العكس المتعالي
(١) العلو والشخصية
سنرجع الآن للسؤال عن العلو لنطرحه من جديد ونتناوله من زاوية أوسع. وقد أغفلنا هذه الزاوية حتى الآن عن عمد؛ حتى لا نعقد الأمور أكثر مما تحتمل.
إن العلو من الناحية اللغوية البحتة «فعل» يعبر عن «فعالية». وهذا هو المعنى الذي غلب على فَهمنا للعلو وأعطيناه الأولوية فيما قلناه عنه.
والسؤال الآن: ما نوع هذه الفعالية؟ كيف يمكن أن تتم؟ ولكن كل فعالية تفترض فاعلًا، وهنا يبرز سؤال آخر: مَن هذا الفاعل؟ مَن الذي يقوم بالعلو؟ وكلا السؤالين عن الفاعل والفعل مرتبطان ارتباطًا مباشرًا.
إن القائم بالعلو وَفقًا لهذا الفهم هو الذات، ولكننا لو أخذنا العلو بمعناه المطلق الذي يدل على العلو فوق كل شيء على الإطلاق، لاتضح لنا أننا لا نستطيع أن نطبق هنا مفهوم الذات. ويتأكد هذا من الناحية الشكلية البحتة إذا عرفنا أن مَن يعلو فوق كل شيء على وجه الإطلاق، لا بد أيضًا أن يعلو فوق ذاته، وقد لمسنا هذه النقطة لمسًا سريعًا عندما عرضنا في البداية لمشكلة العلو.
غير أن علو الشيء فوق ذاته يبدو نوعًا من المفارقة، ومع ذلك فقد تحتم علينا أن نزيد من حدَّة هذه المفارقة بحيث نقول: إن الذي يعلو فوق نفسه، هو الذي يجدها بحق. ولو أخذنا المطلب الأساسي من هذه المحاضرة مأخذ الجد — ونقصد به ألا نفكر في العلو من جهة الإنسان، بل نفكر على العكس في الإنسان من جهة العلو — لَتحتَّم علينا أن نضيف إلى ذلك أن الإنسان يجد ماهيته الحقة وجوهره الأصيل في مفارقة العلو فوق ذاته، والعلو فوقها إلى ما لا نهاية.
وعلو الشيء فوق ذاته يبدو أمرًا منافيًا للعقل، ومع ذلك فإن من الممكن أن يحدث لنا مثلُ هذا العلو، بل إنه لَيحدث لنا في كل لحظة من حياتنا العقلية ووجودنا الروحي، وحسبنا أن نفكر في الاندهاش الحقيقي الذي تحدثنا عنه من قبل بإيجاز؛ إنه لَيغلب دائمًا على وجودنا كله ويتغلغل فيه على نحو من الأنحاء، وإن كنا لا نمكِّن له من أنفسنا، ولا نواجهه مواجهه صريحة إلا في لحظات نادرة تكاد أن تكون مختلَسة من عمر الزمن. في غمرة هذا الاندهاش تتحول كما قلنا كل الأشياء — وبخاصة أقربها إلينا وأشدها أُلفةً إلينا — إلى ألغاز محيِّرة وأسرار غريبة، كما نُصاب نحن أنفسنا بمثل هذه الألغاز وهذه الغربة. ولكن هذا يَفترض أن نعلو على أنفسنا في هذه الحالة علوًّا أصيلًا وجوهريًّا؛ إذ كيف يتسنى لنا بغير ذلك أن نبتعد مثل هذا البعد عن أنفسنا؟
ونحن نجرب هذا أيضًا في حالة القلق الحقيقي الذي تنزلق فيه كلُّ الأشياء بعيدًا عنا؛ إذ ننزلق نحن أيضًا بعيدًا عن أنفسنا، وهذا بعينه هو سر القلق المَهول الذي يَعرونا في هذه الحالة.
أشرنا من قبل إلى أن كل هذه التجارب تحمل طابَع الوجد، بالمعنى الأصيل لهذه الكلمة الأخيرة؛ وهو الخروج من … أعني: الخروج من الذات والانسلاخَ عن كل العلاقات القائمة داخل العالم. ولكن كيف يمكن أن يتحقق مثل هذا الخروج من الذات؟ وكيف لنا أن نفكر فيه؟
لو فهمنا الأنا بمعنى الذات، ثم فهمنا هذه الذات بمعنى الجوهر الثابت؛ لَتحتَّم أن يبدو مثل هذا الخروج من الذات متناقضًا ومنافيًا للعقل. بيد أن هذا التناقض أو هذه المنافاة للعقل إن دلت على شيء، فإنما تدل على أن مفهوم الجوهر — الذي ازدادت حدته عند ديكارت وأتباعه فاستحال إلى مفهوم الذات — لا يمكن أن يطبَّق على تجربة أولية مثل تجربة العلو؛ ويرجع هذا لسببين؛ أولهما أنه لا يوجد في العلو المطلق شيء ثابت يبلغ من الثبات ما يجعله — من حيث هو حامل للعلو — يصمد للتغير أو يبقى بمنأًى عن المساس به. وثانيهما أنه لا يمكن أن نتصور العلو المطلق في صورة فعل تقوم به ذات؛ سواء كانت هذه الذات بشرية أو ذاتًا فوق البشر.
