المبحث الجدلي في العلو
(١) العلو والجدل١
ليس من السهل أن نعبر تعبيرًا مباشرًا عن ماهية العلو نفسه وطبيعته، بل ليس من الممكن، إذا التزمنا الدقة في التفكير، أن نسأل عن ماهيته؛ ذلك أن كل سؤال عن «ما هو»، بل كل سؤال مباشر، يأخذ «المسئول عنه» منذ البداية مأخذَ شيء ما؛ على حين أن العلو لا يمكن أن يكون شيئًا أي شيء. فإن أنا سألت: ما العلو؟ فقد أخطأ سؤالي موضوعه.
ولكن العلو مرتبط، كما رأينا، بالانفتاح، فكيف يمكنه أن يوضع في إطار معرفة مغلقة أو يعبَّر عنه من خلالها؟
من المستحيل أن يكون هدف الفكر المتعالي هو الوصول إلى أي نظام معرفي والاندماج فيه، والأَولى به أن يكون هدفه هو التحطم على العلو؛ لكي يتخلص من معرفته المزعومة به أو المتصورة عنه. مثل هذا الفكر لا يعبر عن نفسه في صورة نسق مغلق من المفاهيم، وإنما يعبر عنها في صورة اندفاع باطني متجدد ينطلق به نحو ذلك الذي لا قِبل له بالتفكير فيه، أو ذلك الذي لا يقبل أن يكون موضوعًا للتفكير.
إن تجربتنا الوحيدة الممكنة بالعلو هي التجربة التي تُشعرنا بأن مفاهيمنا وتصوراتنا تتحطم عليه؛ لأننا نحس من هذا التحطم إحساسًا واضحًا لا لَبس فيه أننا نجرب ذلك الذي تتهشم أو تتحطم عليه كلُّ مفاهيمنا؛ بحيث نعجِز في هذه الحالة عن التفكير فيه أو التعبير عنه.
توصلت الفلسفة منذ عهدها الباكر — على يد هيراقليطس وبارمنيدز وأفلاطون — إلى نظرة أو رؤية عميقة فحواها أن الواقع الحق لا يمكن إدراكُه إدراكًا حسيًّا ولا تصوُّره في صورة عِيانية. وقد بقي علينا أن نمضي إلى أبعدَ من هذا، ونخطوَ الخطوة الأوسع التي حققها أفلوطين بفكره تحقيقًا فعليًّا صريحًا مع نهاية الفلسفة اليونانية وفي أوج اكتمالها، ونعني بهذه الخطوة أن نتبين بصورة واضحة أن الواقع الحق لا يقبل التفكير فيه، أو يأبى أن يكون موضوعًا للفكر الذي يقصُر دونه.
ولكن كل «فوق متجاوزة» تتضمن — إذا فهمناها فهمًا حقيقيًّا — معنى «من خلال». فالعلو فوق العالم على سبيل المثال يراد به في الحقيقة العلو فوقه أو تجاوزُه من خلال التغلغل في أعماقه. وقد يستطيع الانزواءُ أو الانسحاب من العالم أن يبعدنا عنه، ولكنه لن يمكِّننا أبدًا من تجاوزه. كذلك فإن العلو فوق ما يمكن التفكير فيه أو يقبل التفكير فيه؛ معناه تجاوزه من خلال التغلغل فيه.
وإذن فالفكر لا يسقط البتة أثناء العلو، وإنما يتصاعد ويبلغ أقصى ما يمكن بلوغُه من عذاب العاطفة، كما قال كيركجارد في كلمته السابقة: أجل! إن عاطفة الفكر هذه هي شرط كل علو.
إن الفكر في تجربة العلو يصطدم بواقع لا يعجِز فحسب عن التفكير فيه، بل إن نظام تصوراته ومفاهيمه يتحطم ويتهشم عليه.
إن الفكر، من حيث هو فكر، يتحتم عليه التفكير في ذلك الذي لا يمكن التفكير فيما هو أعظم منه، وهو إذ يخضع لهذه الحتمية فإنما يصطدم بما لا يمكن التفكير فيه على الإطلاق؛ أي: إن الفكر يصطدم في أثناء هذه الحركة الفكرية بما يعلو فوقه ويتجاوزه هو نفسه، ولا سبيل إلى التفكير فيه (لاحظ أننا نقول: ما يعلو فوقه ولا سبيل إلى التفكير فيه؛ إذ إن الموجود الفردي الحسي المتعين لا سبيل أيضًا إلى التفكير فيه؛ إنه يقع خارج الفكر ولكنه لا يعلو عليه، بل العكس هو الصحيح؛ فالفكر يعلو فوق الحسي المتعين.) هذه التجربة التي يمر بها مَن يقوم بالحركة الفكرية، هي التي تنطوي في الحقيقة على الدليل المعروف «بالدليل الوجودي» على وجود العلو أو وجود الله، أجل إنه هو أقوى دليل وجودي يمكن تصوره؛ إذ يستحيل أن يكون هناك دليل على وجود شيء ما أقوى من الدليل الذي يثبت لي وجوده عن طريق تحطيمه إياي — وتحطيمه إياي — يساوي في هذه الحالة تحطيم فكري.
- (١)
الفكر الجدلي فكر خالص.
- (٢)
الفكر الجدلي فكر متحرك (ديناميكي)، لا فكر ساكن (ستاتيكي).
- (٣)
الفكر الجدلي يتجه نحو المطلق.
هذه الخصائص الثلاث جميعًا نجدها متوفرةً في مفهوم أفلاطون عن الجدل، وقد كان أفلاطون أول من صبغ هذا المصطلح بالصبغة الفلسفية، ويمكن بشيء من التبسيط أن نقول إن الجدل عند أفلاطون هو ذلك الفكر الذي يحرك المُثل من حيث هي مُثل، ويصعد من بينها إلى المثال الأعلى، ومن هناك يعود إلى الهبوط. والخاصية الأولى من خصائص الجدل، وهي الفكر الخالص، تتمثل في أن الجدل الأفلاطوني لا يتعامل إلا مع المُثل من حيث هي مُثل؛ على العكس من الفكر العادي أو اليومي ومن الفكر العلمي، فهذان يفكران أيضًا في كل شيء على ضوء المثل، ويهتديان بهما في كل خطواتهما؛ أي: إنهما ليسا عميانًا عن المُثل بأي حال من الأحوال، ولكنهما عاجزان عن استحضار المُثل نفسها أمامهما.
أما الخاصية الثانية، وهي حركية الفكر الجدلي، فنجد أفلاطون يعبر عنها على النحوَين التاليَين: فالفكر الجدلي لا يتناول الأفكار كما لو كانت أوضاعًا منعزلةً جامدة موجودة بذاتها، وإنما يحركها بالفكر نفسه كما يحرك نفسه من ناحية أخرى — أثناء وجوده بين المثل — في طريقه إلى أعلى المثل، وهو مثال الخير، ثم يعود فيهبط من جديد إلى الأفكار الفردية. أما عن الخاصية الثالثة، وهي الاتجاه إلى المطلق، فتتمثل في أن المهمة الحقيقية للفكر الجدلي عند أفلاطون هي الصعود إلى مثال الخير. صحيح أن «المطلق» — الذي مهَّد له اسبينوزا وكانط — لم يظهر كاصطلاح أساسي إلا في المثالية الألمانية التأملية. ولكننا نستطيع مع ذلك، كما أوضحنا من قبل، أن نتتبعه من الناحية الموضوعية حتى نصل به إلى مثال الخير الأفلاطوني.
إن الفكر الجدلي، كما نفهمه الآن في هذا المجال، هو بالدرجة الأولى كذلك فكر خالص، والرأي القائل بأن الواقع الحقيقي لا يمكن الوصول إليه إلا بالفكر — والفكر وحده — هو رأي يرجع الفضل في اكتشافه لأفلاطون، ولم يُنسَ أو يهمَل إلا في العصور التي انهارت فيها الفلسفة ويمكننا أيضًا أن نقول إن الشيء المذهل حقًّا في دليل أنسيلم هو أنه فكر خالص، وأنه يختلف عن كل أدلة وجود الله الأخرى في أنه لا يلجأ إلى أيِّ عنصر تجريبي.
