العرض الفلسفي للعلو
(١) المسار الأساسي للفكر المتعالي
مهمتنا الآن هي تجاوز الموقف العدمي الذي يتخذه الفهم العام الكامن في أنفسنا. وهذا سيئ لا يتم إلا بجهد شديد يبذله الفكر. ما السبب في أن الكل ليس هو كل شيء، وأن العدم ليس عدمًا؟ لا بد أولًا أن أجيب على هذا السؤال: ما معنى «كل شيء»؟ لقد أكدنا في تعريفنا التمهيدي كلمة «كل شيء» وصعدناها بإضافة «على الإطلاق» فقلنا: كل شيء على الإطلاق. علينا إذن أن نأخذ هذا المفهوم بأوسع وأشمل معانيه فنقول: كل ما يوجد على وجه الإطلاق.
بيد أن الكلية لا تساوي الوحدة الكلية، وإن لم تكن التفرقة اللغوية بينهما تفرقةً فاصلة دائمًا. إن «كل» تعني المجموع في مقابل الأجزاء التي يتركب منها؛ بحيث تُتصور الأجزاء في علاقة معينة مع بعضها ومع الكل. ومفهوم الوحدة الكلية يشتمل ضمنًا على تنظيم الأجزاء وترتيبها، ولا يمكن أن تُستبدل أجزاء وحدة كلية أصيلة ببعضها البعض أو يحل أحدها مكان الآخر، ولا يمكن أيضًا أن ينقص منها جزء. ولا وجود لهذا كله عند التفكير في مفهوم الكلية (قارن تفرقة أرسطو في الميتافيزيقا — ١٠٢٤أ — بين وحدة الكل وكل شيء).
صحيح أن الكلية — على العكس من وحدة الكل — تبدأ من الأشياء الفردية، ولكنها مع ذلك أكبر من أن تكون مجرد تجميع هذه الأشياء الفردية، إن «الكل على وجه الإطلاق» يضم الأشياء الفردية جميعًا؛ بحيث لا ينقص منها شيء. وهنا يتضح وضوحًا كافيًا أننا لا نستطيع أن نصل إلى مفهوم الكلية بمجرد تجميع الأفراد؛ لأننا لن نتمكن أبدًا — ولا حتى في الخيال — من الإحاطة بالكثرة اللامتناهية من الأفراد الذين يضمهم هذا المفهوم، وهو ما يُفترض في أي تجميع.
ولا نريد أن نستطرد في السؤال عن حقيقة الكلية — التي تختلف بالضرورة اختلافًا أساسيًّا عن جميع الأشياء الفردية؛ من حيث إنها تتقدم عليها جميعًا — وهل هي «مثال ترانسندنتالي» — كما حاول كانط أن يثبت ذلك في شروحه العميقة في نقد العقل الخالص — أم لا؟ فربما كانت هذه مشكلة جانبية بالنسبة إلى المشكلة التي تواجهنا. وأهم من ذلك أن ننتقل مباشرة إلى هذا السؤال: كيف يكون الكل على الإطلاق — أي «الكل» بمعناه الميتافيزيقي — غير الكلي بالمعنى اليومي المعتاد الذي يضفيه الفهم العام على هذه الكلمة؟
- الخطوة الأولى: كل ما هو موجود٩ فهو شيء ما؛ أي: شيء موجود على هذا النحو لا على نحو آخر؛ ومعنى هذا أنه معين ومحدود، ولكن المحدود محاط (بشيء آخر)؛ أي: إنه في «أين» ما. والوجود، من حيث هو وجودٌ متناهٍ، هو دائمًا وجود في أين. كل ما هو موجود فهو موجود في أين.
- الخطوة الثانية: كل «أين» يُعلى عليه (وهذا بالمعنى المزدوج؛ أي: أنه يقبل العلو فوقه، كما يلزمنا ويفرض علينا أن نعلو عليه). ونود أن نوضح الخطوة الثانية بالتأمل التالي: ما لا أقدر على الخروج منه١٠ بحال من الأحوال، هو ما لا أقدر على معرفته ولا التفكير فيه ولا الكلام عنه؛ ومن ثَم فإنني لا أقدر كذلك على القول بأنني لا أستطيع الخروج منه، ولا على التفكير في ذلك أو معرفته. والقول بأنني لا أستطيع بحال من الأحوال — لاحِظ أنني أقول بحال من الأحوال! — أن أخرج من هذا أو ذاك؛ من العالم مثلًا أو الزمان أو اللغة أو من نفسي ذاتها؛ هو في الواقع قول متناقض وبلا معنًى. لماذا؟ لأن هذه العبارة: «أنا لا أستطيع أن أخرج من هذا أو ذاك» تفترض سلفًا أنني قد خرجت قبل ذلك بشكل من الأشكال من ذلك الذي أزعُم عنه أنني لا أستطيع الخروج منه، وعلى أساس هذا الخروج السابق وحده يمكن عندئذٍ التشكك في إمكانية الخروج؛ ولهذا فإن المقصود دائمًا من أمثال هذه الأقوال والعبارات هو أنني لا أستطيع الخروج من هذا أو ذاك من ناحية معينة فحسب، ولكنها لا تعني أبدًا أنني لا أستطيع الخروج من هذا أو ذاك على الإطلاق؛ لأن هذا لن يكون قولًا كاذبًا فحسب، بل لأنه قولٌ بلا معنًى، وإن كنا لا ندرك هذا عندما ننظر إليه من ناحية الشكل اللغوي وحده.
لو قلت مثلًا إنني لا أستطيع أن أنتقل إلا من لغة إلى لغة أخرى، لكان هذا القول صحيحًا، ولكني لو قلت إنني لا أستطيع أبدًا أن أخرج من اللغة على الإطلاق، لكان هذا القول بدوره خاليًا من المعنى؛ لأنه لو صح ما أمكننا بحال من الأحوال أن نخرج من مجال اللغة، ولَمَا أمكننا أن نعرف شيئًا عن هذا المجال ولا عن وجودنا فيه. إنني عندما أتكلم عن اللغة (لاحِظ أنني أقول اللغة ولا أقول لغة من اللغات). وعندما أتكلم عن اللغة من حيث هي لغة، فإنني أكون قد تجاوزت اللغة بما هي كذلك؛ وسبب هذا أن مجرد تسمية الشيء بما هو شيء، أو الكلام عنه، أو التفكير فيه؛ يعني تخطيَه وتجاوُزَه بما هو كذلك.
وإذا تكلمت عن العالم بما هو عالم — سواء أكان ذلك صراحةً أم ضمنًا — فإنني أكون بذلك قد تخطيته فعلًا. وعلى الرغم من بساطة هذه الفكرة، أو بالأحرى هذا المسار الفكري، فمن النادر فيما يبدو أن نجدها واضحةً في الأذهان، ومن المألوف أن يعارضها الناس في كل مكان. إن كلَّ «في أين» أعرفه يمكن العلو فوقه، بل إنني في اللحظة التي أعرفه فيها معرفةً صريحة أكون قد تخطيته بالفعل على نحو من الأنحاء. وإذن فإن أيَّ «في أين» أعرفه لا يمكن أن يكون هو الشيء الأخير؛ أي: لا يمكن أن يكون كل شيء. تبين لنا أن الكلية، أي: كل شيء على الإطلاق، هي «في أين» المتقدمةُ على جميع الأشياء الفردية، ولكن معرفتي بهذه اﻟ «في أين» وتفكيري فيها يعني أنني قد تخطيتها بالفعل. وإذن فلا يمكن أن يكون كل شيء هو كل شيء على الإطلاق؛ لأنه لو كان كلَّ شيء، لَمَا أمكننا بحال من الأحوال أن نعرفه.
وإذن فالعلو فوق كل شيء على وجه الإطلاق لا يمكن أن يؤدي إلى أيِّ «في أين» محتوٍ على كل شيء على الإطلاق؛ لأن هذا اﻟ «في أين» نفسَه سيكون كذلك قابلًا لأن يُعلى فوقه؛ ولهذا فهو يدل على فوق كل «في أين»، ولا يمكن أن يؤدي العلو المطلق إلى «في أين» أخيرٍ شامل لكل «في أين»؛ لأن مثل هذا اﻟ «في أين» لا وجود له أبدًا، ولأن مفهوم اﻟ «في أين» النهائي الأخير مفهوم خالٍ من المعنى. ولكن إلى أين إذن يؤدي هذا العلو؟ أم أن السؤال قد أُسيء وضْعُه؟ لأنني لو سألت بهذه الطريقة، لافتُرض ذلك مقدمًا — والأسئلة التي لا تقوم على افتراضات سابقة ما زالت أقلَّ بكثير من الأجوبة التي لا تقوم على افتراضات. إنه يمكن الإجابة عليها بإجابة من هذا الشكل: العلو فوق كل شيء على الإطلاق يؤدى إلى هذا أو ذاك؛ على حين أن ذلك الذي يؤدي إليه مثل هذا العلو لا يمكن أبدًا أن يصبح شيئًا موضوعيًّا؛ وبالتالي لا يمكن التعبير عنه تعبيرًا مباشرًا.
يتحتم علينا لهذه الأسباب كلها أن نتناول فكرة العلو الضروري لكلِّ «في أين» بمزيد من التفصيل والشرح الجدلي، وسوف نحاول أن نقوم بهذا بتقديم بعض الأمثلة البارزة لمثل ذلك اﻟ «في أين».
هذا العرض الموجز لا يستنفد معنى كلمة العالم بحال من الأحوال؛ لا من الناحية اللغوية ولا الفكرية، ولكنه يكفي لتوضيح ما نعتقد أنه الخاصية الرئيسية لمفهوم العالم، وأعني بها العالم من حيث هو «في أين» مغلَقٌ على نفسه وتام في ذاته.