أما عن السبب الأول، فليس في العلو المطلق شيء ثابت لا يتغير ولا يُمَس؛ لأنه لما كان هذا العلو علوًّا شاملًا، فإن كل شيء يشد إليه بقوة العاطفة الجارفة. إن العلو الشامل معناه أن يتحول القائم بالعلو تحولًا كاملًا ويتغير تغيرًا تامًّا، وهذا هو الذي جعلنا نقول في البداية إن مشكلة العلو هي المهمة الوجودية على الأصالة؛ لأنها تصيب وجودنا كله في الصميم؛ بحيث لا يبقى فيه شيء بمنجًى من تأثيرها. وليس هنا «قلعة باطنية» يمكن أن نلوذ بها؛ ولهذا فإن العلو، والعلو وحده، ملزم إلزامًا مطلقًا. إنه يتطلب منا أن نتخلى عن كل شيء ونقامر بكل شيء. وقد عبَّر القدامى من المتصوفين الألمان عن هذا تعبيرًا بسيطًا، عندما قالوا بترك كل شيء، ولكن إذا كان القائم بالعلو يترك نفسه كما يترك الأشياء جميعًا بهذا المعنى الكلي الشامل، أفلا يدل العلو في هذه الحالة على التخلي عن الخصوصية الفردية وطمس الذات المنفردة طمسًا تامًّا؟
لقد أُثيرت مثل هذه الاعتراضات منذ أقدم الأزمنة، كما أُثيرت بوجه خاص في وجه العلو عند المتصوفين، ولكن ألم نقُل منذ قليل إن الذي يعلو فوق نفسه هو وحده الذي يجدها ويعود إليها بحق؟ الواقع أن هذه هي القضية الأساسية التي يقوم عليها كلُّ تصوف حقيقي. والتناقضات التي من هذا النوع تبين أن الكلماتِ والمفاهيمَ تؤخذ هنا على معنًى مختلف كلَّ الاختلاف عن معناها الشائع. ولو غفلنا عن هذا ولم ننتبه إليه، لأدى بنا حتمًا إلى اضطراب شديد، وقد ندخل في مناقشات لا آخر لها حول هذه الأمور، دون أن نصل إلى تفاهم أو اتفاق نهائي. وهذه الغفلة التي أشرنا إليها تظهر بأوضح صورة في المشكلات المتصلة بالعلو؛ إذ يمكن القول بوجه عام إن هذا الاضطراب يشتد، ولا بد أن يشتد، كلما ازدادت الأمور التي نتناولها بالبحث حظًّا من الماهية والجوهرية. وكلما ازدادت صعوبتها تسرَّب الموضوع من أيدينا بسهولة، وقنعنا بالكلمة وحدها. والمصطلحات الميتافيزيقية هي أوضح دليل على هذا.
بيد أن المسألة هنا ليست مسألة هروب من الموضوع إلى الكلمة، أو مجرد لجوء إلى التلاعب بالمفارقات والتناقضات بين الكلمات. إنها أكبر من ذلك بكثير، فالحقيقة الغريبة التي لمسناها من قبل لمسًا سريعًا تلعب هنا دورًا ملحوظًا، ونقصد بها أن الكلمات المستعملة في اللغة اليومية الشائعة — أي: اللغة التي تقتصر على وصف الأشياء الداخلة في مجال العالم — تتحول في معظم الأحوال إلى عكس معناها عندما تُنطَق في مجال العلو. وكلمة العدم ومفهومه من أبرز الأمثلة التي تدل على هذا، فالعدم في نظر الفهم العام هو التافه أو الفارغ من كل مضمون، فإذا طبقنا الكلمة في مجال العلو، انقلبت الكلمة والمفهوم إلى عكس معناهما السابق. ولهذا نجد المتصوف يلجأ إلى مفهوم العدم للدلالة به على أقصى قدر ممكن من الخصوبة والماهية والقيمة.
