لكي نفهم العولمة الثقافية لا بد من أن نكون واضحين،
وربما واضحين قدر الاستطاعة، بخصوص ما نعنيه بالثقافة،
ولذلك سوف يستكشف هذا الفصل هذا المفهوم وما يحيط به من
جدل. ليس الهدف هنا هو تقديم طرح جامع مانع عن طبيعة
الثقافة، وإنما مُجرَّد اقتراح طرائق تفكير ملائمة
لتناوله واستشرافه في ضوء الظروف المعاصرة، وبعد ذلك
سننتقل لاختبار العلاقة بين الثقافة والعولمة متأمِّلين
كيفية انتقالها في العالم، مُركِّزِين بوجه خاص على
فكرة التدفقات الثقافية والخروج من الإقليمية ثقافيًّا.
كذلك سوف يكون تركيز الجزء الأخير من هذا الفصل على
قضية تلقى اهتمامًا نقديًّا متزايدًا فيما يَتعلَّق
بمجال هذا الموضوع، وهي بالتحديد عبور الحدود القومية
وما يعنيه ذلك بالنسبة لتطور العلاقة بين الثقافي
والمكاني في المرحلة المعاصرة.
(١) تفسير الثقافة
إذا افترضنا أن الثقافة أوسع من اعتبارها مجرَّد
الفنون والمعارف الإبداعية سنكون على الفور أمام
مشكلة محاولة تحديد وتعريف مفهوم مُراوغ مختلف
عليه؛ لذلك من المفضل أن نتصور الثقافة بمعنًى
أساسي باعتبارها «أسلوب حياة»
(e.g., Williams,
1967). ولكنَّ استشرافًا عامًّا من
هذا القبيل سيجد صعوبة في تجميع واحتواء التجارب
والخبرات الفردية للناس المُقِيمين في ثقافات
بعينها، ففي داخل أي جماعة ثقافية ستكون هناك أفكار
وتَوجُّهات مختلفة تُعبِّر عن الأوضاع الفردية
للناس، وأساليب حياتهم، ووجهات نظرهم نتيجة عوامل
متعددة؛ مثل السن والطبقة والنوع.
(Eriksen, 1997).
وفي بعض الأحيان ستكون هناك جماعات وقوى قادرة على
ممارسة تأثير سائد على ثقافة معينة سواء من داخل
هذه الثقافة أو من خارجها، أضف إلى ذلك أن مفهوم
الثقافة كأسلوب حياة يجور على أنماط الثقافة
المختلفة؛ القومية والإقليمية والشعبية والمحلية
والنخبوية والتجارية بالإضافة إلى الثقافات الفرعية
على سبيل المثال. وهناك كذلك أبعاد مختلفة للثقافة
والثقافات، وبخاصَّة المؤسَّسي والسياسي والاجتماعي
والاقتصادي والتاريخي منها؛ والحقيقة أن الطبيعة
المُتقَلِّبة والمُعقَّدة للثقافة أدَّت ببعض
الكُتَّاب لعمل تصنيفات تحليلية أخرى عند التنظير
للمفهوم. في هذا السياق صاغ «بيير بورديو
Pierre Bourdieu» (1977, 1990a,
1993) مفهومه عن الاعتياد وهو
عالَم أو نظام يَتعلَّم فيه الأفراد والجماعات
مواقف وتوجُّهات ثقافية ويُطوِّرُونها بمرور الوقت،
ليس على نحو مُنتظِم وإنما يمارسونها في علاقاتها
بأطر ومجالات مُحدَّدة، إلا أن نظام «المواقف
المكتسبة» هذا (1990b:
13) كما يصفه بورديو لا يعطى
اهتمامًا كافيًا لاختراق الثقافة بواسطة تَدفُّقات
وعمليات العولمة، والحقيقة أن كثيرين سوف يعتبرون
مفهوم هذا النظام نفسه إشكاليًّا في ظل ظروف
الانتشار والحركة المعاصرة.
إن غياب إجماع مفهومي على «الثقافة» في الوسط
الأكاديمي أمر شديد الوضوح، ليس فقط لأن مجالات؛
مثل الأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع، والدراسات
الثقافية لها أساليبها الخاصة في استشراف الموضوع،
وإنما بداخلها كذلك هناك اختلافات في الرأي حول
الثقافة، فبينما تَتردَّد في مجال علم الاجتماع
فكرة مفادها أننا نحصل على الثقافة من خلال عدد من
مؤسَّسات التطبيع الاجتماعي والممارسات، توجد بين
الماركسيين والوظائفيين وجهات نظر مختلفة عن
الأهداف السياسية التي يخدمها ذلك، ويضيق المجال
هنا عن تفصيلها، وفي حالة الأنثروبولوجيا نجد «آدم
كوبر Adam Kuper» (١٩٩٩) يستخدم مصطلح «الحروب
الثقافية» ليحدد مدى وطبيعة الجدال المحيط بالثقافة
في داخل مجاله الدراسي. يضاف إلى ذلك أن الأساليب
الباكرة لاستشراف الثقافة في مجال الأنثروبولوجيا
يُوجَّه لها انتقادات كثيرة بسبب تصويرها «الآخر»
على نحو غرائبي وإسهامها في تسيد الثقافات غير
الغربية، وهناك — حتى — بعض علماء الأنثروبولوجيا
الذين يستغنون عن مفهوم الثقافة مُعتبِرين أنه
مُشوِّه لمهنتهم (Shweder, 2002:
162) إزاء هذه الانتقادات نجد
علماء الأنثروبولوجيا حسَّاسِين بالنسبة لمسألة
التعددية الثقافية، وهي نظرة تعود إلى عالم
الأنثروبولوجيا الشهير «فرانز بواس
Franz Boas»
(١٨٥٨–١٩٤٢) الذي يؤكد ضرورة احترام الفروق
الثقافية والاعتراف بأن كل ثقافة مرتبطة بأسلوب
حياة محدَّد ومُتوافِق تاريخيًّا؛ ولكن كما هو
الحال بالنسبة لمفهوم «بورديو» عن الاعتياد، يصبح
من المنطقي أن نتساءل ما إذا كان ذلك التمايز
الثقافي الذي يعنيه، قابلًا كذلك للتطبيق في ظروف
العولمة. وكما سنرى على امتداد الكتاب، فإن
الثقافات ليست مُحصَّنة ضد عمليات العولمة، بل إنها
بالأحرى تُؤثِّر في هذه القوى الخارجية وتتأثر بها.
باختصار، لكي نُقِرَّ ما هو واضح، فإن عدم وجود
إجماع على تعريف للثقافة بالفعل وكيفية دراساتها،
يجعل تحديد علاقاتها بالعولمة أمرًا شديد
الصعوبة.
وفي النهاية نجد أن هناك قصورًا في بعض المجالات
المعرفية الأكاديمية عند تناوُلها للثقافة؛ ففي
حالة علم الاجتماع مثلًا، فإن تأكيد الوظائفية على
النظر إلى الثقافة باعتبارها القيم والمعايير
المُثقِّفة لمجتمع ما في عصر العولمة، ربما يكون
مُعلقًا على مفهوم للدولة-الأمة عفا عليه الزمن.
والحقيقة أن «أولريخ بيك
Ulrich-Beck» (٢٠٠٠) يرى أن علم الاجتماع،
بشكل عام، لم يُعطِ اهتمامًا كافيًّا لما هو كوني؛
والوظائفية بالطبع ليست سوى فرع واحد من الفكر داخل
علم الاجتماع، كما أن «بريان إس تيرنر
Bryan S. Turner» (٢٠٠٦) يفند فكرة أن علم الاجتماع
مُتوقِّف عند الدولة-الأمة والمجتمع القومي،
محاججًا بأن أجيالًا من علماء الاجتماع منذ «إميل
دوركايم
Emile
Durkheim»، و«تالكوت بارسونز
Talcott Parsons»
قد ضمنت أساليب تناولها ومقارباتها عمليات عالمية.
أما بالنسبة للأنثروبولوجيا فإنها كانت في العادة
تتقصَّى «المحلِّي» في كل تجلياته، ومن ثم ربما
تتجاهَل المؤثرات الكونية والعابرة للحدود القومية
في الثقافة وإمكانية القيم والمُمارَسات العالمية
(
Wilson, 1997).
وذلك على الرغم من أن هناك علماء أنثروبولوجيا
معاصرين الآن مثل «أولف هانرز
Ulf
Hanners» (
1992a, 1996, 2003)
مشغولون بالخارجي، وفي حالته هذه أدى به ذلك أن
يُصوِّر بدقة التنوع الثقافي والتَّعقُّد وامتزاج
اللغات والابتكارات باعتبارها تَوجُّهات مستمرة.
على نحو أوسع، إذا كانت عمليات التعولم تُولِّد
قدرًا أكبر من المغايرة أو اللاتجانس داخل الثقافات
كما يَدِّعي مُنظِّرو الهجنة، فإن ذلك يضع كل
المجالات المعرفية أمام تحديات تحليلية واضحة. على
سبيل المثال هناك دائمًا اعتقاد بأن الثقافة تحتاج
إلى «آخر» ما، لكي تعرف نفسها، ولكن ذلك يصبح أكثر
إشكالية في ظروف الهجنة.
١ مثل هذه الظروف يمكن أن تزعزع المفاهيم
التي نستخدمها، وهذا واضح في الأسلوب الذي يتم به
التهوين من شأن فكرة «الغرب»، وضمنا العالم «غير
الغربي»، أمام الأنماط المعاصرة من الهجرة العالمية
وتبادُل الشعوب بما يؤكد أن المنطقتين تصبحان أقل
تمايزًا من الناحية الثقافية.
(٢) الثقافة باعتبارها عملية
بعد تحديد بعض الصعاب التي تواجهنا عند تحليل
«الثقافة» سنوضح هنا أسلوب الاستشراف الذي سوف
نستخدمه لذلك، وكما هو الأمر بالنسبة للعولمة سيكون
التأكيد على طبيعة الثقافة أو شكلها متعدد الأوجه.
وبدلًا من الانشغال أكثر من اللازم بمحاولة تقديم
تعريف مُحدَّد للثقافة لن يحظى بقبول عام لأسباب
كثيرة سبق ذِكرُها، فسوف نتناولها هنا في علاقاتها
بعدد من الموضوعات، وهي تحديدًا الانتقال وشبكات
المعنى والتعددية؛ وبذلك سنفيد من عدد من المجالات
المعرفية وبخاصة الأنثروبولوجيا الثقافية،
والاجتماعية، والدراسات الثقافية، أما أسباب النظر
في الثقافة على هذا النحو فسوف نوضحها الآن.