والفكر الجدلي في رأينا أيضًا فكر متحرك (ديناميكي) لا فكر ساكن (ستاتيكي)؛ لأن العالي، بحسب ما قلنا، لا يمكن أن يجوب بالفكر إلا إذا اصطدم الفكرُ به وتحطَّم أو تكسَّر عليه، وهذا يفترض حركية الفكر بمعناها الأصيل.
بيد أن الخلاف بين مفهومنا عن الجدل وبين مفهومه التقليدي لا يتضح إلا في النقطة الثالثة بوجه خاص، فالخير في رأي أفلاطون — إذا صرفنا النظر عن مسألة وجوده في عالم آخر — يظل مثالًا في نهاية الأمر؛ أي: موجودًا ذا شكل، ومن ثم قابلًا للتفكير فيه، بل إنه هو أكثر ما نفكر فيه وأحقُّه بالتفكير، مثله مثل الشمس التي يشبِّهه أفلاطون بها في رمزَي الكهف والشمس في «الجمهورية»؛ أي: أوضح ما نراه وأكثر ما نراه أيضًا.
حقًّا إن المطلق نفسه عند هيجل لا يمكن أن يصبح شيئًا موضوعيًّا، ولا أن يفكَّر فيه بوصفه موضوعًا، ولكنه مع ذلك يقبل التفكير، ولا بد أن يفكَّر فيه من خلال كل ما هو موضوعي، ومن خلال هذا الفكر يمكنه أن يكتسب واقعيته. وهكذا يكون المطلق في رأي هيجل هو ما يقبل التفكير فيه بحق؛ فضلًا عن أنه يحدده فيجعله روحًا أو عقلًا؛ ولهذا كان الجدل في نظره هو الحركة الذاتية للفكر، وهي الحركة التي يجرب الروح المطلق فيها نفسه ويرجع إلى نفسه.
من أهم ما يميز المفهوم التقليدي للجدل أن يكون الفكر قادرًا — على أي نحو من الأنحاء — على التفكير في المطلق، وأن يبلغ كماله عن طريق هذا التفكير في المطلق. ونحن نفهم الفكر الجدلي أيضًا على أساس أنه هو الفكر المتجه نحو المطلق، ولكننا إذا فهمنا المطلق بمعنى العلو الخالص الذي تحدثنا عنه، فلا بد أن نقول إن الحركة الجدلية لن تؤدي إلى اكتمال الفكر عن طريق تفكيره في المطلق، بل لا بد من القول بأنه عند اصطدامه بالمطلق سيتحطم عليه ويتكسر؛ ولهذا فإن مفهومنا عن الجدل قريب من مفهوم كيركجارد عنه، على الرغم من الفروق الأساسية بينهما.
إن العالي نفسه، بوصفه عاليًا، يستعصي على التفكير فيه والتعبير عنه، وإن كان من الممكن التفكير فيه من ناحية علاقته بالإنسان أو بوجه عام بالقائم بالعلو.
أشرنا في البداية إلى الازدواج اللغوي العجيب والأساسي في دلالة كلمة العلو، وقلنا إنها يمكن أن تدل على فعل العلو كما تدل على ذلك الذي يتجه إليه العلو. وقد أشرنا أيضًا إلى الفارق الأساسي بين الدلالتين، ولكن من الواضح أننا لا نستطيع — بوصفنا كائناتٍ متناهيةً موجودة داخل العالم — أن نسأل عن العالي أو نتناوله بالبحث والشرح، بدون أن نسأل في نفس الوقت عن فعل العلو، ولا نستطيع من ناحية أخرى أن نسأل عن فعل العلو بدون أن يكون العالي، الذي يؤسس العلاقة بيننا وبينه، نُصبَ أعيننا وفي مجال رؤيتنا. وإذا كنا في الشروح السابقة قد فصَلنا بين الاثنين، فإننا لم نلجأ لهذا الفصل إلا لأسباب منهجية؛ لكيلا نعقد الأمور في بداية البحث.
إذا أردنا الآن أن نطرح السؤال عن العلو من جديد، فينبغي علينا أن نفكر في العالي وفي فعل العلو معًا؛ من خلال العلاقة البسيطة التي لا تنفصم بينهما؛ ولهذا فلن نسأل الآن عن العالي من حيث هو عالٍ، بل سنسأل عنه ونتناوله بالبحث من حيث علاقته بالقائم بالعلو.
ولكن إذا كان من المستطاع هنا إصدار عدد وافر من العبارات أو القضايا المحددة تحديدًا تامًّا، فإنها لا يمكن أن تكون من نوع القضايا التي تتعلق بالأشياء والوقائع الداخلة في نطاق العالم ولا من شكلها؛ لأن أمثال تلك القضايا ستعلو فوق هذه الأشياء والوقائع وتتخطاها، وقد أوضحنا من قبلُ أن هذه القضايا لا يمكن أن تدخل في نظام أو تندرج في نسق مذهبي، ونضيف إلى هذا أن ماهية الموضوع الذي نحن بصدده تقتضي ألا نعبِّر عنه بعبارات وقضايا بسيطة، بل بقضايا مزدوجة؛ بحيث تكون هذه القضايا في حالة تضاد مطلق، دون أن يترتب على هذا أن يُلغي بعضها بعضًا أو «يرفع» بعضها بعضًا.
إن العلو — أي ما نستطيع الآن أن نقول عنه إنه العالي في علاقته بالقائم بفعل العلو — لا يمكن أن يدركه هذا الذي يقوم بالعلو إلا من خلال العبارات والقضايا المتناقضة في ذاتها. ولهذا فإن التفكير الطبيعي، الذي لا يحتمِل مثل هذا التناقض، سيتحطم أو يتهشم إن حاول ذلك؛ أي: إنه سيصبح تفكيرًا جدليًّا بالمعنى الذي شرحناه.
ولكن لماذا يتحتم أن يحدث هذا؟ لماذا يتحتم أن يصبح الفكر متناقضًا في ذاته بمجرد أن يتجاوز العالم وكل ما يدخل في نطاقه؟ ربما أمكننا أن نوضح هذا عن طريق التأمل التالي:
كل ما هو متناهٍ ومن العالم (أو داخل في نطاق العالم) له ضد. يلزم عن هذا، عن طريق العكس المنطقي البسيط، أن كل ما ليس له ضد، فلا يمكن أن يكون متناهيًا محدودًا ولا مما يدخل في نطاق العالم. كما يلزم عن هذا أن ما ليس من العالم وما ليس متناهيًا، فلا بد بالضرورة أن يكون بلا ضد.
«أ» و«لا أ» كلتاهما صحيحتان»، فإن التضاد هنا عن طريق النفي مستبعَد بالنسبة ﻟ «أ»؛ لأن النفي داخل في القضية منذ البداية.
قد نجد هنا مَن يعترض علينا بقوله إن من الممكن إيجاد قضية مضادة للقضية التي ذكرناها؛ وهي:
«لا أ» و«لا لا أ»: كلتاهما صحيحتان.
ولكننا لو تأملنا هذه القضية الأخيرة عن قرب، لاكتشفنا أنها تقول نفس الشيء الذي تقوله القضية الأولى، ولكن من وجهة نظر أخرى. فلو قلنا مثلًا عن شيء إنه صادق وكاذب معًا، لأمكننا أيضًا أن نقول عنه ليس إنه بصادق ولا كاذب.
وقد يمكننا أيضًا، إذا أردنا أن نعبر بطريقة جدلية سليمة لا غبار عليها، أن نصوغ قضية جدلية من أربعة أطراف على النحو التالي: «أ» و«لا أ» كلاهما صحيح؟ وكذلك «لا أ» و«لا لا أ». فيمكن القول مثلًا بأن الله موجود وغير موجود معًا، وأنه كذلك لا موجود ولا غير موجود. وهناك عدد كبير من أمثال هذه القضايا المربعة التي تمت صياغتها في عهود قديمة جدًّا.