والكلمة التي تدل على مفهوم الخصوصية تُعَد أيضًا من هذه الكلمات التي تحمل معنًى مزدوجًا، فكلمة «خاص»، أو «خصوصي»، بمعناها اليومي الشائع تسقط وتُنبذ تمامًا عندما تقال في سياق العلو المطلق، لكي تعود فتكتسب معنًى جديدًا «حقيقيًّا» و«أصيلًا».
ونود الآن أن نكتفي بطرح هذا السؤال: «ما معنى أن يصل ذلك الذي يعلو فوق نفسه، وهو وحده، إلى نفسه وصولًا حقيقيًّا»؟ أو بتعبير آخر: «كيف لا يجد نفسه بحق إلا من ارتفع فوقها»؟
لقد أشرنا من قبل إلى أن العلو المطلق يعزل صاحبه، أو بالأحرى يفرده؛ لأن من يعلو فوق كل شيء على الإطلاق، لا يكون هناك شيء يواجهه أو يقابله، لا من العالم وأشيائه ولا من إنسان آخر غيره. إنه عندئذٍ يصبح وحيدًا بالمعنى الحرفي الدقيق لهذه الكلمة؛ أي: يصبح واحدًا تمامًا.
ومع ذلك فينبغي أن نلاحظ أننا إذا كنا نتكلم عن التوحد في صلته بالعلو، فإنما نستخدم الكلمة بمعنًى يتخطى كل ما يدخل في نطاق العالم من العلاقات أو التجرد من العلاقات. إن التوحد الذي نقصده ليس غير العظمة والانفتاح من حيث هما علامتان من العلامات الدالة على العلو.
إن العلو فوق الكل معناه العلو فوق كل «شيء»، ومَن علا فوق الكل فقد تجرد من كل شيء وصار بدون أي شيء. والتوحد — بوصفه علامةً على العلو — معناه ألا تكون على علاقة بأي شيء؛ أي: أن هذا لا يقتصر على الكائنات الحية الأخرى، بل ينسحب بوجه عام على أي موجود من أي نوع. وقد يمكننا أيضًا أن نتحدث عن العري بدلًا من الحديث عن التوحد، والعري كما نعلم كلمة صوفية قديمة موغِلة في القِدم.
يتضح لنا الآن الارتباط بين هاتين العلامتين الجديدتين على العلو، وبين العلامة التي ذكرناها من قبل؛ وهي الانفتاح. فالذي يكون عاريًا، أي: غير مغطًّى، ومتوحدًا بحيث لا تربطه أيةُ علاقة بأي شيء، هو وحده الذي يكون منفتحًا كلَّ الانفتاح؛ ومن هنا يمكننا أن نكتسب علامة أخرى جديدة على العلو؛ ألا وهي الحرية:
ولكننا لا نلبث أن نواجَه باعتراض جديد: التجرد التام من كل علاقة؛ ألَا يعني هذا عدم الانتماء الكامل والتحللَ من كل التزام؛ ومن ثَم التفاهة التامة؟ ويتحتم علينا لكي نواجه هذا الاعتراض أن نصل إلى الرؤية أو النظرة الجوهرية؛ التي تتلخص في أن التجرد من أية علاقة بأي شيء هو في الحقيقة — إن شئنا هذا التعبير — أن نكون في العلاقة اللامتناهية.
من الواضح أن الحيوانات، التي لا تموت في الحقيقة وإنما تَنفُق، لا يمكنها أن تكون متوحدة ولا تقدر أبدًا على هذا التوحد، وهي لا تقدر عليه ولو عاشت بعيدةً عن غيرها من الحيوانات، كما هو الأغلب الأعم؛ فدودة القز مثلًا — التي تقضي حياتها في «وحدة» تامة على ورقة من أوراق الشجر دون أية علاقة بينها وبين أية دودة أو حشرة أخرى — لا يمكن أن تكون متوحدة بالمعنى الذي نقصده في هذا السياق. ويرجع هذا إلى أنها تظل على الدوام محاطة بالكل، عاجزةً عن الخلاص من بيئتها، شأنها في هذا شأن جميع الحيوانات. إن الحيوانات عاجزة عن التوحد؛ لأنها عاجزة عن العلو، والإنسان وحده هي الذي يقدر على التوحد، ولكنه لا يقدر عليه إلا للحظات قليلة، ولا يقدر عليه كذلك على أكمل صورة إلا إذا وُفِّق إلى العلو الذي نتحدث عنه هنا وتأثر به. إن الإنسان لا يصبح إنسانًا بحق إلا في مثل تلك اللحظات من التوحد المطلق، فعندما نجرب في تلك اللحظات أننا متوحدون توحدًا نهائيًّا كاملًا، عندئذٍ نجرب سر كياننا ومعجزته الحقة؛ ألَا وهي الشخصية.