بداية، لا بد من ملاحظة أن الثقافة كانت دائمًا
مفهومًا ديناميكيًّا ومتلونًا؛ أي إن معناها
يَتغيَّر مع الزمن كما أنها تتخذ عدة أشكال (انظر:
Williams, 1976).
وفي زماننا أصبح يُنظَر إليها — على نحو متزايد —
باعتبارها عملية مستمرة أكثر منها كيان جامد، وكفعل
أكثر منها اسم وبخاصة داخل الأنثروبولوجيا
والدراسات الثقافية (Eriksen, 1997;
Street, 1993; Wilson, 1997)،
ومثلما يجادل عالِم الأنثروبولوجيا «روى فاجنر
Roy Wagner» (١٩٨٦)
فإن الثقافات دائمة التغير ويُعاد تَخلُّقها كجزء
من عملية مستمرة؛ وعلى نحو خاص فإن الثقافات تغذيها
ضغوط ومؤثرات داخلية عدة، ممَّا يؤكد أنها ليست
جامدة أو ثابتة. كذلك فإنها تتشكل بفعل قوى خارجية؛
وبالتالي فهي ليست كيانات متجانسة أو مُتفرِّدة أو
مُحدَّدة، بل إنها بالأحرى تقوم بعملية مُراكَمة
وتأخذ عن تقاليد أخرى. أشكال الهجرة العالمية
مثلًا، وبالتحديد الهجرة إلى المملكة المتحدة منذ
خمسينيات القرن العشرين أدت إلى أن تصبح بريطانيا
مجتمعًا مُتعدِّد الثقافات، وأدَّى ذلك بدوره إلى
التأثير في ثقافتها القومية (كما سنرى في الفصل
الخامس)، وفي الوقت نفسه كانت هناك ضغوط داخلية
تعمل على هذه الثقافة، مثل الوضع المتغير للمرأة
وتحسين مستويات التعليم والإصلاحات التي تخفف من
المركزية. الثقافات إذن مُتحرِّكة على نحو مستمر،
وكما سوف يتضح على مسار الكتاب فإن عمليات العولمة
المعاصرة تزيد من هذا التوجه وبذلك يتسع الوعي
بقابلية الثقافة للتشكل والتغير.
«جيمس كليفورد James
Clifford» (١٩٩٢–١٩٩٧) هو الكاتب
الأكثر ارتباطًا بعقد الصلة بين الثقافة والحركة،
وهو مقتنع تمامًا بأنه لم يَعد بالإمكان فهمها في
علاقاتها بالموقع أو المكان، وإنما ينبغي النظر
إليها كشيء في حالة حركة وانتقال باستمرار.
المسافرون والسائحون والمهاجرون يتنقلون
فيزيقيًّا حول العالم حاملين معهم ثقافاتهم،
متداخلين مع ثقافات وشعوب أخرى، ينجبون ويتفاوضون
ويعرفون أنفسهم، كما يساعدون في تأكيد أن الثقافات
تتحول باستمرار إلى أشكال ثقافية جديدة، بالطبع ليس
بإمكان كل فرد أن يسافر، لكننا حتى إذا اخترنا
البقاء بالوطن فنحن نلتقي بمسافرين غُرباء قادمين
من بلاد بعيدة. كليفورد يرى أننا لا بد من أن ننظر
إلى الأماكن باعتبارها مواقع لقاء، مواقع إقامة
وسفر، بالإضافة إلى أن مفهوم الثقافة باعتبارها
سفرًا، ينطبق ليس فقط على الناس وإنما كذلك على
تَدفُّقات الصور والأفكار والأصوات والرموز وكل
الأشياء التي تجوب الكرة الأرضية، عابرة الحدود
القومية جيئة وذهابًا في إطار هذه العملية. من هنا
يصبح السفر بالنسبة للفرد اشتباكًا لافتًا وجديدًا
مع المألوف وغير المألوف، وفي الواقع فإنه يُؤدِّي
إلى ضبابية صورة الوطن والخارج
(Rojek and Urry,
1997). الثقافات إذن ليست ساكنة أو
ثابتة، إنها تتحرك وتتكيَّف وتَتغيَّر، ولهذا السبب
فإن فكرة «الثقافات في حالة حركة» قد تَطوَّرتْ
لتصبح طريقة مُفيدة للتفكير في هذا الشأن (انظر:
Lury,
1997).
كل ما سبق ذِكْرُه ينطوي على مُتضمنات تتعلق
بالهُوِيَّة وتَكوُّنها، فما دامت الثقافات في حالة
تَغيُّر وحركة مستمرة، من الطبيعي ألا تكون هناك
هُوِيَّات ثابتة أو مستقرة، على أنه ينبغي ألا
نُبالِغ في أهمية مدى التَّغيُّر وسرعته في لحظة
ما؛ لأن الثقافات إذا كانت غير ثابتة وفي حال
تَغيُّر دائم، فسوف يكون من الصعب على الناس أن
تتماهى معها أو تسكنها. من هنا لا بد من أن تكون
هناك لحظات استقرار، فترات من الزمن تتماهى فيها
شبكات أو مجموعات من البشر مع أشياء من قبيل
الأفكار والقيم والرموز، وترتبط بمظاهر ثقافية؛ مثل
الآثار الفنية والنصوص، وتكون قادرة على إضفاء
الطابع المحلي عليها. بمعنى آخر، فإنه حتى في عالَم
دائم الحركة، ما زال يعاد إنتاج الثقافات داخل عدد
وافر من النظريات الاجتماعية بأُطر تفسيرية، ونظم
قيمة، ومصادر للهوية. اعترافنا بوجود «شبكات
المعاني» هذه بعبارة «كليفورد جيرتس
Clifford Geerts»
(١٩٧٣) هو في الوقت نفسه اعتراف بحقيقة أن أغلبية
الناس يقيمون في أماكن مولدهم وبالتالي فهم
مُعرَّضون لعملياتها التطبيعية، وسوف يواصل، حتى،
الكثيرون منهم العمل أو أحدهما في تلك الأماكن
المحلية نفسها لفترات طويلة من حياتهم ويُطوِّرون
ارتباطهم بها وبثقافاتها
٢ فَهْم الثقافة على هذا النحو يجعلنا
أكثر قدرة على التعبير عن التنوع والتعددية داخل
الثقافات، حيث إن الشبكات والمجموعات العديدة التي
تُكوِّنها ستكون في الغالب تجربة خاصة أكثر منها
تجربة عامة، تعكس تمايزات إقليمية ومحلية. هناك على
سبيل المثال عدد كبير من المجموعات التي تَكوَّنت
وتثري الثقافة البريطانية، تدرجًا من مجموعات
مرتبطة بالملكية والمؤسَّسة، إلى مجتمعات
المهاجرين، كل منها حسب فهمه للثقافة البريطانية
والقدرة على تشكيلها بطرق مختلفة إلى حدٍّ بعيد.
الثقافات بالتالي مُتعدِّدة المراكز، مُتراكِمة
الطبقات، وهي تتغير مع الزمن كما هو واضح في حالة
الإسلام الذي يضم بداخله عددًا من التقاليد الدينية
المختلفة التي برزت على مر القرون. مثل هذا
التبايُن الداخلي يتزايد بالنسبة لكل الثقافات،
بتشابكها وتَعالُقها مع الثقافات الأخرى، وعلى
الرغم من ذلك لا بد من أن تكون هناك عمليات تَكوُّن
ثقافي واستيعاب داخلي وإلا كنا نعيش كلنا حياة لا
ثقافية، ويصبح من الصعب أن نُفسِّر وجود صراعات
ثقافية. كما أنها ليست حالة أن البنية الثقافية
تعود إلى مرحلة أسبق مع استمرار ظهور ثقافات جديدة
(مثل: الراب والهب هوب كأمثلة من الموسيقى
الشعبية)، وهو ما يحدث جزئيًّا بسبب الحراك.
هكذا فإن النظر للثقافات كما تُعبِّر عنها شبكات
المعاني المختلفة، وليس باعتبارها كيانات متمايزة
مُغلَقة أو مُتماسِكة، هو اعتراف ضمني بالعلاقات
المختلفة للناس بثقافات مُعيَّنة، ببساطة شديدة،
سيكون هناك داخل أي ثقافة اختلافات وتنوعات في درجة
الالتزام بها، إلى جانب تَصوُّرات مختلفة عنها
وعمَّا تعنيه. يضاف إلى ذلك أن المجموعات والشبكات
ديناميكية ودائمة الحركة — تتشكل وتتطور وتتشظَّى
من وقت لآخر ولكنها كذلك تعيد تشكلها — وهو ما
يعطينا بدوره رؤية أبعد ويَصِف لنا الطبيعة غير
المحدَّدة والمتغيرة للثقافات. كما أن هذا الأسلوب
في التناول أو الاستشراف يُنكِر احتمال تَكَوُّن أو
اختراع العوامل المُكوِّنة للثقافة؛ مثل العادات
والتقاليد والممارَسات، ولذلك فإن علاقات القوى
المكونة عادة ما تكون متورطة في تشكيل الثقافات.
بالإضافة إلى أن استخدام فكرة الشبكات بالنسبة
للثقافة يفسر لنا الطريقة التي تمتد بها عبر
المسافات، وبذلك فإنها تتراكم وتندمج بشبكات ثقافية
أخرى، بما يؤكد أن الثقافات تختلط دائمًا وتمتزج
باختراقات مختلفة وأشكال ثقافية أخرى تظهر كجزء من
عملية مستمرة، وهذا يساعد في إبراز المشتركات بين
الثقافات المختلفة، بل في تفسير التعقدات
والتباينات الموجودة بداخلها. الحقيقة أن الاعتراف
بمثل هذا التمازج يلتقي إلى حدٍّ ما مع طرح «ليلى
أبو لغد» (١٩٩١م) بأن مفهوم الثقافة ينكر وجود
«الوسطي» أو «الهجين». الثقافات إذن متقاطعة
«ثقافيًّا» بما يعني ضمنًا أنها تنطوي على حركة
وتَغيُّر أكثر من الركود والثبات، وهو ما يصفه
«ولفجانج ويلش
Wolfgang
Welsh» (١٩٩٩) بالمثاقفة العابرة
للحدود، بمعنى أن الثقافة يتزايد وجودها عبر غيرها
من الثقافات، بيد أن التمايز الثقافي يظل موجودًا،
جزئيًّا بسبب التواريخ الخاصة للثقافات المختلفة،
وكذلك بسبب النتائج المتعددة التي ستنجم عن
الاختراقات المتبادلة بين الثقافات نتيجة دخول
الأفراد والجماعات هذه المواجهات بمواقف وميول
ووجهات نظر ثقافية مختلفة. وأخيرًا فإن فهمنا
للثقافة باعتبارها ممتدة عبر المسافات وفى ثقافات
أخرى، ينبغي أن يُشجِّعنَا على ملاحظة كيف أن
الثقافات تتغير عندما تنتقل، وبالتحديد كيف يتم
تبنيها وتكييفها وربما مقاومتها في أماكن مختلفة
٣ وهكذا بِتَبنِّينَا هذا الأسلوب في
الاستشراف، نعطي اهتمامًا أكبر لوجود تنويعات كثيرة
داخل الثقافات.
