يتناول هذا الفصل بعض المجادَلات الأساسية المحيطة
بتاريخ العولمة الثقافية، ويبدأ بتفصيل عدد من المراحل
التاريخية التي مَرَّت بها، قبل أن يعرض لمشكلة بدايتها
وملاءمة النظر إليها باعتبارها عملية تاريخية طويلة
المدى. في المقدمة أكَّدْنا أن البعد الثقافي للعولمة
متداخِل مع الأبعاد السياسية والاقتصادية والعسكرية
وغيرها، وبالمثل لكي نفهم تاريخ العولمة الثقافية فلا
بد من تَقصٍّ أوسع لهذا التاريخ؛ وكما سَيتَّضح لنا من
خلال هذا النقاش فإنَّ تحديدنا لمسار العولمة سوف يعتمد
إلى حدٍّ كبير على مفهومنا عنها وما تتضمنه. إن المعيار
الذي نستخدمه جزءًا من تعريفنا للعولمة يمضي بعيدًا في
طرح أسئلة عن أصولها والشكل الذي اتخذته وطريقة
انتشارها. كذلك سنُجادل بأن إدراكنا تاريخ العولمة
الثقافية يكشف لنا أن الوضع المعاصر، رغم أنه يمثل
مرحلة محددة، مَبنيٌّ في الوقت نفسه على عدد من
التطورات والعمليات السابقة. علاوة على ذلك، فإننا لكي
نكون قادرين على فهم الأشكال التاريخية للعولمة
الثقافية لا بد لنا من فحص الْتِقَاء تاريخ التدفقات
الثقافية المُعَولَمة بتاريخ مواقع وأُطر
بعينها.
(٢) العولمة ما قبل الحديثة (من الحضارات الباكرة
إلى ١٥٠٠م)٢
إذا فكَّرْنا بالثقافة، بشكل أساسي، باعتبارها
تتضمن الناس والأفكار والسلع والمنتجات الفنية،
فيمكن أن يقال إن العولمة الثقافية لها تاريخ طويل؛
لأن مثل هذه المجالات كانت موجودة ومنتشرة على
الكرة الأرضية منذ آلاف السنين، كما أن هناك
أعمالًا كثيرة وآراء لدى مُؤرِّخِين عالميين،
ومُنظِّري التهجين، والنُّظم العالمية والحضارات،
كلها تَرصد أشكال العولمة الثقافية في العصر الحديث
(e.g., Frank and Gills, 1996;
Nederveen Pieterse, 2004; Sanderson,
1995).
وسوف نحدد الآن جزءًا من هذا البحث في إطار فحص
العمليات الأولية أو التحولات التي ينظر إليها،
غالبًا، باعتبارها تَجلِّيات للعولمة أو إسهامات
فيها في المرحلة ما قبل الحديثة، وهي تتضمن:
-
الهجرات الإنسانية الباكرة.
-
ظهور الأديان العالمية.
-
الأنظمة الإمبريالية الأولى.
-
تطور شبكات التجارة بين المناطق
المختلفة.
المَلمح العام لهذه الأنشطة الإنسانية هو أنها
أَمَّنَت المواجهات الثقافية، لكى يتم تبادُل
واستيعاب الأفكار والمعتقدات والتطورات
التكنولوجية، وبالتالي لا بد من اعتبارها جزءًا من
تقصينا تاريخ العولمة الثقافية.
٣
(٢-١) الهجرات الإنسانية الباكرة
يَعتَبر بعض الكُتَّاب الأشكال الباكرة من
الهجرات الإنسانية دليلًا على العولمة في
المرحلة ما قبل الحديثة. على سبيل المثال، يكشف
«روبرت كلارك Robert Clark» (١٩٩٧م) عن «ضرورة كونية»:
الحاجة الإنسانية الفطرية للانتشار في العالم؛
تعود إلى إنسان ما قبل الزراعة، معتدل القامة؛
هكذا كانت الجماعات الإنسانية تنتقل عَبْر كوكب
الأرض لكي تُؤمِّن بقاءها وتُوفِّر الطاقة
والاحتياجات حيث كانت المجتمعات تزداد حجمًا
وتعقيدًا، والبقاء على قيد الحياة يصبح أكثر
صعوبة. ولكي يصور «كلارك» هذا التوجه نحو
العولمة، يُحدِّد سبع مراحل للعولمة شَكَّلت
تاريخنا، من الهجرات الأصلية للإنسان المعتدل
القامة والإنسان العاقل من شرق أفريقيا وصولًا
إلى رقمنة المعلومات في عصر الكمبيوتر الحالي.
بالنسبة ﻟ «كلارك»، وبصرف النظر عن كونها ظاهرة
حديثة، فإن العولمة ذات جذور في الحياة
الإنسانية: نحن جنس بشري كوني؛ ويُعبِّر عن ذلك
بقوله: «إن جوهر الحالة الإنسانية هو الارتباط
الأساسي بأجزاء الكون عبر الزمان والمكان»
(ibid.,
2).
وسواء كان ذلك بسبب الدوافع التي يوردها
«كلارك» أو لا، فمن الممكن بالتأكيد رصد أمثلة
على الانتشار الإنساني وحركة البشر خلال
المرحلة ما قبل الحديثة، سوف نورد ثلاثة منها
هنا. الأول: انتشار المرض الذي كان يأخذ شكل
الوباء أو الجائحة، وبينما كان حدوث أمراض
مُعْدية في مجتمعات وبلاد معينة نتيجة مُؤكَّدة
لعدة عوامل مجتمعية، كان انتشارها عَبْر مناطق
أخرى يحمل بعض الدلائل على مدى اتساع حركة
السكان قبل سنة ١٥٠٠م، وهذا «وليم إتش ماكنيل
William H.
McNeill» مثلًا، يشير إلى أن
عددًا كبيرًا من الناس كانوا يتنقلون داخل
إمبراطورية المغول الشاسعة «لمسافات طويلة
جدًّا وعبر حدود ثقافية موبوءة»، ويعتقد أن ذلك
كان له دخل كبير في ظهور وانتشار الطاعون
الدبلي (١٩٧٩م، ٣-١٤٢).
المثال الثاني على انتقال وحركة البشر أثناء
المرحلة ما قبل الحديثة يتعلق بانتشار حياة
التَّرحُّل أو البداوة. أثناء هذه الفترة كان
عدم وجود حدود للمناطق يُسهِّل كثيرًا من حركة
الناس كما حدث مع الشعوب الجرمانية، ثم المغول
فيما بعد، بالإضافة إلى أن الرُّحَّل كانوا
يستطيعون أن يُؤثِّروا في المجتمعات المستقرة
ويُسْهِموا في تشكيلها ثقافيًّا وسياسيًّا
واقتصاديًّا؛ وفي هذا السياق يرصد «أناتولي
خازانوف Anatoly
Khazanov» (١٩٨٤م) الأساليب
التي كان يُؤثِّر بها الرُّحَّل في مثل هذه
المجتمعات في المنطقة الأفرو-أوراسية، كما
يُحدِّد أساليب التَّأقْلُم المختلفة
للمُتَرَحِّلين مع المناطق والأماكن الجديدة
بما في ذلك إقامة دول وإن كانت قصيرة العمر.
على الرغم من ذلك، لا بد من أن نضع في اعتبارنا
أن الإمبراطوريات المُترَحِّلة وموجات الهجرة
كانت تُمثِّل في الغالب فترات فوضى وتَمزُّق
وصراعات تَعوق التواصل وتَدفُّق التجارة
لمسافات بعيدة (Cowen,
2001).
في المثال الثالث نجد أن عددًا من مجتمعات
الشَّتَات كان موجودًا في أجزاء مختلفة من
العالَم في الفترة ما قبل الحديثة. الشتات
اليهودي على سبيل المثال ظهر — إلى حد كبير —
نتيجة لأعمال قُوى عسكرية إقليمية وبخاصة
الإمبراطوريات الأشورية والبابلية والرومانية
التي أجبرت كثيرًا من اليهود على الفرار من
وطنهم بدءًا من القرن الثامن ق.م. وبعده.
بالإضافة إلى ذلك فإن مجتمعات الشَّتَات ظَهرتْ
أيضًا لأسباب غير تلك الخاصة بالسياسات
الإقليمية أو الاضطهاد الديني، فمجتمعات
الشَّتَات الصينية التجارية كانت موجودة بكثرة
في أجزاء من جنوب شرق آسيا في القرن الخامس
عشر، وكانت تعمل على تسهيل التجارة وخَلْق
شبكات اجتماعية (Van de
Ven, 2022).
غير أن معادلة الهجرات الإنسانية الأولى
بالعولمة تظل عملية إشكالية؛ إذ إننا لعقد هذه
الصلة لا بد من أن نعرف المزيد عن طبيعة
التكامل الإنساني الذي كانت تولده تلك الهجرات،
مثل مدى وقوة علاقات التواصل والترابط؛ ويقدر،
في هذا السياق، أن الأمر تَطلَّب ١٥٠٠٠٠ سنة
لكي ينتشر الإنسان العاقل (الذي ظهر أولًا كما
يُعْتَقَد في أفريقيا) في بقية كوكب الأرض
باستثناء أنتراكتكا (Fagan,
1990).
كانت
تلك عملية حدثت على نحو متقطع ودون انتظام،
وعلى فترة زمنية طويلة لدرجة يُسْتَبعد معها أي
فكرة عن تواصل كوني. يضاف إلى ذلك أنه حتى
التحركات السكانية التالية في أفريقيا لا يمكن
رؤيتها بالطريقة نفسها. هجرة الشعوب الناطقة
«بالبانتو
Banto» مثلًا
من وسط أفريقيا حول بحيرة تشاد بين ٥٠٠ق.م.
و١٠٠٠م إلى معظم بقية القارة، كانت عملية
تدريجية وتَضمَّنَت جماعات قليلة نسبيًّا لم
تَعُد إلى موطنها الأصلي وأبقت على اتصال قليل
به (Maylan,
1986). على نحو مماثل، هل يمكن
أن نعتبر التَّرحُّل عولمة أو على الأقل دليلًا
عليها، بِمعنًى آخر، هل انتشار البشر في مناطق
جغرافية جديدة دليل على التواصلية الكونية
والاعتماد المتبادَل؟ لا شك أن التَّصوُّر الذي
نطرحه للعولمة هنا سيكون له مُعارضوه، وهذا
موضوع سوف نعود إليه في القسم التالي من هذا
الفصل.