ولكننا لا نريد أن نعقِّد الأمور أكثر مما يجب؛ ولهذا فسنكتفي بهذه القضية الجدلية ذات الحدين لتوضيحِ ما نحن الآن بصدده:
«أ» و«لا أ» كلتاهما صحيحتان.
وهذه القضية وحدها كفيلة بإثارة سخط الفهم العام؛ لأنها تناقض المنطق العام الذي يقول:
إن القضيتين المتناقضتين مثل «أ» و«لا أ» لا يمكن أن تصدُقا معًا، بل يتحتم أن تصدق إحداهما فقط.
والواقع أني لو طبقت مثل هذه القضية على الموجودات التي تدخل في نطاق العالم، لكانت سخفًا لا معنَى له؛ لأن مبدأ عدم التناقض يصدُق هنا صدقًا كاملًا غير محدود. ولكني لو وجدت، على الرغم من ذلك، عددًا من المفكرين الجادين الذين صاغوا أمثال هذه القضايا — وقد فعل ذلك أكثرُ المفكرين جديةً وأشدُّهم نفاذًا — فلا بد من القول بأنهم لا يقصدون العالم أو ما يدخل فيه بمثل هذه القضايا المتناقضة، وإنما يضطرون للُّجوء إليها لأنها من أصلح الوسائل للتعبير عما ليس له ضد.
إذا كنا نسأل الآن عن العلو ونصل إلى صياغة عبارات أو قضايا لا تتناقض مع نفسها من هذه الجهة أو تلك، بل تتناقض مع نفسها تناقضًا مطلقًا خالصًا؛ فلا بد أن نُحس بشيء من النفور من ذلك أو عدم الارتياح له، ولكن لا بد في نفس الوقت أن نُحس بأنه علامة على أننا نسير على الطريق الصحيح؛ إذ لا يمكن أن تكون مهمتنا هنا هي تجنُّب هذه المتناقضات التي يُفضي بنا إليها التفكيرُ في العلو، ولا يمكن أن تقف مهمتنا أيضًا عند استبعادها أو التهوين من ضررها أو محوها، بل لا بد لنا من التفكير فيها تفكيرًا واضحًا نقيًّا إلى أبعد حدود الوضوح والنقاء، وبقدر ما نُقبل على هذه المهمة، بقدر ما يمكن أن تساعدنا هذه القضايا المتناقضةُ على الإقدام على الانطلاقة الحاسمة.
(٢) العلاقة المزدوجة بالعالي
تتميز العلاقة العالية (أو العلاقة بالعالي) بمعناها الدقيق بالازدواج التالي، فنحن نجرب العلو بوصفه ذلك الغير–المطلق بالنسبة إلينا، كما نختبره في نفس الوقت بوصفه أخصَّ خصائصنا وأقربها إلينا.
نستطيع أن نصف هذا الطابع المزدوج بأنه الصورة الأساسية لكل تجربة حقيقية بالعلو. ولما كانت تجربة التدين — أيًّا كان نوعها أو ما نفهمه منها، وبشرطِ أن تكون متعلقة بالتدين لا بأي شيء آخر سواه — تفترض العلو على نحو من الأنحاء، ففي إمكاننا القول أيضًا إن هذه العلاقة المزدوجة هي الصورة الأساسية لكل تجربة دينية حقة. ولنستشهد على هذه العلاقة بعبارات من «اعترافات» القديس أوغسطين، اكتسبت أهمية كبيرة في علم النفس الحديث أيضًا. تقول هذه العبارات:
«ما هذا الذي يتجلى لي من حين لحين ويطعن قلبي دون أن يجرحه؟
كلما فكرنا في العلاقة العالية تفكيرًا أصيلًا، ازدادت حدة «الاختلاف» و«التشابه» على السواء. وسوف نصعد من هاتين الكلمتين ونبلغ بهما أقصى ما يمكن أن يبلغاه؛ فنجعل «المختلف» هو «الغير المطلق»، والشبيه هو «الخصوصي».
وسنبدأ بتناول مفهوم الغيرية، ثم نتناول مفهوم الخصوصية، فننظر فيهما ونتعمق معناهما، ونحاول بعد ذلك أن ننظر في العلاقة الجدلية المزدوجة التي تربط العالي بالقائم بالعلو.
(٢-١) العلو والغيرية
أشرنا من قبل إلى أن كل علو بوجه عام لا يقتصر على تجاوز ما يعلو فوقه، بل يتجاوز كذلك ضدَّه ونقيضه؛ ولهذا فإن ذلك الذي يؤدي العلو إليه لا يمكن أن تكون علاقته بما علا فوقه علاقةَ الضد بالضد ولا علاقةَ الاختلاف عنه، بل لا بد أن تكون علاقةً من نوع آخر غير هذا كله. ولقد عرَّفنا العلو بمعناه الحقيقي الأصيل بأنه «العلو فوق كل شيء على وجه الإطلاق.» وإذن فمن الضروري أن يكون ذلك الذي يؤدي إليه هذا العلوُّ مختلفًا عن كل شيء على الإطلاق. ولما كان هذا العلو المطلق لا يسمح «بنقل» أي شيء معه، فلا بد أن يكون «غير» كل شيء على الإطلاق، ولما كان كل شيء هو ما اتفقنا على تسميته بالعالم، فيلزم إذن أن يكون «غير» كلَّ ما يمتُّ بصلة للعالم، وأن تكون هذه «الغيرية» مطلقة.
إن هناك حدودًا قاطعة تفصل بين الحجر والنبات، وبين النبات والحيوان، وبين الحيوان والإنسان، بل إننا لَنجدُ هنا «غيرية» لا شك فيها، وهذا هو الذي يجعل الحيوان غريبًا عنا غربة أساسية، ولكنها مع ذلك ليست غيريةً مطلقة، وهذا هو الذي يجعلنا من ناحية أخرى نفهم الحيوان ونتعاطف معه. أجل إن الحجر والنبات والحيوان والإنسان تشترك جميعًا في أمر أساسي؛ وهو أنها جميعًا «هناك»؛ أي: موجودة في المكان والزمان، فوجودها جميعًا يوحد بينها. وحتى الوجود الحسي لا يختلف عن الوجود العقلي اختلافًا مطلقًا — على الرغم من أن أفلاطون قد نجح في إقامة فجوة فاصلة وحاسمة بينهما — وذلك لأن هناك وحدةً تجمع بينهما، وتتمثل في أن كليهما موجود وذو شكل.
أما العالي فهو على العكس من ذلك غيرُ كل ما هو من العالم غيريةً مطلقة؛ ومن ثَم فهو (يكون) غير كل ما هو من العالم أو كل ما يتصل بالعالم، وهذه الغيرية تبلغ في الحقيقة حدًّا يجعلنا عاجزين هنا عن الكلام عن أي «وجود» أو كينونة. ولكن هل من الممكن التفكير في «آخر» مطلق أو «غير» مطلق؟ بهذا السؤال تستيقظ عاطفة الفكر الجياشة التي تَسِمُه بالمفارقة، وتجعله، كما قال كيركجارد، يريد انهياره، أم أن هذا المفهوم (مفهوم الغير المطلق) متناقض مع نفسه ومنافٍ للعقل؟
لقد قلنا عنه إنه «غير كل ما هو من العالم غيريةً مطلقة»، واستخدام «الغيرية» هنا على سبيل التشبيه والمقارنة، وكل مقارنة تفترض مستوًى مشتركًا يسمح بها، فإذا قلت مثلًا إن «أ» غير «ب» على الإطلاق، لزم أن يكون هذا القول متناقضًا مع نفسه، وأن يرفع نفسه بنفسه. ويرجع هذا إلى أن ما هو «غير» شيء آخر بإطلاق، لا يمكن أبدًا أن يدخل في علاقة معه، بل إنه، إذا شئنا الدقة، لا يمكن أن يدخل معه في علاقة الغيرية.