عند التفكير بأمر الثقافة، نحن كذلك في حاجة إلى
أن نضع في اعتبارنا أن الناس بالفعل يُقيمون في
ثقافات مُتعدِّدة سوف تُؤدِّي بدورها إلى تشكيل
شعورهم بالهوية، من هنا يكون من المرجح أن تُشكِّل
سلوكنَا في أي لحظة مؤثرات ثقافية مختلفة حتى إن
كُنَّا غير مدركين لذلك. هذه النقطة الأخيرة تلمح
إلى جانب آخر من الثقافة، هو بالتحديد أن هناك صفة
دقيقة لها، وأنَّنا غالبًا نصبح واعين بثقافتنا
عندما نواجه «آخرية» أو اختلافًا. كذلك فإننا لا
نكون سلبيين أو غير مُلمِّين عندما يتعلق الأمر
بالثقافة، التي هي ببساطة منتَجات عمليات تَطبيعنَا
الاجتماعي وما يحيط بنا، فنحن بالأحرى نَظلُّ
محتفظين بقدرتنا على انتقاد ثقافتنا الخاصة، وإبعاد
أنفسنا عن ثقافات أخرى، ونصبح أكثر التزامًا
بثقافات عن غيرها، ونمارس ونجرب ثقافات جديدة أو
جوانب منها على الأقل. وهكذا فإننا بوصفنا بشرًا
سوف نحمل ثقافاتنا معنا ولكننا أيضًا سنمر عبر
تدفقات وثقافات مختلفة في مسيرة حياتنا اليومية
ونستوعب مؤثرات جديدة، على الرغم من أننا قد لا
نكون مدركين لذلك دائمًا. نحن إذن لسنا مجرد حملة
ثقافة، نحن جامِعو ثقافة أيضًا، وفي هذا السياق
يقول «تيم إنجولد Tim
Ingold» إننا «ربما نكون أكثر
واقعية إذا قلنا إن الناس يعيشون ثقافيًّا أكثر مما
هم يعيشون في ثقافات.» (١٩٩٤م، ٣٣٠) رغم أننا ينبغي
ألا ننسى، مرة أخرى، أننا نتناول الثقافة في إطار
صعود أشكال الأصولية الثقافية.
بإيجاز، من الملائم أن نفكر بالثقافات باعتبارها
تنطوي على تنوُّع داخلي وأنها مُتعدِّدة، وعُرضة
لتطور مستمر، بينما نعترف بأنها قادرة على إعطاء
معنًى للأعضاء بتضامنهم حول موضوعات وأفكار
وهُويَّات مُشترَكة، إلى جانب قِيم وممارَسات
مشترَكة أيضًا. وبعد إيجاد طرائق التفكير بشأن
الثقافة، سوف نعود في بقية هذا الفصل للنظر في
كيفية إفادة واستفادة الثقافات من العمليات
المتعددة للعولمة المعاصرة.
(٣) تفسير التدفقات الثقافية
هناك شبه إجماع بين كُتَّاب العولمة الثقافية على
أن العمليات والتكنولوجيات المعاصرة يَنتُج عنها
حِرَاك ومرونة في الثقافة، وهو ما يعني أنه من
المرجَّح أننا نجمع مؤثِّرات ثقافية أكثر مما كان
عليه الأمر في الماضي، حيث إن الميديا والمعلومات
وتدفُّقات البشر على نحو خاص، كلها تؤكد أن ليس
علينا بالضرورة أن ننتقل أو نتحرك بعيدًا لكي نمر
بكثير من التجارب والخبرات الثقافية. النتيجة
بالنسبة لنا بوصفنا أفرادًا أننا نصبح متورطين في
علاقة انعكاسية أكثر تلقائية وخصوصية مع هذه
الثقافات (انظر الفصل السابع)، وبعبارة أكثر بساطة:
نحن ندخل في علاقة أكثر تفاوضية وانتقادية مع
الثقافة. مثل هذه الانعكاسية أو التلقائية تُعبِّر
عن تَوجُّه حديث، كما أنها أحد الأسباب التي تجعل
«أنتوني جيدنز» يعتبر العولمة ظاهرة حديثة، على أن
اهتمامنا الآن سينصرف إلى «أرجون أبادوراي
Arjun Appadurai»
وهو كاتِب يضع تأكيدًا كبيرًا على حركة الثقافة
عندما يعقد صلة بين العولمة والحداثة.
(٣-١) أرجون أبادوراي: التدفقات و«المشاهد»
والاقتصاد الثقافي الكوني الجديد
في أعمال مثل: «الحداثة طليقة: الأبعاد
الثقافية للعولمة» (١٩٩٦م)
٤⋆
يستخدم أرجون أبادوراي استعارات الحركة لوصف
الطبيعة غير المتجانسة للثقافة وكيف تتنقل في
العالم في المرحلة المعاصرة، ويعرف على نحو
أكثر تحديدًا خمسة أبعاد للتدفقات الثقافية في
هيئة مَشاهد هي:
-
المشاهد العرقية.
-
المشاهد التقنية.
-
المشاهد المالية.
-
المشاهد الفكرية.
-
المشاهد الإعلامية.
وهذه المشاهد كلها تقدم فضاءات أو فرصًا
لبناء عوالم جديدة مُتخيَّلة، وهي «بِنًى عميقة
المنظور مُقيَّدة إلى حد كبير بالأوضاع
التاريخية واللغوية والسياسية لمختلف اللاعبين»
بدءًا من الدول الأممية إلى دول الجوار
(Appadurai, 1990:
296). المَشاهد العرقية تخص
ديموغرافيًّا العالَم وتتكوَّن من كل حركة
الناس (السفر – الهجرة – السياحة – التنقل –
النفي) والمجتمعات المستقرة وخاصة السابقة،
بفرض أن الناس أصبحوا أكثر حركة عن ذي قبل.
عطفًا على ذلك فإنه نتيجة للإعلام الإلكتروني
والسفر الحديث لم تَعُد مجتمعاتنا المتخيَّلة
مقصورة على الدولة الأمة، وإنما أصبحت — على
نحو متزايد — تتقاطع مع حدود قومية؛ والمَشاهد
التقنية تصف توزيع التكنولوجيات العالمية،
ومعظمها غير منتظم، التي تسهل انتشار التدفقات
العالمية وتؤمن الاتصال اللحظي، وبالتالي
تُولِّد علاقات بين المال والسياسة والعمل
يتزايد تعقدها (١٩٩٠م، ٨–٢٩٧)، وكما هو
مُتوقَّع فإن المشاهد المالية هي: التدفق
السريع على نحو غير مسبوق، لرأس المال والعملة
والاستثمار، الذي يرى «أبادوراي» أنه أصبح
منفصلًا عن أرضه أو مُنتزَعًا منها؛ والعلاقة
عنده بين المَشاهد الثلاثة لا يمكن التنبؤ بها،
كما أنها مُتَمَفْصِلة، كل منها خاضع لقيوده
ودوافعه ولكن الأهم أن كُلًّا منها يعمل
باعتباره قيدًا ومقياسًا لحركة المشهد الآخر في
ذات الوقت (١٩٩٠م، ٢٩٨) أما المشاهد الفكرية
فتشير إلى تدفق الأفكار، والأيديولوجيات،
والأيديولوجيات المضادة والصور الذهنية؛ مثل
الحرية والديمقراطية، التي عادة ما يتم تعديلها
حسب السياق؛ وتُشِير المَشاهد الإعلامية إلى
بِنَى الإعلام الجماهيري المكوَّنَة من العتاد
الميكانيكي والإلكتروني. كِلَا المشهدَين فكري،
وفي حالة المَشاهد الإعلامية فإن المُشاهدِين
يستخدمون هذه الهياكل أو الصور الذهنية
الإعلامية لبناء سرديات ثقافية عن
«الآخر».
بالنسبة لأبادوراي فإن كل هذه التدفقات
الثقافية المترابطة تشكل الإطار الرئيسي لذلك
النظام المعقد المتراكم المتمفصل في الوقت
نفسه، أو ما يُعرَف بالاقتصاد الثقافي العالمي
الجديد، ما يعنيه بذلك هو أن هذه التدفقات من
البشر والأشياء والصور والخطابات تَتْبَع
باستمرار مسارات غير متماثلة في الشكل «ذات
سرعات ومَحاور ونقاط بداية ونهاية وعلاقات
متنوعة بالبنَى المؤسَّسية في المناطق والدول
والمجتمعات المختلفة»
(ibid). فعلى
سبيل المثال عندما تكون هناك منطقة مشبعة
بتدفقات إعلامية، تُقدِّم صور وأساليب حياة
بديلة، فإن ذلك يمكن أن يثير الخيال ويخلق
توتُّرات وضغوطًا داخلية من أجل التغيير.
باختصار، من خلال تلك «الفواصل» بينها، تُثري
هذه المشاهد الثقافية وتؤثر فيها وتهيئ الظروف
لحدوث التدفقات الثقافية.
(٣-٢) هل بالإمكان رسم خريطة للتدفقات
الثقافية؟
إذا قبلنا مُؤقَّتًا — دون تمحيص — فكرة أن
التدفقات وسيلة مفيدة للتفكير بالثقافة في
علاقاتها بالعولمة، نكون ما زلنا أمام المهمة
الصعبة، وهي رسم خريطة لهذه التدفقات، سواء
أكان ذلك في صورة بَشر أو سلع أو صور ذهنية أو
أفكار، بالإضافة إلى ذلك السيل من الصلات
والعلاقات، وبالتالي ردود الفعل إزاء ذلك كله
٥ هل يمكن حقيقةً قياسُ كمية الحركة
الثقافية وتقييمها بطريقة ذات معنًى؟ وكيف يمكن
لنا أن نحدد ذلك العدد الكبير من التدخلات
الثقافية بأنماطها المختلفة، في دولة أو منطقة
بعينها؟ عدد الإعلانات المعلقة والتليفزيونية
التي تبيع سلعًا من دول أخرى، كمية الموسيقى
المتدفقة من الإذاعات، مدى انتشار اللغات
الأجنبية في بلد ما، تلك كلها أمثلة لثقافات
تخترقها أو تتخللها مؤثرات ثقافية أخرى، الأمر،
باختصار، يتطلب تحديد مجموعة كبيرة من الأشياء
والعلامات والأصوات والصور، إلى جانب شعوب
تتحرك عبر مساحات ومناطق وفضاءات عبر القارات.
