خاتمة
- (١)
السؤال عن الأشياء: وهذا هو مستوى التفكير والوجود الطبيعي الساذج.
- (٢)
السؤال عن «في أين» التي توجد فيها الأشياء: وهذا هو مستوى التفكير والسؤال الفلسفي الذي لا بد له، بحكم طبيعته الفلسفية، أن يبقى دائمًا فيه. والتفكير الغربي الكلاسيكي بأكمله لم يخرج عن هذا المستوى؛ فضلًا عن أنه يمثل الحد الذي وقف عنده الفكر الفلسفي والقمة العظيمة التي ارتفع إليها، كما أن الثبات عند المستوى الأول يمثل الحد الذي وقف عنده التفكير الطبيعي والعلمي والقمة التي وصلا إليها. وتفقد الفلسفة تلك العظمة المميزة لها إذا تصورت أن هذا هو آخر مستوًى يمكن أن تصل إليه، كما أن المسلك الطبيعي تجاه الأشياء يُفقد العظمة التي تميزه إذا تصور أنه هو أعلى مستوًى يمكن بلوغه.
- (٣)
العلو فوق «في أين»: وهذا هو المستوى الأخير، مستوى الفكر الذي يقوم بالعلو الحقيقي … وهو المستوى الأخير؛ لأنه يؤدي إلى ذلك الذي لا يقبل العلو فوقه؛ ولهذا كان من المستحيل التعبير عنه أو التفكير فيه، وإن كان قبل أن يُعرف بالمعنى الأصيل المباشر إلى أقصى حد تسمح به المعرفة.
والمستويات الثلاثة يفترض بعضها بعضًا، فنحن، بوصفنا بشرًا، لا نبلغ المستوى الثاني إلا إذا بدأنا بالأول. وكلما طال بقاؤنا مع الأشياء وازداد قربنا منها، زادت قدرتنا على بلوغ المستوى الثاني، وهو مستوى السؤال عن «في أين» الأشياء. كما أننا من ناحية أخرى لا نستطيع أن نبلغ المستوى الثالث إلا إذا بدأنا من المستوى الثاني. وكلما أمعنا في السؤال عن «في أين» الأشياء، قويت فرصة تحقق العلو — في لحظات معينة — فوق كل شيء على وجه الإطلاق.
وعلى الرغم من هذا كله فإن الناحية الموضوعية تقتضي عكس الترتيب الذي ذكرناه؛ إذ يفترض المستوى الثاني المستوى الثالث، كما يفترض الأول الثاني. ويمكننا من الناحية الموضوعية أيضًا أن نقول إن المستوى الأول يفترض الثالث، كما أن المستوى الثاني لا يكفي وحده لكي نتزود منه بالأصالة الحقة؛ فنحن مثلًا لا نفكر في الأشياء تفكيرًا أصيلًا عندما نكتفي بالسؤال عن شيئيتها، بل نصل إلى هذه الأصالة عندما يتخطى سؤالنا حدود شيئيتها، ولن نبلغ الواقع الحق والأصالة والحرية ومعنى وجود العالم حتى ينبثق وجودنا وفكرنا من «في» بلا أين.
•••
قلنا في البداية إن الغرض الحقيقي من هذا الكتاب والواجب الملقى على عاتقه؛ هو تحويل الأشياء وإعادتها إلى الواقع عن طريق العلو؛ بحيث يصبح الأخضر أخضر بحق.
«الاندفاع العاصف نحو الحد الأخير»: لعل هذه الكلمات — على الرغم من كل تعلق بشري رخيص بالنزعة الدنيوية — أن تكون تعبيرًا عن ماهية الإنسان الحقة، كما كان علو الإنسان علوًّا غير متناهٍ فوق ذاته منذ أقدم الأزمنة؛ تعبيرًا عن ماهيته الحقيقية. ومع هذا فإن كافكا يقول صراحة: إن هذه مجرد صورة. وليس «العلو فوق الذات علوًّا غير متناهٍ» سوى مجرد صورة.