إن التناقض الذي تحدثنا عنه لا يظهر في مفهوم الغير المطلق وحده، وإنما يظهر كذلك مع كل المفاهيم الحدية التي تشبهه، فإذا كوَّنت مثلًا مفهوم «المجهول المطلق»، وجدتني أقع في الجدل العجيب نفسه، فأنا من ناحية لا أستغني — بوصفي مفكرًا — عن تكوين مثل هذا المفهوم، فكل إنسان يعلم أن هناك شيئًا يجهله من هذه الزاوية أو تلك — كأن يجهل مثلًا إن كانت هناك كائنات حية تعيش على سطح الأجرام السماوية البعيدة أو لا. ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فكل إنسان يعلم أيضًا أن هناك شيئًا يجهله جهلًا مطلقًا، شيئًا لا يمكنه أبدًا أن يعرفه، ولا يستطيع بحال من الأحوال أن يجد السبيل إلى معرفته، كما يعرف أن هذا هو لب الواقع؛ السر الأساسي.
ومع ذلك فنحن لا نستطيع، عن طريق الفكر، أن نضع أيدينا على مفهوم المجهول المطلق؛ لأنني لا أستطيع أن أعرف شيئًا عما هو مجهول بإطلاق، بل إنني لا أستطيع أن أعرف أنه مجهول بإطلاق، وأنني لا أعرف عنه شيئًا ولا يمكنني أيضًا أن أعرف عنه شيئًا.
وهنا تواجهنا بصورة أخرى الصعوبة نفسها التي طالما دارت حولها المناقشات عن طبيعة «الشيء في ذاته» عند كانط، فأول ما يدل عليه هذا المفهوم هو أن الأشياء موجودة بذاتها؛ أي: وجودًا مستقلًّا عن علاقة العارف بالأشياء. ولكن من المستحيل التفكير في «شيء» مجرد من كل علاقة؛ لأن التفكير في جوهره تأسيس علاقة؛ هي على أقل تقدير علاقة «المفكر» ﺑ «موضوع» التفكير.
وهذه التجربة بدورها لا تستمر غير لحظات ولا تحتمل إلا لحظاتٍ خاطفة، ولا يرجع السبب في هذه المرة إلى بُعد «المجرب» بُعدًا هائلًا أو غربتِه غربةً مذهلة، بل يرجع إلى قربه الحميم منا. بهذا نصل إلى الخاصية الثانية التي تتميز بها العلاقة العالية.
(٢-٢) العلو والخصوصية
ويدل النعت على معنى النسبة أو الانتماء، وهنا يغلب أن يكون الخاص في مقابل العام، على نحو ما أقول مثلًا: هذه مسألتي الخاصة. وتعبر الخصوصية عما «يخص كائنًا ما تمييزًا له عن الآخرين.»
ولهذا تتأرجح معاني كلمة «الخصوصية» على نحو عجيب ينسحب على الصفة (خاص) والصيغ اللفظية العديدة المشتقة منها … ونحن في معظم الأحيان نربط بين معنى الخصوصية وبين المعنى الفرعي الذي توحي به، ويدل على الشيء النادر والأمر المُغرِب العجيب؛ كأن نقول عن إنسان ما «إن له خصوصياته.» وجدير بالملاحظة أننا نربط هذا التصور الأخير في أغلب الأحوال بمفهوم الخاص والخصوصي؛ إذ لا يتحتم أن يكون هذا المفهوم الأخير بذاته مثار عجب أو غرابة.
نكتفي بهذا القدر من الكلام عن الناحية اللغوية التي عرضناها في صورة تخطيطية موجزة. وقد تبين لنا على كل حال أن كلمة «خاص» كلمة خصبة غنية بالمعاني والدلالات المتعددة التي يصعب المفاضلة بينها في كثير من الأحيان.
من الواضح أن هذا ليس صحيحًا البتة، بل نحن مضطرون إلى القول بأن هذا لا يحدث إلا في أندر الأحوال، كما نحن مضطرون إلى المضي إلى أبعدَ من هذا وطرح هذا السؤال: هل يمكن أن يمتلك الإنسان ما ينتمي له؛ أي: هل يمكنه أن يستحوذ عليه ويتصرف فيه؟ سنترك هذا السؤال مفتوحًا ريثما نعود إليه بعد قليل.
ولكن الذي ينتمي إلينا من الأصل انتماء عميقًا وأخيرًا هو العلو؛ من حيث إن ماهية الإنسان تكمن في العلو فوق نفسه علوًّا غير متناهٍ، وهذا العلو — كما أوضحنا — هو الآخر أو الغير المطلق. وهكذا نصل إلى هذه العبارة التي توحي بالمفارقة: إن الغير المطلق هو أخص ما يخصنا. والعكس صحيح: أخص ما يخصنا هو الغير المطلق.
هنا، وهنا فقط، نبلغ العلو بحق، ونجرب العالي على هذه الصورة المزدوجة؛ من حيث هو الغير المطلق بالنسبة إلينا، ومن حيث هو أخص ما يخصنا. ولنتفق الآن على وصف المعرفة بهذا الطابع الجدلي المزدوج بأنها المعرفة المتعالية الأساسية، ويتضح هذا من الملاحظات التالية:
إننا نجرب العالي بوصفه الغير المطلق كما نجربه بوصفه أخص ما يخصنا. ويجب أن نتبين بوضوح أن الناحيتين معًا تنتميان بالضرورة إلى العلاقة المتعالية؛ لأننا لو أخذنا بالناحية الأولى وحدها — إذ قد يبدو لأول وهلة أن هذا هو المأخذ السهل القريب — ونظرْنا إلى العالي نظرتَنا إلى الغير المطلق، لكان معنى هذا أنه لا يمت إلينا بأية صلة، ولاستحال علينا مع انعدام هذه الصلة أن ندخل معه في أية تجربة.
ولو أخذنا بالناحية الثانية وحدها، ونظرنا إلى العالي نظرتَنا إلى أخص ما يخصنا؛ لكان معنى هذا التخلي عن علو العالي أو التضحية به.
ويجب أن نتبين كذلك بوضوح أن هاتين الناحيتين، اللتين تنتميان بالضرورة إلى تجربة العلو، متناقضتان مع بعضهما تناقضًا تامًّا؛ ويرجع تناقضهما على كل حال إلى المعنى الذي نقصده هنا من «الغير المطلق» و«أخص ما يخصنا».
ونحن نجد اليوم في بحوث فلسفة الدين وسيكولوجية الدين أمثلةً عديدة يمكن الاستشهاد بها على إساءة فهو ظاهرة التدين، والنظر إليها بنظرة دنيوية (علمانية)؛ ويرجع هذا إلى عدم تقدير هذا الجدل الأساسي في العلاقة بالعالي. إننا في العلو نجرب الغير المطلق بوصفه أخص ما يخصنا، ويجب ألا نفهم الغيرية — كما قدمنا — بمعنى الشبيه بشيء أو المتفرع عنه، بل يجب أن نفهمها بمعنى العالي والمتفوق والسامي إلى أقصى درجات العلو والتفوق والسمو. ومعنى هذا مرةً أخرى أننا نجرب ذلك الذي يعلو فوقنا ويسمو علينا بوصفه أخصَّ ما يخصنا، وأقربَه إلى صميم كياننا وأعمق أعماقنا. وهكذا نشعر في تجربة العلو أننا نعلو على ذواتنا علوًّا غير متناهٍ، وهذا يُلقي مزيدًا من الضوء على كلمة باسكال التي وقفنا عندها من قبل.
هذا الذي يعلو فوقنا علوًّا غير متناهٍ، ويسمو على وجودنا سموًّا لا حد له؛ هو ذلك الذي يُفلت تمامَ الإفلات من مجال فعلنا وتأثيرنا وقدرتنا على التصرف فيه؛ لأن الذي يمكننا التصرفُ فيه على أي نحو من الأنحاء قد يعلو فوقنا من هذه الناحية أو تلك، ومن هذا الجانب أو ذاك، ولكنه لن يعلو فوقنا علوًّا مطلقًا.