على الرغم من هذه التحديات، يعتقد «ديفيد هيلد»
وآخرون (
David Held et al.,
1999) أنه بظهور وسائل الاتصال
التي يستتبعها علامات منفصلة تنتشر في التو
واللحظة في أرجاء الكرة الأرضية، وتستغل
الطبيعة الفنية الواقعية للنقل الثقافي، يصبح
بالإمكان استشفاف وتتبع التدفقات الثقافية،
وعلى حد تعبيرهم: «نستطيع أن نرسم خريطة لعولمة
الثقافة، بمعنى تعيين الاتساع الجغرافي لهذه
التحركات ومدى قوتها وحجمها بالنسبة للقومي أو
المحلي، كذلك فإن العولمة الثقافية يمكن
تحديدها عن طريق سرعة انتقال الصور والأفكار من
مكان لآخر» (
Held et al., 1999:
329).
بينما رسم خريطة ثقافية أمر ممكن، إلا أن
التركيز على التدفقات الثقافية لا يدلنا على
كيفية فهمها وممارستها بواسطة المتلقين لها،
ولا على دوافع منتجيها. علينا أن نحاول معرفة
مثلًا، لماذا تَلقى بعض التدفقات الثقافية دون
غيرها أشكالًا من المقاومة. باختصار، لن يكشف
قياس أو رصد حجم مثل هذه التحركات وسرعتها
وموقعها سوى القليل عن طبيعة التفاعل الثقافي
٦ هناك كذلك الصعوبة المقيمة وهي
محاولة تحديد ما يحدث عندما تؤدي التدفقات
الثقافية إلى أن تواجه الثقافات المختلفة
بعضها؛ ومن وجهة نظر مُراقب خارجي، سيكون من
الصعب عادة أن نُفسِّر بدقة طبيعة عملية
التفاعل، أو أن نحدد المعنى الذي تربطه الأطراف
المعنية بهذا التبادل الثقافي، عطفًا على ذلك،
فإن المجموعات والأفراد المختلفين سوف يفهمون
ويُمارسون ثقافات أخرى بطُرق مُتعدِّدة أكثر من
ذلك، حيث إن التدفقات الثقافية يمكن أن تكون
ذات طبيعة سطحية وانتقالية إلى جانب كونها غير
منتظمة، إن تأثيرها في المُتلقِّين أحيانًا لن
يكون ذا قيمة. سيكون المطلوب منا بالتالي
الاتصال المُنتظِم أو التَّعرُّض المستمر لمثل
هذه التَّدفُّقات الثقافية لكي تكون ذات تأثير
دائم فينا. باختصار: طبيعة ومدى التدفقات
الثقافية، إلى جانب قُوَّتها واتساعها وسرعة
حركتها، كلها عوامل مُهمَّة تُقرِّر قوة
تأثيرها.
علينا بالمثل أن نضع في اعتبارنا ما إذا كانت
هناك قُوى أو مُؤثِّرات بعينها لها الغلبة في
تحديد التدفقات والعمليات الثقافية الكونية. هل
تنبع التدفقات الثقافية أساسًا من مصدر أو
مصادر بعينها، وهل تنتقل أساسًا في اتجاهات
بعينها؟ (انظر الفصل الرابع). من المهم جدًّا
أن نعرف أن التدفقات الثقافية لا تنتقل في
«فراغ قوة»، وإنما هي تعمل، بالأحرى، في عالَم
تُوجَد به تفاوتات بنيوية، وأننا في حاجة إلى
تَفحُّص كيف يُؤثِّر ذلك في طبيعتها وشكلها.
لقد أكدت «دورين ماسي
Doreen
Massey (١٩٩٤، ٢٠٠٥) على نحو
خاص، الحاجة للتعرف إلى «هندسة القوة
Power
Geometry» القائمة في العلاقات
الاجتماعية الموجودة في غير أماكنها الطبيعية،
نتيجة للفوارق في القوة، فإن الجماعات
الاجتماعية والأفراد يعملون أو يوضعون، بطرق
محددة، في علاقتهم بالتدفقات أو الصلات
الكونية. البعض يبدأ و/أو يكون جزءًا من هذه
التدفقات، بينما يكون هناك آخرون مستقبلون لها
في الطرف الآخر. عند «دورين ماسي» ينطبق ذلك
حتى على الأماكن. تِشاد مثال على الأخير، ولندن
تقدم دليلًا على السابق
٧ ذلك كله يجعل «أيهوا أونج
Aihwa Ong»
(١٩٩٩) يُجادِل أننا لكي نفهم العولمة الثقافية
وننتقل إلى ما هو أبعد من الخُلاصات العامة، لا
بد من أن تضم تحليلاتنا الاقتصاد السياسي إلى
جانب «الإثنوجرافيا القائمة» بحسب تعبيرها.
إضافة إلى ذلك يؤكد الكُتَّاب الماركسيون أن ما
يدور في العالم على شكل أشياء وسلع وصور وبشر،
إنما هو نتيجة للرأسمالية، التي تظل في نظرهم
القوة الدافعة وراء التدفقات الثقافية.
كثير من الكُتَّاب يرون أن التدفقات الثقافية
تنتقل كذلك من المحلي إلى الكوني، ولهذا السبب
لا يمكن النظر إلى العولمة باعتبارها عملية ذات
اتجاه واحد أو حركة من الكوني إلى المحلي فحسب
(الفصل الرابع). وفي هذا السياق يكتب «أنتوني
جيدنز» عن «جدل المحلي – الكوني» قائلًا إن:
«عادات وأساليب الحياة المحلية أصبحت مقبولة
عالميا» (١٩٩٤م، ٥)، ويضيف: «قراري بأن أشترى
شيئًا من الثياب، له متضمنات تخص النُّظم
البيئية للأرض وليس تقسيم العمل الدولي فحسب»
(ibid). إلا أن
الأمر يظل أكثر تعقيدًا من ذلك، حيث يمكن أن
تُؤثِّر الطرز والأذواق العالمية في قراراتنا
بالنسبة للملبس وغير ذلك من المنتجات التي نقوم
بشرائها، يضاف إلى ذلك أن مثل تلك القرارات لا
يبقى محدودًا أو مُقيَّدًا بالمجال الثقافي.
المؤثرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية
والبيئية كذلك سوف تُثري سلوكنا وسيكون لها
أبعاد كونية ومحلية، ولنتناول، على سبيل
المثال، أحد هذه المؤثرات وليكن المُؤثِّرات
البيئية: عندما نقرر شراء مُنتَج محلي، فلأسباب
واضحة سيكون هذا القرار قائمًا على اعتبارات
محلية/عالمية وله كذلك عواقب محلية عالمية،
وسوف يبدو أن المحلي والعالمي يَعملان على نحو
متبادَل رغم أن ما يحدث تحت ظروف العولمة
المعاصرة من المرجح أن يكون أكثر تعقيدًا من
مُجرَّد كونه ازدواجية بين العالمي والمحلي،
كما سيتضح في الخاتمة.
التركيز على التدفقات الثقافية ومرونة
العولمة بشكل عام يمثل تحدِّيًا لعدد كبير من
المجالات المعرفية وبخاصة علم الاجتماع
والأنثروبولوجيا. في حالة علم الاجتماع حاول
«جون أوراي
John
Urry» (٢٠٠٠) أن يرد على هذه
التطورات بانتهاج «علم اجتماع الحركة» مُوقنًا
أن أساليب التناول الاجتماعي والمفاهيم القائمة
تُصارِع لكي تحتوي التغيرات التي تَحدُث في
عصرنا هذا الأكثر عولمة
٨ وفى حالة الأنثروبولوجيا قد كان
على علماء هذا المبحث، كما ألمحنا من قبل،
مراجعة فكرة أن الثقافات كيانات متجانسة
ومحدَّدة ومقيدة، حيث يصبح من الصعب الإبقاء
على ذلك عندما تكون هذه الثقافات — على نحو
متزايد — من قبل تدفقات وقوى خارجية (انظر:
Eriksen, 1995; Wilson,
1997).
وقد أبرز ذلك، على نحو خاص، عيوب أسلوب
التناول الميداني التقليدي داخل
الأنثروبولوجيا، رغم أننا قد رأينا في تأكيد
جيمس كليفورد أهمية السَّفَر والانتقال بالنسبة
للثقافة، وكيف كانت هناك استثناءات في هذا
الأسلوب داخل هذا المجال، ممَّا أدَّى بعلماء
الأنثروبولوجيا أن يولوا اهتمامًا أكبر للظواهر
الاجتماعية والثقافية وتأثيرها في المكان، مثل
هذا الأسلوب في التناول أو الاستشراف يُمكِّن
علماء الأنثروبولوجيا من تَعيين حدود العولمة
والجوانب المحلية التي لم تخترقها بعمق
التدفقات والعمليات المُعولَمة بعد، وبالتالي
فإنها تسهم في تأكيد ما هو عابر للحدود
القومية. وأخيرًا، واستكمالًا لأحد موضوعات هذا
العمل، لا بد من ملاحَظة أن استشراف أو
مُحاوَلة تناوُل هذا الموضوع، هو إلى حد كبير،
نتيجة قيود وتقاليد نظامية مع دراسات ثقافية
تُؤكِّد حركية ومرونة من جانب العولمة ومجالات؛
مثل العلوم السياسية، والدراسات القانونية،
التي تركز على مؤسَّسات وأُطر وكيفية هيكلة قوة
الدولة للثقافة (Holton,
2005). وأخيرًا بينما
تُزوِّدُنا استعارات مثل التدفقات والمشاهد
بكلمات وصور لوصف الأسلوب الذي تتحرك به
الثقافة، فإنها ليست تصنيفات تحليلية، وهناك
دائمًا مخاطَرة بأن يجعل استخدامها تَقصِّينا
ومناقشتنا للعولمة الثقافية عامًّا
ومجرَّدًا.