(٢-٢) ظهور الأديان العالمية
يُعتَبر انتشار الأديان العالمية عادة دلالة
أخرى على العولمة في المرحلة ما قبل الحديثة،
حيث ساعد في خلق ولاءات عابرة للمناطق
والهُوِيَّات. في تلك المرحلة ظهرت عقائد؛ مثل:
المسيحية، والإسلام، والبوذية، واليهودية،
والزرادشتية، والهندوسية، وفي بعض الحالات كان
لها أتباع في مناطق بعيدة عن مواطنها الأصلية،
وحمَلها أحيانًا التُّجار والرَّحَّالة إلى
مناطق أخرى. ساعد على انتشارها أيضًا تَطوُّر
الكتابة وهو ما حمل النصوص الرئيسية، وبالتالي
المبادئ الأساسية لهذه العقائد إلى أصقاع بعيدة
(Held et al., 1999:
333).
زادت التوجهات العولمية للمسيحية والإسلام
قوة، والحقيقة أنها مؤسَّسة على المزاعم العامة
الموجودة في القلب منها. يضاف إلى ذلك أنه في
حالة الإسلام، على الرغم من الخلافات الطائفية
(السنة والشيعة)، والتقسيمات السلالية
(أُمَوِيُّون وعباسيون)، وعلى الرغم من تأسيس
خِلافات متنافسة في قُرْطُبة والقاهرة في القرن
العاشر أضعفَت الوحدة الإسلامية السياسية، على
الرغم من ذلك كله فإن مفهوم الأمة، والمجتمع
الإسلامي العالمي، واللغة العربية كانت كلها
عوامل ساعدت في اجتياز الحدود الإقليمية وضمان
درجة عالية من الوحدة الثقافية. إلا أن من
المختلف عليه، ما إذا كان يمكن اعتبار أي من
هذه العقائد دينًا عالميًّا وبالتالي مُعبِّرًا
عن العولمة؛ وذلك لأن معظمها، باستثناء الإسلام
والمسيحية كانت مُتمركِزة في مناطق بعينها في
المرحلة ما قبل الحديثة. حتى الإسلام الذي
انتشر من جنوب آسيا إلى شمال أفريقيا لم يكن
موجودًا في كل الأقطار؛ أما بالنسبة للمسيحية،
فبحلول القرن الخامس عشر كانت قوة ضعيفة في
آسيا ولم تُصبِح ظاهرة عالمية إلا في المرحلة
الحديثة، وهو ما تحقق، إلى حد ما، بربط نفسها
بالموجات المختلفة للتَّوسُّع الاستعماري
الأوروبي؛ وبالنسبة للبوذية والكونفوشيوسية
والهندوسية فقد بَقِيَت عقائد آسيوية إلى
اليوم، وبينما يُوجَد لها أتباع في العالم يظل
مركزها الروحي في آسيا (ibid.,
332). وأخيرًا لا بد من ملاحظة
أن انتشار هذه العقائد تَطلَّب عدة قرون لكي
يتحقق، ومرة أخرى نجد الإسلام استثناء هنا، حيث
ساعدت الفتوحات العربية في نشر العقيدة من
إسبانيا إلى الهند خلال قرن من وفاة النبي محمد
في ٦٣٢م. ولكن، بينما أسهمت هذه العقائد بشكل
عام في التواصل الكوني، كان ذلك يتم ببطء شديد.
كانت هناك، على أية حال، وسائل إضافية انتشرت
من خلالها المعتقَدات في مناطق أخرى من العالم
أثناء المرحلة ما قبل الحديثة، وكان ذلك
لارتباطها بالإمبراطوريات كما سنرى.
(٢-٣) الأنظمة الإمبريالية الأولى
كانت النخبة الإمبريالية الحاكمة ترى في بعض
الأديان وسيلة لتدعيم أوضاعها، فقد تم تَبنِّي
الكونفوشيوسية والزرادشتية في فارس والمسيحية
في الإمبراطورية الرومانية بشكل رسمي كمبادئ
لهذه الإمبراطوريات (Cowen,
2001). ومع توسُّع
الإمبراطوريات اتَّسَع انتشار الأديان،
والحقيقة أن الأنظمة الإمبريالية الأولى مثل
الإمبراطوريات السومرية القديمة (وادي
الرافدين)، والمصرية، والإغريقية، والرومانية،
وصولًا إلى الإمبراطورية الصينية، والإسلامية،
كان يُنْظَر إليها باعتبارها قُوًى عولمية؛ هذه
الإمبراطوريات كانت في الأصل نتاج توليفة من
الفتوحات العسكرية والسلطة السياسية القوية
والشبكات التجارية، والمشترك بينها هو أنها
كانت تحتوى جماعات ثقافية مختلفة داخل منطقة أو
وحدة جغرافية واحدة. كان ذلك يعني أيضًا أن
شعوب تلك الإمبراطوريات لم تكن في الغالب الأعم
مُقيَّدة بحدود داخلية، وبالتالي كانت هناك
حرية في التَّنقُّل في أرجائها، وكانت هذه
الظروف تُسهِّل عمليات التجارة والتفاعل
الثقافي إلى حد بعيد. هذه الإمبراطوريات ذات
الثقافات المُتعدِّدة كانت تُوفِّر السلطة
المهيمنة بما يمكن الانتشار الثقافي ونشر
الأفكار، كما كانت في الوقت نفسه تَحدِّيًا
للهويات المحلية.
ولكن بشكل عام فإن إمبراطوريات المرحلة
الحديثة كانت صغيرة الحجم نسبيًّا، على الأقل
مُقارَنة بالإمبراطورية البريطانية التي
تَمدَّدتْ عالميًّا في القرن التاسع عشر، وهكذا
كانت على الأكثر تَجلِّيات محدودة للعولمة؛ إلا
أن بعض الأنظمة الإمبريالية مثل الإمبراطورية
الرومانية وإمبراطورية هان الصينية أصبحت فيما
بعد قُوًى إقليمية حقيقية (Held
et al., 1999: 334). والواقع
أنه في حالة الإمبراطورية الرومانية تُمكِّنُنا
طبيعة سلطتها واقتصادها واتساعها الإقليمي من
أن نكتشف وجود ثقافة عابرة للحدود الإقليمية
تَكوَّنت نتيجة لتَوجُّهات ضَمِّ واستيعاب
النُّخَب المحلية المهزومة في النظام
الإمبريالي (Millar et al.,
1967). إلا أن هذه الثقافة
كانت مقصورة إلى حد كبير على أولئك في النخبة
الإمبريالية أو الطبقة الحاكمة، الذين كانوا
مرتبطين معًا بمشروعهم الجمعي، وبالعادات
الثقافية المشتركة، وبالوضع الاقتصادي
الاجتماعي، إلى جانب المُعدَّلات العالية من
مَعرفة القراءة والكتابة الموجودة بينهم؛ وقد
أسهم ذلك كله في «تكاملهم الأيديولوجي المتزايد» (Mann, 1986:
268). بالإضافة إلى ذلك يكتشف
كل من «رولاند روبرتسون Ronald
Robertson»، و«ديفيد إنجلس
David Inglis»
(٢٠٠٦) وعيًا كونِيًّا بين النُّخب الاجتماعية،
ليس فقط بداخل الإمبراطورية الرومانية ولكن في
العصر اليوناني الروماني، يعود إلى أيام
الإسكندر الأكبر في أواخر القرن الرابع ق.م.،
وهو ما ينعكس في اهتمام الدارسين الإغريق
القُدامى بالكوزموبوليتانية ومحاولاتهم كتابة
تاريخ العالم. بالمثل، فإن كثيرًا من المواطنين
الرومان كانوا يَعتَبِرون مدينتهم عاصمة
العالم، ويعتقدون أن ما يُعبِّر عن ذلك حقيقة
أنك يَمكِن أن تجد في روما بَشرًا وأطعمة
وسِلعًا … حتى وسائل التسلية (من المصارعين إلى
الحيوانات الغريبة) قادمة من كل أنحاء العالم
(ibid). بينما
كانت الأسر الإمبريالية في إمبراطورية هان
الصينية تُشْرِف على الانتشار الواسع للنصوص
والأدب الصيني داخل منطقتهم الواسعة.
بيد أن
الإمبراطوريات الأخرى لم تكن تُجارِي مثل هذه
الأشكال من الانتشار الثقافي في الفترة ما قبل
الحديثة بشكل عام كما يشير Held
et al (1999)، فإلى جانب أن
معظم تلك الإمبراطوريات كانت كيانات عسكرية
تُحافِظ عليها بِنًى سُلْطَوية، فقد كانت تحظر
الانتشار الثقافي وكانت النتيجة أن بعضها لم
يُعْرَف عنه أي إنجازات ثقافية؛ فبعض
الإمبراطوريات الرعوية المقاتلة في سهول
أوراسيا، على سبيل المثال، لم تخلف إرثًا
ثقافيًّا وإنما آثار تخريب ودمار في الغالب
(Osterhammel and Petersson,
2005). وفي حالة المغول
(١٢٠٦–١٤٠٥م) نجد أنهم بينما عَملوا على توليد
مواجَهات ثقافية عن طريق تسهيل عمليات التنقل
في أرجاء الإمبراطورية كما ذكرنا سابقًا، أدَّى
ذلك أيضًا إلى انتشار وباء الطاعون الدبلي عبر
أوراسيا (Ibid.,
37-8). والنتيجة أن الانتقال
والتجارة والمواجهات الثقافية كلها قَلَّت
كثيرًا في أواخر القرن الرابع عشر
(Bentley,
1993). ولكن هذا لا يعني
بالطبع أن الإمبراطوريات الأخرى لم يكن لها أي
أثر ثقافي في المرحلة ما قبل الحديثة.
الآشوريون مثلًا اشتهروا بفنونهم وعمارتهم
المتقدِّمة، كما كان تقليد إبعاد المواطنين
المشاكسين مُشجِّعًا على الاندماج الثقافي
والتَّمازُج العِرْقي داخل الإمبراطورية، ولكن
تأثيرهم كان مقصورًا على الشرق الأدنى، ثم
قَلَّ مع اضمحلال القوة الآشورية في القرن
السابع ق.م.