وإذن فنحن في العلو نجرب الشعور بأن «أخص ما يخصنا» يُفلت من قدرتنا على التصرف. ربما تبدو المفارقة ظاهرة في هذا القول؛ لأنني إذا كنت أملك التصرف في شيء، فقد يبدو أن هذا الشيء «ملكي» أو «خاص بي»، لكن هل نملك حقًّا ما يخصنا؟
أيُّ لَبس هذا وأي ازدواج في المعنى والدلالة! إن هذا السؤال: هل يملك الإنسان الخاص؟ يتطلب — حسب ما نفهمه من كلمة خاص — الإجابةَ بنعم قاطعةٍ أو لا قاطعة. ومن الواضح أن هذا الازدواج ليس أمرًا لغويًّا عارضًا فحسب، وإنما يكمن في صميم ماهية «الخصوصية» ومفهومها. ولهذا السبب أيضًا بدا لنا من قبيل المفارقة أن يفلت «أخص ما يخصنا» من حوزتنا ويمتنع على إمكان التصرف فيه؛ لأننا فهمنا الخاص بمعنى «الموجود في حوزتنا وملكنا». ولو صح هذا لتحتم أن يصبح «الخاص» هو أكثر ما نتصرف فيه ونستحوذ عليه. والحقيقة أن هذا هو ما يمكن أن نصفه بالتشويه الأساسي للعلو وفهمه على عكس معناه الحقيقي، وهو ينشأ من الاعتقاد بأن من الممكن امتلاك «الخاص على الأصالة»، أي: الذي ينتمي إلينا من الأصل، والاستحواذ عليه والتصرف فيه.
ويمكننا الآن أن نفسر هذه العبارة؛ لأن من الواضح أن صيغتها التي تتسم بطابَع المفارقة تُعد ردًّا على التشويه الأساسي الذي أشرنا إليه في فهم العلو أو بالأحرى إساءة فهمه. بل إننا لنستطيع القول بأن التغلب على هذا التشويه وسوء الفهم وتصحيحه هو جوهر كل تصوف.
والمترجم الألماني يوسف كوينت، الذي نقل الميستر إكهارت من الألمانية الوسيطة إلى الألمانية الحديثة، يصوغ العبارة على هذه الصورة: «أجل، كلما ازدادت خصوصيتنا «نحو أنفسنا»، قلَّت خصوصيتنا «نحو الله».»
والملاحظ أن «كوينت» قد أضاف كلمتَي «أنفسنا» و«الله» لتوضيح النص، ولا خطأ في الترجمة، ولكن عيبها أنها تجرد العبارة من التوتر الذي تُضفيه المفارقة عليها، كما تُضعف من قدرتها على التعبير.
وهنا نجد تعبيرًا كاملًا عن تجربة العلو الأساسية التي تكلمنا عنها من قبل، فالله — أي: الغير المطلق كما عبرنا عنه باصطلاحنا — أقرب إلى النفس من قربها إلى ذاتها؛ أي: إنها ستجربه بوصفه أخصَّ ما يخصها.
(٣) العلو والواقع
سنتناول الآن علاقة العلو المزدوجة من خلال بعض المفاهيم الأساسية التي تتحكم في تفكيرنا ووجودنا؛ لنبين مدى سيطرة جدل هذه العلاقة عليها، ومن ثَم نفهم قُرب هذه المفاهيم منا وبُعدها عنا، ونبدأ مفهوم الواقع. كتب كيركجارد عن هذه الكلمة في يومياته أثناء سماعه لآخر محاضرات شيلنج الكبرى في برلين: «هذه الكلمة الواحدة التي تذكرني بكل ما قاسيت من عذابات وآلام فلسفية.» وبهذا وصف كلمة «الواقع» بأنها مفتاح تفلسُفِه كله.
هذه العبارة أيضًا غلب عليها جدلُ الغير والخصوصي؛ الذي يمكن أن يُعد مفتاحًا لفهم كثير من أقوال الصوفية التي تبدو لأول وهلة متناقضةً مع نفسها. ينبغي على الإنسان أن يتعلم كيف يشارك الله في الفعل أو كيف يعمل معه، ومعنى هذا أن عليه أن يتعلم كيف يفعل بحيث لا يأتي الفعل من جانبه ولا يصدر عنه، بل يفعل الله فيه وعن طريقه. وهو بهذا لا يتخلى عن نفسه ولا يتنازل عنها بحال من الأحوال — كما قد يتبادر إلى الذهن — بل يفعل الفعلَ الحقيقي عندما يصدر هذا الفعل عن نفسه، وعند ذلك فحسب. وإذا أردنا أن نعبر عن هذا بلغة هذا الكتاب قلنا: عندما يصدر فعل الإنسان عن الغير المطلق، أي: عما ليس من صنعه، عندئذٍ فقط يصدر فعله عن أخص ما يخصه؛ أي: عن ذاته.
ويضيف الميستر إكهارت أن هذا الفعل ينبغي أن يكون من ذلك النوع الذي يجعل الإنسان يترك الباطن ينفتح في الواقع ويهدي الواقع إلى الباطن.
ينبغي على الإنسان إذن أن يترك الباطن ينفتح على الفاعلية (أو الشغل العملي)، وأن يرشد الفاعلية إلى الباطن؛ وبهذا يعوِّد نفسه على الفعل الخالص. ومعنى هذا أنه ينبغي على الإنسان أن يعمل ويشتغل ويكون فعالًا، ولكن بدون أن يقيد نفسه بهذا العمل أو يصبح أسيرًا له ومتعلقًا به. وهذا هو الذي يقصده إكهارت بالفعل الخالص الذي يُعد تاج الأخلاق في التصوف الألماني، والذي عبر عنه إكهارت بصيغة أخرى هي «الفعل بلا لماذا».
إنها تصبح كلمة مبتذلة وضحلة عندما يبتسر الواقع، ويفرَّغ من مضمونه، ويتحول إلى مجرد شيء واقعي أو عياني (واقع)، وهناك يمكن أن نصف رجل الأعمال النشيط أو السياسي الناجح بأنه «قريب من الواقع».
ولكن هل يمكننا حقًّا أن نكون قريبين أو بعيدين عن الواقع الذي يحوطنا من كل ناحية؟ ألَا يدين مثل هذا الأسلوب في التعبير نفسه بنفسه؟
إن هوفمنستال يرجع هنا إلى المعنى القديم الذي كانت تدل عليه كلمة الواقع؛ وهو «الفعالية» أو «الإيجابية»، كما يرجع بشكل من الأشكال إلى معناها الأصلي الذي انحدر إليها من التصوف (دون أن يفصح عن هذا بنفسه)، وهو أن ما لا يلمس على الإطلاق — لا الأشياء العينية الملموسة التي يمكن الإمساك بها — هو أكثر «الموجودات» تأثيرًا وفاعلية.
إن «الواقع» في الاستعمال اللغوي الحديث يقترب في كثير من الأحيان من «الوجود»؛ ولهذا لا يوضع الواقع وحده في مقابل المظهر، بل إن الوجود أيضًا يوضع في موضع الضد منه. وقد أصبح تعبير «الوجود والمظهر» صيغة شائعة استطاعت أن تنفُذ إلى اللغة العامة التي تجري على الألسن. ومع ذلك فإن المعنيَين اللذين تدل عليهما الكلمتان غير متكافئَين على الإطلاق؛ كما أن كلمة الواقع التي تُستخدم اليوم في اللغة الطبيعية الحية تفوق كلمة الوجود في قوتها وقدرتها على التعبير، وتحتل مكانًا أكبر بكثير من هذه الكلمة (كلمة الوجود) التي أصبح الحديث عنها نوعًا من التكلف والتصنع.