(٤) الانخلاع الثقافي عن الإقليم
(٤-١) ما الانخلاع الثقافي؟
يُمثِّل الانخلاع الثقافي عن الإقليم بمعناه
الواسع تحولًا في العلاقة بين الثقافة ومكانها،
يتطلب أن نعيد النظر في تَصوُّرنا للثقافة.
التوجُّهات والنزعات العولمية المعاصرة تعتبر
ممزقة للصلة بين الثقافة وإقليمها كما تؤكد أن
خبراتنا الثقافية وهوياتنا وممارستنا تصبح
منفصلة عن الأماكن التي نسكنها، وهو ما يمكن أن
نراه في أسلوب تطور الثقافات والمجتمعات
الثقافية في المواقع والأماكن الجديدة
التعددية. والحقيقة أن الانخلاع الثقافي عن
الإقليم أو الأرض مُرتَبط على نحو خاصٍّ
بمجتمَعات الهجرة والشَّتات التي سوف يستخدم
الكثير منها إستراتيجيات عديدة ويُكيِّف ثقافته
مع الظروف الجديدة بما في ذلك استخدام بعض
التطورات التي تُسهِم في العولمة؛ مثل التقدم
في تكنولوجيا الاتصال والانتقال، في هذا السياق
فإن تكنولوجيا الاتصال الكوني تُمكِّن الجماعات
المتفرقة والمهاجرة من أن تظل على اتصال مُنتظم
مع بعضها، ومع أُسَرِهم وأوطانهم. في الوقت
نفسه فإن وسائل الإعلام الحديثة تُخبِرُهم بما
يحدث في أوطانهم وتنقل إليهم أخبار أقرانهم في
مناطق أخرى من العالم، بالإضافة إلى ذلك فإن
الطيران الحديث يعني أن مَن استقروا يمكنهم
القيام برحلات عائدين إلى بلادهم الأصلية خلال
ساعات في كثير من الأحيان، بعض المهاجرين
الكوريين إلى الولايات المتحدة — وهم كثر —
يمكنهم زيارة بلادهم بشكل منتظم وهم بالفعل
يعيشون حياة مزدوجة بكونهم يعيشون ثقافتين
(Douglass,
1994). وهكذا، بوجود مجتمعات
ثقافية تظهر في أماكن مختلفة من العالم،
وغالبًا في أماكن مختلفة داخل دولة واحدة، تصبح
الثقافة «متعددة المحلية» وبالتالي منخلعة من
إقليمها. هذا الانخلاع أو الابتعاد الثقافي عن
المكان الأصلى عند «نيكوس باباسترجيادس
Nikos
Papastergiadis» يُصوِّر
«الأساليب التي يَشعر بها الناس أنهم ينتمون
إلى مجتمعات مختلفة، رغم حقيقة كونهم لا
يشتركون في إقليم مع كل الأعضاء الآخرين»
(٢٠٠٠م، ١١٥) والمجتمعات الإلكترونية أو
الشبكات العالمية هي التَّجلِّي الواضح جدًّا
لهذا التطور؛ إذ إنها تعكس التشاركية الثقافية
رغم غياب أي قاعدة إقليمية؛ ومن ثَمَّ فإن
الابتعاد عن الإقليم أو الانخلاع منه لا يضعف
الروابط الثقافية بالضرورة لمن هم في حالة حركة
وتَنقُّل، وخاصة في ظروف العولمة. الحقيقة أن
ما يحدث هو العكس تمامًا؛ فطبيعة الشَّتات أو
الوجود المُهاجِر سوف تَعني غالبًا أن جماعة
اجتماعية ما سوف تحاول جاهدة أن تتمسك بثقافتها
الأصلية المستقرة في إقليمها، ومن هنا فإنها لن
تستوعب بسهولة أو دون تمييز ثقافة الدولة
المضيفة. وكما ذكر «أبادوراي» (١٩٩٦م) فإن قضية
إعادة الإنتاج الثقافي للهندوس الذين يعيشون في
الخارج أَصبحَت وثيقة الصلة بتطور الأصولية
الهندوسية داخل الهند. والواقع أن الارتباط
بالوطن الأم من جانب المبتعدين عنه يمكن أن
نجده حتى عندما لا تكون تلك الأوطان موجودة،
فالسِّيخ الذين يعيشون في كندا، والمملكة
المتحدة، والولايات المتحدة كانوا في صدارة
المشهد في حملة من أجل «خالستان» وطنًا
هندوسيًّا مستقلًّا في الهند. أضف إلى ذلك أن
هناك دائمًا تَوقُّعًا بأن مثل تلك العواطف
والأنشطة سوف تُولِّد داخل بعض المهاجرين رغبةً
في العودة إلى أوطانهم الإقليمية سواء أكانت
حقيقية أو مُتخيَّلة.
هناك شواهد أخرى على الانخلاع الثقافي
الإقليمي في هذه المرحلة المعاصرة من العولمة:
التدفقات التجارية المتزايدة مثلًا، وكذلك رأس
المال، والصور الإعلامية، والرموز الثقافية؛
يمكن أن تُساعد، ليس فقط على تفتيت المواقع
وإنما على تغييرها أيضًا. في الممارَسة العملية
هذا يعني غالبًا أن الأماكن التي نسكنها
مُعرَّضة دائمًا للقصف بالصور والأفكار
والأصوات القادمة من أرجاء العالم سواء عَبْر
شاشات التليفزيون أو الراديو أو من خلال
الإعلان عن المُنتجات من أماكن بعيدة. كذلك فإن
المحلات والمراكز التجارية التي نمشي فيها سوف
تحتوي على مواد غذائية وملابس وسلع استهلاكية
قادمة من أماكن لا حصر لها، ليس في الحسبان حتى
أن نقوم بزيارتها. الطُّرز المعمارية لكثير من
المنشآت التي ندخلها سوف تكون مُستلهَمة من
مؤثرات من أنحاء العالم بالإضافة إلى مواد
البناء؛ وهكذا فإن الأشكال الثقافية العالمية
والسلع تصبغ الفضاءات الثقافية أو المناطق التي
نعيش بها بصبغتها وتقوم أثناء ذلك بإعادة
تشكيلها. والحقيقة أن المكونات الثقافية والسلع
ليست هي وحدها القادرة على ممارسة هذا التأثير،
فأنماط الهجرة العالمية تعني وجود أناس جدد
بيننا لهم ثقافات وتقاليد مختلفة يريدون ممارسة
هذه الثقافات وتشكيل فضائها المعيشي في
مجتمعاتها الجديدة، يضاف إلى ذلك أنه مع تفاعُل
المهاجرين مع المحليين سيحدث اقتراض ثقافي
متبادَل وتطوُّر لمكوِّنات ثقافية جديدة. من
هنا فإن الانخلاع الثقافي عن الإقليم الأصلي لا
يؤثر فقط في أولئك الذين يقومون بالهجرة، وإنما
سيكون له تأثير في ثقافة أو ثقافات الدول
المضيفة. باختصار، إحدى النتائج المهمة لمثل
هذه الحركة، هي أن الثقافات والأشكال الثقافية
يمكن أن تعيش أو أن تُوجَد داخل ثقافات أخرى
وإن كانت دائمًا تتأصَّل في هذه العملية،
والواقع أن ثقافات اليوم يمكن أن تكون مليئة
بمثل هذه العناصر «الأجنبية» وبدرجة يكون من
الصعب معها — إن لم يكن من المستحيل — تمييز
الثقافة الأصلية وما إذا كان هناك شيء موجود،
أو كان موجودًا على الإطلاق. بداخل المجتمع
الألماني والثقافة الألمانية على سبيل المثال
يمكن أن نجد «بوكيمون»، و«إلقيس»، و«ريجا»،
وأفلام الكونغ فو، ورقص الهب هوب، والراب،
والصالصا، والمدارس البوذية وكلها مؤثرات
وأشكال ثقافية نابعة من دول وثقافات أخرى، مثل
هذا التعقد الثقافي يمكن بدوره أن يُمزِّق
شعورنا بالمكان، جاعلًا من الصعب علينا جميعًا
أن نحتفظ بمفهوم محدَّد عن وطننا
الثقافي.
هكذا، في ظل هذا الحراك الثقافي المتزايد،
تصبح الثقافة — على نحو متزايد كذلك — منتزعة
أو مبتعدة عن منطقتها الأصلية؛ وبالنسبة لبعض
الكُتَّاب فإن انخلاع الثقافة أو انغراسها هو
الشرط الثقافي للعولمة (e.g.,
Thompson, 1995; Tolinson,
1999a). وربما يستطيع أن
يُؤدِّي بالفعل إلى شكل أو أشكال ثقافية تتحرك
حرة إلى حد بعيد عن الارتباط بمكان محدَّد.
يبدو ذلك واضحًا في مثال موسيقى البانجرا
Bhangra Music
التي هي في الأصل شكل من الموسيقى الشعبية من
شمال الهند وانتشرت في المملكة المتحدة، والأهم
أنها أفادت من مؤثرات موسيقية كثيرة مثل
«الراب» وغيرها وأغلبها ليس بريطانيًّا في
الأصل، الأشكال الثقافية الجديدة التي تنشأ عن
هذه المواجهات الهجينة بدورها، في الغالب لا
تكون مرتبطة بأي منطقة مُحدَّدة، رغم أننا يجب
ألا نغفل حقيقة أن هذا التَّوجُّه قد يكون له
تاريخ أطول. الجاز نموذج لذلك على سبيل المثال،
حيث تَطوَّر في القرن العشرين.
(٤-٢) الانخلاع الثقافي عن الإقليم: وجهات نظر
نقدية
إسهام عمليات العولمة المعاصرة في الانخلاع
عن الإقليم ثقافيًّا، ينبغي ألا يأخذ أكثر
مِمَّا يستحق من الأهمية؛ حيث إن ذلك يعود إلى
جماعات الشَّتات الباكرة. الشعب اليهودي مثلًا
احتفظ بثقافته الدينية رغم فقدان اليهود لما
يعتبرونه الوطن الثقافي الأم وتَفرُّقهم بين
غير اليهود على مدى معظم تاريخهم. لا بد من أن
نضع في اعتبارنا كذلك أنه إلى جانب أوجه
العولمة التي تمكن الثقافات من النجاة من
الانخلاع الإقليمي، هناك قوة الثقافات نفسها،
التي تضمن تطورها. أثناء مرحلة الاضطرابات، في
أيرلندا الشمالية مثلًا، كان يمكن أن تجد بين
الأمريكيين الذين هم من أصول أيرلندية في
الولايات المتحدة بعض أشد المتحمسين المؤيدين
لأيرلندا متحدة، في مثل هذه الحالة، ليس مجرد
وجود الشَّتَات هو ما يؤكد مثل هذا الاهتمام
بالوطن الأم؛ لأن الميديا العابرة للحدود
القومية وتكنولوجيا الاتصالات تسهل الوعي بما
يدور، كما أن القوة والحيوية الفعلية للثقافة
تسهم كذلك في هذه العملية.