بشكل عام من الصعب تحديد المدى الذي وصلت
إليه الأنظمة الاستعمارية في الفترة ما قبل
الحديثة بالنسبة لإسهامها في العولمة الثقافية،
وذلك لأن الإمبراطوريات كانت مختلفة في الحجم
والقوة العسكرية والبنية السياسية وسنوات
عمرها، ويؤكد ذلك كله أن مراكز القوة
الإمبريالية كانت مختلفة في قدرتها على التواصل
مع المناطق التابعة لها وتشكيلها، إلى جانب ذلك
فإن الإمبراطوريات عندما كانت تَتشظَّى، كان
ذلك يُخرِّب طرق التجارة وأشكال الهجرة إلى حد
بعيد وبالتالي يحد من التفاعل الثقافي. بدَا
ذلك واضحًا في انهيار الإمبراطوريتين الصينية
والرومانية، الأمر الذي خرب هذه التَّدفُّقات
والصِّلات المتبادَلة سواء داخل هذه
الإمبراطوريات أو فيما بينها.
(٢-٤) تَطوُّر شبكات التجارة بين المناطق
المختلفة
كانت طرق التجارة الطويلة وشَبكاتها إحدى
الطُّرق الأخرى المهمة في العولمة في المرحلة
ما قبل الحديثة، وكان مُعظمُها يتركز على مدن
ضخمة مثل تلك التي في الصين والهند. شَبكات
التجارة مثل طريق الحرير، ينظر إليها على نحو
خاص باعتبارها دليلًا على أشكال باكرة للعولمة؛
أما طريق الحرير هذا فكان مُصطلحًا يصف شبكة
واسعة من الطرق البرية والبحرية تصل بين
الإمبراطورية الرومانية وإمبراطورية هان
الصينية بين سنة ٢٠٠ق.م، و٤٠٠م، وكان من بين
نتائجها انتشار سَكِّ العُملة الرومانية في
الجزيرة العربية والهند والصين
(Dalby, 2000).
ولكن حتى قبل ذلك الوقت، بإمكاننا رصد وجود
تجارة عالمية بين القارات قديمة قِدَم الحضارات
الأولى، وذلك في الفترة التي شهدت كذلك نشاطًا
بحريًّا كبيرًا (انظر: Sabloff
and Lamberg-Karlovsky, 1975).
كانت الإمبراطوريات الباكرة في وادي الرافدين
على سبيل المثال (C. 3500 to
1600 BCE) تعتمد على التجارة
واستيراد المواد الخام لمساعَدة مجتمعاتها
والوفاء باحتياجات النمو السكاني، وتشجيع
«التخصيب الثقافي» بين السومريين
والإندوأوروبيين (الحيثيين)، والساميين
(Barraclough, 1984:
54). وقد قام «فيليب كيرتن
Philip Curtin»
(١٩٨٤) بتحليل التاريخ الطويل لتجارة الشَّتات
(التي كانت شبكات مُكوَّنة من مجتمعات تجارية)
باحثًا تأثيرها وإرثها الثقافي؛ وفي هذا السياق
يبين لنا كيف يمكن تَتبُّع بدايات الاستقرار
الصيني وتأثيره في جنوب شرق آسيا، وإرجاعه إلى
شتات التجارة الصينية الذي بدأ عمله في المنطقة
منذ القرون الأولى.
ربما يُجادِل كل من «أندريه جندر فرانك
Andre Gunder
Frank»، و«باري ك. جيلز
Barry K.
Gills» (١٩٩٦) بأن أنماط تجارة
المسافات الطويلة والمبادَلات السوقية ومُراكمة
رأس المال قد تَدلُّ على أن النظام الرأسمالي
المعاصر عمره خمسة آلاف سنة على الأقل
٤ مُنَحِّين جانبًا قضية العلاقة بين
النظام العالمي والعولمة، فإن دلالة طرحهم لهذا
الرأي توحي بأن الصلات الاقتصادية الدولية تعود
إلى أبعد من المرحلة الحديثة الباكرة وهي
الفترة التي يعتبر أن الرأسمالية قد ظهرت فيها.
هذه الفكرة عن شكل من أشكال التدويل الاقتصادي
قبل ١٥٠٠ سنة، يمكن كذلك أن نجدها في عمل
«جانيت أبو لغد
Janet
Abu-Lughod» (١٩٨٩) التي ترصد
ظهور نظام عالمي في القرن الثالث عشر مُكوَّنًا
من ثماني دوائر تجارية متداخلة تضم الصين،
والهند، والشرق الأوسط، وأجزاء من أوروبا،
وأفريقيا. نظام التبادُل المُعقَّد هذا، الذي
كان ينطوي على ترتيبات لتكوين رأس المال وتقنين
النقد، كان سابقًا على صعود الغرب بعدة قرون؛
أضف إلى ذلك أن معظم أوروبا كان على هامش هذا
النظام في منتصف القرن الثالث عشر بينما كانت
الصين — مثلًا — منشغلة بعلاقات تجارية واسعة
وبعيدة مثل مناطق في شرق أفريقيا، وكذلك
تُسلِّط «أبو لغد» الضوء على حجم الصِّلات بين
أفريقيا وآسيا أثناء تلك الفترة، ونفهم من ذلك
كله أن النظام العالمي في القرن الثالث عشر كان
مُتعدِّد المراكز.
فيما يتعلق بالتجارة، يبدو إذن أن آسيا
والشرق الأوسط وأجزاء من أفريقيا، كانت مثل
أوروبا، مُسهمة في المرحلة ما قبل الحديثة
للعولمة؛ أما إذا كان هذا النشاط يعتبر بداية
لعولمة التجارة أو حتى دليلًا على اقتصاد عالمي
بأي صورة، فتلك مسألة غير محسومة. وبحسب «أبو
لغد» نفسها، فإن شبكات التجارة التي رصدتها لم
تكن في الحقيقة عالمية من حيث مداها، كما أن
النظام في جملته كان «غير منتظم إلى حد بعيد».
الاتصال بين الصين وأوروبا في تلك المرحلة، على
سبيل المثال، كان ما زال محدودًا نسبيًّا، كما
أن جوانب كثيرة في نظام القرن الثالث عشر
العالمي كانت تتراجع، وظلت كذلك حتى منتصف
القرن الرابع عشر؛ وفي هذا السياق تورد «أبو
لغد» الأثر الكارثي للطاعون الأسود
Black Death
الذي أباد معظم السكان والمدن في ذلك الوقت،
وقلب شروط التبادل ودَمَّر طرق التجارة
(
ibid., 19).
٥ يضاف إلى ذلك أنه عند النظر إلى
المرحلة ما قبل الحديثة بِرُمَّتها، لا بد من
أن نعترف بوجود أشكال مختلفة من المبادلات، ومن
أن نفكر كيف أثَّرَت اللقاءات والمواجهات
الثقافية بين البشر. في بعض المناطق على سبيل
المثال كانت التجارة تأخذ أحيانًا شكل الجزية
أكثر منها مبادَلة أسواق. كانت تلك هي الحال في
الصين نحو سنة ٦٠ق.م.، عندما فرضت أسرة هان هذا
النظام على برابرة الجنوب الغربي
(
Curtin,
1984). ولكن إلى أي مدى
كَبَحَت تجارةُ الجزية العلاقاتِ والشبكاتِ
التجارية ومِن ثَمَّ أعاقت انتشار التجارة؟ أم
تُراها كانت قادرة على تنظيم وتعميق العلاقات
التجارية؟
بصرف النظر عن هذا الجدال، فإن ما يمكن أن
نقوله عن المرحلة ما قبل الحديثة، هو أنَّنا
إذا كنا نستطيع أن نرصد الكثير من جذور
العولمة، إلا أن معظم التَّدفُّقات والصلات
الثقافية فيها كانت عبر أوراسيا فقط
(Held et al., 1999:
433). فضلًا عن أن التدفقات
الثقافية المتقطعة والبطيئة تجعل من الصعب
الحفاظ على أشكال التفاعل الثقافي عَبْر أي
مسافة. كان ذلك إحدى نتائج محدودية الصِّلات
وضعف البِنَى التحتية لوسائل الانتقال،
بالإضافة إلى ظروف الحياة اليومية لغير
النُّخبة التي كانت تُعَرْقِل عمليات الانتقال
والتجارة على مسافات بعيدة؛ ولكن ما يضعف أي
فكرة عن التدفق الثقافي الكوني في المرحلة ما
قبل الحديثة بِشَكْل حاسم، هو أن الأمريكتين
وأوقيانوسيا كانت منفصلة عن أفريقيا وأوراسيا،
مِمَّا أدَّى إلى نقص المعرفة بالمناطق الأخرى
من العالم. لم تكن شعوب أوروبا على علم بوجود
الأمريكتين والعكس صحيح على سبيل المثال، بينما
كان هناك تَقدُّم في نهاية المرحلة ما قبل
الحديثة سيكون له أهميته العالمية في الوقت
المناسب، فإن اختراع حروف الطباعة المتحركة
بواسطة «يوهان جوتنبرج Johann
Gutenberg (C. 1398–1468)» في
خمسينيات القرن الخامس عشر، الذي نجم عنه أن
أصبح هناك مطابع في كل دولة أوروبية في
ثمانينيات القرن نفسه. هذا الاختراع كان بمثابة
ثورة في الاتصال، بدأ تأثيرها يظهر في المرحلة
الحديثة الباكرة، وكانت متمركزة في البداية في
أوروبا الغربية.
(٣) المرحلة الحديثة من العولمة
(١٥٠٠–١٩٤٥م)
هناك خلاف حول بداية ونهاية المرحلة الحديثة من
العولمة، كما أن بعض الكُتَّاب يقسمونها إلى مرحلة
حديثة باكرة، ومرحلة حديثة متأخرة، ويختلفون في
الوقت نفسه حول زمن كلتيهما (انظر:
Held et al., 1999; Holton 2005;
Hopkins, 2002). إلا أن هدفنا هنا،
وكما كان الأمر بالنسبة للمرحلة ما قبل الحديثة، هو
تحديد العناصر الأساسية التي أسهمَتْ في العولمة
الحديثة وبخاصة في بُعدها الثقافي:
(٣-١) الاستعمار الأوروبي
كان ظهور أشكال من التوسعية الاقتصادية
والسياسية والعسكرية على هيئة استعمار أوروبي
أحد الملامح الأساسية للمرحلة الحديثة، وهناك
بالفعل بعض الكُتَّاب الذين يعتبرون «صعود
الغرب» المَلْمَح المحدد للعصر الحديث
(McNeill,
1963). النزعة التوسعية
الأوروبية أخذت دفعة في ١٤٩٢م مع رحلة كولومبس
إلى أمريكا، التي مَهَّدَت الطريق للقاء أوروبا
بالعالم الجديد، وهي مرحلة بالغة الأهمية أدت
إلى تَدفُّقات في البضائع والبشر عَبْر
الأطلنطي، وإن كانت على مستوى محدود نسبيًّا.