وتشترك المعاني السابقة في أن العالم = الأرض (من حيث هي المكان المحدود الذي يسكنه البشر)، وأن العالم = الكون (من حيث هو المجموع التام للأجرام السماوية). ونحن نقول أيضًا عن هذه الأجرام السماوية إنها موجودة في القضاء الكوني أو في فضاء الأكوان؛ علمًا بأن الفيزياء الحديثة تصف العالم اليوم بأنه بغير نهاية وإن يكن متناهيًا، أو بأنه بلا حدود وإن يكن محدودًا. ولكن معنى «في أين» المقفلة أو التامة في ذاتها ليس خاصية جوهرية مقصورة على المفهوم الطبيعي للعالم، وهو المفهوم الذي ذكرناه منذ قليل، فهو يصدق أيضًا على ما يُعرف بالمفهوم الشخصي للعالم، وهو الذي يقصِد بالعالم مجموعَ البشر؛ سواء كانوا هم البشر الذين يدخلون في تكوين طبقة أو بيئة حيوية وحضارية معينة؛ فالمراد بالعالم في كل هذه الأحوال هو معنى «الدائرة الحيوية المقفلة أو التامة …»
وأخيرًا يصدق هذا أيضًا على ما يُعرف بالمفهوم الزماني للعالم؛ فالعالم هنا يساوي العصر البشري، ويُقصَد به عصر بشري محدود وتام في ذاته؛ في مقابل عصور غير بشرية سبقته وجاءت بعده وكانت من عصور العمالقة أو الآلهة.
بيد أن تحصيل الحاصل المذكور أبعدُ ما يكون عن تكويم الألفاظ المشابهة بطريقة سطحية لا غناء فيها، إنه في الواقع يعبر عن الموقف أدق تعبير وأوجزه وأغناه بالفكر، مهما بدت هذه العبارة قاصرةً في نظر الفهم العام، وكأنها آخِر فصل من فصول الحكمة أو آخر سهم في جعبتها.
غير أن العالم لا يمكن أن يكون هو آخر شيء، ولا يمكن أيضًا أن تكون «العالمية» هي كل شيء؛ لأن كل «في أين» — أيًّا كان تصورنا لها من الناحية الأنطولوجية أو الناحية الميتافيزيقية؛ وبسبب تفكيرنا فيها من حيث هي «في أين» — يمكن العلو فوقها، ولا يتوقف الفكر إلا حيث يصطدم بما لا يستطيع بعدُ أن يرتفع فوقه؛ أي: ما لا يستطيع أن يفكر فيه أو يدركه من حيث هو هذا أو ذاك، بل بما يتأبَّى على كل تحديد ومفهوم؛ أي: لا يمكن تبعًا لهذا أن نتكلم عنه مباشرة. ونود أن نوضح هذا بأن نزيد مفهوم العالم تحديدًا فنقول: العالم هو دائرة العالم.
العالم هو دائرة العالم. وليست الاستدارة هي أهم ما يميز مفهوم الدائرة — كما هو الحال في الدائرة الرياضية بوصفها المكان الهندسي؛ الذي يحتوي على جميع النقاط التي تبتعد عن نقطة ثابتة على السطح بمسافة متساوية — بل إن أهم ما فيه هو فكرة الإحاطة التامة.
ونحن حين نتحدث عن دائرة الأسرة أو الأصدقاء أو القرَّاء أو المستمعين؛ لا نفكر في الشكل الرياضي بقدر ما نفكر في معنى التحدد أو الانغلاق على الذات؛ فنحن ندخل في مثل هذه الدائرة أو نخرج منها.
وهكذا يرى هيجل — كما يدل هذا النص وغيرُه من النصوص العديدة — أن أهم ما يميز الدائرة، إلى جانب ما فيها من انتظام، هو تراجُعها على نفسها، وانغلاقها على ذاتها، وتحدُّدها وتمامها.
(٢) الانفتاح علامة العلو
إذا كان كل أفق نتصوره تامًّا في ذاته، فإنه يشير إلى ما يجاوزه ويقع وراءه، ونحن نستطيع أن نعبُر أفقًا معينًا، ولكنَّ أفقًا جديدًا سيفتح على الفور وراءه. ونستطيع أن نكتسب أفقًا جديدًا أرحب منه، ولكن هذا الأفق الجديد أيضًا سيُفضي بنا إلى ما بعده. ونستطيع أخيرًا أن نستبدل أفقًا بأفق، ولكن كل أفق مهما كان نوعه واتساعه يشير من حيث هو كذلك إلى ما يتجاوزه ويتخطاه. والعالم كذلك — مهما بلغ مفهومي عنه من الشمول والاتساع — يشير من حيث هو عالم إلى ما يقع وراءه، ولكن ليس معنى هذا أن أبحث عن عالم آخر وراء هذا العالم أو خارجه؛ إذ إن هذا العالم الجديد سيشير بدوره إلى ما بعده ووراءه؛ بل معناه أنه يفضي بنا إلى ما ليس بعالم ولا أفق، ولا يمكن أن يكون مقفلًا أو تامًّا في ذاته، وهذا هو الذي نود أن نسميه الانفتاح.
ما معنى المنفتح والمفتوح؟ للكلمة من الناحية اللغوية صورتان: «غير مقفل»، كأن نقول عن الباب مثلًا إنه مفتوح، و«غير مغطًّى»، كأن نصف العربة مثلًا بأنها مفتوحة. والصورتان ينطبق عليهما ما يسميه النحويون بالماضي الأتم؛ بحيث تدل صفة المفتوح على ما قد تم فتحه بالفعل؛ أي: على حال الانفتاح الذي تم أو حصل نتيجة فعل أو نشاط معين. المفتوح إذن معناه: غير مقفل، غير مغطًّى؛ أي إنه في الحقيقة تعبير سالب. وعلينا أن نتنبه جيدًا إلى هذا المعنى.
إلى أين إذن يُفضي بنا العلو فوق كل شيء على الإطلاق؟ سنلتقط هذا السؤال القديم مرةً أخرى، وإن كان قد تبين لنا الآن أن صيغة السؤال غير صحيحة. ولما كان ذلك الانفتاح، الذي يمكن أن تدخل فيه الأشياء لحظاتٍ قليلة، انفتاحًا موقوتًا فحسب، فلن يكون في إمكاننا أن نقيم فيه إقامةً دائمة، بل سنكون مضطرين — بحكم كوننا مخلوقاتٍ نقيم في هذا العالم المقفَل الذي هو مكاننا الطبيعي — أن نسمح لأنفسنا باللجوء إلى التعبير عنه بعبارات قاصرة عن بلوغ حقيقته؛ على نحوِ ما يفعل أبرع الجدليين عندما يفكر في المطلق ويضيق بأقوالٍ من نوع: هو هذا وذاك، أو ليس هذا ولا ذاك، أو المطلق هو كَيْت وليس بِكَيت، وليس هو وجودًا ولا غير وجود … إلخ، فيضطر أخيرًا إلى حسم الأمر ليتمكن من مواصلة تأملاته ويقول ببساطة: المطلق يكون …
بهذا المعنى غير الأصيل يمكننا نحن أيضًا أن نجيب على السؤال بقولنا: العلو فوق كل شيء على الإطلاق يؤدي إلى الانفتاح — وإذا شئنًا الدقة: فهو لا يؤدي إلى أيِّ «أين».
وإذن فلا تخلو تجربةُ وَجْد حقيقيةٌ من الشعور بالاقتلاع؛ أي: بأن الإنسان يُقتلع من كل شيء، كما لا تخلو من القلق.
وقد أصبح القلق مصطلحًا أساسيًّا منذ صدور كتاب كيركجارد «مفهوم القلق»، الذي يُعد من أهم الكتب الفلسفية في القرن الماضي. وللكلمة معانٍ كثيرةٌ ومستويات متعددة، ولا تتضح هذه المعاني والمستويات إلا إذا ابتعدنا عن مفهومها النفسي الذي يدل على انفعال أو عاطفة، وفكَّرنا فيها تفكيرًا ميتافيزيقيًّا من حيث هي تجربة إنسانية أساسية وأوَّلية تعلو فوق جميع المعطيات الداخلة في نطاق العالم. وهنا نجد أيضًا — من وجهة النظر الفلسفية الميتافيزيقية — عدة أساليب وأشكال مختلفة من القلق لا بد من التفرقة بينها بدقة، كما فعل كيركجارد؛ إذ لا يجوز بحال من الأحوال أن نتناولها بغير تمييز.
وعلينا أن نشير في هذا المقام إلى القلق الذي ينشأ عن تلاشي العلو وزواله؛ إذ إن لهذا القلق أيضًا جوانبَ مختلفةً وأشكالًا عديدة. إنه في الحقيقة مرتبط بفقدان الانفتاح، وهو أمر ينجم عن تلاشي العلو؛ ومن هنا ينفُذ الشعور بالضيق والحصر الذي ينطوي عليه مفهومُ القلق، كما يوحي به المعنى الأصلي للكلمة. فالعالم الذي خلا من العلو كلُّ ما فيه ضيِّق ومغلق ومقفل؛ وكما أن العالم يصغُر باستمرار، على الرغم من اتساعه المتزايد أمام النظرة الفلكية، فإنه يزداد كذلك ضيقًا على ضيق. لن يوجد ثَم مكانٌ خالٍ، سيتزاحم الناس ويتدافعون في الأماكن التي انكمشت من الضيق. إن ما نتحدث عنه هنا، من عدم انفتاح العالم، لا يصدُق بحال من الأحوال على العالم في مجموعه فحسب، وكأن جدارًا سميكًا يلتف حوله ويمنع من العلو عليه؛ وإنما ينطبق كذلك على كل جزء فيه. في عالمٍ خلا من العلو ينغلق أقل الأشياء على نفسه، لا يتجاوز ذاته، لا يشير إلى «آخر» مختلف عنه كلَّ الاختلاف، لا يجد سبيلًا إلى الانفتاح. صحيح أن القلق الذي ينشأ عن تلاشي العلو تخفُّ حِدَّته في العادة ويطغى عليه ضجيج الحياة اليومية، ولكنه مع ذلك يتربص في كل مكان، ولا يبعد أن يشتعل في أية لحظة ولأوهى سبب.