إن العلو يفرد الإنسان بصورة مطلقة؛ ولهذا فلا يمكن أن يعلوَ مع غيره، بل لا بد أن يحقق العلو وحده. إن القائم بالعلو في اللحظة التي يعلو فيها، أي: في لحظة ارتفاعه فوق كل شيء على وجه الإطلاق، يكون متوحدًا، موكولًا إلى نفسه، مردودًا إليها، مثلما يحدث تمامًا في لحظة الموت.
ولهذا كان فعل العلو هو الفعل الشخصي الحق والحدث الشخصي الحق، ففي هذا الفعل وهذا الحدث وحده ينشط في أعماقنا ويمَسُّ صميم كياننا ذلك «الشيء» الذي لا يمكن لأي إنسان آخر ولا لأي كائن في العالم أن يقوم مقامه أو ينوبَ عنَّا فيه.
الشخص والشخصية — إذا أخذناهما بمعناهما الدقيق — كلمتان ميتافيزيقيتان، فإذا صح أن كل موجود، أو كل كائن مكاني–زماني، فريد ومتفرد؛ فمن الصحيح أيضًا أن كل موجود زماني–مكاني يمكن أن ينوب عنه موجود آخر. إن كل موجود له موضع في المكان والزمان، وعلى هذا الأساس يمكن أن يحُلَّ محله موجودٌ آخر، ويصدُق هذا أيضًا على الإنسان بوصفه كائنًا مكانيًّا–زمانيًّا، بل إنه لَيصدُق بوجه خاص في العالم المعاصر الذي يتميز بتحكم الآلة والتكنيك في تسيير وظائفه؛ فلكل إنسان مكانه في المصنع أو في الجامعة الحديثة، ومجرد شغله لهذا المكان يسير دولاب العمل، فإذا تخلَّف عن مكانه أمكن أن يحل محله إنسان آخر، بل تحتَّم ذلك؛ لأن العطل الذي يصيب وظيفة واحدة يهدد سير العمل كله وأداءه لوظيفته. ويستوي أن يقوم أ أو ب أو ج من الناس بوظيفة معينة؛ إذ المهم أن تؤدَّى على الوجه الصحيح، ويستوي أن يقوم عامل اسمه «ماير» أو عامل آخر اسمه «شولسه» بتشغيل آلة معينة أو وقفها عن العمل، فالمهم على كل حال أن تُشغَّل أو تُعطَّل في أوقات معلومة؛ كما يستوي في الواقع أن يضغط فلان أو علَّان على الزر الذي يفجر قنبلة ذرية أو يطلق صاروخًا في الفضاء.
من الحق أن العلو يتضمن الارتفاع فوق الأنا والذات، ولكن هذا لا يعني بحال من الأحوال أن «ينطمس» القائم بالعلو في «العدم». إن مثل هذا التصور ليخلو من الفكر ويفتقر إلى العمق.
صحيح أن العلو المطلق يتضمن العلو فوق الأنا والذات، ولكن هذا لا يجعل القائم بالعلو يفقِد نفسه، بل يجعله يكتسبها كسبًا حقيقيًّا؛ لأنه سيكسب نفسه لأول مرةٍ بوصفه شخصًا.
لقد قدمنا هذه الإشارات الموجزة عن أفلوطين؛ لكي نبين للقارئ أن هذه الأفكار التي هدانا إليها التأملُ في مفهوم العلو؛ ليست في الواقع بالأفكار الخارقة أو المستغرَبة كما قد تبدو للبعض، وإنما هي أفكار ذات تراث عريق، وإن لم يكن هو أبرز ما في الحضارة الغربية أو أظهرَه للعيون. بيد أنها ليست مستغربةً بالمعنى العادي المألوف لهذه الكلمة، وإن كان أغرب الغرائب بالمعنى الأعمق لهاتين الكلمتين هو أن يكون الإنسان، والإنسان وحده، متوحدًا توحُّدًا مطلقًا في اللحظات المطلقة من وجوده.