مثل هذه التدفقات أسهمَتْ فيها فيما بعد تجارة
العبيد الأفارقة التي بلغت أَوْجَهَا في
القرنين السابع عشر والثامن عشر، ونتج عنها أن
أصبحت أجزاء من القارة متضمنة في هذه الأنماط
من التجارة. لم تكن تلك التَّدفُّقات مجرد
تَدفُّقات اقتصادية، بل إنها تضمنت كذلك ظواهر
أخرى مثل انتشار الأمراض. لم تكن هذه النتيجة
بالطبع مقصودة من الهجرة عَبْر الأطلنطي، ولكن
ذلك كان له أثره دون شك على الشعوب الأصلية
للأمريكتين حيث كانت أنظمتهم المناعية تجاهد
لمقاومة الأمراض التي جلبها الأوروبيون
(McNeill,
1979). كان هناك دافع أبعد
لبعض الأوروبيين لكي يذهبوا إلى العالم الجديد
وهو الدافع الديني، وبالتحديد الرغبة في كسب
متحولين للمسيحية، وكان أحد التجليات الثقافية
لهذه الرغبة في نشر الرسالة المسيحية تلك
الأسماء التي أُطْلِقَت على كثير من الأماكن في
أمريكا اللاتينية، حيث نجد أن «كولومبس»، على
سبيل المثال استخدم أسماء بعض القديسين لإعادة
تسمية كثير من المناطق التي استولى
عليها.
بالإضافة إلى الأمريكتين والكاريبي، بدأت
أوروبا في عَقْد صِلات أخرى قبل ١٨٥٠م، وبخاصة
في أوقيانوسيا والهند والشرق الأوسط وأفريقيا.
في حالة الهند مثلًا نجد أن شركة الهند الشرقية
فعلت الكثير لكي تفتح البلاد أمام التجارة
البريطانية والاستعمار الثقافي مع اللجوء
للوسائل العسكرية عند الضرورة؛ غير أن أجزاء
كثيرة من العالم، بما في ذلك مناطق في أفريقيا
والصين، بقيت محصنة ضد الزحف الأوروبي في تلك
المرحلة، في أفريقيا مثلًا، كان الأوروبيون قد
أقاموا، في بداية القرن التاسع عشر، مستوطنات
بطول المناطق الساحلية، ولكنهم فشلوا في
الاختراق إلى الداخل بسبب عوامل كثيرة مثل حجم
المقاومة الأفريقية؛ ولأنهم لم يكونوا قد حققوا
تفوقهم العسكري بعد (Mackenzie,
1983). أما بالنسبة للأعمال
العسكرية، فبينما كانت هناك مواجهات في أجزاء
مختلفة من العالم مثل ذلك الصدام بين القوات
البريطانية والفرنسية في الهند في منتصف القرن
الثامن عشر، فلن يكون من المعقول الحديث عن
عولمة عسكرية في تلك المرحلة الحديثة الباكرة،
حيث لم يكن هناك وجود لتكتلات قوى عالمية أو
تكنولوجيا أسلحة أو منظمات دولية، والحقيقة أنه
حتى المناوشات العسكرية بين بريطانيا وفرنسا في
الهند كانت جزءًا من حرب السنوات السبع
(١٧٥٦–١٧٦٣م)، وبالتالي كانت تعتبر اشتباكًا
أوروبيًّا أكثر منه عالميًّا.
بشكل عام، كان يعوق التدفقات الاقتصادية
والثقافية قبل القرن التاسع عشر، عدم وجود شحن
بحري مُمَيْكَن، وسكك حديدية، وأنظمة اتصال
عالمية، ودول أُمَمِيَّة قوية ذات اقتصادات
رأسمالية صناعية قادرة، وكل ذلك حدث فيما بعد؛
أي في المرحلة الحديثة، عدم وجود هذه التسهيلات
جعل التدفقات والروابط الثقافية العالمية تستمر
ضعيفة وغير منتظمة، كان معظمها مُركزًا على
المنطقة بين ضفتي الأطلنطي. بيد أنه كانت هناك
مؤشرات في المرحلة الحديثة الباكرة على ما هو
قادم مع تطور الطباعة المُمَيْكَنة، وشق
القنوات، وبناء الطُّرق، وإنشاء النظام البريدي
في أوروبا (Held et al., 1999:
434). استمرت الإمبراطوريات
الأوروبية في الاتساع في النصف الثاني من القرن
التاسع عشر وبخاصة عبر بقية أفريقيا ومناطق
جديدة في آسيا مثل الصين، وأن تصبح — بحق —
عالمية في هذه العملية؛ والحقيقة أن
الإمبراطوريات الأوروبية، وبخاصة الإمبراطورية
البريطانية الكبيرة القوية حَقَّقَت اتساعها
الأعظم من ناحية المساحة بالقرب من نهاية
القرن، كما كانت أمريكا أيضًا قد اتَّسعت
سريعًا في المناطق الجديدة مثل ألاسكا
(Brogan,
2001). الحقيقة أن الفترة ما
بين ١٨٧٠م و١٩١٤م جديرة بالإشارة إليها في هذا
السياق نظرًا لزيادة حجم وقوة التدفقات الدولية
في التجارة والبشر والأموال والاستثمار
الرأسمالي، مع أحداث عريضة مثل تلك التي أطلق
عليها «التدافع نحو أفريقيا»، التي استولت فيها
القوى الاستعمارية الأوروبية لنفسها على مناطق
جديدة في القارة وخلقت دولًا جديدة في هذه
العملية مشجعة هذا التوجه.
(٣-٢) اقتصاد عالمي بازغ
هذه التطورات التي حدثت في أواخر القرن
التاسع عشر كانت جزءًا من عملية تدويل مهمة
للعلاقات الاقتصادية، منعكسة في اندماج أفريقيا
وأجزاء كبيرة من آسيا في الاقتصاد العالمي مع
قاعدة الذهب كعملة لها؛ وبالفعل كان هناك
ارتفاع كبير في مستوى التجارة والاستثمار
العالميين لدرجة أن «هيرست
Hirst»،
و«طومسون
Thompson»
يعتبران الاقتصاد العالمي كان أكثر انفتاحًا
وتكامُلًا في الفترة من ١٨٧٠–١٩١٤م من النظام
الحالي (٢: ١٩٩٦). فضلًا عن ذلك فإن انتشار
أفكار التجارة الحرة باكرًا في القرن التاسع
عشر، وبخاصة مع الحكومات البريطانية، ربما يكون
قد مهد الطريق لظهور هذا النمط من الاقتصاد؛
إلا أننا ينبغي ألا نبالغ في أهمية ما كان يحدث
خلال تلك الفترة. أشكال الحمائية الاقتصادية
مثلًا تعود إلى ما قبل نشوب الحرب العالمية
الأولى، فضلًا عن ذلك فإنه عند منعطف القرن
كانت هناك حدود لكمية النشاط العالمي الذي كان
يمكن أن تنخرط فيه حتى بريطانيا، كبرى القوى
الرئيسية من ناحية العالمية. كان معظم
الاستثمار البريطاني فيما وراء البحار ما يزال
مُركزًا في أسواق مستقرة مثل الولايات المتحدة
وأمريكا اللاتينية، والقليل نسبيًّا كان قد
تَحوَّل إلى المناطق الجديدة التي تم الاستحواذ
عليها في أفريقيا (Fieldhouse,
1961). والواقع أنه اعتبارًا
من أربعينيات القرن العشرين فقط بدأت بريطانيا
وفرنسا، القوتان الاستعماريتان الأوروبيتان
الرئيسيتان، في الاستثمار بشكل رئيسي في
ممتلكاتهما الأفريقية، ليبدأ ما أصبح يطلق عليه
«احتلال استعماري ثانٍ» لأفريقيا، في محاولة
لجعل المستعمرات تسهم إسهامًا مُهِمًّا في
الاقتصاد الكولونيالي.
(٣-٣) الهجرات والتطورات العالمية خارج
الغرب
كانت الفترة من ١٨٧٠–١٩١٤م مرحلة مُهِمَّة في
تاريخ الهجرة العالمية. كثير من الأوروبيين،
على سبيل المثال، استَغلُّوا «التدافع نحو
أفريقيا» وبدءُوا يقتلعون جذورهم للاستقرار في
المُستعمَرات الجديدة، وهو أسلوب استمر في
القرن العشرين، ولكن الهجرة لم تكن مجرد ما
يحرص الأوروبيون عليه. هذه الفترة شهدت كذلك
نشأة مجتمعات الشتات الآسيوية العالمية التي
كان دافعها — إلى حد كبير — الرغبة في العمل،
والارتحال إلى أفريقيا وأمريكا الشمالية
والكاريبي على سبيل المثال وليس الحصر، على
سبيل المثال نجد أن أعدادًا كبيرة من الناس من
شبه القارة الهندية رحلوا إلى جنوب أفريقيا في
أواخر القرن التاسع عشر، معظمهم بدأ بوصفه
عمالة مأجورة في مزارع قصب السكر الأوروبية
ولكنهم فَضَّلوا البقاء هناك بعد انتهاء عقودهم
وشَجَّعُوا أُسَرَهم على المجيء لِلحاق
بهم.
تذكرنا الهجرة الآسيوية كذلك بألا نتجاهل
التطورات غير الغربية التي أسهمت في المرحلة
الحديثة من العولمة. في هذا السياق كان الإسلام
يعتبر قوة عولمية قوية في تلك الفترة مع وجود
الإمبراطورية العثمانية — أكبر دولة إسلامية —
التي كانت تضم وهي في ذروتها أراضي شاسعة ممتدة
من فارس إلى حدود النمسا، وفي المرحلة الحديثة
كانت هناك أسرتان مسلمتان مهمتان هما المغول
والصفويون، فَرضتَا سيطرتهما على الهند وفارس
على التوالي، وفيما بعد كان لهما
إمبراطورياتهما، بوجه عام، كان ذلك وقتًا
مُهمَّا في تاريخ «الأمة» مع اتساع نطاق
التجارة الإسلامية والنفوذ الثقافي في أفريقيا
وإندونيسيا والمحيط الهندي، المستمرة آثارها
إلى اليوم (Bennison,
2002).