مهما يكن من شيء، فليس الفلاسفة والعلماء هم الذين يحددون المعنى الذي تُستخدم به الكلمة في نهاية المطاف، بل إن الأدباء هم الذين يقومون بهذه المهمة؛ لأنهم هم الذين يحسنون الإنصات للغة الشعب (واللغة الشعبية مختلفة كل الاختلاف عن اللغة اليومية البالية المستهلكة).
قدمنا بعض ملاحظات «هوجوفون هوفمنستال» عن الاستعمال اللغوي الراهن لكلمة الواقع، ويمكننا أن نقتبس العديد من ملاحظاته الأخرى حول هذا الموضوع، ولكننا سننتقل إلى شاعر آخر له أثره البالغ على التعبير اللغوي الحديث؛ ألا وهو الشاعر رلكه، وسنقدم الآن قصيدة كاملة من شعره كنا قد أشرنا إلى أبيات قليلة منها في الملاحظات الأولية التي مهدنا بها لهذا الكتاب. تقول قصيدة رلكه «تجربة الموت»:
ولكن ما الذي يقصده رلكه «بشريط الواقع» الذي نفَذ من «ذلك الشق» إلى «هذا المسرح»؟ وما الذي يفهمه من كلمة الواقع؟
إن «ذلك الشق» هو الموت الذي جربه رلكه على أثر فراق إنسان يبدو أنه كان عزيزًا عليه قريبًا من نفسه. والواقع الذي نفذ من «ذلك» أشق هو «الماوراء» (أو ذلك العالم الآخر)، أي: ما وراء حياة يغلب عليها طابع التمثيل. ولكن ما طبيعة هذا الواقع الآخر؟
وإذن فالواقع عند رلكه ليس هو «هذا العالم» ولا «ذاك العالم»، وإنما هو «الوحدة العظيمة»، والمقصود بهذا أن «هذا العالم» لا يصبح هو هذا العالم بحق — أي: لا يصبح الأخضر أخضر في الواقع — إلا إذا جُرب من ناحية «ذلك العالم» تجربةً خالصة، أو إلا إذا «حُقق» تحقيقًا على نحو ما عبر رلكه نفسُه عن ذلك وحققه في تجربة الموت التي نجدها في القصيدة. وطبيعي أننا لا نستطيع أن نحقق هذه التجربة إلا لِلَحظاتٍ خاطفة؛ وذلك بحكم أننا كائنات محدودة بحدود هذا العالم. فإذا حدث وتمت، لم يُلغَ التضاد الحاد بين «هذا العالم» و«ذاك العالم»، بل اندمج الضدان في وحدة واحدة. وإذن فكلمة الواقع — وهي موضوعنا الأساسي الذي نريد الآن أن نعود إليه — لا يقتصر معناها عند رلكه على ما هو موضوعي أو ملموس أو يمكن الإمساك به، وإنما هو في الحقيقة اسم «ميتافيزيقي» أخير.
إن كلمة الواقع — وهذا أمر يمكننا أن نؤيده بأمثلة أخرى لا حصر لها — مفهوم أساسي، لا، بل هي المفهوم الأساسي في لغة الإنسان الحديث؛ سواء في لغته اليومية الجارية أو لغة الأدب والفلسفة والعلم بوجه عام.
إن كل إنسان منا يعرف ما تعنيه كلمة الواقع معرفةً محددة لا يداخلها غموض أو تعميم، فإذا طُلب منه أن يعبر عن هذا المعنى بالكلمات، أخذته الحيرة من كل جانب؛ إنه يحس أنه يعرفه ولكنه عاجز عن التعبير عنه. ولا يرجع هذا فحسب إلى عدم تعوده على التأمل في معرفته، بقدر ما يرجع إلى كون هذا الذي يعرفه هنا معرفةً محددة هو نفسه شيء لا يقبل التحديد؛ ومن ثم فهو يستعصي على التفكير فيه أو تعريفه أو التعبير عنه. صحيح أننا نجد تعريفات مختلفة لمصطلح الواقع في المعاجم الفلسفية المتداولة، ولكن هذه التعريفات إن دلت على شيء، فإنما تدل في معظم الأحيان على العجز والحيرة الشديدة بإزاء مثل هذه الكلمة أو هذا المفهوم الأساسي، كما أنها لا تطرح السؤال الذي ينبغي عليها أن تبدأ به عن موقف اللغة بوصفها لغة — عندما نتأمل كلمة مثل كلمة الواقع — من ذلك الذي تسعى جاهدةً إلى التعلق به أو التعبير عنه.
الحق أننا نستطيع أن نصوغ مجموعة كبيرة من العبارات والقضايا المحددة أتمَّ التحديد، عن الخصائص التي تميز الواقع، والواقع وحده، ونستطيع بهذا المعنى أن نقدم نوعًا من ظاهريات «فينومينولوجيا» الواقع. فمن خصائص الواقع مثلًا أنه لا يُردُّ، ولا يُنقض، ولا تمكن مقاومته أو استبداله بغيره. وحيثما وجدنا هذه الخصائص كلها، أمكننا بحق أن نتحدث عن الواقع وعما هو واقعي، والعكس صحيح.
بيد أننا لن ندرك الواقع نفسه بهذه الطريقة، ولن نستطيع أن ندركه؛ لأنه في جوهره يستعصي على الإدراك، وهو لا يستعصي على الإدراك بسبب عدم تحدده وبُعده الشديد، بل بالأحرى بسبب تحدده وقربه الشديدَين إلى أقصى درجة، إننا لن نستطيع أبدًا في أي وقت ولا في أي مكان أن نُفلت من هول الواقع وعظمته، بل إن أشد العدميين تطرفًا في العدمية لن يقدر على ذلك أيضًا، وكل ما نملكه هو أن نحاول بكل ما في وسعنا أن نتحمله.
ولكن مهما بلغ الواقع المادي من القوة، بحيث تكفي قطرة ماء لكي تتسبب في موتنا، فإن القلق الحقيقي من الموت لا يرجع إلى هذا الفناء المادي أو الفيزيائي؛ إذ إن الفناء المادي لا يولِّد إلا الخوف من الموت الذي تكفي الشجاعةُ وحدها (كما قال أفلاطون) للتغلب عليه. إن القلق الحقيقي من الموت يرجع إلى شيء آخر لا يمكن فهمه أو إدراكه، هذا القلق — الذي يمكن أن يفاجئنا كأقوى ما تكون المفاجأة وسط حياتنا اليومية الغافلة المطمئنة — هو الذي يعلمنا أن الواقع الحقيقي غيرُ الواقع المادي وأكبر منه بكثير.
نحن إذن لا نصطدم بالواقع إلا حيث نصطدم بما ليس من صنعنا ولا يمكن أن يكون من صنعنا؛ أي: بما ليس خاصًّا بنا، وهذا وحده هو الذي يمكننا القول بأننا نصطدم به. (ونحن نفهم الصنع هنا بأوسع معانيه؛ بحيث يشمل كلَّ أشكال الفعل الخاص وأساليبه؛ بما فيها التصور العقلي مثلًا). ولهذا كان الواقع — حتى بالمعنى الضحل الذي نفهمه من كل ما هو «واقعي» أو «فعلي» — هو ما لا يقبل أن يُتصور وما يستعصي على التفكير فيه.
ولكن «ما ليس خاصًّا بنا» هو الذي سميناه من قبلُ «الآخر» أو «الغير»، ومن ثَم يكون «الواقعي» هو «الغير» بالنسبة لنا ولكل ما يمتُّ إلينا بسبب. وبدون هذه «الغيرية» لا يوجد واقع.
وإذن فكل تجربة بالواقع تتميز بالضرورة بأمرين: لا بد أن أجرب ذلك الذي أجربه بوصفه متَّحدًا مع ذاتي ومختلفًا عنها في آن واحد. بيد أن الأمرين لا يتجاوران هنا كيفما اتفق. فأنا لا أجرب معجزة الواقع الحقة وهولَه الهائل إلا عندما يرتبط هذان الأمران ارتباطًا جدليًّا. عندئذٍ تصبح تجربة الواقع مساوية للاتحاد مع «الغير»؛ أي: مع ما ليس مني أو ليس من صنعي.