إن أفلوطين، المتصوف الإغريقي الروماني، ليس هو وحده الذي تكلم عن هذا التوحد. فينبغي ألا ننسى أن هذا التوحد شرط أساسي من شروط التجربة الدينية الحقة، فنحن نقرأ مثلًا هذا الحوار في موضع مشهور من «أحاديث التوحد» للمفكر المسيحي أوغسطين، الذي تأثر قبل دخوله في حظيرة الكنيسة تأثرًا كبيرًا بأفلوطين:
ربما تسرع الناس في هذه الأيام بإدانة أمثال هذه العبارات ووصْفها بأنها «متمركزة حول الذات»، وسيكونون محقِّين في موقفهم هذا لو فهموا الإنسان بوصفه ذاتًا، كما فعلت الفلسفة الحديثة منذ عهد ديكارت. وسيكون معهم الحق أيضًا حتى ولو تصوروا الأنا على معنى الأنا المرئية. أما إذا فُهِم الإنسان بوصفه شخصًا، فلن يجدوا في عبارة كيركجارد غير تجربة دينية أولية ورؤية دينية أولية، لا تختلف عما عبَّرت عنه النصوص السابقة التي اقتبسناها من أفلوطين وأوغسطين وزويزه وأنجيلوس سيلزيوس. فقد اتفقت هذه النصوص على أن التجربة الدينية تعزل الإنسان من وجهة النظر الميتافيزيقية عزلةً كاملة؛ ولهذا كان المكان (أو المجال) الديني الحق دائمًا هو الصحراء؛ بالمعنى المحسوس المباشر والمعنى المجازي على السواء.
ويجدر بنا أن نشير في هذا السياق — مع الاختصار الشديد ودون دخول في التفاصيل — إلى ظاهرة الضمير التي لا يمكن أيضًا أن نفهمها حقَّ الفهم إلا من جهة العلو؛ والعلو المطلق على وجه التخصيص.
«عن الناس والآلهة» ليس الضمير بمعناه الدقيق ظاهرةً اجتماعية ولا لاهوتية، بل هو «جهة اختصاص» داخلية، تقع، إن جاز هذا التعبير، وراء الإنسان والله، وتتجاوز مفهوم الله نفسه بالمعنى الضيق الذي تبين لنا في البداية من تحليل المفهوم اللاهوتي المطلق للعلو. إن للضمير طابعًا متعاليًا، بالمعنى الذي شرحناه من العلو المطلق؛ ولهذا فإن مطلبه مطلق، فلا توجد سلطة أعلى منه. وهذا الطابع المتعالي للضمير يتجلى أيضًا في أن الضمير يعزل عزلةً مطلقة؛ فالإنسان يكون وحيدًا وحدةً تامة عندما يقف أمام ضميره ليتخذ قرارًا حاسمًا، وما من أحد يمكنه أن ينوب عنا في اتخاذ هذا القرار.
ونود أخيرًا أن نتحدث باختصار عن طابع مزدوج آخر يتسم به الضمير، وتشير إليه أغلب التحليلات التي تتناوله بالبحث، وفحواه أن الضمير يأمر أو ينهى قبل القيام بالفعل، كما يمدح أو يقدح بعد القيام به. ويمكننا أن نعبر عن هذا بعبارة أبسط فنقول: «إن الضمير يوجه» (بالمعنى المزدوج لهذه الكلمة).
ولكن إلى أين يوجه؟ لو أخذنا مفهوم الضمير وظاهرته بالمعنى الدقيق الذي نقصده، فلا بد أن يكون الجواب الوحيد: إلى العلو. ومَن هو الموجه؟ من الواضح أنه لا يمكن أن يكون غير العلو نفسه. فإذا أضفنا إلى هذا ما ذكرناه عن طابع النداء الذي يتصف به الضمير، استطعنا أن نصوغ هذه العبارة: الضمير هو النداء الموجِّه للعلو في اتجاه العلو نفسه.
وهكذا يكون العلو من ناحية شيئًا يمكن أن يحققه الإنسان، ولا بد أن يحققه وحده وبنفسه، ومن ناحية أخرى شيئًا يتجاوزه ويرتفع فوقه ارتفاعًا تامًّا. وأخيرًا فإن هذه التحليلات تبين أن التفكير في الإنسان من جهة الضمير لا يعني سوى التفكير فيه من جهة العلو.
(٢) الاتجاه العكسي في العلو من الفعل إلى الانفعال
ننتقل الآن إلى الكلام عن القسم الثاني من السؤال عن معنى فعل العلو: ما نوع الفعل الذي نصفه بالعلو؟
لو نظرنا إلى اللحظة نظرةً زمنية، لوجدنا أنها بغير امتداد. إنها حاضر لا يدوم؛ ولهذا فلا يمكن أن نشعر بها أو نعيها. إنها تُفلت من التأمل؛ فلا أكاد أشعر بلحظة معينة حتى تنقضي وتزول، والتأمل لا يعرف اللحظة إلا من حيث هي ماضٍ أو مستقبل، أما اللحظة الحاضرة فتتأبَّى عليه بطبيعتها، ولا بد لهذا السبب أيضًا أن يتأبى العلوُّ عليه.
