ولو عُرضت عليها السماء كلها؛ لأنها تعلم أنه ما من شيء أفضل منه ولا من شيء يبْلغ مبْلغه من الخير الأسمى؛ ذلك أنها لن تقدر عندئذٍ على مزيد من الارتفاع، وكلُّ ما عداه، حتى ولو كان في الأعالي، سيكون في نظرها نوعًا من الهبوط والانحدار.»
وربما تكون عبارة فتجنشتين هذه، التي تتميز بالدقة التي لا مزيد عليها، أكثرَ برودةً واتزانًا من عبارتَي أفلوطين وإكهارت السابقتَين، ولكن هذا لا يمنع أن التجربة الأساسية التي يعبر عنها هي التجربة نفسها عندهما.
بيد أن تجربة العلو لا تقتصر على التصوف بمعناه المحدود المعروف، فنحن نستطيع في مجال الفلسفة أن نشير إلى الاندهاش الذي وصفه الإغريق بأنه أصل الفكر الفلسفي. ولسنا نقصد به ذلك التعجبَ الذي ينصبُّ على موضوع واحد منتزَع من مجموع الكل، بل نقصد به ذلك الاندهاش الذي يتحول فيه كل شيء مألوف وعادي — أي: يتحول المألوف والمعتاد نفسه إلى شيء غير مألوف ولا معتاد — بل إلى أغرب الأشياء جميعًا وأبعدها عن الألفة. مثل هذا الاندهاش يفترض فعل العلو فوق كل شيء على وجه الإطلاق.
إن هذه التجارب جميعًا تنصبُّ كما قدمنا على الخروج من كل ما يمتُّ للعالم بصلة. ولكن هذا لا يعني التخلي التام عن كل ما هو من العالم بسبب، بل إن القائم بفعل الخروج يعود فيتصل بالعالم؛ أي: بما تخلى عنه على نحو إيجابي أو سلبي. وهذه العودة إلى الاتصال بما تخلينا عنه هي التي تميز تجربة العلو عن التجربة الصوفية الحقيقية، التي تدل على الخروج — اللحظي — الكامل. ولهذا لم نصف هذه التجارب بأنها تجاربُ وجدٍ (خروج من/ إكستازيس)، بل اكتفينا بالقول بأنها تحمل طابع الوجد، ويهمنا أن ننتبه إلى هذا الحد الفاصل انتباهًا دقيقًا. صحيح أن كل ميتافيزيقا تحتوي على تصوف، ولكن العكس ليس صحيحًا على الإطلاق.
قد نسأل أنفسنا الآن إن كانت التجارب التي نتحدث عنها الآن، ونقصد بها تجربة الشعور الصوفي بهوان شأن العالم، وتجربة الاندهاش والقلق؛ تتصل ببعضها البعض بحيث لا تظهر إحداها بغير ظهور الأخرى، أو إن كانت بالأحرى مجرد درجات مختلفة أو جوانب متعددة من تجربة واحدة بذاتها. ولكننا بمثل هذه التساؤلات والتأملات لا ننزلق فحسب إلى النظر إلى هذه التجارب نظرتَنا إلى التجارب الأخرى، التي تقع على نفس مستوى المعطيات الداخلة في نطاق العالم، بل إننا نهرب من الواجب الذي تُلقيه علينا مثلُ هذه التجارب وحدها، وأعني به مواجهة ذلك «الشيء» أو «الكيان الهائل» أو ذلك «الآخر» المختلف عن كل ما عداه، والذي نجربه أثناء معاناتنا. وهذا شيء يحتاج فيما يحتاج إلى أقصى حد من وضوح الفكر ونُصوعه.