وللقلق الناجم عن تلاشي العلو جانب آخر؛ إنه دائمًا قلقٌ من العلو؛ أي: إنه — بسبب ارتباط العلو نفسه بالقلق — قلقٌ من القلق. وقد يمكننا أن نحدده بأنه قلق من انعدام القلق؛ وذلك إذ عرَفنا أن القلق الملازم للعلو يغيب عند اختفائه وتلاشيه.
والواقع أن كل شيء في مجال القلق يكتسب الطابع الجدلي، كما أن القلق نفسه، كما لاحظ كيركجارد، هو الجدلي الأكبر.
وقد بيَّن كيركجارد هذه الماهية الجدلية للقلق بيانًا رائعًا في كتابه «مفهوم القلق».
القلق الناشئ عن اختفاء العلو وزواله وتلاشيه قلق جدلي؛ فالإنسان من ناحيةٍ يقلق من تلاشي العلو وإمعانه في التلاشي؛ أي: يقلق من فِقدان العلو وغيابه، وهو من ناحية أخرى يعود فيشعر بالقلق من حضوره ومن العلو نفسه. وإذن فالإنسان في حالة القلق هذه يشتاق للعلو ويندفع إليه، كما يتهيبه ويهرُب منه. وجدير بالذكر أن كل علاقة أصيلة بالواقع تجمع هذا الازدواج بين التشوق والتراجع، كما أن كل قلق أصيل يحمل هذه الصورة الجدلية المزدوجة. ولهذا يضع القلق نفسه في حالة من التأرجح تُضاعف من قلقه. ومن طبيعة القلق أن يَزيد نفسَه بنفسه؛ فكل قلق يولِّد القلق من أن يشعر الإنسان بالقلق. فكما أن القلق — إن جاز هذا التعبير — يتعلق بالمطلق؛ فإنه يحمل في ذاته الميل إلى المطلق.
إن كل شعور بالقلق يضع القلق وكل شيء على الإطلاق في حالة عجيبة من الغموض والتأرجح، فكل ما هو ثابت وراسخ، كل ما يمكن أن يستند إليه المرء أو يتشبث به؛ يختفي منه وينزلق عنه؛ لهذا يصعب تحديد مفهوم القلق وتثبيته، كما يصعب تحديد ما يحس الإنسان حياله بالقلق؛ ولهذا أيضًا يقصُر كل عرض منهجي للقلق عن الوفاء بموضوعه؛ إذ لو أمكن إدراك القلق أو فَهمُه علميًّا، لأصبح شيئًا من الأشياء التي تدخل في إطار العالم، وصار ظاهرةً ضمن ظواهر أخرى، وتوقف عن أن يكون قلقًا. وكما أن من المستحيل أن يصبح ما يقلَق الإنسان منه موضوعًا، كذلك يستحيل أن يصبح القلق نفسه موضوعًا أو أن ينفصل الإنسان عنه، وإذ شئنا الدقة فإن من المستحيل تحديده، ليس الإنسان هو الذي يتملك القلق، بل القلق هو الذي يتملك الإنسان.
لا بد — من وجهة نظر العلو — من التفرقة على أقل تقدير بين نوعين من القلق مختلفَين أشدَّ الاختلاف، هما في نفس الوقت درجتان من درجات القلق، ونقصد بهما القلق الذي ينشأ عن تلاشي العلو وغيابه، والقلق الذي ينتمي إلى حضور العلو نفسه.
وهذه التأملات توضح شيئًا آخر؛ وهو أن القلق مرتبط بكل علاقة بالعلو.
ونحن نجد عند كيركجارد أن ما أمام القلق ليس هو العدم (بأداة التعريف)، بل هو «عدم ما». ويتضح هذا من نص آخر يجيء في الموضع نفسه بعد النص السابق بقليل: «شيء ما، هو عدم.» ويهتم فيه كيركجارد، قبل كل شيء، ببيان غموض ما يقلق منه الإنسان والكشف عن عدم تحدده، وتمييز القلق من الخوف الذي يتعلق دائمًا بشيء ملموس محدد.
إن العلاقة بين القلق والعدم تتضح أيضًا للفهم العام بغير عناء؛ ولهذا ينبغي للعبارة القائلة بأن «القلق يكشف العدم» — إذا أردنا لها أن تكون أكثر من كلمة مبتذلة من الكلام الشائع — أن تُرفع أولًا إلى مستوى التفلسف؛ على نحو ما فعل هيدجر في محاضرته المذكورة وهو بصدد السؤال عن ماهية الميتافيزيقا، وهذا هو أهم ما في المحاضرة؛ لأن الكشف عن العلاقة بين القلق والعدم أمر كان كيركجارد قد بسطه بسطًا رائعًا قبل هيدجر بكثير.
عندما نقول إن القلق يكون إزاء لا شيء أو إزاء العدم، فإن ما تعنيه هذه العبارة، أو ما لا تعنيه، يتوقف توقفًا تامًّا على مدى عمق التجربة التي ينبثق منها ودرجة كثافتها، كما يتوقف أيضًا على مدى تحديد مفهوم القلق الذي نفكر فيه، وكلا الأمرين لا ينفصل عن الآخر.
كما أن هناك أنواعًا عديدة من القلق؛ فهناك أيضًا أنواع مختلفة من العدم، فإذا أخذنا العدم بمعنى العدم الفارغ، أي بالمعنى الذي يفهمه منه «الفهم العام»، كانت العبارة كلها سخفًا، أو إذا جاز التعبير مجرد نكتة ميتافيزيقية. وإذا أخذنا العدم بمعنى أنه ليس شيئًا ما أو ليس موجودًا، كان العدم في الحقيقة وجهًا من وجوه العلو الذي ليس شيئًا ولا موجودًا، وسنصل من هذه الجهة إلى أن كل علاقة متعالية تنطوي على القلق. غير أنه يتحتم علينا أن نتحرر من فكرة مسبَّقة تُعد من أسوأ ما يمكن تصوره من الأفكار المسبقة؛ ألا وهي الفكرة التي تذهب إلى أن «اللا» و«العدم»، والسلب بوجه عام هي نفسها اللاشيء بالمعنى السيئ الذي يرادف التفاهة والعقم. إنها فكرة مسبقة أو تحيُّز يشبه ألا يكون هناك سبيل للتخلص منه؛ لأنه جزء من الرصيد الميتافيزيقي الأساسي الذي يحتفظ به الفهم العام، فالعدم يُعد لا شيء من وجهة نظر ميتافيزيقا الفهم العام، إنه يتجاهل أهمية السلب ودلالته، وهو مضطر إلى هذا لأن هذه هي وسيلته الوحيدة لتأكيد استقلاله أو اعتزازه بنفسه. وهذا التجاهل يتم التعبير عنه بطريقتين؛ أولًا بالحط من قيمة السالب والانحدار به إلى مستوى الشيء التافه؛ أي: ما لا يصح أن يوجد على الإطلاق، وثانيًا بجعل السالب أمرًا قليل الشأن يمكن أن يوجد «على الهامش» بجانب الإيجاب.
•••
بيد أنه لا يجوز أن نجعل من المفتوح والانفتاح اسمين مباشرَين، فما يجرَّب أثناء تجربة العلو لا يُسمح بالكلام عنه أو النطق به. ومن زعم أنه يفعل معه هذا فقد أخطأه؛ لأن ما يقبل الكلام أو التعبير عنه إنما يدخل بذلك في نطاق العالم؛ أي: يصبح من العالم ولا يعود متعاليًا عليه. ونحن لا نقصد بالانفتاح هنا أن يكون اسمًا على العلو، بل ملمحًا يدل عليه؛ بمعنَى أن يلفت انتباهنا إليه ويعرِّفنا به. ونريد في هذا السياق أيضًا أن نتحدث عن «العلامة»، فالانفتاح هو علامة العلو.
ينبغي علينا إذن أن نفهم العلامة بمعنى ذلك الذي عن طريقه يعلن العلو عن نفسه ويعرف بنفسه. بهذا المعنى يكون الانفتاح هو علامة العلو، ولكنه ليس هو العلامة الوحيدة؛ فالعظمة بالمفهوم الذي شرحناه من قبل علامةٌ أخرى على العلو. وسوف نذكر في الصفحات القادمة عددًا آخر من العلامات التي تدل على العلو أو تشِفُّ عنه.
(٣) المكان والزمان والعلو
علينا الآن بعد العرض الأوَّلي لمسار الفكر المتعالي أن نتناول المفهوم الأساسي الذي ورد فيه، وهو مفهوم اﻟ «في أين»، تناولًا فلسفيًّا مفصلًا. لقد تعلمنا من هذا الفكر أن كل ما هو متناهٍ يقبل بحكم تناهيه أن يُعلى فوقه. ولكننا لم نتعلم هذا فحسب؛ إذ لو اقتصر الأمر عليه، لَمَا كانت هذه فكرة غير عادية، وإن لم يَعنِ هذا أيضًا أنها فكرة تافهة. إن الفهم العام نفسه يعلم أن كل شيء ممتد، مهما بلغ من كبر الحجم، يمكن التفكير في شيء أكبر منه، وهو يعلم كذلك أن كل ما هو ممتد، مهما كان صغير الحجم، يمكن التفكير في شيء أصغر منه، كما يمكن العلو عليه حتى من ناحية الصغر.