يضاف إلى ذلك أننا ينبغي كذلك ألا نبالغ في
مدى ابتعاد الثقافة عن إقليمها أو انخلاعها عنه
في المرحلة المعاصرة، فالناس ما زالوا
مُستعِدِّين للجوء إلى العنف من أجل حقهم
الكامل في وطنهم أو إقليمهم الثقافي وإقصاء —
وأحيانًا ذبح — الجماعات الاجتماعية التي
يعتبرونها غير منتمية، ولنا مثال على ذلك في
عمليات التطهير العرقي التي ارْتُكِبَت في
البلقان في تسعينيات القرن الماضي. الإقليم
والإحساس بالمكان بالتالي يَظلَّان مُهِمَّيْن
ولعلهما يُمثِّلان حاجة إنسانية عميقة تُوفِّر
لنا الحماية والأمان إلى جانب كونها مواقع
للتكوين الثقافي؛ وفي هذا السياق فإن زعم
«أرجون أبادوراي» بأن الفلسطينيين «أكثر
اهتمامًا بأن تحل إسرائيل عن ظهورهم منهم
بالسحر الجغرافي الخاص للضفة الغربية»، يظل
زعمًا صحيحًا (١٩٩٦م، ١٦٥).
كثير من الفلسطينيين يُعلِّقون أهمية ثقافية
ودينية كبيرة على أقاليم بعينها بالضفة الغربية
وينظرون إلى المنطقة كلها باعتبارها تُشكِّل
أساسًا لدولة فلسطينية. وبشكل أوسع فإن منطقتهم
الخاصة التي تحميها دولة-أمة خاصة بهم تظل
هدفًا لكثير من الحركات التَّحرُّرية أو
الانفصالية، وبالمثل ينظرون إلى ذلك باعتباره
أفضل وسيلة للحفاظ على ثقافتهم أو هويتهم. إلى
جانب ذلك فإن حكومات الدول القائمة تصبح أكثر
يقظة عندما يتعلق الأمر بالحفاظ على ثقافاتها
القومية وأساليب الحياة داخل حدودها الإقليمية،
وسوف تلجأ إلى أشكال الحمائية الثقافية عند
الضرورة لتحقيق هذا الهدف. من هنا ينبغي ألا
نتجاهل الإصرار على الإقليمية في عصر التعولم
هذا. هذا الموضوع تناوله «جان آرت شولت
Jan Aart
Scholte» (٢٠٠٥) الذي يؤكد
الأهمية المستمرة للإقليم في مجالات تتراوح بين
الحكم الرشيد والهوية مستخدمًا مصطلح «تجاوز
الإقليمية»، ليُعبِّر عن فكرة مفادها أن
الإقليم رغم أنه يَتَّسِع باستمرار، فإنه يظل
حاضرًا ومتجذِّرًا في كل التطورات التي تتجاوز
الإقليمية.
ما الذي نخرج به إذن من كل هذه الآراء
المتضاربة بخصوص الانخلاع الثقافي عن الإقليم؟
لعل «جون توملينسون»
(1999a).
مُحقٌّ في ملاحظته أن الانخلاع الثقافي عن
الإقليم، من المرجَّح أنه يحدث على نحو غير
منتظم. أحيانًا تظهر أشكال من التأقلم الثقافي
أو إعادة التأقلم حيث تتكيف جماعات ثقافية مع
الظروف الجديدة، كالهجرة مثلًا، ويجلبون معهم
من أوطانهم الأصلية ما يذكرهم بها، مثل الأطعمة
والملابس إلى غير ذلك من السلع الثقافية
وأساليب الحياة والقيم السابقة، وهذا واضح على
نحو جَلِي في المدن الصينية التي ظهرت في مدن
كثيرة من العالم منذ القرن التاسع عشر حيث يقوم
المهاجرون الصينيون بإنشاء مناطق لأنفسهم تشبه
مناطق مِن الصين نفسها معماريًّا وثقافيًّا؛
يضاف إلى ذلك أن إعادة التأقلم يمكن النظر
إليها باعتبارها ردًّا على عدم اليقين الناجم
عن خلع «العلاقات الاجتماعية من السياقات
المحلية للتفاعل وإعادة تشكيلها عبر فترات غير
محددة زمنيًّا أو مكانيًّا»، كما عرفها «أنتوني
جيدنز» (١٩٩٠م، ٢١) بعبارة أخرى، إعادة التأقلم
تُمثِّل بحثًا عن إحساس بالوطن أو المكان،
ويبدو، فوق ذلك، أن هناك عمليات مستمرة بالنسبة
للثقافة والإقليم، وهي الحالة التي يلتقطها كل
من «جوناثان خافيير إندا
Jonathan Xavier
Inda»، و«ريناتو روزالدو
Renato
Rosaldo» (٢٠٠٢) اللذين
يَعْتَبِران عَملِيَّتَي الانخلاع الثقافي عن
الإقليم وإعادة التأقلم تَحدُثان في الوقت نفسه
وبشكل مستمر ويَستخدِمان لذلك مصطلح
«الانخلاع/التأقلم» للتعبير عن هذه الحالة، على
أن هناك خطرًا بأن يكون التأكيد الحالي على
الحِراك والتدفق في دراسات العولمة يقلل من
أهمية الموقع أو الإقليم، كما رأينا إذن فإن
الثقافات لا تَتطلَّب بالضرورة وجودًا
إقليميًّا مستقرًّا (انظر
Clifford,
1992). وكثير من مجتمعات
الشَّتات يُؤكِّد ذلك، ولكن مثل هذه الثقافات
بلا تاريخ أو ذاكرة، وغالبًا ما يكون ذلك
مرتبطًا بأماكن بعينها.
(٥) القومية العابرة للحدود
(٥-١) ما المقصود بالقومية العابرة
للحدود؟
مواصلة لتَقصِّينا كيفية انتقال الثقافة في
عصر العولمة هذا، والأشكال التي يمكن أن
تتخذها، نتناول الآن القومية العابرة للحدود.
على الرغم من، وربما بسبب، فهم القومية العابرة
للحدود بطُرق مختلفة، اكتسب هذا الموضوع ذيوعًا
وانتشارًا أكاديميًّا وشعبيًّا في الفترة
الأخيرة (انظر: Kearney,
1995). هذا الذيوع ربما يكون
راجعًا في جزء منه إلى القصور الملحوظ في
الدولية، المستمرة في تصورها للعالم باعتباره
مجموعة من الدول-الأممية واتساع ظاهرة القوة
القومية، ومن ثَم لا تهتم اهتمامًا كافيًا
بأشكال الثقافة والقوى والتَّوجُّهات المختلفة
التي تمتد إلى ما هو أبعد من حدودها وتتحرك
بداخلها في الوقت نفسه. وكما تشير «سوزان
جيرهارت Suzanne
Gearhart» (٢٠٠٥) فإن القومية
العابرة للحدود تُعبِّر عن شيء ليس قوميًّا ولا
دوليًّا وإنما تفعل ما هو أكثر من ذلك: إنها
توحي بأن شيئًا أكبر من مجرد ثنائية «المحلي
والعالمي» هو الذي يعمل. القومية العابرة
للحدود اعتراف بأن كثيرًا من التدفُّقات
المعاصرة ليس في واقع الأمر عالميًّا وإنما هو
مستقر في أكثر من دولة-أمة؛ وعليه فإن تَفحُّص
هذه الظاهرة يَتطلَّب تحليلًا في إطار إقليمي
أوسع، ويساعد في تفسير لماذا كانت القومية
العابرة للحدود مجالًا له أهميته الخاصة
بالنسبة لعلماء الثقافة والأنثروبولوجيا؟
(انظر: Eriksen,
2003). في المقابل فإن كتابات
كثيرة في إطار دراسات العولمة تنتهج أسلوبًا
أوسع يُعبِّر عن الطبيعة المنفصلة إقليميًّا
للتدفقات والعمليات العالمية، وعلى الرغم من
ذلك فإن تَخطَّى الحدود القومية، من منظور
العالمي، لا يعني العولمة بالضرورة.
التطورات التي تُسهِّل العولمة، مثل
تكنولوجيا المعلومات والاتصال والانتقال، تسهم
كذلك في أشكال القومية العابرة للحدود، والواقع
أن القومية العابرة للحدود ينظر إليها بوصفها
جزءًا من عملية العولمة وكذلك باعتبارها محاولة
لدراساتها، وبهذا المعنى تُعتَبَر مُعبِّرة عن
صور التفاعل الإنساني، إلى جانب التكيف مع تلك
التطورات التي تحدث في سياقات معينة؛ إلا أنه
مما يزيد الأمور تعقيدًا أن أشكال القومية
العابرة للحدود يمكن أن تكون سابقة على المراحل
الحديثة والمعاصرة للعولمة، بمعنى أن مجتمعات
الشَّتات والثقافات الدينية والدوائر التجارية
الممتدة عَبْر الأقاليم، يمكن أن نجدها في
مرحلة ما قبل الدولة الأمة. هذه النقطة الأخيرة
تنقلنا إلى قلب بعض الانتقادات المُثارة ضد
القومية العابرة للحدود، وبالتحديد قضية فهمها،
وكيف أنها مختلفة عن غيرها من التحركات الأخرى
العابرة للحدود أيضًا. على سبيل المثال: ما
الذي يجعل جماعة اجتماعية مهاجرة مجتمعًا
عابرًا للحدود القومية؟ لقد لاحظ النقاد كذلك
أن الغالبية العظمى من سكَّان العالم ليسوا
مهاجِرين، ومن هنا فإنهم لا يعيشون حياة
«عالمية»، حتى أولئك الذين في حالة حركة ليسوا
بالضرورة منهمكين في أنشطة عالمية، ونتيجة لذلك
كله يقال إنه قد تم تضخيم أهمية القومية
العابرة للحدود؛ وردًّا على ذلك فإن بعض مَن
يكتبون في هذا الموضوع يُلاحِظون أن الإلحاح
المستمر من الرأسمالية العالمية على هجرة عمالة
رخيصة، من المُرجَّح أن يجعل القومية العابرة
للحدود أكثر انتشارًا في المستقبل
(Portes,
2001).