بهذا نختم الملحق الذي أضفناه عن العلو والتجربة، ووضعناه — وهذا أمر ينبغي أن ننتبه إليه — انطلاقًا من أرض الفهم العام. إن الفهم العام يتصلب حول نفسه وينكر كل ما عداه؛ ولهذا لا يمكن أن نبارزه إلا على أرضه. هذا شيء محفوف بالخطر؛ لأن العلو يمكن عندئذٍ أن يتحول بسهولة وسرعة إلى شيء أو ما يشبه الشيء، كما تصبح تجربة العلو تجربةً بين تجاربَ أخرى؛ على حين أنها شيء فريد وتجربة متفوقة على كل ما عداها من التجارب. وهو كذلك شيء محفوف بالخطر؛ لأنه ربما صور لنا أن العلو يمكن في نهاية الأمر أن يُفهم. ثم إن النظر إليه من على أرض الفهم العام معناه أن ننظر إليه بحيث يكون الأفق الأخير هو المألوف الذي لا نزاع حوله، والمفهوم الذي لا يقبل المناقشة. على حين أن العلو معناه الاصطدام بما هو غير مألوف ولا مفهوم. وحيثما تم هذا، التزم به الإنسان على نحو لا يسمح بالتراجع مرة أخرى إلى المألوف والمفهوم. إن المرء هنا لا يمكنه أن يفهم أنه لا يمكنه أن يفهم؛ لأن هذا أيضًا سيكون معناه التراجع إلى ما يقبل الفهم.
(٣-٤) عدمية الفهم العام
والفهم العام لا ينكر هذا العلو ببساطة؛ فذلك شيء لا يقدر عليه أي فكر إنساني، إنه يعرف العالي أيضًا، ولكنه لا يعرفه إلا بوصفه عدمًا ولا شيء. وميتافيزيقا الفهم العام ميتافيزيقا عدمية؛ لأنه إذا كان الكل هو الكل، والعدم هو العدم، فلا مفر من الانتهاء إلى أن الكل في نهاية المطاف عدم، والعدم كل، وهي نتيجة يستخلصها الفهم العام أحيانًا بكل صراحة، عندما يثور على العلو ثورةً ميتافيزيقية، ولكنها في العادة تسري في كل ما يفعله ويفكر فيه ويقوم بتقييمه سريانَ الاكتئاب العميق واليأس المطلق، وإن كان لا يعترف بذلك اعترافًا صريحًا.
إن ميتافيزيقا الفهم العام ميتافيزيقا عدمية، ولهذا فهو مضطر، لكي يتمكن من تأكيد وجوده أمام نفسه، أن يغلق أبوابه في وجه ميتافيزيقاه ذاتها. وهو يفعل هذا بمنتهى البساطة والغلظة — كدأبه في الولع بكل ما هو غليظ وثابت وملموس — فينكر وجود الميتافيزيقا إنكارًا مطلقًا.
عرفنا المقولة العدمية الأساسية، التي تقوم عليها ميتافيزيقا الفهم العام المعادية بطبيعتها للميتافيزيقا، بهذه العبارة: الكل كل، والعدم عدم. وهي تبدو في ظاهرها عبارةً واضحة وضوحَ الشمس، فكيف يجوز لإنسان أن يخالجه الشك فيها؟ الواقع أن الفهم العام يحب كل ما هو بسيط وبعيد عن الفروق والتعقيدات، بل إنه لَيلوذُ بنفسه و«بالعقل السليم»؛ ليحتمي بهما من كل ما يتصف بالتعقيد والرهافة والدقة. إنه لا يؤمن إلا بقواعد «قبضة اليد»، ولا يقتصر في هذا على الحياة العملية وحدها.
بيد أننا لو نظرنا في القسم الثاني من العبارة مجرد نظرة شكلية، عامة لوجدنا لأول وهلة أننا نواجه صعوباتٍ شائكةً وتناقضات لا حل لها؛ لأنه إذا كان العدم عدمًا، فلن نستطيع أن ننسُب إليه وجودًا من أي نوع، ولن نستطيع بالتالي أن نقول عنه إنه عدم؛ ولهذا يبدو هذا المفهوم وكأنه يُلغي نفسه بنفسه. ولكن العدم من جهة أخرى لا يمكن إنكاره بغير وقوع في التناقض؛ لأنني إن قلت إن العدم لا وجود له، فلا بد، لكي يكون لهذه العبارة الأخيرة أيُّ معنًى، أن أفترض بشكل من الأشكال وجود الشيء الذي أضعه موضع السؤال (لأنني لا أستطيع أن أتكلم عما لا وجود له، ولا أستطيع أن أفكر فيه؛ ومن ثم فلا يمكنني أيضًا أن أقول أو أفكر في أنه لا وجود له).