والواقع أن لكل متناهٍ، من حيث هو معين ومحدود، جوانبَ متعددة، وهو يقبل العلو عليه من كل جانب من هذه الجوانب على حِدَة، ومع ذلك فحيثما وصل بي مثلُ هذا العلو، فإني أصل في كل مرة إلى ما هو متناهٍ، وليكن حجمه — إن شئنا أن نواصل التفكير من ناحية الكم — ما يكون من الكِبر أو الصغر. ولو نظرتُ للعالم من الناحية الفلكية، بوصفه مجموع الأجسام التي يحتوي عليها، نظرتي إلى شيء متناهٍ — كما تفعل الفيزياء الحديثة — لوجدت أن هذا العالم المتناهي يمكن العلو فوقه، مهما ذهب بي التصور إلى تخيل عالم له نصف قُطر انحناء أكبر من نصف قُطره الحالي، مع العلم بأن الفيزياء الحديثة تتصور العالم بوجه عام بوصفه جِرمًا في حالةِ تمدُّد لا في حالة ثبات.
بقي علينا الآن أن نوضح مفهوم اﻟ «في أين» الذي ثبتت أهميته البالغة خلال هذه التأملات.
على أن الفكرة الأساسية التي توصلت إليها هذه الفلسفة المثالية هي أن الأنا — بوصفها «في أين» كلِّ ما هو موجود — ليست هي نفسها موجودًا ولا يمكن أن تكون من نوع أيِّ موجود.
ولكن هذه المثالية تفكر في الوجود من حيث هو وجود–في؛ لأن كل ما يوجد، يوجد في الأنا؛ أي: أن كل موجود هو موجود–في.
أما عن عبارة «وخارج الأنا لا يوجد شيء» التي لم تلحق بما سبقها بطريق الصدفة، وإنما تتصل بها اتصالًا جوهريًّا؛ فأحسب أن آذاننا قد تعودت على مثل هذه العبارات. فقد يكون معناها: خارج الأنا لا يوجد شيء؛ أي: لا يوجد شيء أو موجود ما؛ لأن من المعروف أن كل موجود في تقدير الموقف المثالي إنما يكون بالضرورة في الأنا. وقد يكون معناها أيضًا: خارج الأنا لا يوجد شيء بعدُ. ومن الواضح أن هذا هو موقف فيشته، كما هو موقف المثالية الألمانية التي تقوم على فلسفته؛ أي: موقف شيلنج في مرحلته الفكرية المبكرة وموقف هيجل.
ليس هذا من قبيل الصدفة؛ فالواقع أن اسبينوزا هو الذي أدخل مفهوم المطلق في الفلسفة الحديثة، ولعله أن يكون أشد رجالها تطرفًا في تفكيره في المطلق والتزامه به. حقًّا، إن الأنا قد حلَّت عند فيشته محل الله، ولكن الفرق بينهما من ناحية أقلُّ مما قد يبدو في ظاهره، ومن ناحية أخرى أكبر، فهو أقل من حيث إن الأنا عند فيشته لا يُقصد بها الأنا البشرية الفردية؛ وإنما يقصد بها الأنا المطلقة، بل إن الصيغة التي وُفق إليها فيشته تدل على كسب تأملي كبير لم يبلُغْه اسبينوزا؛ إذ إنها تعبِّر، فيما تعبر عنه، عن أن المطلق لا يمكن ولا يجوز بحال من الأحوال أن يُفهم فهمًا موضوعيًّا، ولا أن يُتصور كما يُتصور أيُّ شيء. ولكن تغيير اسم المطلق (بأسماء مختلفة) يُعبر من ناحية أخرى تعبيرًا واضحًا عما وصفناه باختفاء العلو وتلاشيه، كما يكشف عن أن المطلق قد فقدَ خلال الفكر الحديث علوَّه، كما فقد تبعًا لذلك واقعيتَه.
هكذا تشترك جميع هذه المواقف الميتافيزيقية المحدَثة في أنها تضع شكلًا من أشكال اﻟ «في أين» وتفكر فيه؛ كالله، والمطلق، والوجود، والعالم من حيث هو «الآخر» الذي لا يمكن العلو فوقه. من هذه الزاوية يمكن القول بأن اسبينوزا أيضًا قد بقي مقيَّدًا بروح العصر الحديث متأثرًا بطابَعه.
من هذا يتبين لنا أن مفهوم «في أين» هو أحد المفاهيم أو المفاتيح الهامة لمشكلة العلو؛ لهذا يتعين عليه أن نتتبعه بالتفصيل:
الأصل في مفهوم «في أين» أنه مفهوم مكاني، وهذا أمر يتبين بوضوح من التحليل اللغوي البسيط، ويتبين من اللغة أيضًا أن الإحساس بالعلاقات المكانية يظل ملازمًا له بعد انتقاله إلى الاستعمال المعنوي والمجازي. وإذن فمفهوم «في أين» لا ينفصل عن مفهوم المكان، ومحاولة فهمه، فهمًا جوهريًّا أفضل، تعني محاولة التفكير في المكان تفكيرًا جوهريًّا أفضل.
ما المكان؟
هذا سؤال ضخم، ولا يمكننا الآن تناولُه بجميع أبعاده، بله الإجابةَ عليه؛ ولهذا فسوف نكتفي بإبداء بعض الملاحظات الأولية؛ على أن يظل السؤال عن العلو هو وجهة النظر الأساسية التي ننطلق منها.
ونود أولًا أن نوجه الانتباه إلى نقطة قد تبدو للوهلة الأولى جانبيةً أو ثانوية، ولكنها في الحقيقة تستحق الاهتمام؛ إن السؤال عن العلو قد أدى بنا إلى المكان لا إلى الزمان.
ولكننا لا نريد أن نقف هنا عند التصور الرياضي–الفيزيائي للمكان؛ فالواقع أن الفيزياء الحديثة لا تهتم بالمكان والزمان إلا بقدر ما يقْبلان القياس، ولكنها لا تهتم بماهية المكان والزمان، والمقاييس يُعبَّر عنها بالأرقام والصيغ الرياضية، بينما الماهية لا تقبل القياس البتة، وتُفلت من كل حساب.
ربما أمكننا أن نسأل: ما الذي جعل الزمن — ومعه التاريخية — يحتل هذه المنزلة الهامة من الفلسفة الحديثة والمعاصرة؟ وليست الإجابة على هذا السؤال عسيرة، وإن كنا سنكتفي ببعض الإشارات الموجزة أشدَّ الإيجاز. إن الأمر يرجع ببساطة إلى المكانة التي تَشغَلها مشكلة التناهي في هذه الفلسفة؛ وبوجه خاص مشكلة تناهي الإنسان، وهذا التناهي يظهر في صورته الحادة في زمانيته التي تتضمن فناءه وموته؛ ولهذا كان التفكير في الإنسان من حيث هو كائن فانٍ (أو مائت)؛ مساويًا للتفكير فيه من خلال أفق الزمن.
ويصدُق هذا أيضًا على الزمان؛ فالأجل المحدد للإنسان في هذه الحياة ليس ضئيلًا فحسب إذا قورن بالأرقام الفلكية الهائلة، بل إن الإنسان يعيش أيضًا في هذه الأماكن الزمانية اللامحدودة في زمن محدد تامِّ التحديد، وهو يعيش فيه — وهذا أيضًا هو أوضح تعبير وأقساه عن تناهيه — بغير أن يعرف لماذا يحيا في هذا الزمن ولا يحيا في زمن آخر. هكذا يشعر الإنسان — ونقصد به الإنسان الحديث — بأنه مُلقًى به في المكان والزمان.
هذا الفارق الأساسي بين المكان والزمان يحُدُّ منذ البداية من كل محاولة للموازاة بينهما. ذلك أن «عدم قابلية العكس» ليست مجرد خاصية للزمان تُضاف إلى غيرها من الخواص، وإنما هي جزء أساسي من ماهيته.
إن ظاهرة المكان تحمل بالنسبة إلى العلو معنًى مختلفًا تمام الاختلاف عن ظاهرة الزمان. ونود أن نؤيد هذا بملاحظة بسيطة؛ وهي في الواقع ملاحظة متناهية في البساطة، ولكنها، بقدر علمنا، لم تحظَ حتى الآن بانتباه أحد. وخلاصتها أن الزمان له مفهوم مضادٌّ خاص به؛ وهو مفهوم الأبدية، أما المكان فيفتقر إلى مثل هذا المفهوم المضاد المقابل له.
إن الأبدية هي المفهوم المضاد للزمان والزمانية، ولا بد لتكوين مفهوم الأبدية من أمرين: فيلزم أولًا أن نفكر في الأبدية بوصفها شيئًا مختلفًا عن الزمان؛ إن الأبدية تختلف عن الديمومة اللامتناهية وتزيد عليها، وإن كنا نجد اليوم في لغة الكلام العادية تعبيراتٍ يميل الناس إلى ترديدها، ويستخدمون فيها كلمة «أبدي» بمعنى «الاستمرار بغير انقطاع»، إلى جانب معنى الإرهاق والملل؛ كأن يقال مثلًا: «لم أعد أحتمِل سماع التفجع أو الشكوى الأبدية.»
لهذا كان أول ما يجب علينا هو ألا نفكر في الأبدية من جهة الزمان — كما هو الحال عندما نتصور أنها ديمومة لازمانية أو أنها متقدمة على الزمان أو لاحقة له أو متواقتة معه — بل يجب، على العكس من ذلك، أن نفكر في الزمان من جهة الأبدية.
إن من العلامات التي تدل على اختفاء العلو أن البحوث الفلسفية الحديثة التي تتناول الزمن؛ لا تذكر الأبدية، إن ذكرتها على الإطلاق، إلا على الهامش وبصورة عابرة. فإذا تكلمَت عن الزمن وضعت الأبدية إلى جانبه، ثم لا تلبث أن تُسقطها بإشارة ذكية، (والاستثناء المهم في تاريخ الفلسفة الحديثة هو اسبينوزا الذي تُعد الأبدية، لا الزمان، المفهومَ الأساسي في كتابه الأخلاق.)