(٥-٢) المجتمعات العابرة للقومية
والثقافات
عودة إلى مسألة ما يُميِّز مجتمعًا عابرًا
للقومية، نجد أن من أهم ملامح القومية العابرة
للحدود أنها تقدم للجماعات الاجتماعية المهاجرة
بديلًا عن الاستيعاب، وهو أمر واضح في دراسة
«ريتشارد راوز
Richard
Rouse» (١٩٩١) للعمالة
المكسيكية المهاجرة في ردوودسيتي-كاليفورنيا،
الذين يحافظون على صِلاتٍ مُتعدِّدة مع مدينتهم
الأم «أجيليللا» في ريف المكسيك
٩ هذه الصلات والروابط قوية بدرجة
ساعدت على ظهور مجتمع مهاجر أو دائرة عابرة
للقومية ممتدة من وادي السيلكون إلى أجيليللا،
وبتعبير «راوز»: «يجد أهالي أجيليللا اليوم أن
أهم أصدقاء وأقرباء لهم يعيشون على بعد مئات
الألوف من الأميال، وكأنهم يعيشون بينهم»
(
ibid., 12).
التطورات التكنولوجية التي تسهم في التواصل
العالمي مثل التليفون والإنترنت والبريد
الإلكتروني والطائرات تُمكِّنهم من «الإبقاء
على هذه العلاقات الممتدة عَبْر المسافات، نشطة
وفعالة مثل الروابط التي تجمعهم بجيرانهم»
(
ibid). ويخلص
«راوز» من ذلك إلى أن أهالي أجيليللا يُمثِّلون
مجتمعًا واحدًا منتشرًا في أماكن مختلفة
(
ibid., 13).
ونجد قصة مشابهة في دراسة «بيجي ليفيت
Peggy Levitt»
(٢٠٠١) لعلاقات عائلية مدنية ودينية بين
«ميلافلورز» — مدينة في جمهورية الدومينيكان —
و«جامايكابلين» — منطقة مجاورة في بوسطن:
ماساشوستس — حيث يسهم المهاجرون في الحياة
السياسية والاجتماعية والاقتصادية للدولتين،
صانِعِين مجتمعات تَتخلَّل وتتجاوَز الحدود
طامسة مفاهيم الأصل. يلخص «ليفيت» هذه التجربة
العابرة للحدود ببراعة كما يلي: لأن المرء
يسافر دائمًا بين بوسطن والجزيرة هناك تَدفُّق
مستمر ودائري للسلع والأخبار والمعلومات، نتيجة
لذلك عندما يمرض شخص ما، أو عندما يحدث غِش منه
أو من زوجته، أو يحصل في آخر الأمر على تأشيرة
دخول فإن أخباره تنتشر بسرعة في «جامايكابلين»
كما هي في شوارع «ميرافلورز»
(
Levitt., 2001:
3). بمعنى آخر يشير «ليفيت»
إلى إنه ليس من الضروري أن تهاجر لكي تكون
شخصًا «عابرًا للحدود»، يستطيع أهالي
«ميرافلورز» أن يشاركوا في التجربة نفسها في
المكانين، ومع توافر اللغة الإسبانية فإن اﻟ
CNN تُمكِّن
المهاجرين وغير المهاجرين من مشاهدة البرامج
نفسها في الوقت نفسه بما في ذلك المسلسلات،
يضاف إلى ذلك أن مثل هذه الصِّلَات العابرة
للحدود، والعلاقات البينية مسئولة كذلك عن
إحداث تَغيُّر ثقافي واجتماعي، النساء في
«ميرافلورز» أَصبَحْن يُطالِبن بمساواة أكثر
بنساء الدومينيكان في مجتمعهن، وذلك راجع في
جزء منه إلى علاقاتهن بنسائهن وأصدقائهن الذين
هاجروا من الولايات المتحدة
(
ibid.,
14).
وبينما كان الكثير من الكتابات الأولى عن
القومية العابرة للحدود مُركِّزًا على
المهاجِرين الدوليين، فإن المصطلح امتد ليضم
طائفة أوسع من المجتمعات والهويات والثقافات
عَبْر الحدود، وهكذا فإن القومية العابرة
للحدود تُعتَبر في رأي المدافعين عنها موجودة
بصور مختلفة وعلى نحو واضح في مجتمعات العمل
التجاري والمجتمعات المدنية الإقليمية
والهُويَّات. كذلك ينظر إلى القومية العابرة
للحدود باعتبارها تعمل عندما تنتشر أشكال
ثقافية (الثقافة الشعبية – الموسيقى – الأزياء
– الطعام … إلخ) عبر مجموعة من الدول-الأممية،
فالثقافة الشعبية اليابانية، مثلًا، حقَّقَت
تأثيرًا كبيرًا في شرق وجنوب شرق آسيا، في هيئة
الألعاب الإلكترونية والرسوم المتحركة (انظر:
Iwabuch,
2002). الفكرة العامة لهذه
الأشكال الثقافية والمجتمعات العابرة للحدود هي
أنها تُغْفِل الحدود القومية والهويات القومية
وهو ما يعني بالنسبة لبعض الكُتَّاب أن في ذلك
تَهوينًا من شأن البِنى الاجتماعية؛ مثل
«الوطني» و«المحلي» وبالتحديد فكرة «بندكت
أندرسون Benedict
Anderson» (١٩٨٣) عن المجتمع
المتخيل للدولة-الأمة (انظر:
Hanners,
1996).
(٥-٣) العابر للحدود القومية والمَحَلِّي
المؤكد أن هناك علاقة معقدة وقلقة بين
القومية العابرة للحدود والدولة-الأمة
والثقافات القومية، وهو ما نراه في التحديات
التي تواجه بعض الحكومات من المجتمعات أو
الجماعات الاجتماعية العابرة للحدود، التي تعمل
داخل حدودها الإقليمية ويكون بها أعضاء
ولاءاتهم خارج تلك الحدود. في آسيا الوسطى
والقوقاز على سبيل المثال، نجد أن الولاءات
العرقية الثقافية العابرة للحدود، منذ سقوط
الاتحاد السوفيتي، عَقَّدت بناء الدولة وصياغة
هوية قومية في الدول-الأمة الناشئة (انظر:
Mehendale and Atabaki
(2005)). إلا أنه ينبغي ألا ننظر
إلى القومية العابرة للحدود باعتبارها
تَحدِّيًا للقومية والدولة-الأمة بالضرورة.
وبالعودة إلى مثال اليابان الذي ذكرناه قبل
قليل يرصد «كويشي إيوا بوشي
Koichi
Iwabuchi» (٢٠٠٢) دافعًا
قوميًّا قويًّا وراء التدفقات الثقافية العابرة
للحدود التي تنشر الثقافة الشعبية اليابانية في
مناطق أخرى من آسيا. بالمثل، وفي السياق نفسه،
هناك حكومات تُنمِّي العلاقات العابرة للحدود
وتسن قوانين للمواطنة والجنسية المزدوجة
للمهاجرين باعتبارها وسيلة لتوسيع نفوذ وتأثير
بلادهم الأصلية.
والحقيقة أن المجتمعات أو الجماعات
الاجتماعية القومية والعابرة للحدود يمكن أن
تكون مصادر للتضامن الاجتماعي والدعم المالي
للوطن الأصلي عن طريق التحويلات والاستثمارات …
إلخ؛ فالحكومة المكسيكية، على نحو خاص، حاولت
تطوير مثل تلك الصلات وتنمية «الروح المكسيكية»
في الخارج بشكل عام، وهو ما يفسر في جزء منه
لماذا كان رد فعلها قويًّا ضد اقتراح الولايات
المتحدة إقامة سور بطول ۳۲۰۰كم على الحدود
المشتركة لمنع الهجرة غير الشرعية من المكسيك
إليها؛ ويُقدَّر أنه كان هناك في عام ٢٠٠٦م
حوالي عشرة ملايين مكسيكي يعيشون في الولايات
المتحدة، بينهم أربعة ملايين مهاجر غير شرعي،
وكثيرون كانوا يرسلون تحويلات مالية لذويهم في
الوطن الأصلي وبذلك يفيدون الاقتصاد المكسيكي.
وفي مؤتمر عقد في كولومبيا في فبراير ٢٠٠٦م
وافقت المكسيك وعشر دول أخرى من أمريكا
اللاتينية على القيام بحملة ضد مشروع قانون
هجرة أمريكي كان يَتضمَّن بناء سور حدودي، كما
كثَّفَت الدول جهودها لتشجيع الهجرة
الهسبانية.
في النهاية، يتوقف على الأفراد المتورطين في
تلك الدوائر أو الجماعات الاجتماعية العابرة
للحدود القومية، ما إذا كانت القومية العابرة
للحدود تُضْعِف الدولة الأم والثقافة القوية أو
لا. المدى الذي يسهم به الأفراد في الدوائر
العابرة للحدود أو في استيعاب ثقافات الدول
المضيفة سوف يتأثَّر بدوره بعوامل السن،
والنوع، والطبقة، والمهنة وغيرها من
الاعتبارات، في هذا السياق يؤكد «إيهوا أونج
Aihwa Ong» في
كتابه: Flexible Citizenship:
The Cultural Logics of Transnationality,
1999 تَنوُّع الاستراتيجيات
التي يستخدمها المستثمرون الصينيون العابرون
للحدود القومية، والمديرون، والمهنيون في
أعمالهم بالنِّسبة لاستثماراتهم، وعائلاتهم،
وفي تعاملهم مع نُظُم الدولة-الأمة المختلفة في
منطقة الباسيفيك في آسيا. تعقيدات القومية
العابرة للحدود التي أَلْمحْنَا إليها هنا،
ومعنى أنها أكبر من مُجرَّد كونها قومية
مُمتدَّة أو متسعة، تم إلقاء الضوء عليها في
عدد من الأعمال الحديثة التي تناولتْ هذا
الموضوع، وخاصة فيما يتعلق بالجدل حول مفاهيم
«الأمة» و«الوطن» بالنسبة للشعوب العابرة
للحدود. «البحث عن الوطن في الخارج
Searching for Home Abroad,
(Lesser, 2003)» على سبيل
المثال، سلسلة من الدراسات عن
اليابانيين-البرازيليين تُلقي الضوء على صِعاب
تحديد ما يُمثِّل «الوطن» وبخاصة في المرحلة
المعاصرة وما إذا كان بالإمكان أن يكون للمرء
عدة أوطان، اليابانيون-البرازيليون نتاج هجرة
واسعة لليابانيين إلى البرازيل في النصف الأول
من القرن العشرين، ولكن هذا التَّوجُّه انعكس
اتجاهه حديثًا بعودة مئات الألوف منهم إلى
اليابان. إلى جانب إشكالية مفاهيم مثل «الوطن»،
و«الشتات»، و«الهوية»، ومع وجود دراسة واحدة
تطرح ما إذا كان هناك وجود لمن يُسَمَّون
بالبرازيليين اليابانيين
(Linger,
2003)، فإن أكثر الموضوعات
إثارة في هذا الكتاب هو ذلك الشعور العام بين
كثير من البرازيليين اليابانيين العائدين إلى
اليابان، بأنهم أكثر «برازيلية» منهم عندما
يكونون في البرازيل.