ولكن وجود الإشارة إلى هذه المعضلات — القديمة قِدمَ الفلسفة نفسها — يُعد في رأي الفهم العام دليلًا على مرض العقل، بل إن التفكير في العدم يُعد في رأيه، وعلى طريقته في قلب المفاهيم الأساسية، علامةً على ما يسميه بالعدمية. وما الفائدة من الاهتمام بفكرة العدم وديالكتيكه؟ إن الواجب يفرض علينا، بوصفنا بشرًا يعيشون على هذه الأرض، أن ننصرف إلى ما هو موجود أمامنا، ونشغلَ أنفسنا بهذه الحياة وهذا العالم؛ فالاهتمام بما يقع وراءهما أو خارج حدودهما لا نتيجة له ولا جدوى منه، بل إن الأسوأ من هذا أنه يَصرفنا عن النهوض بالواجبات الملحة التي يلقيها هذا العالم على أكتافنا.
ولكن هناك حقيقة بسيطة (هي بدورها حقيقة جدلية) تُفلت من الفهم العام في غمرة إلحاحه على هذا؛ ألَا وهي أنني لا أستطيع أن أتكلم عن «هذا» أو أفكر فيه بدون أن أتكلم وأفكر في نفس الوقت، ولو بطريقة ضمنية صامتة، في «ذاك» من نوع ما؛ وأن كلمة «فقط» الضئيلة التي يردِّدها في شعاراته (عندما يقول مثلًا: هذا العالم فقط) إنما تتضمن العدم الذي ينكره. هذا العالم فقط؛ هكذا يقول دائمًا، ويمكننا أن نكمل قوله بهذه العبارة: ولا شيء سواه. صحيح أننا نستطيع من الناحية اللغوية البحتة أن نُسقط عبارة «ولا شيء سواه»، ولكن هذا لا يغير شيئًا من الناحية الفكرية؛ فليست «الواو» في هذا التعبير هي واو العطف، وإنما تقوم بوظيفة الشرح والتفسير. إن التفكير في «فقط» لا يمكن أن ينفصل هنا عن التفكير في «لا شيء»؛ فقولنا: «هذا العالم فقط» أو الاكتفاء بقولنا: «هذا العالم»؛ يساوي نفس قولنا: «هذا العالم ولا شيء سواه.» أو — إن شئنا صيغة أدق — «هذا العالم ولا شيء خارجه.» ومع أن عبارة «ولا شيء خارجه» لا ترتبط ببقية العبارة إلا برباط واهٍ، إلا أنه يتوقف عليها تحديدُ ما نقصده ﺑ «هذا» عند قولنا «هذا العالم ولا شيء خارجه.» إن طريقة تفكيري وإدراكي «للَّاشيء» بصورة ضحلة أو عميقة، غامضة أو دقيقة، يتوقف عليها طريقة تفكيري وإدراكي للعالم من حيث كونه هذا العالم. وإذا كان تجاوز العالم تجاوزًا ظاهريًّا؛ أي: إذا كانت «خارجه» في قولي: «ولا شيء خارجه» مجرد مظهر فحسب، كان «اللاشيء» وكان العالم بالمثل مجردَ مظهر فحسب. بل إنني لو أنكرت كل ما هو «خارج العالم»، لَمَا أمكنني بحال من الأحوال أن أتكلم عن العالم.