لو طرحنا الآن هذا السؤال العام: إلى أين نصل عندما نعلو فوق الزمن؟ لأجاب أي إنسان بقوله: إلى الأبدية. فلو سألنا: وإلى أين نصل إذا علونا فوق المكان؟ لتعذَّر عليه أن يجد الإجابة، وهذا هو الذي يحملنا على الظن بأن الاختلاف الجوهري بين المكان والزمان لن يتضح بصورة كاملة إلا إذا حاولنا التفكير في المكان والزمان من جهة العلو؛ لا من جهة الإنسان أو العالم.
ولكن ما المكان إذن؟
بهذا نعود إلى السؤال الذي طرحناه في بداية هذا الحديث.
إن السؤال عن «الما» هو سؤال عن ماهية شيء؛ ولهذا فلن نسأل الآن إن كان المكان شيئًا قائمًا بذاته ومستقلًّا عن ملكة الإدراك البشري، أو إن كان صورة العيان البشري المحدود؛ كما حاول كانط أن يثبت ذلك في كتابه نقد العقل الخالص. سنستبعد كل هذه الأسئلة لنحاول بدلًا من ذلك أن نستفسر عما تنطوي عليه ظاهرةُ المكان بما هي كذلك؛ بشرط ألا يغيب عن بالنا — كما لاحظنا من قبل — أننا لا نسأل هذا السؤال إلا من جهة السؤال الأساسي عن ماهية العلو.
من الواضح أننا لن نستطيع بهذه الطريقة أن نفسر ماهية العيان المكاني أو أن نستنتجها؛ إذ لا بد أن يكون لديَّ عيانٌ سابق بالمكان لكي أتمكن من إدراك حبات الأرز في العلبة، وماهية هذا العيان المكاني الذي يجعلني أرى شيئًا في شيء، ماهية هذه اﻟ «في» هي في الحقيقة موضوع السؤال.
ومع ذلك فقد تستطيع أمثال هذه البحوث التي تتناول نشأة فكرة المكان، بالإضافة إلى البحوث التي ترجع إلى الأصل اللغوي للكلمة، أن تساعدنا على إدراك ما ينطوي عليه العيان المكاني ولا نفطن إليه في الأحول الطبيعية.
وجدير بالذكر أن القلب الإنساني يمكن أن يؤخذ مأْخذ المكان، على نحوِ ما يقول شيلر (١٧٥٩–١٨٠٥م) في هذين البيتين الشهيرين:
ثم يقول بعد قليل في هذه المرثية العظيمة نفسها:
وهكذا يحمل فعل الفتح المعنى الأساسي «العلو» و«الارتفاع» و«الصعود» الذي يرتبط به معنى «الفتح» و«الانفتاح». وعندما نقول إن الزهرة تنفتح، فإنما نعني في الواقع أنها ترتفع أو تشرئب إلى أعلى، وأنها تفض أوراقها وتتفتح وتنفتح. ورلكه يفكر في المعنيين معًا، ولكنه يقدم المعنى الثاني؛ إذ إن المرثية تبدأ بهذا البيت:
أما كلمة «لا نهائي» التي وردت في السطر الثالث من النص الثاني، فهي غير مقصودة بمعناها الكمي، بل بالمعنى الحرفي لكلمة لا متناهٍ أو لا نهائي. إن الزهور تتفتح تفتحًا لا متناهيًا أو لا نهائيًّا؛ على العكس من الإنسان الذي لا ينفتح أبدًا، والذي يكون «دائمًا» في «عالم».
الزهور تتفتح إلى ما لا نهاية، أو تشرئب وتعلو إلى ما لا نهاية؛ إلى أين؟ يجيب رلكه بقوله: إلى «المكان الخالص». ولكن ما هو هذا «المكان الخالص»؟ السطر الأخير من النص الثاني يقدم الجواب، وهو جواب عجيب يدعو إلى التأمل؛ إنه، على العكس من العالم (لا مكان بلا لا …)
ولكن المكان الخالص الذي تتحدث عنه مرثية رلكه الثامنة؛ يختلف عن ذلك في أنه بلا محلٍّ وبلا مواضع أو أماكن محدودة ومحاطة بغيرها. ومعنى هذا أنه مفتوح، أو المفتوح، أو الانفتاح الذي تذكره الكلمات الأولى من المرثية:
والمكان الخالص ليس مفتوحًا فحسب، بمعنى أنه ككلٍّ لا يحيط به أو لا يحُدُّه من الخارج حد، بل هو مفتوح من الداخل أو الباطن وفي اتجاه الداخل أو الباطن؛ بحيث يشبه أن يكون مفتوحًا في كل نقطة منه، نقول: «يشبه أن يكون»؛ لأن هذا المكان لا يتألف من نقط كما يتألف المكان الرياضي. وربما نكون قد اقتربنا من السؤال عما إذا كان الانفتاح الذي تتحدث عنه مرثية رلكه؛ هو الانفتاح نفسه الذي وصفناه من قبل بأنه علامة على العلو، ولكن مثل هذا السؤال يُبعدنا عن الموضوع الذي نحن بصدده، وليس من الممكن أن نضع مثل هذه الأمور في صيغة عامة. إن شِعر رلكه شعر طموح بقدر ما هو معقد، ونحن ننصفه إذا تخلينا عن مثل هذه العبارات المحددة والصيغ النهائية الجاهزة، وتركنا السؤال نفسه عن ماهية الانفتاح عند رلكه مفتوحًا. إن الشعر والأدب بوجه عام يتميز بأنه يعبر عما يعبر عنه بطريقة معينة لا بطريقة أخرى سواها؛ ولهذا فإنه لا يقبل الدخول في شكل مفاهيم عقلية محددة، ونحن نظلم هذا الأدب ظلمًا شديدًا إن حاولنا أن نستخرج منه مذهبًا فلسفيًّا معينًا.
بيد أن التفسير يمكن أن يعيننا على الإنصات لكلمات الأديب والشاعر على نحو أفضل وأتم، فالسبب الذي يعوقنا عادةً عن هذا الإنصات هو أننا لا ننتبه إلى التحول الأساسي الذي يعتري كلمات اللغة العادية بعد أن تخرج من فم الشاعر، ويرفعها عن مستواها المألوف. ولهذا فليس الهدف من هذا التفسير أن نساهم في البحوث العديدة التي تحاول تأويل شعر رلكه، وإنما نريد أن نستعين به في إضفاء شيء من المرونة على تصوراتنا الجامدة المعتادة عن المكان، ومدِّنا بلمحات تعيننا على مواجهة السؤال الذي نحن بصدده.
والرقاد، على العكس من الجلوس والمشي والوقوف، يعنى أن يمد الإنسان جسده ليستريح، ومن ثَم فهو في حاجة إلى «أين». ولكن كيف يتيسر للإنسان أن يرقد ويتمدد حيث لا توجد «أين»: في اللامكان؟ ومع ذلك فليس هذا الرقاد في «اللامكان» شيئًا مخيفًا أو مقلقًا، وإنما هو الأمان والاطمئنان الذي يتحدث عنه السطر الثاني من البيت:
فهذا الملاك الذي يهَب الحماية والأمان والاطمئنان تُضفي عليه كلمة «أي» في رأي جوارديني هالةً من الغموض والسر، ولكن الواقع أن الشيء المذهل في هذا البيت هو حرف الجر في: «في لامكان».
ذكرنا من قبل أن كل ما هو من العالم لا بد أن يوجد في أيِّ «في أين»، ولكن «اللامكان» هو نفي «أيِّ مكان» أو بالأحرى «أي أين». وإذن فالأمر هنا يتعلق «بوجود في» من نوع مختلف عن الوجود «في أين»؛ أيْ: يتعلق ﺑ «في» خالية من كل «أين». ومعنى هذا أيضًا أننا بصدد «وجود في» (أو وجود باطن) لم يعُدْ بعدُ من نوع الوجود في العالم.
نود أن نقف في تحليلنا لبيتَي «كليه» عند هذا الحد، وليتأملهما القارئ في هدوء ليتبين مدى قدرة اللغة — على الرغم من كل ما يشوبها من الضعف والقصور والتناهي — على التعبير عن العلو بكلمات قليلة.
ما المكان؟
كلما فكرنا في هذا السؤال، ازدادت ظاهرة المكان عظمة وشمولًا. وسوف نستشهد في ختام هذا الحديث بنص مأخوذ عن الرسام ماكس بيكمان، وهو أكثر الفنانين المحدَثين حظًّا من التأمل الميتافيزيقي.
على أن هذا كله لا يُعفينا من مهمة توضيح ظاهرة المكان عن طريق الفكر. وقد برز أمامنا الآن تصوران للمكان، أحدهما ضيق والآخر واسع:
أما التصور الضيق فيذهب أصحابه إلى أن المكان هو صورة العالم الجسمي. وقد يأخذ هذا التصور أشكالًا مختلفة، وأقرب هذه الأشكال إلى التصورات الطبيعية هو ذلك الشكل الذي لمسناه لمسًا سريعًا على الصفحات السابقة، ويتصور المكان كالوعاء الذي توجد فيه الأشياء وتتحرك داخله. والشكل الآخر يتصور أن المكان نظامٌ تُرتب الأجسام وَفقًا له، ويقف عند هذا ولا يزيد عليه. وقد ذكرنا أن ليبنتز كان يقول بمثل هذا التصور.