(٣-٤) انتشار الحداثة
لم يكن الاستعمار الأوروبي مجرد قوة عولمة
اقتصادية فحسب، وإنما كانت له كذلك أبعاد
ثقافية وسياسية مهمة، وبخاصة إسهامه في نشر
الحضارة في أرجاء العالم. أساليب التفكير
الغربية؛ مثل: العلم، والعلمانية،
وأيديولوجيات؛ مثل: الاشتراكية والماركسية،
والحرية، والديمقراطية، انتشرت عبر الكرة
الأرضية خلال العصر الحديث كنتيجة لدعاواها
العامة والقوة الأوروبية وثقة الأوروبيين في
تقاليدهم الفكرية. ربما يعني ذلك أن تأثير
التدفقات الثقافية العالمية، مقارنة بالمراحل
الباكرة، كان أكثر عمقًا ودوامًا في الفترة
الحديثة المتأخرة. الإرث الثقافي والسياسي
للاستعمار الأوروبي مثلًا، واضح في الهند
مُتمثِّلًا في نظامها البرلماني وانتشار اللغة
الإنجليزية وشعبية لعبة الكريكت. كذلك ما زال
بالإمكان رصد الإرث الثقافي للاستعمار الأوروبي
في دول وقارات أخرى؛ مثل: هونج كونج،
وأستراليا، وأمريكا اللاتينية، وأفريقيا، وفي
حالة الأخيرة يمكن أن نجد ذلك متمثلًا في
استمرار دول الأنجلوفون والفرانكوفون، وكذلك في
حجم انتشار المسيحية في القارة
الأفريقية.
على أننا ينبغي ألا نبالغ في أهمية تأثير
الاستعمار وحجم واتساع إرثه في أفريقيا وأماكن
أخرى؛ إذ إن كثيرًا من الدول الأفريقية استغنت
عن الأنظمة البريطانية الأوروبية في مرحلة ما
بعد الاستعمار وأكدت أفْريقِيَّتها، وحاولت
بشكل عام التخفيف من درجة الارتباط بحكامها
الاستعماريين السابقين، إلى جانب ذلك فإن
اللقاء بالاستعمار الأوروبي كان قصيرًا
نسبيًّا؛ إذ إن الحكم الاستعماري الأوروبي في
بعض الحالات لم يستمر أكثر من أربعين أو خمسين
عامًا على الأكثر؛ وكنتيجة لذلك نادرًا ما كان
بعض الأفارقة يرون — إن كانوا قد رَأَوا أصلًا
— حكامهم المستعمِرِين، والكثيرون استمروا
يمارسون أساليبهم وعاداتهم الحياتية.
إلى جانب امتلاك المقدرة العسكرية
والتكنولوجية والاقتصادية للاستيلاء على أراض
جديدة، كان لكثير من الدول الأوروبية مشروعات
استعمارية تصدرها، ومفهوم عام بأنهم في مهمة
تمدين وتحضير؛ فرنسا مثلًا اتَّبعَت سياسة
الاستيعاب، في محاولة لتحويل رعاياها
المستعمرين إلى فرنسيين؛ وبين القوى
الاستعمارية الأخرى كانت فكرة «عبء الرجل
الأبيض» شعورًا منتشرًا بين النخب الأوروبية،
ومن هنا كانوا يحاولون غرس ثقافتهم وقيمهم
الخاصة في أذهان المحتلين، وحتمًا كان لذلك
أثره في تطور المجتمعات غير الغربية.
تضافر عوامل مختلفة من القوة العسكرية
والاقتصادية الغربية والتأثير الثقافي، أسهم
إلى حد كبير في سقوط الصين الإمبراطورية.
الهزائم العسكرية المتوالية أمام الجيوش
الأوروبية في القرن التاسع عشر ولَّدَت الجدل
داخل الصين عن الحاجة إلى تقليد الأساليب
العسكرية والعلوم ونظم الحكم لدى الأجانب،
وأدَّى ذلك بدوره إلى دعوات ومطالبات داخلية
بالإصلاح والتحديث انتهت ﺑ «صن يات صن
Sun Yat-sen»
(١٨٦٦–١٩٢٥)، وأعوانه إلى أن يقيموا أول
جمهورية في البلاد سنة ١٩١١م. باختصار، يؤكد
لنا الاستعمار الأوروبي أن التدفقات الثقافية
في المرحلة الحديثة كانت غالبًا من العالم
الغربي إلى العالم غير الغربي، وعليه فإن أي
اختلاط ثقافي حدث كان عملية أحادية الجانب في
الغالب، حيث المستعمَر يستوعب ثقافة المستعمِر،
كما كان واضحًا في سياسة «النَّجْلَزة
Anglicization»
التي كان الإنجليز يطبقونها في الهند في
ثلاثينيات القرن التاسع عشر والتي كانت
مُعَدَّة بهدف تقديم تعليم إنجليزي لأبناء
الطبقة الوسطى الهندية لكي يصبحوا وكلاء
للانتشار الثقافي.
غير أن المستعمَرين احتفظوا بقدرتهم على
مقاومة فرض هذه الثقافات الغربية، حدث ذلك في
آسيا كما حدث في أفريقيا وغيرها بالقدر نفسه.
وفي حالة الهند كان الدافع وراء هَبَّة ١٨٥٧م
ذلك الهجوم الملحوظ على الثقافة الأصلية من قبل
السلطات البريطانية؛ كما يمكن رصد اهتمام مماثل
لحماية الثقافات التقليدية من النفوذ الأجنبي
في تمرد البوكسر في الصين في أواخر القرن
التاسع عشر عندما كانت السفارات الأجنبية
ومراكز البعثات المسيحية بؤرة للهجوم. أضف إلى
ذلك أنه ينبغي عدم التهوين من شأن غرس الثقافات
الغربية بواسطة رعايا المستعمَرين أكثر من
استيعابهم لها، وقد كان ذلك واضحًا في الحركة
الإثيوبية وهي صيغة أفريقية من المسيحية كانت
كذلك تعبيرًا باكرًا عن المقاومة الأفريقية
للاستعمار الأوروبي، بينما احتفظت بعض الدول
غير الغربية بقدرتها على شق طريقها الخاص نحو
التحديث في عصر الاستعمار الأوروبي هذا مثل
اليابان (Held et al.,
1999).
كذلك ينبغي ألا نفترض أن مثل تلك اللقاءات
الثقافية كانت تحت السيطرة دائمًا من قبل
الأوروبيين، أو أنهم لم يَتعلَّموا أو
يَستوعِبوا أمورًا كثيرة من هذه التجربة؛ إذ
يرى كثير من المعلقين أنها تركت أثرًا كبيرًا
على الثقافة والمجتمع الأوروبيين. اكتشاف
الأمريكتين مثلًا كان تحَدِّيًا لسلطان
المسيحية والحضارات الكلاسيكية حيث لم يكن لدى
أيهما سابق معرفة بالعالم الجديد، وقد شجع ذلك
رؤية جديدة مفادها أنه إذا كانت تلك المصادر
مخطئة، فلربما كان من الأفضل استقاء المعرفة من
التجربة العملية والملاحظة المباشرة بدلًا من
الاعتماد على السلطة التقليدية، وعليه فقد كانت
مواجهات أوروبا بالعالم الجديد إسهامًا في
تطوير تَوجُّه أكثر انتقادية أو حداثة.
٦
يضاف إلى ذلك أن تلك الفترة كانت بداية
تَحوُّل نحو وسائل أكثر تاريخية ومقارنة في
المعرفة بأوروبا، وكان ذلك واضحًا على نحو خاص
بين كثير من الفلاسفة الفرنسيين مثل «فولتير
Voltaire» الذي
استخدم نموذج الصين الكونفوشيوسية جزءًا من
نقده للنظام القديم ancient
régime (Clarke, 1997). في
القرن التاسع عشر بالمثل، ونتيجة للقاء أوروبا
بالثقافات الشرق أوسطية والآسيوية، أصبح لما
يعرف بالاستشراق تأثير مُعْتَبَر على الفكر
الأوروبي والفن والعمارة والتصميم والموسيقى
والسينما والمسرح، وكذلك على الأذواق والمشاعر
بشكل عام (انظر: Clarke, 1997;
Macfie, 2002; Mackenzie
1995). حتى في القرن العشرين
كان يمكن رؤية هذا التأثير في أفلام هوليود
وكذلك في الثقافة المضادة في الستينيات من
القرن نفسه. هذه الأشكال من الاختلاط والتمازُج
تَتحدَّى مفهوم العولمة كمشروع غربي، وهناك
الآن اعتراف مُتنامٍ بأصولها الغربية وغير
الغربية (انظر: Hopkins,
2002 على سبيل المثال). هذا
التحوُّل نابِع في جزء منه من التفحص النقدي
لفكرة «الغرب» والاعتراف بطبيعتها المركبة،
وبأنها مكونة من جميعة مصادر عِدَّة ومُؤثِّرات
إسلامية، وإثيوبية، ومصرية وهندية … إلخ
(Nederveen Pieterse,
1994).