لا يمكن إذن أن يكون العلو فعلًا زمنيًّا، فأيُّ فعل هو إذن؟ ألم نقل منذ قليل إن كل الأفعال تتم في زمان؟ أمن الممكن بعد هذا أن يوصف العلو بأنه فعل؟ ومَن الفاعل الذي يقوم به؟ أهو الإنسان؟
ذكرنا من قبل أن الإنسان لا يصبح إنسانًا إلا عن طريق العلو، ويلزم عن هذا أن يكون العلو فعلًا يقوم به الإنسان، بل يلزم أن يكون فعلًا إنسانيًّا متميزًا يفوق كل ما عداه من أفعال. بيد أن الفعل في هذه الحالة لا ينبغي أن يُفهم بمعنى «الصنع» أو «العمل المنتج»، ولا ينبغي أيضًا أن يفهم الإنسان الذي يقوم به بمعنى «الذات».
وطبيعي أنه بقدر ما يتلاشى العلو، بقدر ما يتمسك الإنسان بتصوره للفعل بوصفه عملًا من أعمال الذات؛ فلا يعود يفكر في الفعل بوجه عام إلا من هذه الزاوية؛ سواءٌ أكانت الذات في رأيه ذاتًا فرديةً أم جماعية، وسواءٌ أكانت بشرية أم متفوقةً على مستوى البشر.
ويهمنا إزاء هذا كله أن نوضح الحقيقة البسيطة التي تقول إن «الصنع المحض» أو «مجرد الصنع» شيء لا وجود له على الإطلاق؛ سواء تصورنا القائم بهذا الصنع في صورة بشرية أو صورة كائن يفوق البشر، فالواقع أن كل صنع يتضمن بطبيعته وماهيته شيئًا لا يُصنع ولا يمكن بحال من الأحوال أن يقبل الصنع، فعندما أخذ الإنسان مع بداية العصر الحديث في الاعتماد على نفسه اعتمادًا حاسمًا مطلقًا، والاستقلال بنفسه استقلالًا تامًّا عن كل سلطة أو قوة أعلى منه، وبدأ يدخل بهذه الصورة في مجال العمل بكل طاقته دخولَ الذات الفعالة، ويواصل فعله الذي لم يسبق له — من الناحية الميتافيزيقية — مثيلٌ في التاريخ، ويحاول أن يؤكد نفسه في وجه العلو ويحصِّنها ويغلق عليها مَن دونه؛ فإن هذا الفعل أو العمل الذي بلغ أقصى حدود التطرف لا يمكن مع ذلك كله أن يُعَد فعلًا محضًا أو مجرد فعل؛ لأن مثل هذا الفعل لا وجود له على الإطلاق؛ ولأن الصنع نفسه، أيًّا كان ما يصنعه الإنسان، لا يمكن هو نفسه أن يُصنع، كما أن المكان الذي يتم فيه هذا الصنع لا يمكن بالمثل أن يُصنع؛ تلك هي أول حقيقة يجب علينا أن نتمسك بها.
ويجب علينا بعد ذلك أن نعرف بوضوح أن كل فعل هو في نفس الوقت انفعال، وبقدر ما يكون الفعل أصيلًا وجوهريًّا، بقدر ما يكون هذا القول صحيحًا. ونوضح هذا بمثال فنقول إن كل بحث يقوم به الإنسان هو في نفس الوقت بحث عنه، وكلما كان البحث أصيلًا في ماهيته، تحوَّل الإنسان الذي يبحث «عن شيء» إلى إنسان يُبحث عنه. ويصدق هذا أيضًا على فعل «يوجد» فكل «يجد» هي في نفس الوقت «يوجد»، وكلما زادت أصالة هذا الفعل وماهيته (أي: فعل يجد)، أصبح ذلك الذي يجد هو الذي «يوجد».
كلما ازدادت ماهية البحث وأصالته، أصبح بالتدريج «مبحوثًا عنه»؛ أعني أننا نبدأ بالبحث ونظن أننا نحن الذين بدأناه. ونظل نجدُّ في البحث ونُمعن فيه بكل طاقتنا، حتى ندرك فجأةً أن ثمة تحولًا أو انقلابًا عجيبًا يتم أو قد تم بالفعل، وأننا قد تحولنا من «باحثين» إلى «مبحوث عنهم»، كما ندرك أيضًا أنه لم يكن في وسعنا على الإطلاق أن نبدأ البحث لو لم يُبحث عنا من قبل.