بهذا نكون قد اهتدينا إلى علامة جديدة عن العلو. لقد أشرنا في مطلع هذا العرض إلى حقيقة غربية، فحواها أننا نملك اسمًا نطلقه على ما يتخطى الزمان ويتجاوزه، ونقصد به الأبدية؛ على حين أن المكان يفتقر إلى مثل هذا الاسم، ويمكننا الآن أن نتبين السبب العميق في هذا، فليس هناك اسم نطلقه على مجال عالٍ على المكان (بمعناه الضيق)؛ لأن المكان نفسه اسم من أسماء العلو أو بالأحرى علامة عليه، ومن الواضح أن هذا هو الذي قصده بيكمان عندما قال إن المكان هو «الربة اللانهائية» أو «قصر الآلهة».
ونود الآن أن نشير إلى ملاحظة تسوقنا إليها كلُّ الشروح والتحليلات السابقة؛ إن المكان — لا الزمان — هو المقولة الحقيقية للأبدية. ولو بدأنا من هذه النقطة، أي: لو فكرنا في مشكلة المكان والزمان من جهة مشكلة العلو، لتجلَّت الصلة العميقة التي تقرب بينهما، واتضح في نفس الوقت الاختلافُ الأساسي والتغاير العميق بينهما، وظهر في ضوئه الصحيح. وليس معنى هذا أنه لن يكون هناك موضع للسؤال، بل معناه، على العكس من ذلك، ظهورُ أسئلة بعد أسئلة، وألغاز فوق ألغاز. ولا عجب في هذا؛ فالتقدم العلمي الصحيح لا يتحقق أبدًا باختفاء السر، وإنما يتحقق بنموه وتزايده. سيواجه الإنسان قبل كل شيء بهذا السؤال: ما هو الجذر المشترك بين المكان والزمان؟ أم أن الاختلاف بينهما كبير إلى الحد الذي يستحيل معه أن يوجد مثلُ هذا الجذر المشترك؟ ولكن أليس من الضروري في نهاية المطاف أن يُرد كل شيء إلى أصل واحد؟ حقًّا، إن هذا المطلب، الذي يوجِّه من البداية كل بحث علمي، ليس بالشيء البديهي الواضح بذاته على الإطلاق، ولكننا سنرى فيما بعد أنه في صميمه مطلب مشروع.
ما هو الأصل في المكان والزمان؟ وما هو الأصل في الزمان بوجه خاص؟ كثيرًا ما نبهت الفلسفة المعاصرة إلى أن السؤال الأساسي في الميتافيزيقا هو هذا السؤال: لمَ كان على الإطلاق وجودٌ لم يكن بالأَولى عدم؟ ولكننا نستطيع — بالدرجة نفسها من الأولوية — أن نسأل هذا السؤال الذي لا يقل عنه أهمية: لمَ كان على الإطلاق زمانٌ ولم تكن بالأولى أبدية؟ في حين أن من المتعذِّر أن نطرح السؤال نفسه عن المكان، أو على الأقل يتعذر علينا أن نطرحه بمثل هذه السهولة.
قد يمكننا عندما نفكر في المكان — وهو في هذا يختلف عن الزمان — أن نشك في إمكان إسقاطه تمامًا من تفكيرنا، وقد يمكننا أيضًا أن نتصور أنه — بوصفه شيئًا لم ينشأ قط — قد وُجد دائمًا قبل أن يوجد الزمان. والأمر مع الزمان يختلف عن ذلك تمام الاختلاف؛ إنه يرتبط، فيما يرتبط به، بخاصيته الأساسية؛ وهي أن اتجاهه لا يقبل العكس، وهذا هو الذي يميزه عن المكان تمييزًا دقيقًا.
ونسأل الآن: وما الأصل في أن اتجاه الزمان لا يمكن أن يُعكس؟ لنغُصْ لحظاتٍ إلى قرار هذا السؤال الذي يتصل من قريب بسؤال آخر: ما الأصل في التناهي على الإطلاق؟
لاحظنا من قبل أن المكان — لا الزمان — هو المقولة الحقيقية الأبدية، ولكن هذه الملاحظة لن تتجاوز التعميم المجرد إلا إذا فكرنا في المكان بمعناه الواسع الحقيقي الذي وصلنا إليه، لا بمعنى المكان الشيئيِّ — مع العلم بأننا لا نفهم المكان الشيئي أو بالأحرى مكان الأشياء بمعنى المكان المشيَّأ أو المكان بوصفه شيئًا — إذ سيكون هذا في جميع الأحوال تصورًا قاصرًا، وإنما نفهمه بمعنى المكان الذي توجد فيه الأشياء.
ونود أن نضيف إلى هذا أن ما نسميه هنا بمكان الأشياء؛ لا يتساوى مع مكان الأجسام، بل إن مفهومه أوسع منه، مثلما أن مفهوم الشيء أوسع من مفهوم الجسم. إن الشيء بأوسع معنًى لهذه الكلمة هو نفسه الموجود، الما؛ أي: كل ما هو كائن أو موجود. والفكرة أيضًا بهذا المعنى الشامل تُعد شيئًا. ولا بد لكل فكرة أن تكون أيضًا في مكان، سواءٌ تصورنا أن هذا المكان هو الروح أو الذهن أو العقل. وكل مكان من هذا النوع يوجد فيه شيء ما هو مكان ذو أين، وإذا كان من المتعذر في هذه الحالة أن تحدَّد «الأين» عن طريق تقاطع الإحداثيات، إلا أن من الممكن مع ذلك تحديدَها عن طريق آخر؛ كأن يكون نظامًا أو مذهبًا تحتل فيه الفكرة مكانها وموضعها المحدد. كل مكان شيئي بهذا المعنى هو مكان ذو محل (أو موضع أو حيز). أما المكان الخالص، بحكم أنه انفتاح، فلا محل له ولا «مكان»؛ لأن المكانية تفترض التحديد أو وضع الحدود.
المكان الخالص بلا أين، ومن ثم فهو بلا حدود تحُده، إنه يتيح الاتساع، دون أن يكون من الممكن تحديدُ هذا الاتساع أو تقييده من أية جهة وعلى أي نحو. ونحن نتوصل إلى عيانه عندما نستبعد «الأين» أيضًا من اﻟ «في أين»، عندئذٍ لا يتبقى منه غير اﻟ «في» الخالصة. المكان الخالص إذن داخلٌ أو باطن خالص. يمكننا أيضًا أن نسميه المكان الباطن، ولا يعني هذا أنه مكان يقع في الداخل أو في الباطن؛ كما نتحدث مثلًا عن حائط داخلي في مقابل حائط خارجي؛ أي: عن حائط موجود داخل بيت ما، بل نعني به مكانًا كله — إن صح التعبير — داخل أو باطن خالص بلا خارج أو ظاهر على الإطلاق؛ على العكس مرةً أخرى من المكان الشيئي، وهو مكان ذو أين وحد، ولا بد بالضرورة أن يكون له خارج أو ظاهر، وأن يقبل العلو عليه.
المكان الخالص باطن بلا أين. قد يبدو هذا نوعًا من المفارقة؛ فالتفكير في باطن بلا أين يثير المشكلات والصعاب، ومع ذلك فإن أردنا أن نصطدم بالعلو عن طريق الفكر، فلا بد لنا من أن نحسُب حساب هذه المشكلات والصعاب، ونتحمل عبء هذه المفارقة غير المألوفة. إن العلو بمفهومه المطلق معناه الانتقال إلى باطن بلا ظاهر، داخل بلا خارج، أي بلا أين.
المكان الخالص مكان باطني على النقيض من المكان الشيئي؛ فهذا الأخير مكان خارجي، أي: مكان له خارج وظاهر، وهذا يصدق أيضًا على مكان الأفكار.
إن المكان الخارجي— كما نفهم كلمة هنا — له داخل وخارج، أو باطن وظاهر؛ بينما المكان الباطني يقع وراء هذه التفرقة بين الداخل والخارج والباطن والظاهر.
بهذا نختتم هذه الشروح والتحليلات التي قدمناها عن المكان منظورًا إليه من زاوية السؤال عن العلو. ولكننا نستأذن القارئ في إعادة طرح السؤال عن الزمان.
لقد بينَّا أن التفكير في الزمان من جهة العلو يضفي عليه (أي: على الزمان) معنًى مختلفًا اختلافًا أساسيًّا عن المكان؛ فالزمانية هي الخاصية الأساسية للتناهي؛ لأن أولَ ما نفكر فيه عند التفكير في التناهي هو الانقضاء والزوال، أي الزمانية، كما أن الارتفاع فوق الزوال والانقضاء هو أول ما نفكر فيه عند التفكير في العلو؛ ومن هذا يتبين أن الزمانية والزوال هما أول ما يتطلب العلو ويستلزمه.
ولكن ما معنى العلو فوق «الزماني»؟
ما الزماني؟ هو ما يكون في الزمان.
هذه «الأين» الزمنية — أو إن شئنا: هذا الطابع «المحلي» للزمن — تتضح أيضًا في أن كل ما هو زمني يحتل موضعًا معينًا داخل الزمن، وما قلناه في «مسار الفكر المتعالي»، من إمكان العلو فوق كل «في أين»، يصدق أيضًا على «في أين» الزمنية، وهكذا نرى أن فكرة العلو فوق الزمن لا تضيف جديدًا يُذكر على فكرة العلو فوق المكان.
وإذا مضينا في السؤال وقلنا: إلى أين يُفضي هذا العلو؟ كانت الإجابة العفوية: إلى الأبدية. ولكن كل مقارنة أو مماثلة لا بد أن تتوقف عند هذا الحد؛ لأننا سنلاحظ على الفور أن كل محاولة للتفكير في الأبدية على صورة الزمان الخالص — على نحو ما فعلنا مع المكان الخالص — ستكون سخفًا باطلًا ينكره العقل. إن الأبدية — أيًّا كان تصورنا أو فهمنا لها — تبدو بعيدةً عن الزمان الخالص بالقدر الذي يجعلها خليقةً بأن تكون هي «الآخر»؛ المغاير لكل زمان ولكل ما هو زماني. والدرس الوحيد الذي يمكن أن نتعلمه من التأملات السابقة ونستفيد به فيما يتصل بمشكلة العلو فوق الزمان؛ هو أن العلو فوق الزمان لا يمكن أن يؤدي بنا إلى «في أين» جديدة؛ لأن كل «في أين» تقبل العلو فوقها وتستلزمه. ومن الدروس والنتائج التي نستخلصها أيضًا مما سبق أننا إذا سمينا العالي فوق الزمان باسم «الأبدي»، فلا يمكن أن نقصد بذلك اسمًا بالمعنى الدقيق المألوف؛ بل الأولى ألا يكون «الأبدي» سوى علامةٍ — بالمعنى الذي شرحناه من قبل — على العلو من جهة علاقته بالزمان.