(٣-٥) نشأة الدولة-الأمة
يعتبر قيام الدولة-الأمة أحد ملامح العصر
الحديث الجديرة بالملاحَظة، والدولة-الأمة هي
المؤسَّسة التي يرى كثير من المعلقين أنها قد
أسهمت إلى حد كبير في عملية العولمة، وإن كانت
قد مَرَّت بعلاقة مُعقَّدة معها خلال تلك
الفترة؛ فمن ناحية مَهَّد تكوين الدول الأمة
القوية في أوروبا الغربية الطريق أمام التوسع
الإمبريالي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل
القرن العشرين، ومن هنا أسهم في المرحلة
الحديثة من العولمة. رغم ذلك، على نحو أكثر
عمومية، فإن ظهور الدولة-الأمة في المشهد
العالمي صحبه كذلك تأكيد أكبر على الحفاظ على
الحدود الوطنية، وهو التطور الذي قيد حرية
الحركة والانتشار الثقافي، وبينما كانت المناطق
محددة في المرحلة ما قبل الحديثة، فإن تقوية
الثقافات الوطنية كان يعني غالبًا إقصاء الذين
كان من المُتصوَّر أنهم غير مُنتَمِين، وكذلك
اعتبار الثقافات الأخرى أقل شأنًا وقيمة، وإلى
جانب الأشكال الرومانسية والحصرية من القومية،
ظهرت أيديولوجيات أخرى تُعارِض كل صور التمازج
الثقافي واختلاط الأجناس؛ مثل العِرقية
والداروينية الاجتماعية التي مَهَّدتْ بدورها
الطريق إلى الفاشية والنازية. إقامة الحدود
والتخوم والمحافَظة عليها كان إذن مَلمحًا
خاصًّا بالفترة الأخيرة من الحقبة الحديثة،
الأمر الذي أسهم في تقييد الاختلاط الثقافي
والتهميش المُؤقَّت للكوزموبوليتانية التي كانت
موجودة — على الأقل — بين بعض المثقفين
الأوروبيين في القرن الثامن عشر.
(٣-٦) التصنيع
كان التصنيع تَطوُّرًا مُهمًّا آخر سَهَّل
العولمة الحديثة. بينما كانت بريطانيا تعيش
ثورتها الصناعية منذ القرن الثامن عشر، لم
تَقُم بقية أوروبا والولايات المتحدة بالتصنيع
إلا في القرن التالي، وهو ما خلق الحاجة للمواد
الخام وإلى أسواق جديدة لتصريف ناتج صناعاتهم؛
وبذلك كان التصنيع حافزًا على التوسع
الاستعماري، وكان الاستحواذ على مستعمَرات هو
وسيلة مواجَهة هذه المطالب التنافسية
(Hobsbawm,
1987). إلى جانب ذلك كانت هناك
تطورات أخرى مرتبطة بالتصنيع عمومًا وبالعلم
خصوصًا؛ مثل النقل البحري المُمَيْكن، والسكك
الحديدية، والتلغراف، مِمَّا أسهم كثيرًا في
التواصل العالمي. هذه التطورات التكنولوجية
سَهَّلَت التجارة وزادت سرعة الاتصال والتنقل
في أرجاء الأرض، ويُعتَبر النجاح في مد كابلات
التلغراف عبر الأطلنطي في ١٨٦٨م حدثًا مُهِمًّا
في الاتصالات الحديثة؛ وقد وضع البريطانيون،
خاصَّة، بنية أساسية للاتصالات مُستخدِمِين
تكنولوجيا الكابل، وأنظمة تلغراف الغواصات،
ومئات الألوف من الخطوط كوسيلة لتأمين
إمبراطوريتهم والحفاظ عليها
(Headrick,
1988). وأخيرًا، ومع التطور
الذي حدث في القرن العشرين، كان هناك المزيد من
الإنجازات التكنولوجية؛ مثل: الراديو،
والتليفون، والتليفزيون، وماكينة الاحتراق
الداخلي، وكلها أمور أسهمَت كثيرًا في العولمة
في الفترة المؤدية إلى ١٩٤٥م.
هكذا كان هناك عدد من التطورات المتناقضة
تعمل فيما يتعلق بالعولمة، ولكن القُوى
الأساسية؛ مثل: الرأسمالية، والتصنيع،
والاستعمار، والعلم أحدثَت تَوجُّهات عولمية
قوية وإن كان ذلك على نحو غير منتظم.
(٤) المرحلة المعاصرة من العولمة (من ١٩٤٥م إلى الآن)٧
سوف نحدد هنا بعض التطورات والعمليات الرئيسية
التي كانت بمثابة قوة دفع للعولمة المعاصرة، وإن
كنا لن نتناولها أو نتناول مُتضمَّناتها بالنسبة
للعولمة الثقافية بالتفصيل هنا، كما سنفعل في بقية
الكتاب. بداية، لا بد من الإشارة إلى أنه حتى في
المرحلة المعاصرة كانت هناك عوامل ضد العولمة.
أولًا: بينما كانت الحرب الباردة نظامًا للصراع
العالمي — واضحًا على سبيل المثال في الطُّرُق التي
أسهمَت بها في تطوير بِنَى الأمن العالمي وسوق
السلاح العالمية ومن ثَم تَعبيرًا عن العولمة، كان
من المُحتَّم أن تقيد التجارة العالمية وحركة الناس
والأفكار في فترة ما بعد الحرب. ثانيًا: الحيوية
الدائمة للدولة-الأمة ووثاقة الصلة بها في زماننا —
رغم أن دعاة العولمة قد ينكرون ذلك هنا — تعمل على
كبح تطور مؤسَّسات الحكم العالمي، كما يمكن أن يقال
إن الحكومات القومية كانت قيدًا على العولمة
بمحاولاتها تقييد الهجرة واللجوء، وهذه النقطة
تنطبق أيضًا على محاولتها التَّحكُّم في رأس المال
العالمي، والتدفقات المالية في سعيها لإدارة
الاقتصاد القومي. ثالثًا: يُؤكِّد التفاوت
الاقتصادي العالمي أن العولمة تظل عملية ناقصة؛ إذ
إن أحد الأوجه التي يَتجلَّى فيها مثل هذا النقص
والتفاوت هو عدم امتلاك فرص متساوية للوصول إلى
تكنولوجيا المعلومات والاتصال، وهو ما يعني أن
مناطق وقارات بعينها، وخاصة الأفريقى منها، وكذلك
أجزاء فقيرة من أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط،
تظل على هامش هذه التطورات العالمية المهمة؛
والنتيجة الحتمية لذلك هي أنها لا تسهم في التواصل
والترابط العالمي. رابعا: وبناء على النقطة
السابقة، وبسبب الشَّكل الذي تتخذه العولمة — أو
المُتصوَّر على الأقل أنها تتخذه — فإنها أثارت
رَدَّ فعل مضادًّا ورفضًا شعبيًّا. هذه التوجهات
المُناهِضة للعولمة مجتمعة من المُرجَّح أن تسهم في
عَدم اتساق وتعقيد عملياتها.
على أن المَرحلة المعاصرة تَتميَّز بشكل عام، ليس
فقط باتساع وقوة التدفقات الثقافية التي تبدو في
شكل حركة البشر والأفكار والسلع والرموز والصور
فحسب، وإنما في السهولة الكبرى التي تنتقل بها من
مكان لآخر، ومن ثَمَّ تعمل على تعميق أشكال التواصل
الثقافي الكوني. هذا النموذج يأتي نتيجة لعدد من
التطورات وبخاصة التحسن الكبير الذي يطرأ على وسائل
الانتقال وبنيتها الأساسية، والجدير بالذكر أن
الطائرات النفاثة، وإنشاء الطرق، وشبكات السكك
الحديدية عَبْر الكرة الأرضية، والشحن بالحاويات،
والزيادة الكبيرة في امتلاك السيارات وغيرها من
وسائل الانتقال، كل ذلك جعل الاتصال أكثر سرعة
وسهولة. التحسُّن الذي طرأ في مجال الطيران أسهم في
تطوُّر السياحة وأشكال الهجرة، بينما التَّقدُّم
الذي حدث في تكنولوجيا المعلومات والاتصال — وبخاصة
في التليفون والحاسب الآلي والرقمنة — يؤكد أن
الاتصالات العالمية أصبحت أرخص وفورية في الوقت
نفسه، وبالمثل فإن الثقافات الفردية والتدفقات
الثقافية أصبحت تصل إلى أبعاد كونية عن طريق حِزْمة
من الأقمار الاصطناعية، والكابلات، والإمكانيات
الواسعة للراديو والتليفزيون والإنترنت، وقد ساعد
في ذلك كله أيضًا ظهور مؤسَّسات إعلامية قوية. ربما
يكون أساس ذلك كله موجودًا في التوسع المستمر
للرأسمالية العالمية، وهو ما يَتجلَّى في اتساع
السوق العالمية واستيعاب دول جديدة فيها مثل الصين،
وظهور المؤسَّسات متعددة الجنسية والمؤسَّسات
العابرة للحدود القومية، والدور المتنامي للأعمال
التجارية وتأثيرها بشكل عام في المرحلة المعاصرة.
الأثر التراكمي للتطورات التي نَصِفُها هنا هو أن
التفاعل الثقافي والاستهلاك، مُقارنة بالفترات
السابقة، واللَّذَين يرى (Held et
al., 1999) أنه كان بين نخب
المجتمعات المختلفة، يَحدُثان على المستوى الشعبي
في ظل العولمة المعاصرة. يضاف إلى ذلك أن بعض
التوجهات العولمية تكتسب أهمية جديدة في عصرنا
مُقارَنة بالفترات السابقة، وبخاصة حالة البيئة مع
التكوين والتطور العالمية واحتمالات أشكال مختلفة
من السياسة العالمية المُستمرين لمؤسَّسات
دولية.
باختصار، بينما قامت العولمة بالبناء على الكثير
من التوجُّهات والأنماط التي كانت موجودة في
المرحلة الحديثة وطورتها، هناك جوانب منها في
المرحلة المعاصرة تُميِّزُها عنها في المراحل
الأخرى، وهي قضية جدلية كما سنرى لاحقًا.
(٥) تفسير تاريخ العولمة الثقافية
بعد أن أوجزنا بعض الجوانب الأساسية من تاريخ
العولمة الثقافية، ربما يكون علينا أن نُوضِّح كيف
أن المراحل المختلفة المُفصَّلة هنا لا تُعبِّر عن
مدى تَعقُّدها على نحو كافٍ. المرحلة الباكرة من
العولمة على سبيل المثال يمكن أن نقسمها إلى:
مجتمعات ما قبل الاستقرار ومجتمعات الاستقرار،
وربما يكون من الأوقع، كما ذكرنا من قبل أن نَنظُر
إلى العصر الحديث بأنه ينطوي على فترات حديثة باكرة
وأخرى حديثة متأخرة، أي من ١٥٠٠–١٨٠٠م ومن
١٨٥٠–١٩٤٥م على التوالي، انظر على سبيل المثال:
Held et al.