هكذا تنكشف لنا العلاقة بين الواقع والعلو. يكفي أن نصعد من التعريفات السابقة فنجعل «الخاص بنا» هو «أخص ما يخصنا»، ونرتفع ﺑ «الغير» إلى «الغير المطلق» لكي نجد أنفسنا في تجربة العلو. وبهذا نكون قد عثرنا على علامة جديدة من علامات العلو؛ وهي الواقع.
ونرجع إلى الاعتراض الذي يثيره دائمًا الفهمُ العام الكامن في أنفسنا، فنقول إن العلو فوق كل شيء على وجه الإطلاق لا يؤدي إلى الفراغ والمظهر، كما إنه ليس مشكلةً فكرية مصطنعة، بل الأَولى أن يقال إن هذا العلو وحده هو الذي يمكنه أن يوصلنا إلى الواقع الخالص.
(٤) العلو والأصالة
سنتناول الآن العلاقة المزدوجة بالعلو من خلال مفهوم الأصالة. ومن السهل علينا أن نرى أن العلاقة بالأصل تتميز هي أيضًا بجدل الغير والخصوصية. ويرجع السبب في هذا إلى أن ما يصدر عن الأصل لا بد أن يجرب الأصل بوصفه «الغير» بالنسبة إليه كما يجربه بوصفه «الخاص» الحميم إليه. بوصفه الغير بالنسبة إليه؛ لأن ما يصدر عن الأصل — إذا أريدَ له أن يكون صادرًا عن الأصل؛ أي: شيئًا جديدًا لم يكن من قبل — لا بد أن يكون شيئًا آخر غير ذلك الذي صدر عنه، وبوصفه «الخاص» الحميم إليه؛ لأن ما يصدر عن الأصل، بحكم صدوره عنه، يستمد كل ما يملكه ويكون وجوده من الأصل، ولا بد أن يستمده منه.
هنا أيضًا يصدُق ما قلناه من قبل من أننا كلما فكرنا في العلاقة بالأصل بمزيد من الدقة والحدة والعمق، ازداد هذا الجدل كذلك حدةً وعمقًا. ولكنه يبلغ أقصى درجات الحدة والعمق حين لا نكتفي بالسؤال عن الأصل في هذا الشيء أو ذاك، بل نسأل عن الأصل في كل شيء على وجه الإطلاق، وهو سؤال لا يخضع للهوى أو التعسف، وإنما يضطر التفكير بطبيعته إلى طرحه. فالتفكير دائمًا تفكير في شيء ما؛ ولكن «الما» بطبيعته متناهٍ، والتناهي معناه ألا يوجد في نفسه وبنفسه، بل في موجود آخر وعن طريق «غير» متفوق عليه. كل ما هو متناهٍ له أصل وله أساس. صحيح أننا نقول أحيانًا عن شيء ما إنه «بلا أساس» أو «بلا أصل»، ولكننا نقصد من هذا القول أننا لا نعرف أساسه وأصله، أو لا نستطيع أن نعيِّنه، ولا نقصد منه أنه غير متعلق بأي أساس، فالذي لا أساس له ولا سبب لا بد أن يكون غير متناهٍ وغير منتمٍ إلى العالم، وكل ما هو متناهٍ ومنتمٍ للعالم فهو دائمًا قائم على أساس وصادرٌ عن أصل.
ولكن الأصل في كل شيء لا يقتصر على أن يكون مختلفًا عن هذا الشيء أو ذاك، ومن هذه الناحية أو تلك — إذ إن اختلاف الأصل عما يصدر عنه، في كل علاقة بالأصل تتم داخل نطاق العالم، لا بد أن يكون اختلافًا نسبيًّا — بل يلزم أن يكون الأصل في كل شيء هو الغير المطلق المختلف عن كل شيء على الإطلاق، ولا بد أيضًا أن يكون كذلك لأنه، بوصفه أصلًا، يصب نفسه بكليتها فيما يصدر عنه، ويتَّحد بكل شيء على وجه الإطلاق.
بهذا نكون قد توصلنا إلى علامة جديدة من علامات العلو، وهي الأصالة، وهنا يتضح لنا مرة أخرى أن العلو فوق كل شيء على وجه الإطلاق لا ينتهي إلى الفراغ والعدم السيئ، بل هو بالأحرى يؤدى إلى الكثافة والخصوبة والوفرة، أين يمكن أن تتوافر الوفرة إن لم تتوافر في الأصل الذي لم يزل يحتفظ بكل شيء في وحدة شاملة بريئة من التجزؤ والتشتت؟
إن الفهم العام الذي تلاشى العلو من وجوده يرى الأشياء كلها قائمةً جرداء، فكل شيء في نهاية الأمر في نظره عدم، والأخضر لا يزال يبدو لعينَيه في لون قاتم كئيب. إن العلو وحده هو الذي يقدر على أن يُضفيَ على الأخضر اخضراره الأصيل.
(٥) العلو والحرية
إذا كنا لا نصل إلى الواقع الحقيقي والأصالة الحقة إلا عن طريق العلو، فليس في استطاعتنا أيضًا أن نصل إلى ما يسمى بالحرية إلا عن طريقه.
وإذا كانت الحرية مفهومًا متعاليًا، وكانت — على حد تعبيرنا هنا — علامةً من العلامات الدالة على العلو، فإن من الأسباب التي توضح هذا أنه لا يمكن تناولها تناولًا صحيحًا إلا عن طريق الجدل. وقد تعرَّض الكثيرون لأبرز المعضلات والمتناقضات التي يؤدي إليها مفهوم الحرية عند التفكير فيه تفكيرًا منطقيًّا دقيقًا، وكشف كانط بوجه خاص عن «نقائضه الديناميكية» في باب «الجدل الترانسندنتالي» من كتابه نقد العقل الخالص.
والحُر، بالمعنى الأصيل لهذه الكلمة، هو المستقل بنفسه، غير المرتبط بغيره، أي: الحر من …
ولكنا إذا فكرنا في الحرية من جهة العلو، فلا بد أن نسأل: حُر من أي شيء؟
إن العلو الذي نقصده علو متعلق بكل شيء على الإطلاق، وكذلك الحرية بمعناها المتعالي لا بد أن تفعل الشيء نفسه؛ أي: لا بد أن تكون حرية من كل شيء على الإطلاق. لو فهمنا الحرية بهذا المعنى لكُنا بذلك نفهمها بأشمل وأوسع معنًى يمكن تصوره؛ إذ ليس هناك حرية أعظم من التحرر من كل شيء على وجه الإطلاق.
ولكن كل شيء على الإطلاق يعني كل ما هو موجود؛ ولهذا تكون الحرية بالمعنى المتعالي هي الحرية من الموجود. ولما كان الموجود دائمًا «شيئًا ما» كانت الحرية هي الحرية من «ما». ومن ثم يمكننا الآن أن نصوغ هذه العبارة: الحرية بوصفها علامةً على العلو هي الحرية من «ما».
هذه الحرية هي أكبر وأصعب ما يمكن أن يواجهنا بوصفنا كائناتٍ متناهيةً محدودة بهذا العالم؛ ومن ثم مقيدة ﺑ «الما»؛ ولهذا فهي لا تتنسى لنا إلا في لحظات فريدة منسلخة عن تيار الزمن.