ملحق: تفسير قصيدة لوالت ويتمان
نود الآن أن نضيف إلى الشروح السابقة مثالًا على هذا العلو على الزمان، والمثال مقتبس من إحدى قصائد الشاعر الأمريكي والت ويتمان. ويمكننا أن نقدمه في إطار هذا الكتاب بضمير مرتاح؛ إذ يُعد ويتمان في الأدب الإنجليزي–الأمريكي من جماعة «الترانسندنتاليين» أو الأدباء والمفكرين أصحاب مدرسة العلو.
لقد ذكرنا مرارًا أن العالي لا يجرَّب فحسب بالمعنى الجوهري لهذه الكلمة، بل إنه كذلك هو أكثر ما يمكن تجربته تجربةً حقيقية. كما ذكرنا أن هذه التجربة تُعد على الرغم من ذلك أبعد شيء عنا، والسبب في هذا أنها تجربة تلقائية مباشرة، وأنها تفوق في مباشرتها أيةَ تجربة أخرى من التجارب التي تدخل في نطاق هذا العالم؛ بما في ذلك تجربتي بنفسي. أضف إلى هذا أن كل كلام عن العلو أو تفكير فيه سيظل، بغير التجارب التي تعزِّزه، مجردَ شطحات فكرية غير ملزمة، ولا بد أن تكون لدينا القدرة على الحديث عن هذه التجربة الحية المباشرة حديثًا «طبيعيًّا حرًّا» على نحو ما عبر «جوته» في كلمته السابقة.
ووالت ويتمان مثال طيب على هذا الأسلوب «الطبيعي الحر» في التعبير عن تجربة العلو، ولعل قصيدته أن تساعد على جذب انتباهنا إلى بعض التجارب التي نمر بها جميعًا بصورة تتفاوت قوة أو ضعفًا، دون أن تتضح على ضوء المعرفة الدقيقة الواعية، أو لعلها على أقل تقدير أن تساعدنا على إعادة تحقيق هذه التجارب في أنفسنا. وقد أشرنا من قبل إلى أننا نملك القدرة على تحقيق التجارب التي يقوم بها غيرُنا بصورة من الصور، ولكن هذا لن يتيسر لنا حتى نجرِّبها بأنفسنا، مهما تكن هذه التجربة غامضةً وغير واعية.
القصيدة بسيطة، قريبة إلى الفهم المباشر. إنها تتألف من إيقاعات حرة فخمة الرنين، وهي على الرغم من طولها، وتسيطر عليها، من البداية إلى النهاية، فكرةٌ واحدة، ويسري فيها مضمونٌ شعري محدد، وجو شعوري محدد، وهذا كله يؤكد قدرة ويتمان وموهبته.
والقصيدة تنقسم إلى عدة مقطوعات، تحتوي المقطوعة الأخيرة منها — التي تبدأ بهذه الكلمات: «شيء ما» — على القضية التي تدور حولها وتعبر عنها. وبقية المقطوعات تؤدي إليها، كما تؤكدها المقطوعة قبل الأخيرة تأكيدًا مباشرًا بهذا السؤال الذي يأتي في ختامها: «ألَا تفكرين إلا في أفول النجوم»؟
والمقطوعات الأولى تقدم المشهد الخارجي، والمقطوعتان الأخيرتان تضمان كلماتٍ يقولها أب لابنته، وهذا ما يضفي على هذه الكلمات منذ البداية طابَعَ السر الحميم. صحيح أنها كلمات بسيطة، ولكنها ليست من نوع الكلمات التي تجري على الألسن كل يوم، ولا هي من الكلمات التي توجَّه إلى عامة الناس.
لنحاول الآن بإيجاز أن نعايش مضمون القصيدة. أب يقف مع طفلته على الشاطئ عند المساء، ويتطلع معها في اتجاه الشرق إلى سماء مكتسيةٍ بظلال الخريف وألوانه. إن هذا وحده يشير إلى التوتر الأساسي الذي يسيطر على القصيدة، ويتمثل في الشعور بالزوال، والزمانية، والأبدية.
أب وابنته؛ ها نحن نفكر عن غير قصد منا في رجل عجوز وفتاة صغيرة، كما أن القصيدة نفسها ستتحدث عن «الصغيرة» بعد ذلك بقليل، وفي هذا تعبير عن تغيُّر الأجيال وتبدلها؛ الأمر الذي ينطوي من ناحية على الأمل والاستبشار؛ إذ يدل على تجدد طاقة الحياة باستمرار، ومشاركة الفاني في الخالد بشكل من الأشكال عن طريق الإنجاب — كما يقول أفلاطون في «المأدبة» على لسان ديوتيما — كما ينطوي من زاوية أخرى على معنى مقبض عميق الأسى والفجيعة؛ إذ يأتي جيل ويذهب جيل، ونمضي جميعًا فلا يبقى أحد، ونغوص في النهاية في ليل الموت والنسيان، تحوُّل لا ينقطع، ودورة تبدو كأنها فارغة وخالية من كل معنًى.
هذا الجو الشعوري الذي يوحي بالفناء، ويسيطر سيطرةً تامة على الأجزاء الأولى من القصيدة؛ يتفق مع فصل السنة — الذي يشبه أن يكون ميتافيزيقيًّا — وهو فصل الخريف، كما يتفق الخريف أيضًا مع هبوط الليل عند المساء.
الأب وابنته يقفان على شاطئ البحر، ويراقبان كُتل السحب السوداء الزاحفة التي تغطي وجه السماء، وتهدد بابتلاع كل شيء، كما يتطلعان إلى النجوم الرائعة التي بدأت تظهر في السماء، المشتري «الكوكب المجيد» والكواكب السبعة «الأخوات الرقيقات»، والفتاة الصغيرة قد غلبها التأثر من انتصار السحب التي تشبه القبور، حتى راحت تبكي في صمت (لاحظ قول الشاعر: في صمت).
وبينما تهيئ المقطوعات الأولى المشهد الذي ستدور فيه القصيدة، وتفتح الأفق الذي تتحرك فيه — وهو أوسع أفق أرضي يمكن تصوره؛ إذ يضم البحر والسماء ذات النجوم — وبينما تضع القصيدة نفسها الإنسان من البداية في المكان أو الفضاء الكوني، نجد المقطوعاتِ الأخيرةَ تحتوي على الكلمات التي يواسي بها الأب ابنته «التي تبكي في صمت».
ويلاحظ أن أطول مقطوعة في القصيدة تلجأ — إن جاز هذا التعبير — إلى كلمات عزاء «عالمي» أو مواساة دنيوية؛ فالأب يحُثُّ الطفلة على الصبر؛ لأن ظهور المشتري والثريا و«كل هذه النجوم الذهبية والفضية» في ليل آخر؛ لن يطول به الوقت، وما هي إلا لحظات «وتُبعث متألقةً من جديد»، فالسحب «لا تبتلع النجوم إلا في الظاهر»، والنجوم في الحقيقة «خالدة»، وهي «تبقى وتدوم».
إن الطفلة التي تفتقر إلى العلم والتجربة تقع فريسة المظهر، أو الوهم الذي يصوِّر لها أن السحب ستُفني النجوم. ولكن هل النجوم «خالدة» حقًّا؟ ألن تنطفئ أيضًا ذات يوم ولو كان ذلك اليومُ في زمن بعيد لا يدركه التصور؟ أم أن هذا الفناء «الحقيقي» للنجوم — إذا نظرنا إليه من مستوًى آخر أعلى؛ أعني من منظور العلو — ليس بدوره سوى مظهرٍ ووهم؟ تتحدث المقطوعة الأخيرة عن هذا فتقول:
من المعروف أن علم الفلك الحديث قد توسع في العقود الأخيرة في اكتشافاته ومعلوماته توسعًا هائلًا بالقياس إلى العصور السابقة؛ ومنها عصر «ويتمان» نفسه بطبيعة الحال، فيمكن اليوم تقديرُ عمر النجوم، وبالتالي عمر هذا العالم، على أساس ملاحظات تبلغ حدًّا كبيرًا من الدقة، وقد يصل هذا التقدير إلى ملياردات من السنين. وهو عدد ربما استطعنا أن نفهمه، ولكننا لا نستطيع أن نتخيله أو نكوِّن لأنفسنا صورةً مكافِئة له.
من المسلَّم به اليوم بوجه عام — على أساس الملاحظات والمشاهدات الدقيقة — أن الكون كله في حالة تمدُّد سريع وهائل من الناحية العددية؛ أي: أن جميع النظم النجمية وأشدها بعدًا عنا؛ يتحرك مبتعدًا عنا حركةً سريعة رهيبة السرعة. ويدل هذا فيما يدل عليه على أنه لم يعُد من الممكن أن ننظر إلى الكون على أنه ثابت وساكن وفي حالة توازن، بل إن حالته — وقد تكون هذه صورة فظَّة خشنة، ولكنها تمثل الموضوع الذي نحن بصدده تمثيلًا دقيقًا — أشبه بقنبلة يدوية متفجرة، ولا يكاد أحد اليوم يتبين بوضوح كافٍ دلالةَ هذه التصورات، التي لا تريح كثيرًا، والتي يندفع إليها علم الفلك اندفاعًا على أساس مشاهداته وحساباته، ولا نكاد نجد كذلك اهتمامًا باستخلاص النتائج الميتافيزيقية المترتبة عليها؛ سواء في الفلسفة أو في الوعي العام.