(1999). من منظور ثقافي واجتماعي
مُحدَّد، يمكن أن نَعتَبِر مرحلة العولمة الحديثة
قد وصلت إلى نهايتها مع الحرب العالمية الأولى التي
كانت فاصلًا بالغ الأهمية … ومدمرًا. المرحلة
المعاصرة يمكن تقسيمها إلى فترات قبل وبعد ١٩٠٠م؛
حيث إن انتشار الإنترنت في تسعينيات القرن العشرين
أكد دفعة كبيرة في التواصل العالمي؛ وبصرف النظر عن
مدى دقة التحقيب التاريخي هنا، فالأهم أنه ينبغي
ألا يشغلنا كثيرًا تفصيل المراحل التاريخية بالنسبة
للعولمة الثقافية. المراحل المختلفة المحددة هنا
ليست كيانات محصورة، ويمكن أن نجد في عصور مختلفة
عمليات تجعلها أكثر اتساعًا. كذلك من غير المرجح أن
يكون أي من هذه العمليات موجودًا في كل المناطق في
العالم خلال فترة تاريخية معينة.
العولمة إذن ليست ظاهرة متماثلة أو مُتَّسِقة،
فهي بالأحرى مُتعدِّدة المراكز وغير مُنتَظِمة،
وإذا لم نعترف بهذه الحقيقة وحاولنا الخروج بتاريخ
خطي لها سيكون في ذلك مخاطرة شديدة؛ وبالفعل يرصد
«فردريك كووبر Fredrick
Cooper» (٢٠٠١) انحيازًا غائِيًّا
في التواريخ المعاصرة للعولمة، حيث تتم قراءة
الحاضر في الماضي. يتضمن الاعتراف بعدم الانتظام أو
الاتساق أن نضع في اعتبارنا أن تدفقات العولمة سواء
أكانت ثقافية أم غير ذلك، قد أثارت درجات مختلفة من
المقاوَمة في بعض المجتمعات والمناطق، وبذلك أثرت
في مسار العولمة وقَوَّت الحاجة إلى فحص مضامين
وأطر بعينها ذات علاقة بالموضوع. ما يزيد الأمور
تعقيدًا هو أن بعض قوى العولمة يمكن أن تتصدى
لتوجُّهات عولمية أخرى، أو أن تعمل على إلغائها.
توسُّع القوى الأوروبية في القرن التاسع عشر، على
سبيل المثال، تَحقَّق في بعض المناطق بطرد قُوى
عولمية أخرى مثل الإسلام بالتحديد.
الصعوبة التي تنشأ عند دراسة تاريخ العولمة
الثقافية، كما ذكرنا سابقًا، تتعلق بتاريخ
بداياتها. المرحلة الحديثة التي عرضنا لها يمكن أن
تُغطِّي عِدَّة ألفيات قبل ١٥٠٠م؛ ولذا يجب أن نفكر
… متى يكون من المعقول أن نتحدث عن بدايات العولمة،
وهذا الأمر — بالتالي — يثير تساؤلات حول ما نعنيه
بالعولمة والمعايير التي نستخدمها لكي نحدد وجودها.
هل نفكر بها — مثلًا — باعتبارها حركة البشر،
وأنشطة التجارة على مسافات بعيدة، وحجم التفاعل
الثقافي، وتَطوُّر مجتمع عالمي، أو في علاقاتها
بتكوين وعي كوني؟ أم تُرَى يجب أن ننظر إليها كجماع
لكل هذه المعايير وغيرها؟ يضاف إلى ذلك أن هناك
سؤالًا كثيرًا ما يُطْرَح في إطار دراسات العولمة،
حول ما إذا كان يمكن أن يُوجَد شكل ثقافي ما في
أنحاء العالم ويعتبر دليلًا على العولمة، أو ما إذا
كان يكفي أن يَتعدَّى ليشمل عددًا من المناطق.
بالإضافة إلى ذلك، ما الكميات أو الآثار الدالَّة
على وجود أعمال فَنِّيَّة، يمكن أن نجدها في أجزاء
مختلفة من العالم ونعتبرها دليلًا على استمرارية
العولمة الثقافية؟ باختصار، هل يمكن أن نتتبع
العولمة بأثر رجعي إلى الحضارات القديمة، أم تراها
نتاج أزمنة أحدث؟
(٥-١) جان ندرفين بيتيرس Jan
Nederveen Pieterse
التاريخ الطويل للعولمة
يري جان ندرفين بيتيرس (٢٠٠٤م) أنه ينبغي
النظر إلى العولمة باعتبارها عملية تاريخية
طويلة المدى. العولمة عنده تكامُل إنساني
وتهجين، كما يعتقد أن بالإمكان رصد أشكال من
الاختلاط الثقافي عَبْر القارات والمناطق تَعود
إلى قرون مَضت. الحضارات في تَصوُّره لها ليست
كيانات منفصلة غير مترابطة، هي بالأحرى
مُكوَّنة من تواشُج مجموعة من المؤثِّرات على
مدى زمني طويل، وهو ما يمكن أن نجده مثلًا في
التراث الثقافي المختلط للغرب. كذلك تَولَّدَت
في أمريكا اللاتينية كاثوليكية شعبية نتيجة
تمازُج المؤثرات الإسبانية، والبرتغالية،
والكاثوليكية، والثقافات المحلية الأصلية بعد
التقاء أوروبا بالعالم الجديد؛ فالهجنة كما
يشير «نستور جارثيا كانسليني
Néstor Garcia
Canclini» لها مَسار طويل في
ثقافات «أمريكا اللاتينية» (٢٤١، ١٩٩٥م)،
وبالمثل فإن المعتقدات الدينية والعادات
الاجتماعية التي تُشكِّل الهندوسية نشأت نتيجة
اختلاط الثقافة الإندو-أوروبية، وهي العملية
التي بدأت من ١٥٠٠ق.م وما بعدها، عندما واجه
واندمج الغُزاة الآريون بالمجتمَعات قبل الآرية
والدراقيدية المحلية. ودعمًا لفكرته عن العولمة
بوصفها عملية تاريخية عميقة، يشير «ندرفين
بيتيرس» إلى تطورات مثل حركة البشر داخل وعبر
القارات، والتجارة على مسافات طويلة، وانتشار
الأديان العالمية، وانتشار التكنولوجيا بما في
ذلك التكنولوجيا الزراعية والعسكرية، كما أن
هناك تعبيرات أخرى عن التاريخ الطويل للتفاعل
الإنساني؛ مثل انتشار اللغات، والآداب،
والموسيقى، والمطبخ، والمواد الغذائية،
والنباتات، ورسم الخرائط، والمعارف الطبية،
والأفكار عن عمل الدولة وبنيتها، وانتشار
الاكتشافات العلمية، والإبداعات التكنولوجية.
ويُجادِل «ندرفين بيتيرس» بأننا إذا كنا نقبل
بطبيعة الهجنة، علينا إذن أن نقرأ العولمة
المعاصرة بطريقة مُعيَّنة؛ أي بأنها تحديدًا
تُسْرِع بالظرف الإنساني الذي يَتميَّز
بالاختلاط الثقافي، أو على حد تعبيره: «العولمة
المعاصرة المتسارعة تعني تهجين الثقافات
الهجينة» (٨٢، ٢٠٠٤م).
غير أن طرح «ندرفين بيتيرس» كان عُرضة للنقد،
كما أن مفهومه الذي يَعتَبِر ثقافتنا
وهُويَّاتنا هجينة وبالتالي غير مُستقِرَّة
بطبيعتها، لم يكن مقبولًا بشكل عام. وكما سنرى
في الفصل الخامس على سبيل المثال، فإن بعض مَن
كتبوا عن القومية والثقافات القومية مثل
«أنتوني سميث Anthony
Smith» يحددون الجوهر الإثني
للدول، وعليه يُؤكِّدون الاستمرارية بالنسبة
لهذه الهوية الخاصة. كذلك فإن مفهوم «بيتيرس»
للتاريخ باعتباره عملية تكامل مستمرة لم يَمُر
دون نقد، خاصة أن هناك بعض الفترات التاريخية
التي لم تتفاعل فيها الحضارات بالقدر الذي
يراه. في كتابه الذي بعنوان
Millennium
(1996)، يقول «فيليب
فرناندز-أرمستو Felipe
Fernández-Armesto» إن
الحضارات الصينية والإسلامية واليابانية كانت
في بداية الألفية الثانية عوالم مُغلقة
نسبيًّا، تَتطوَّر في عُزلة نسبية، وعلى هذا
الأساس هناك دائمًا زَعْم بأن الصين أصبحتْ
أكثر عزلة بعد ١٥٠٠م (Holton,
2005). فقد منعت الحكومة
الصينية التجارة البحرية والهجرة إلى جنوب شرق
آسيا لفترة ما في القرن السادس عشر بسبب زيادة
القرصنة والتهريب (Van de Ven,
2002). والأكثر دلالة أن حكام
الصين الإمبراطوريين — وبخاصة أسرة «كوينج
Qing Dynasty»
(١٦٤٤–١٩١٢) — حاولوا تَجنُّب التورط مع
«البرابرة الأجانب»، وخاصة الغربيين
منهم.
ولكن بالنسبة ﻟ «ندرفين بيتيرس»، مرة أخرى،
فإن تلك الحضارات نفسها هي نتاج للتكامل
الإنساني؛ حيث إن الثقافات تَتراكم وتتصادم
وتَتشكَّل عَبْر هذه المواجهات وهي عملية
مستمرة منذ القدم، وهذا واضح كما يقول في
انتشار الأديان العالمية ودرجات التنوع
بداخلها، وذلك كله نتيجة للتفاعل والتكيف مع
الثقافات المحلية، وفي الغالب، وجود العقائد
الأخرى وتأثيرها في مناطق بعينها (٢٥، ٢٠٠٤م)،
على أنه من الملائم أن نتساءل هل التكامل
الإنساني — كما يصر بيتيرس — يمكن أن يصل إلى
درجة العولمة. يبدو أننا إذا كنا نريد أن نجيب
عن هذا السؤال سوف نحتاج لمعرفة المزيد عن
طبيعة هذا التكامل الإنساني أو عن شكله على
سبيل المثال: هل يتضمن أو يضم مصادر من كل
أنحاء العالم؟ هل انبثقت هذه الحضارات أساسًا
نتيجة لأشكال من الاختلاط والتفاعل الإقليمي؟
من المُؤسِف أن «ندرفين بيتيرس» لا يُقدِّم لنا
أي تحليل تفصيلي أو دراسات حالة تُمكِّنُنا من
تَقصِّي الأمر والإجابة عن هذه الأسئلة. إنه
بالأحرى يَتركنا مع الزَّعم العام بأن التكامل
هو ما يفعله البشر.