وأخيرًا، بربطهما بين الانخلاع الثقافي عن
الإقليم والقومية العابرة للحدود، يشير
«كينيدي، ورودوميتوف Kennedy
and Roudometof» (٢٠٠٢) أن
الانخلاع الثقافي عن الإقليم يُعيد تَشكيل
مفهومنا عن «الجماعة الاجتماعية». الجماعة
الاجتماعية لم تَعُد تستند إلى المحلية، وليس
معنى ذلك أن الأخيرة ليست مُهِمَّة بالنِّسبة
للأولى وبخاصة في شكلها الرمزي أو المُتخيَّل؛
ومن المثير للاهتمام أن كُلًّا من «كينيدي»،
و«رودوميتوف» يعتقدان أن العولمة قد أعطَت
المجتمع فرصة جديدة للعيش في هيئة جماعات
اجتماعية عابرة للحدود القومية، وأن هذه
الجماعات هي المُؤهَّلة لإفراز أهم شكل للمجتمع
في المستقبل (ibid.,
24)، على أنه سواء ثَبَت أو لم
يثبت أن الحال كذلك، ينبغي ألا نتجاهل حقيقة أن
العولمة، على الأقل في شكلها الليبرالي الجديد،
كانت كذلك ضارَّة بالمجتمَعات، وأشكال الحياة
المجتمعية في العالم كله.
خاتمة: التدفقات الثقافية والقرائن
الخلاصة أن الثقافة موضوع مثير لكثير من الجدل
الذي نراه منعكسًا في تَعدُّد مفاهيمها
واستخداماتها؛ وداخل دراسات العولمة نجد أن عمليات
وتكنولوجيات العولمة المعاصرة تزيد الأمور تعقيدًا
بالإسراع بالتَّدفُّقات الثقافية وتَغيُّر العلاقة
بين الزمان والمكان والتشجيع على المزيد من أشكال
التفاعل الثقافي الواسع، وكلها تطورات تؤثر حتما في
الثقافات وفي ممارستنا لها. مثل هذه التكنولوجيات
على سبيل المثال تُسهِّل ظهور شبكات عالمية
مُنخَلِعة من أقاليمها، ومن ثَمَّ تساعد في عمليات
الامتزاج الثقافي، مع اهتمام ضعيف وربما دون اهتمام
على الإطلاق بالحدود الجغرافية والثقافية. وكما
رأينا — على نحو أوسع — فإن تكنولوجيات العولمة إلى
جانِب التقدم الذي حدث في وسائل النقل، يُنْظَر
إليها باعتبارها تُسْهِم في الانخلاع الثقافي عن
الإقليم وذلك نتيجة ما تُحْدِثه من تَدفُّقات، وهو
ما يعني، مثلًا، أن هناك كذلك العديد من الثقافات
العابرة للمحلية بداخل الثقافات المستقرة في
الأقاليم والمجتمعات.
وقد أوضحنا كذلك كيف ينبغي أن نحتفظ بمنظور
نَقْدِي عندما يتعلق الأمر بالتدفقات الثقافية،
وألا نُبالِغ في تأكيد فكرة انتقال الثقافة، وإهمال
حقيقة أنها تتطلب درجة من الاستقرار والانتظام لكي
يتم إنتاجها. والواقع — كما رأينا — أن هناك
انتقادات للاعتماد الزائد عن الحد على الاستعارات
الخاصة بالحركة فيما يتعلق بهذا الموضوع، ربما تعكس
تأثير النظرية الثقافية مع نُقَّاد يشيرون إلى قلة
البحث التجريبي.
١٠ إلى جانب ذلك يجب أن نَقْبَل بأنه
عندما تكون التدفقات الثقافية مُتقطِّعة وضعيفة في
طبيعتها، فمن المُرجَّح ألا تكون هناك مواجهات
ثقافية ذات معنى، وعليه فلن يكون لتلك التدفقات أثر
كبير، من ناحية أخرى، عندما تكون التدفقات الثقافية
نتيجة لقوى كونية كبيرة مثل المؤسَّسات الإعلامية
فقد يثير ذلك مُقاوَمة، رغم أن ذلك قد يكون سببًا
في الحد من تأثيرها، لذلك عند تَناوُل التدفقات
الثقافية، نكون في حاجة إلى استقصاء الأشكال
الثقافية المُتدفِّقة بالفعل ومصادرها وكيفية
استقبالها.
وهكذا فإنه على الرغم من القبول الواسع الآن بعدم
إمكانية تقييد الثقافة، ينبغي عَدَم المُبالَغة في
فكرة أنها باستمرار في حالة حركة، وفي هذا السياق
نجد أن كُلًّا من «جوناثان خافيير إندا»، و«ريناتو
روزالدو» (٢٠٠٠م) على حقٍّ في اعتقادهما أن الثقافة
ليست مُجرَّد «تَرحُّل حر»، كما عَبَّرا عن ذلك
بقولهما: «الانخلاع الثقافي عن الإقليم هو دائمًا
الظرف المناسب لإعادة إدراج الثقافة في قرائن أو
سياقات زمانية مكانية» (ibid.,
11)، وهما يعنيان بذلك أن
«التدفقات الثقافية لا تَتدفَّق هكذا أثيريًّا
عَبْر الكرة الأرضية، وإنما يُعاد كتابتها عادة —
وإن جزئيًّا أو سريعًا — في بيئة ثقافية مُحدَّدة»
(ibid)، وهذا
يعيدنا إلى فكرة أن الثقافة يُعاد تَأقلُمها، ولكنه
في الوقت نفسه يدعم أحد أفكار هذا العمل، وهي أهمية
فحص الأطر والمواقع التي تتم فيها ممارَسة التدفقات
الثقافية العالمية إن كُنَّا نريد أن نفهم جيدًا
الطُّرق التي تُعاد بها كتابتها.
باختصار، يمكننا أن نحدد ما يحدث بالفعل، عن طريق
التركيز على كيفية تَقاطُع التدفقات الثقافية مع
مناطق ومجتمعات ومَحلِّيَّات بعينها، كما هو الأمر
بالنسبة لمجموعات وأقسام مُحدَّدة من المجتمع
١١ ولكن لا بد من الاعتراف بأنه نتيجة
لخَلفيَّاتنا المُعيَّنة أو لتاريخ حياة مُحدَّد،
فإننا نمتلك بالفعل أُطرًا ثقافية سوف تُشكِّل
وجهات نظر، وتفيدنا في تعاملنا مع عمليات العولمة،
بما في ذلك مواجهة الثقافات والتَّدفُّقات الثقافية
الأخرى. وسوف يُؤثِّر ذلك في كيفية استجابتنا
للأصوات والصور الإعلامية القادمة من الخارج،
والسلع والمُنتجات الثقافية الأجنبية، والناس
القادمِين من دول أخرى الذين ينتقلون في المَناطق
التي نعيش فيها، هذا إلى جانِب أشكال أخرى من
التواصل الكوني تُمثِّل العولمة. هذه الأطر
الثقافية — بالطبع — ليست ساكنة، وإنما تَتغيَّر
نتيجة مواجهاتنا الكونية. الأكثر أهمية هو أن أسلوب
الاستشراف الذي نُلِخِّصه هنا يجعلنا نفهم طبيعة
العلاقة بين الثقافة والعولمة؛ وبعبارة أخرى: سنصبح
قادرين على تَتبُّع كيف تتشكل تَوجُّهاتنا الثقافية
بواسطة العولمة التي تُثري بدورها العمليات
الثقافية، من خلال فحص الصِّلات الكونية – المحلية
المتبادَلة، وكيف تتفاوَض عليها العناصر البشرية.
عند هذه التقاطعات، تظهر الأنماط المختلفة من
العلاقات القائمة بين العولمة والثقافة، متبادَلة
وجَدلِيَّة وانعكاسية، ومن هنا فإن العولمة
والثقافة لَيسَتا كيانات منفصلة، هُما كيانات
مُتداخِلة أو بالأحرى عُرْضَة لعمليات اختراق
وتَغلغُل مُتبادَلة، ومن الطبيعي أنَّ تَورُّطنا في
التدفقات والعمليات الثقافية سوف يكون له أثره في
طبيعة ومَسار مُستقبل العولمة. باختصار، الثقافة
يُمكِن أن تُشكِّل مسارات التواصل الكوني الذي
يُعبِّر عن العولمة والعكس صحيح.
للمزيد
نرشح الأعمال التالية لمن يريد المزيد عن المادة
التي عرضنا لها في هذا الفصل:
يعتبر مقال Arjun
Appadurai المنشور في ١٩٩٠م
بعنوان:
“Disjuncture and
Difference in the Global Cultural
Economy”.
مادة بَالِغة الأهمية في هذا المجال، كما يُقدِّم
كتاب:
The Sociology of
Culture: Emerging Theoretical Perspectives
(1994).
الذي حَرَّره Diane
Crane رؤية عامة مُفيدَة عن أساليب
التناول الاجتماعي للثقافة، كذلك فإن مَقال
James Clifford
بعنوان: Travelling Cultures,
1992 يعرض رؤية أنثروبولوجية
للثقافة. انظر كذلك:
Globalization and
Culture, (1999a), By: John
Tomlinson.
The Turbulence of
Migration (2000), By: Nikos Papastergiadis
“Global Networks” Journal.
للاطلاع على دراسات حالة حديثة عن تجارب عابرة
للحدود، انظر:
Transnational Spaces
(2003), By: Peter Jackson et
al.
New Transnational
Social Spaces (2001), By: Ludger Pries
(ed).
وللاطلاع على عدد من دراسات الحالة من مناطق
كثيرة من العالم تتناول معنى «الوطن» بالنسبة
للمُتَرَحِّلِين عبر الحدود القومية، انظر:
New Approaches to
Migration? (2001), By: Nadje Al-Ali and Khalid
Koser (eds).