فإذا بذلنا أقصى ما يمكن بذلُه من عمق الفكر وحدَّته وتوتره، اعترانا ذلك التحول الذي تحدثنا عنه من قبل، وقلنا إنه هو المهمة الأساسية الملقاة على عاتق الفكر المتجه نحو العلو، عندئذٍ لا نعود نفكر في العلو من جهتنا نحن، أعني من جهة الإنسان والعالم، بل يتزايد تفكيرنا شيئًا فشيئًا في أنفسنا والعالم من جهة العلو. فإن قُدِّر لهذا التحول الحاسم أن يتحقق بصورة واقعية لا شكلية، فلا بد أن يفترض تحولًا آخر أسبق منه وأشد صعوبة؛ ألَا وهو تحوُّل فكرنا من فعل إلى انفعال.
قد يبدو هذا شيئًا غريبًا في نظر البعض؛ إذ صار من الأمور البديهية المألوفة لدينا أن الفكر فاعلية بحتة للفهم أو للعقل — الذي فُسر منذ ديكارت بأنه هو الذات. صحيح أن كل إنسان يعلم بصورة واضحة أن الفكر — إذا لم يكن مجرد عملية حسابية آلية — يحتوي على لحظات تُفلت تمامًا من متناول أيدينا ولا نستطيع التحكم فيها. (الحساب مثلًا ليس تفكيرًا رياضيًّا، وقد قيل بحق إن الرياضيين البارعين غالبًا ما يكونون ضعفاء في الحساب!) ولكن يبدو أن هذه اللحظات التي تفلت من التحكم فيها ليست هي أهم ما في الفكر. والواقع أن الفكر في نظر الإنسان الحديث الخاضع لتأثير التراث الديكارتي يساوي: أنا أفكر. وقد أشرنا من قبل — اعتمادًا على ملاحظة لشيلنج — أن «الواقعة الخالصة» في الفكر ليست هي «أنا أفكر»، وإنما هي «إنه يفكر في» أو «إنه يفكر فيَّ».
لقد سبقت الإشارة إلى أن كل تفكير حقيقي يحتاج إلى هداية أو توجُّه وتحكُّم باطني. ويجب علينا هنا أيضًا أن ننتقل من «الأنا أفكر» إلى «إنه يفكر في»؛ أي: يجب أن نتيح «لفعل» الفكر أن ينقلب إلى فكر «منفعل»، وهذا القلب، أو هذا التحول العكسي في الفكر، شرط أساسي لتحقيق ذلك التحول الآخر، ونعني به عدم التفكير في العلو أو تجربته من ناحية الإنسان والعالم، بل التفكير في العالم والإنسان من ناحية العلو. وكلما زادت أصالة هذا التحول في الفكر، زادت واقعية الهو التي تفكر في — على حد تعبير شيلنج. وقد قلنا إنه كلما ازدادت أصالة الفعل وماهيته، ازداد نصيبه من الانفعال، أي: من العذاب. والعكس أيضًا صحيح، فكلما ازداد العذاب أصالة، اقترب التحمل (الذي ينطوي عليه هذا العذاب) من الفعل. هنا أيضًا نجد أننا نتجاوز تثبيت الأضداد تثبيتًا جامدًا مجردًا.
ولكن الفعل الجوهري الأصيل هو العلو فوق كل شيء على الإطلاق، أي: الترانسندنس. وأين نجد فعلًا يمكنه أن يفوقه في الأصالة والماهية؟ هنا أيضًا يصدق بصورة رائعة وفريدة ما قلناه من أن «يعلو» تعني في الحقيقة يُعلى به.
تأكد لنا فيما سبق أن الذي يعلو فوق كل شيء يعلو كذلك فوق نفسه؛ بحيث لا يكون علوُّه من هذه الوجهة أو تلك، بل يكون علوًّا كاملًا شاملًا على الإطلاق. إن علوَّه في الحقيقة هو علو به، وهو يتم بصورة حاسمة لا نظير لها في أي مجال آخر. صحيح أن علو الذات فوق ذاتها تعبير ينطوي على مفارقة، بل هو، إن شئنا الدقة، تعبير منافٍ للعقل ومتناقضٌ في ذاته. والواقع أننا حين نلجأ إلى هذا التعبير إنما نقصد في أغلب الأحوال أن هناك شيئًا ما في داخلنا — كالذات الأفضل مثلًا — يرتفع فوق شيء آخرَ فينا؛ كالذات الأسوأ. والتناقض هنا كامن في أسلوب التعبير، وهو يزول بمجرد أن ندقق النظر في ذلك الأسلوب. أما عن علو الذات فوق ذاتها في مجال العلو الخالص؛ فليس أسلوبًا متطرفًا في التعبير، بل إن التناقض هنا لا يزول ولا يحل.
هل نخرج بهذا على مبدأ عدم التناقض؟ نعم، ولا. إن مبدأ عدم التناقض هو القانون الأعلى للفكر، من خرج عليه فقد كفَّ عن التفكير، ومن فكر فقد خضع لسلطانه.