ولكن كيف يتسنى لنا التخلي عن «الما»؟ أم أننا أخطأنا في طرح السؤال على نحو ما أخطأنا من قبلُ في طرح هذا السؤال: ما هو العلو؟ ربما يكون السبب في عدم الارتياح إلى هذين السؤالين أن مثل هذا التخلي لا ينتمي إلى مجال الصنع والعمل، ولا يدخل في نطاقِ ما يُصنع أو يُعمل، مثله مثل العلو الذي لا ينتمي إلى مجال الأشياء وكل ما يتصف بالشيئية؛ لأننا لو تخلينا عن «الما» لكي نصل إلى التخلي، لبقينا مع ذلك مقيدين ﺑ «شيء ما»؛ أعني: برغبتنا في التخلي. والواقع أن هذا التخلي الذي يتكلم عنه المتصوفة لا يتم في صورة كاملة خالصة إلا إذا تخلينا كذلك عن التخلي نفسه. ولكن لا بد من ناحية أخرى من ترك الشيء، كما يقول أنجيلوس سيلزيوس في العنوان الذي وضعه للبيتين السابقين. ولا بد من أن يقوم الإنسان بنفسه بتحقيق هذا الترك أو التخلي، وأن يتحمل في سبيله كلَّ ما يستطيع تحمُّله من جهد وعرق. ولقد أكد المتصوفة دائمًا، وفي كل مكان، أن التوصل إلى هذا التخلي يحتاج إلى أن يبذل الإنسان أقصى ما يمكنه بذلُه من تعب وجهد وعناء.
إذا كانت الطريقة الوحيدة للتعبير عن العلو في علاقته بنا هي طريقة التعبير بقضايا وعبارات جدلية، فإن الأمر نفسه ينطبق على الصيغ التي ترشدنا إلى عملية العلو نفسها؛ إذ إنها لا تتم إلا من خلال عبارات متناقضة على صورة و… وكذلك و، ولا، ولا لا؛ أي: عليك أن تقوم بها كما أن عليك ألا تقوم بها، وعليك ألا تقوم بها وألا تمتنع عن القيام بها.
إن الخلاص من كل «ما» هو أصعب الأشياء وأسهلها في وقت واحد؛ ويرجع هذا إلى أنه يتطلب منا الاتجاه نحو ذلك الذي يختلف عن كل «ما» كما يعلو علينا علوًّا غير متناهٍ؛ من حيث إننا كائنات متناهية.
هكذا يكون البحث في مفهوم الحرية قد انتهى بنا إلى التصوف. وليس هذا من قبيل الصدفة؛ لأن التفكير في مفهوم الحرية بمعناها الخالص الحاسم لا بد أن يؤدي بنا إلى التصوف.
أشرنا من قبلُ إلى أن كل علو يظل متعلقًا بما يعلو عليه، ومهما كان من تفوق العالي وسموِّه على ما يعلو عليه، فإنه يظل دائمًا متعلقًا به. هنا نجد الحد الفاصل بين التصوف والميتافيزيقا؛ إن المتصوف لا يكتفي بالعلو فوق نفسه وفوق العالم، وإنما يقوم بما هو أجلُّ من هذا وأقل منه في وقت واحد، إنه يتخلى عن نفسه وعن العالم، بل إنه في الحقيقة لا يتخلى عن العالم بقدر ما يخرج منه.
قلنا منذ قليل إن التخلي عن «الما» يتطلب الاتجاه نحو ذلك «الغير» الذي يختلف عن كل ما هو «شيء». والحق أن عدم الارتباط بشيء لا يعني على الإطلاق عدم الارتباط، أو، إن شئنا، عدم الالتزام المطلق. فهذه الفكرة لا تقل في سخفها وبطلانها عن فكرة «العدم المطلق»؛ وإنما هو الوجه الآخر لالتزام أو ارتباط أقوى وأمتن من أي التزام أو ارتباط؛ لأنه يربط بغير رباط ولا حبال.
إن الحرية بمعناها الدقيق هي التحرر من اﻟ «ما»، وهذا التحرر لا يتحقق إلا على أساس الارتباط أو الالتزام بالعلو؛ لأن العلو وحده هو الذي يلزمنا إلزامًا مطلقًا.
بيد أن مفهوم الحرية — بوصفه مفهومًا داخلًا في نطاق العالم — له أيضًا جانب إيجابي، فليست الحرية فقط حرية «من كذا»، ولكنها كذلك حرية «لأجل كذا»، وبهذا وحده يمكننا أن نصل إلى المفهوم الكامل للحرية في نطاق هذا العالم.
وإذا نظرنا هذه النظرةَ إلى العلو فوق «كل ما هو من العالم»، تبين لنا أنه لا يؤدي بنا إلى الابتعاد عنه، وإنما يجعلنا نصل إليه بحق؛ لأن ذلك الذي تحررت «منه»، هو وحده الذي تحررت «لأجله»، والإنسان الذي تحرر من العالم هو وحده الذي تحرر له، ولن يكون حرًّا للعالم حريةً كاملة إلا مَن تحرر منه حريةً كاملة.
من هنا يتضح لنا سخف بعض الشعارات الرائجة التي يتسرع أصحابها بإدانة الفكر المتجه نحو العلو والحكم عليه بالبطلان، مثل شعار الهروب من العالم أو الاغتراب عن العالم. صحيح أن الإنسان الذي يقوم بعملية العلو إنسان غريب عن العالم، بالمعنى الأصيل لكلمة الغربة؛ وهو البعد عن العالم، ولكن بُعده عن العالم هو الذي يجعله قريبًا منه، بل هو وحده الذي يمكِّنه من هذا القرب الحقيقي منه.
(٦) العلو والمعنى
وأخيرًا نتناول السؤال عن المعنى الذي يرتبط أوثقَ ارتباط بالسؤال عن الواقع والأصالة والحرية.
ولكن لماذا يكون هذا هو خطر الأخطار جميعًا؟
والحق أنه من الواضح أن معنى العالم لا يمكن أبدًا أن يكون داخله، كما أن كلمة «العالم» لا يمكن أن تكون هي الكلمة الأخيرة للفكر؛ لأنه لو كان معنى العالم في داخله، لكان هذا المعنى نفسه شيئًا من العالم أو عالميًّا، ولتحتم عليَّ أن أسأل مرةً أخرى عن معناه ثم أسأل بعد ذلك عن معنى المعنى … وهكذا إلى ما لا نهاية. ولكن اللانهائي — ولا بد من التفرقة بينه وبين غير المتناهي — هو الذي لا معنى له، وهكذا نقع في نوع من «التراجع العقيم إلى ما لا نهاية.»
خارج العالم. وهذا يعني: خارج كل شيء على وجه الإطلاق، وهذا يعني أيضًا أن معنى المعنى لا بد أن يكون متعاليًا، وفي عالم تلاشي منه العلو، لن يكون ثمة معنًى للمعنى، ولن يكون فيه اخضرار في الأخضر ولا كلمة في الكلمة.
إن معنى كل شيء على الإطلاق لا بد أن يكون معنًى متعاليًا، وحين يعجِز الإنسان عن تجاوز كل شيء والعلو فوق كل شيء، فلن يبقى هناك معنًى لأي شيء.
إن معنى العالم الذي يوجد خارج العالم، أي: معنى المعنى، لا يمكن التعبير عنه أو وضعه في صيغة لغوية؛ فلا توجد كلمة تعبر عنه، كما لا توجد كلمة تعبر عن السر الحقيقي؛ ولهذا فإن هذا السؤال: ما هو معنى العالم؟ يصبح أيضًا بلا معنًى. إن معنى العالم لا يمكن أن يكون «شيئًا ما».
ولكن إذا كان مثل هذا السؤال خاليًا من المعنى، فإنه لا يمثِّل بحال من الأحوال كلَّ شيء في هذا العالم، فحيثما عشنا وفكرنا من خلال العلو، تكوَّن المعنى بلا لغة ولا كلام، وهو لا ينفك يتكون بقدرِ ما نعيش العلوَّ ونفكر فيه.
“Quid est illud, quod interincet mihi et percutit cor meum sine laesione: Et inhorresco et inardesco: inhoresco in quantum dissimilis ei sum, inardesco, in quantum similis ei sum.”
“Min liplicher Vater ist niht eigentiche min Vater.”
راجع الأعمال الألمانية للميستر إكهارت، ١ و١١٠ …