والفهم العام في معظم الأحيان لا يفكر بطبيعة الحال في اﻟ «و»، الواردة في هذه العبارات وأشباهها بطريقة تفسيرية، وإنما يعُدُّها واو عطف فحسب: هذا العالم والعدم أو اللاشيء الذي يقع وراءه وخارجه، والشيء نفسه ينطبق على مفهوم الكلية: كل الأشياء أو الكل والعدم الذي يقع خارجه ويحيط به. وهنا يمكنني القول بأنني قد لا أستطيع حقًّا أن أفكر في الكلية أو الكل المطلق بغير أن أتصوره بشكل من الأشكال محاطًا بالعدم؛ بيد أن هذه الإحاطة، أيًّا كان نوعها، لا يمكن تصورها على نحو مشابه لتصورنا للأشياء في المكان؛ ﻓ «كل» الأشياء على إطلاقه لا يمكن أن يوجد «في» العدم كما توجد الأجسام التي يتألف منها العالم في المكان أو الفضاء (ولا ننسى أن هذه الصورة الأخيرة ليست هي الصورة المناسبة.) لا يمكن تصور العدم وكأنه قشرة تقع على حافة العالم وتلتف حوله … إنه يحيط بكل شيء، ولكنه في نفس الوقت يتغلغل في كل شيء. ولا يجوز مرة أخرى أن نتصور هذا التغلغل تصورًا مكانيًّا، على نحو ما نتصور مادةً تسري في كل شيء أو تلوِّن كل شيء؛ لأننا سنظل قادرين على التفرقة بين المادة وما تلونه؛ على حين أن الكل لا يمكن فصله عن العدم. وبالمثل فإن ما أصل إليه — عندما أتجاوز الحياة عن طريق الفكر — ليس شيئًا مضافًا إلى فكرة الحياة من خارجها، بل هو شيء يسري فيها ويتغلغل في كيانها، ولكن الفهم العام يتصوره ذلك التصور، فيظن مثلًا أن الموت هو خاتمة الحياة التي ستأتي إن آجلًا أو عاجلًا «لتُنهي» بالنسبة إليه كل شيء. على حين أن الموت، لو فكرنا فيه تفكيرًا حقيقيًّا، ليس شيئًا بعيدًا أو قريبًا، بل ليس شيئًا يمكن أن ننظر إليه كما ننظر إلى أي موضوع، وإنما هو حضور دائم، سر محير يلوِّن الحياة في كل لحظة بلونه.
ولكن الفهم العام الكامن فينا يقاوم هذه الحجج الجدلية، ويغلق نفسه دونها، ويُصر على مقولته الغليظة الراسخة: الكل كل، والعدم عدم. وهو مضطر أن يفعل هذا إذا أراد أن يؤكد نفسه وضيق أفقه — وهو ما يريده عنادُه المتأصل فيه دائمًا وأبدًا.
إن الفهم العام يتصور العدم — إن حاول أن يتصوره — في صورة الفراغ الأجوف العقيم، وهذا الفراغ في نظره شيء مفزع مخيف. إنه يسلِّم بغير مناقشة بأن العدم لا يكون إلا عدمًا سلبيًّا. ولكن العدم هو المفهوم المضاد للكل؛ ومعنى هذا أن تفكيري في العدم تفكيرًا عميقًا أو ضحلًا يتوقف عليه كذلك عمقُ تفكيري في الكل أو ضحالتُه. أضف إلى هذا أن الفهم العام يتصور العدم بوصفه حدَّ الكل. وإذا انطلقنا من هذه التصورات وأمثالها، لزم أن يؤدي بنا العلو فوق كل شيء على الإطلاق إلى العدم السيئ، وأن ينتهي العلو المنشود إلى «العدمية»، والعدمية وحدها.
بيد أننا قد أوضحنا على الصفحات السابقة تلك الحقيقةَ الجدلية البسيطة التي تقول إن العلو فوق شيء يتضمن بالضرورة العلوَّ فوق الضد المقابل له؛ فأنا حين أرتفع فوق الكل، فإنما أرتفع كذلك فوق العدم الذي يُعد ضدًّا له. ومثل هذا الارتفاع لا يمكن أن ينتهي بي إلى العدم، والأمر كذلك إذا تصورنا أن الوجود والعدم مفهومان متضادان؛ إذ لا بد أن يؤدي العلو فوق الوجود إلى العلو فوق العدم، وقُل الشيء نفسَه عن الحياة والموت؛ إذ يلزم أن يؤدي العلو فوق الحياة إلى العلو أيضًا فوق الموت.
غير أن هذه الاعتبارات الشكليةَ الجدلية لا تُقنع ولا تُرضي، وهذا حق؛ لأنها ستظل فارغةً حتى نتمكن من إدراك مفهومَي الكل والعدم إدراكًا تأمليًّا، ونملأهما بالمضمون الفلسفي.
وعلينا الآن أن نفعل هذا.
أبهر ما في الوجود «نورا» كما تقول الترجمة العربية ص٢٥١ (٥١٨) الكتاب السابع.
وانظر الترجمة العربية، عن الأصل لليوناني، للأب فؤاد جرجي بربارة، من ص١١٩ إلى ص١٢٧ (الفصل الثالث، مشكلة الخطأ ومسألة اللاوجود) دمشق ١٩٦٩م.