ولكن ما معنى التفكير في هذا القول؟
التفكير يعني دائمًا التفكير في موجود ما. ومعنى هذا أن مبدأ عدم التناقض مرتبط ارتباطًا لا تنفصم عراه بمفهوم الوجود، فهو في حقيقته وأصله مبدأ أنطولوجي (وجودي). ويتضح هذا بسهولة إذا رجعنا إلى أصوله التاريخية عند بارمنيدز الإيلي وأرسطو، وليس من قبيل الصدفة ألا يعبر أرسطو عنه لأول مرة في كتاباته المنطقية، بل في كتاباته التي سميت في وقت متأخر بالميتافيزيقا أو ما بعد–الطبيعة.
لقد ذكرنا من قبلُ عبارة كيركجارد التي يقول فيها إن أقصى ما يمكن أن يبلُغه الفكر الجياش بالعاطفة؛ هو أن يريد لنفسه الأفول والانهيار، ولكنه لا يمر بتجربة الانهيار، ولا يعانيها كأشدِّ ما تكون المعاناة، إلا حيث يُضطر إلى الخروج على مبدئه الأعلى؛ وهو مبدأ عدم التناقص، ويبدو أنه يمر دائمًا بهذه التجربة كلما اتجه إلى التفكير في العلو. ولعل هذا أن يفسر لنا هذه الكلمة المعروفة للشاعر الرومانتيكي نوفاليس (١٧٧٢–١٨٠١م): «ربما كان القضاء على مبدأ عدم التناقض هو أسمى مهمة يمكن أن يقوم بها المنطق الأعلى.» هذا المنطق الأعلى هو ما يمكن أن نسميه منطق العلو.
سبق أن قلنا إن كل فعل هو في نفس الوقت انفعال، وهذا القول بدوره ينطوي على تناقض؛ فالفعل والانفعال ضدان؛ إما أن يتعلق الأمر بالفعل أو يتعلق بالانفعال. صحيح أن من الممكن حلَّ هذا التناقض عن طريق التمييز بين وجهات النظر المختلفة؛ فعندما يلكُم شخص شخصًا آخر يشعر الضارب أيضًا بالألم؛ إنه «يفعل» من ناحية، وينفعل من ناحية أخرى. ولكننا لو تأملنا القول السابق من منظور العلو (بالمعنى الذي شرحناه في هذا الكتاب)، فلا يمكن أن يُفهم منه أن الفعل من وجهة نظر معينة يكون كذلك انفعالًا، وأن الانفعال من وجهة نظر أخرى يكون فعلًا، بل لا بد أن نفهم منه أن الفعل نفسه انفعال وأن الانفعال نفسه فعل.
لقد حاولنا من قبلُ أن نخفف من حدَّة التناقض؛ وذلك عندما تحدثنا عن نوع من التسلسل الزمني، وقلنا إن المرء يبدأ أولًا بالبحث، ثم يتم التحول العكسي فجأةً فيبحث عنه. هكذا تبدو الأمور في عين الباحث الذي يحيا في الزمن، ولكن التعبير الذي لجأنا إليه بعيد عن الحقيقة؛ فالفعل «يبحث» هو في مبدئه وفي حقيقته الأصيلة الخالصة «يبحث عن» — وإن كان الباحث نفسه لا يدرك هذا ولا يفطِن إليه — كما أن الفعل «يجد» هو في حقيقته «يوجد». ويستحيل أن يكون الأمر مختلفًا عن هذا؛ إذ كيف يتسنى لإنسان أن يقوم بنفسه ومن نفسه، ولو بأدنى حركة، في اتجاه ذلك الذي يعلو فوقه علوًّا مطلقًا؟
إن حركة العلو، كما لاحظنا من قبل، لا بد أن تنطلق من العلو نفسه وتبدأ منه وحده، ومع ذلك يمكن القول أيضًا إن الإنسان الذي يقوم بالعلو لا بد أن يبدأ هذه الحركةَ بنفسه، ويحققها تحقيقًا كاملًا بنفسه، ولو أضفنا هذا إلى ما سبق لأمكننا أن ننظر إلى التناقض في صورته الخالصة. إن صيغة إما — أو التي تعوَّدنا عليها في المنطق المألوف؛ منطق الأشياء — لا بد أن نُقرَّ بعجزها هنا، وتَفسَح مكانها لصيغة أخرى متناقضة، هي «هذا وذاك».
“Ja, ie mer wir eigen sin, Je minner eigen.”
ξψν λδγον εχον «زو أون لوجون أخون» أي: حيوان يملك القدرة على النطق أو التفكير المعقول.