(٥-٢) أنتوني جيدنز Anthony
Giddens
حداثة العولمة
الافتراض الذي رسمه «ندرفين بيتيرس» يتناقض
مع ذلك الذي يصوره علماء الاقتصاد والاجتماع
الذين يتتبعون أصول العولمة بشكل عام ويرجعونها
إلى الرأسمالية (١٥٠٠م وما بعدها)، وإلى
الحداثة (١٨٠٠م وما بعدها) على التوالي؛
والواقع أن «بيتيرس» ينتقد «أنتوني جيدنز» عالم
الاجتماع الشهير لأنه يَتصوَّر العولمة إحدى
نتائج الحداثة. هذه الآراء في نظر «ندرفين
بيتيرس» ذات مركزية أوروبية؛ لأن أصحابها
يَعتبِرون العولمة «غَرْبَنَة»، وذلك في رأيه
فَهْم «ضيق جغرافيًّا وضحل تاريخيًّا»
(ibid., 4).
ويهمل حقيقة كون العولمة سابقة على صعود الغرب.
إلا أن هذا الخلاف، إلى جانب أنه يعكس مجالات
بعينها ذات أهمية بالنسبة لمجالات أكاديمية
فردية، له جذوره في مفاهيم مختلفة للعولمة.
العولمة عن «ندرفين بيتيرس» مَعنِيَّة بالتكامل
الإنساني، أما بالنسبة ﻟ «جيدنز» فهي معنية
بالتباعد الزماني المكاني، ومن الحتمي إذن أن
يكون لدى كِلَا الكاتبين فَهْم مختلف لتاريخ
العولمة؛ ومرة أخرى نستطيع أن ندرك أن الكثير
يَعتمد على المعيار الذي نستخدمه لتعريف
العولمة.
وبينما قد تساعد أعمال كُتَّاب؛ مثل «جان
ندرفين بيتيرس»، و«روبرت كلارك» على مواجَهة
حُجَج وتَصوُّر العولمة باعتبارها ظاهرة معاصرة
فريدة بتذكيرنا بسوابقها التاريخية، فإننا لا
بد من أن نكون حذرين بخصوص المدى الزمني الذي
نعود إليه عند تدبُّر هذه المسألة؛ وكما رأينا
فإن عوامل مثل محدودية الانتقال والاتصال
والقارات المنفصلة عن بعضها كأقاليم، كل ذلك
كان يعوق التدفقات الثقافية وأشكال التواصل
العالمي الأخرى في المرحلة ما قبل الحديثة. لا
بد كذلك من أن يكون في اعتبارنا أنه يمكن أن
تكون هناك انقطاعات حينما يتعلق الأمر بتوجهات
وعمليات العولمة. ربما كانت هناك مثلًا فترات
عبر القرون تَقلَّصَت فيها أشكال من التجارة أو
الهجرة، وربما تكون قد اختفت، وعليه ينبغي ألا
نغفل أهمية العلاقة بين العولمة والحداثة. على
صلة بهذه القضية يرى «جيدنز» أن الحداثة «قوة
مُعَولَمة بطبيعتها» (١٧٧، ١٩٩٠م)، وهو مقتنع
تمامًا بأن اثنتين من مؤسساتها المحددة، وهما
الدولة-الأمة، والرأسمالية، يساعدان على نشرها
في مناطق جغرافية جديدة؛ والواقع أن التطورات
في المرحلة الحديثة تزيد مدى التدفقات الثقافية
العالمية وقوتها وسرعتها، بالقدر الذي يجعل
هناك فوارق كمية وكيفية عن المرحلة ما قبل
الحديثة، بينما نجد أن كل ما تفعله التطورات
الحادثة في المرحلة المعاصرة؛ مثل تقدُّم
تكنولوجيا المعلومات والاتصال، هو أنها تزيد
وتيرة هذا التوجه. ذلك كله يطرح مسألة ملاءمة
تطبيق مصطلح «العولمة» على حقبة ما قبل
الحداثة، وبذلك نعود إلى قضية تعريف العولمة.
وأخيرًا يؤكد «جيدنز» أن الدولة-الأمة
و«الإنتاج الرأسمالي المنتظم» لهما أصولهما،
ليس في مرحلة تاريخية معينة فحسب، بل في أوروبا
كذلك؛ وعلى حد تعبيره: «لهما نظائر قليلة في
فترات سابقة وفي أطر ثقافية أخرى» (١٧٤،
١٩٩٠م). ويجادل بلا شك بأن هذه الحقيقة
التاريخية تفند الاتهام بالمركزية الأوروبية،
الذي يقول به «ندرفين بيتيرس».
خاتمة: تواريخ العولمة الثقافية
لعل أكثر الطرق ملاءمة وفائدة لتصور العولمة هو
مجرد البحث عن نماذج وأشكال ودرجات من التواصل
الكوني، سواء أكان ذلك في صورة الهجرة والتواصل
الفكري والتجارة وانتقال الأفكار، أم في غير ذلك من
المعايير التي طرحناها هنا، وسوف يمكننا ذلك من
معرفة هل العولمة قوية أو ضعيفة، عميقة أو ضحلة،
عريضة أو ضيقة تُشكل من أشكال الارتباط والتواصل
(انظر:
Held et al., 1999;
Rosendorf, 2000). بِتبنِّي هذا
الأسلوب في الاستشراف سنكون أكثر قدرة على رسم
خريطة للتطور التاريخي للعولمة والتحقق من أنها لم
تنشأ من المجهول، وكذلك تحديد التغيرات الكمية
والكيفية التي حدثت في عصرنا، أي أننا — بمعنى آخر
— سوف نتوقف عن النظر إلى العولمة باعتبارها «حالة
نهائية» ذات نقطة بداية مُحدَّدة في لحظة تاريخية
معينة؛ وهكذا فإن بعض التطورات التي عرضنا لها من
قبل باعتبارها جزءًا من المرحلة ما قبل الحديثة،
مثل الأنظمة الإمبراطورية الباكرة والأديان
العالمية يمكن أن تكون أمثلة على العولمة الناقصة
مثلًا. يضاف إلى ذلك أننا إذا انتهجنا هذا الأسلوب
في الاستشراف، فمن المرجح أن نخرج بفهم أعمق وأفضل
للعولمة المعاصرة، والمجادلات والجوانب الدالة على
«عولمة قوية»، وكذلك تلك التي تدل على عولمة ضعيفة.
٨
باختصار، ورغم هذا التنوع الكبير في المادة التي
تناولناها حتى الآن، يبدو من المستحيل القيام
بتحليل شامل لتاريخ العولمة الثقافية، ولعل البديل
عن ذلك هو تفصيل التوجهات التاريخية العريضة. ما
عرفناه هو أن العولمة الثقافية ليست منفصلة عن
الأبعاد الأخرى للعولمة، وإنما هي في الحقيقة
متداخلة مع كثير من أشكال النشاط الإنساني، وعليه
فإن دراساتها تتطلب استخدام أسلوب تناوُل أو
استشراف متعدِّد المجالات المعرفية.
رأيْنَا كذلك كيف تطورت العولمة عن أصول ومصادر
عدة على مدى ألوف السنين، رغم أن التاريخ لم يكن
منتظمًا وكان عُرضة للطوارئ بطبيعته اعتمادًا على
الأطر والسياقات المختلفة. يضاف إلى ذلك أنه كانت
هناك، في مراحل مختلفة، قوى تعمل ضد العولمة، ومن
هنا يكون من الملائم التفكير في العولمة بصيغة
الجمع وليس باعتبارها ظاهرة أحادية، والحقيقة أننا
عند التفكير في تاريخ هذا الموضوع، يكون الأكثر دقة
هو التفكير في أكثر من تاريخ؛ أي عولمات وليس عولمة
واحدة، وحيث إن العولمة الثقافية مرتبطة بأبعاد
العولمة الأخرى، فإن تأكيد التعددية هنا ينطبق
عليها كذلك، ومن هنا كان عنوان هذا الجزء «تواريخ
العولمة الثقافية». وأخيرًا، بينما كانت العولمة
إذا كنا نتكلم من الناحية التاريخية؛ قادمة منذ زمن
بعيد، فإننا نؤكد هنا تَمُّيز مرحلتها المعاصرة،
وهذا نابع من القدوم المتلازم لمجموعة من العمليات
التكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية
والبيئية والثقافية، التي تأخذنا إلى مستوى جديد
غير مسبوق من التواصل والترابط الكوني كما سنوضح في
الفصول القادمة.
للمزيد
نرشح الأعمال التالية لمن يريد المزيد عن المادة
التي عرضنا لها في هذا الفصل:
-
William McNeill’s: The
Rise of the West: A History of the Human
Community, (1963).
-
Janet Abu-Lughod’s:
Before European Hegemony,
(1989).
-
Conceptualizing Global
History, (1993).
وهو عمل مهم عن التاريخ الكوني من تحرير
-
Ralf Buultjens, Bruce
Mazlish.
-
Jürgen Osterhammel and
Niels Petersson’s: Globalization: A short
History. (2005).
وهو مُقدِّمة مُحْكَمة وثاقبة للموضوع، تتبع ظهور
العولمة على مدى سبعة أو ثمانية قرون مضت، مع
التركيز على المرحلتين الحديثة الباكرة
والحديثة.
مجموعة مقالات من تحرير A. G.
Hopkins، وهي محاوَلة جادَّة من
جانب المُؤرِّخِين للمشاركة في جدل العولمة، كما
أن: Global
Transformations تأليف
David Held وآخرين
(١٩٩٩م) محاولة وافية لرسم خريطة لتاريخ العولمة في
أشكالها المختلفة. ومن الأعمال التي تركز على
التاريخ الطويل للعولمة انظر:
-
The Consequences of
Modernity, by: Anthony Giddens,
(1990).
-
Globalization: A
Critical Introduction, by: Jan Aarte
Sholte.
وأخيرًا هناك المجلد الذي حرره كل من:
بعنوان: Globalization and Global
History (2006) الذي يقدم بحثًا
علميًّا مُفصَّلًا للموضوع.