كانت النجوم في الوعي الكوني الكلاسيكي كما نلاحظ مثلًا عند أفلاطون؛ تُعَد نماذجَ للسكون والثبات المطلق؛ أي: لكل ما هو باقٍ وثابتٌ بالقياس إلى كل تغيُّر أرضي وحسي. وكان كل التصور الكلاسيكي للوجود يعتبِر هذا الثبات تأكيدًا له وسندًا يُعتمد عليه، ولكننا نعلم اليوم أن «النجوم الثابتة» نفسها، التي تصوَّر القدماء أنها «معلقة» بأورانوس أو الوعاء السماوي، لم تعُد في الواقع تستحق هذا الاسم، بل إنها — بصرف النظر عن تمدد الكون — تتحرك أيضًا بالنسبة لبعضها البعض بسرعة مخيفة. صحيح أن هذا أمر لا يكاد يلاحَظ إذا نُظر إليه من مستوى الأرض، أو على امتداد التاريخ البشري؛ غير أن هذا لا يغير شيئًا من الواقع الذي يؤكد أن ثبات النجوم والأجرام السماوية ليس في الحقيقة سوى مظهر خداع؛ فمجموعة نجوم «الدب الأكبر» مثلًا كان وضْعُها بالنسبة لبعضها البعض قبل مائتي ألف سنة مختلفًا كلَّ الاختلاف عن وضعها الحالي، وعلم الفلك الحديث قادر اليومَ على تقديم معلومات قريبة من الدقة عن عدد النجوم، وعدد النجوم — بل عدد نجوم نظامنا المعروف بدرب اللبانة — يبلغ حدًّا هائلًا يقدَّر بمائة مليار نجم. (وعدد النجوم التي يمكننا أن نراها بالعين المجردة في الليالي التي لا يطلُع فيها القمر لا يكاد يبلغ ثلاثة آلاف نجم؛ أي: إنه رقم لا يكاد يُذكر إلى جانب الرقم السابق). ولكن علم الفلك الحديث يعلم أن نظامنا المعروف بدرب اللبانة ليس سوى نظامٍ واحد بين نُظم أخرى، وأن هناك عددًا لا حصر له من دروب اللبانة الأخرى التي تشبهه، ولا تظهر على عدسة المرصد إلا على شكل بُقَع ضبابية صغيرة؛ وذلك بسبب مسافة البعد الرهيبة التي تفصلها عنا. ويقدَّر عدد هذه النظم النجمية التي تقع «خارج المجرة» بقرابة خمسة وسبعين مليونًا أو أكثر.
هناك أيضًا احتمالات مختلفة ترجِّح وجود كائنات حية على سطح الأجرام السماوية الأخرى، ولكن هذه الكائنات الحية لا يمكن بطبيعة الحال أن توجد إلا على سطح الكواكب السيارة، أما النجوم الثابتة التي نراها، فهي أجرام سماوية ذاتية الاشتعال؛ أي: كرات غازية ضخمة متوهجة تشبه شمسنا، ولكن لم يعُد هناك سبب يجعلنا نستبعد أن تكون هناك نظم فلكية تشبه نظامنا الشمسي قد تكونت من بعض هذه النجوم. صحيح أنه لا بد من توافر شروط معقدة غايةَ التعقيد حتى يمكن أن توجد على سطح أحد هذه الكواكب السيارة كائناتٌ عضوية، وبالأخص كائنات حية ذات حرارة دموية معينة، ويمكن أن نؤكد أنه لو حدث هذا فسيكون أمرًا نادرًا غاية الندرة؛ ولكن نظرًا للعدد الهائل من النظم النجمية — وعلى الرغم من هذه الندرة الشديدة — فقد يكون في إمكاننا أن نفترض وجود كواكب عديدة جدًّا ينطبق عليها ما نقول؛ أي: يمكن أن تعيش على سطحها كائناتٌ حية من نوع الكائنات التي تعيش على سطح الأرض.
قلنا إن أفلاطون كان يحيط إحاطةً تامة بالمعرفة الفلكية التي توافرت في عصره، والواقع أنه لم يُحِطْ بها فحسب، بل استطاع أن يقوم بما هو أجلُّ وأخطر؛ إذ ربط بينها وبين الجهل والسر المحير الذي انتهت إليه، وعبَّر عنها تعبيرًا متكاملًا في صورة أسطورية شاعرية مثل الأسطورة التي جاءت في ختام «الجمهورية».
ويبدو أن من المستحيل اليومَ أن يتوصل أحد إلى إبداع أسطورة كونية تضم جميع المعلومات الفلكية التي نعرفها؛ وذلك لاتساع هذه المعلومات واختلاف نوعها عما كان معروفًا في العصور القديمة؛ هذا بصرف النظر عما إذا كنا لا نزال نملك القدرة الأصيلة على الإبداع والخلق من خلال الأسطورة.
غير أن هذا كله لن يضعنا أمام هذا الشيء الهائل الذي تتحدث عنه المقطوعة الأخيرة من قصيدة ويتمان؛ لأن وجود هذا الكون منذ مليارات السنين، واستمرار وجوده في المستقبل مليارات أخرى من السنين، ووجود مليارات أخرى من الأجرام السماوية، والشموس التي يحتاج ضوءها إلى مليارات من السنين قبل أن يصل إلينا (غير الأرض التي نعيش عليها، والشمس التي ترتفع فوق رءوسنا كل يوم)، واحتمال وجود كائنات حية كثيرة على سطح كثير من هذه الأجرام السماوية البعيدة عنا بُعدًا لا حدَّ له؛ كل هذه وأمثالها أمور قد لا نستطيع أن نتصورها في صورة حسية مكافئة؛ لأنها تتجاوز القدرة البشرية على التصور والتخيل، ولكننا نستطيع مع ذلك أن ندركها، بل نستطيع أن نعبر عنها بالأرقام، ونصفها وصفًا دقيقًا عن طريق الصيغ والمعادلات الرياضية. ولكن بقاء «شيء ما» ولو فَنيَ الكون بأسره، وثباته مهما تغيرت أحوال الكون كله تغيرًا شاملًا؛ ذلك هو الأمر الذي لا يمكن إدراكه أو تصوره بحال من الأحوال. عند هذه النقطة يعلو الفكر، ينطلق إلى ما هو مختلفٌ تمامَ الاختلاف عن العالم وكل ما يَعرِض له من أحوال، وهذا العلو هو الذي يحاول القسم الأخير من القصيدة أن يتكلم عنه.
من الطبيعي أن «ويتمان» لا يتطلب من القارئ أية معرفة فلكية صريحة، وإن كان هناك جانب فلكي معين يضفي طابعه على القصيدة كلها.
لقد عاش الشاعر في أواسط القرن الماضي، ولم يكن يعلم شيئًا عن المعارف الكونية والفلكية التي تكلمنا باختصار عن بعض معالمها. ومع ذلك فإن هذه المعرفة وهذه التصورات النموذجية عن الكون، مهما بلغت من التشويق والإثارة، ستظل مجرد وسائل — محدودة الأثر — لمساعدة ملكة التصور. والواقع أن الشاعر لا يستمد منها النظراتِ التي نجدها في المقطوعة الأخيرة من قصيدته.
إن العلو الذي تقدم عنه «الإيحاء الأول» ينبثق في الحقيقة من النظر المباشر إلى النجوم، لا من التأمل أو التفكير في أية وقائع علمية. إنه نابع – إن جاز هذا التعبير — من الاستغراق في الرؤية الكونية.
ومع ذلك فلا شك أن ويتمان كان يعلم أن النجوم نفسها ليست كائنات حية، وإنما هي من الناحية الفيزيائية مادة مشعة، وإذا كان يتحدث عن خلودها فإنه يقصد بذلك شيئًا يختلف عن التعبير الشاعري ويزيد عليه.
إن الرائي، في هذه الرؤية الكونية التي تعبر عنها القصيدة، يتحِد بصورة من الصور مع السماء ذات النجوم. وإذا أخذنا الموت بمعناه الواسع الذي يشمل كلَّ ضروب الفناء التي تسري على الكائنات البشرية والطبيعية؛ كان هو أقوى تعبير وأشمله عن كل فناء يحدث داخل العالم. إن الإنسان هنا يعاني تجربة فنائه وفناء الكون بأَسره — على الرغم من الاختلاف الجبار بينهما — بوصفهما تجربة واحدة في نهاية الأمر، وهذا الاختلاف الرهيب، الذي يتجلى مثلًا في ضآلة عمر الإنسان بالقياس إلى عمر الكون، يختفي بالقياس إلى أخرى أشدَّ رهبة؛ وهي أن الإنسان يستطيع أن يجرب أن هناك «شيئًا أخلد» من النجوم نفسها.
إن في إمكان اللغة أن تعبر أدق تعبير وأعمقه عما لا يمكن التعبير عنه، وأن تصبح أكثر شفافيةً عن «الآخر» كلما زاد حظها من التعين والتحديد والبساطة في قول ما يقال والتعبير عما يمكن التعبير عنه. والمقطوعة الأخيرة من قصيدة «ويتمان» هي خير مثل على هذا؛ ولهذا يحسُن أن نستمع إليها في ختام هذا التفسير:
Freiburg im Breisgau.
“Quicquid est, in Deo est, et nihlil sine Deo esse neque concipi potest.”
Spatium (est) Ordo coexistentium Phaenomenorum.
Ut tempus Successionum.
Die Sprache. Fünfte Folge des Jahrbuchs Gestalt und Gedanke, 1959, s. 13 ff.