الفصل الرابع
العولمة والثقافة الكونية
إحدى المجادَلات الرئيسية المحيطة بالعولمة الثقافية،
هي ما إذا كنا نشهد ظهور عولمة كونية، فهذه قضية تشغل
الاهتمام الأكاديمي والجماهيري، على الرغم من أن
الأكاديميين يَبدون مُتشكِّكين أمام الفكرة. هدف هذا
الفصل من الكتاب هو معرفة ما إذا كانت هذه الثقافة
موجودة، وإذا كان الأمر كذلك فما الشكل الذي تتخذه؟
ولذلك سوف نبحث هنا أربعة مجالات ذات صلة بالأمر. سنبدأ
بوصف الأساليب التي تسهم بها عمليات العولمة في
المجانسة الثقافية وإيجاد عدد من مفاهيم الثقافة
الكونية، وسوف نُركِّز في القسم الثاني على عمل «رولاند
روبرتسون Roland
Robertson» الذي يقدم رؤية فطنة
للعلاقة المتبادَلة بين العولمة والثقافة الكونية،
ويوضح على نحو خاص مدى تَعقُّد القوى العالمية –
المحلية المحرِّكة؛ ويُقدِّم القسم الثالث نقدًا
للثقافة الكونية، مجادِلًا بأن مثل هذا المفهوم يقوم
على قراءة خطأ للتطورات المعاصرة، كما يستند إلى فكرة
مَعيبة أن عمليات العولمة لها آثار أو عواقب مُعيَّنة،
وفي القسم الأخير من الفصل، وهي التأكيد العام للفصل
على الاعتراف بالطبيعة التعددية للعولمة سوف مع نُورد
الحجج التي تجعلنا نتصور الثقافة الكونية باعتبارها
«ثقافات» كونية وليس ثقافة واحدة.
(١) العولمة والمُجانَسة الثقافية
يرى بعض المُعلِّقين أن هناك جوانب من العولمة —
وخاصة في مجالات الاتصال والميديا والاقتصاد —
تُعْتَبر ذات تأثير على المُجانَسة؛ كما يقال إن
تكنولوجيات المعلومات والاتصال الحديثة والنَّقْل
المُتقَدِّم وظهور ميديا جديدة ومؤسَّسات مُتعدِّدة
الجنسية قوية، يعني أن العالَم، شيئًا فشيئًا، يغدو
مكانًا أصغر، وأن الثقافات والتراثات المحلية تجاهد
من أجل البقاء، وأن الفوارق الثقافية تَتلاشى
(
Hamelink, 1983).
نجد ذلك كله مُنعكِسًا في التعليقات التي نسمعها
كثيرًا بأن مراكز المدن في الكرة الأرضية كلها تبدو
متشابهة على نحو متزايد. الموزعون الرئيسيون
للمنتجات، والبنوك، وبيوت المال الأخرى، ومطاعم
الوجبات السريعة، والإعلانات، كل ذلك يمكن أن
تَجِدَه فيها كلها. في السياق نفسه يمكن أن نجد
سِلعًا استهلاكية وماركات مُسجَّلة بعينها في دول
مختلفة في أرجاء العالم؛ الأفلام نفسها تجدها
معروضة في دور السينما، كما يمكن مشاهدة الكثير من
البرامج نفسها معروضة على شاشات التليفزيون.
«أولريش بيك
Ulrich
Beck» يصف هذا التقارب على النحو
التالي: «في قرى بافاريا الدنيا، كما هو الحال في
كالكتا وسنغافورة أو في ضواحي ريو دي جانيرو، يشاهد
الناس مسلسل «دالاس» في التليفزيون، ويرتدون
الجينز، ويدخنون «المارلبورو …» (٢٠٠٠م، ٤٢). ما
يشغل النقاد هو أن ذلك يُؤدِّي إلى تآكُل الأصالة
الثقافية، كما يُشجِّع الطموحات المشابهة، وعلى
المزيد من الرَّغْبة في الاتساق العام مع أساليب
الحياة المماثلة
١ (
e.g., Crick,
1989) نتيجة لهذه التطورات هناك
زَعْم بأن الثقافات والمجتمعات تُواجه ضغوطًا
مجانسة قوية، بدرجة تجعل بالإمكان الحديث عن وجود
ثقافة كونية، يُنْظَر إليها غالبًا باعتبارها شكلًا
من أشكال الاستعمار الثقافي
(
Mattelart et al., 1984; Schiller,
1989, 1991). على أن الشكل الذي
تَتَّخِذه هذه الثقافة الكونية والقُوى الدافعة لها
محل جدال كبير، وقد تم صياغته على أنحاء مختلفة كأن
يقال «أمركة» و«مَكْدَلَة» (
Ritzer,
1998)، و«غَرْبَنَة»
(
Latouche, 1996)
مع قول بعض المُنظِّرِين إن ما يُحرِّكها هو
الرأسمالية أو قوى الحداثة مجتمعة، وسوف نناقش هذه
الآراء الآن، بادئين بمفهوم الثقافة الكونية
باعتبارها «أَمْرَكة».
(٢) المجانسة الثقافية باعتبارها أَمْرَكة
إلى جانب أن الولايات المتحدة أقوى دولة في
العالم وتستطيع ممارسة نفوذ عالمي واسع، يُلاحَظ أن
كثيرًا من الشركات العملاقة الرئيسية في مجالات
الإعلام والتسلية (مثل: «تايم وارنر»، و«سي بي إس»،
و«والت ديزني») كلها أمريكية؛ وكما رأينا في الفصل
الثالث فإن الولايات المتحدة تُصدِر برامج
تليفزيونية أكثر من أي دولة في العالم. والحقيقة أن
قضية الهيمنة العالمية على الميديا من قِبَل
الولايات المتحدة قد نُوقِشَت لفترة، وخاصة في
تقرير مكبرايد McBride
Report الذي نُشِر في ١٩٨٠م وأدَّى
إلى أن جعل اليونسكو تَحثُّ على اتخاذ تدابير
لمُواجَهة الأمر؛ وبشكل عام، كان يتم التعبير عن
القلق خارج الولايات المتحدة بسبب الحضور الكثيف
للثقافة الشعبية الأمريكية. إلى جانب البرامج
التليفزيونية؛ فإن شبكات وشركات التوزيع العالمية
ذات الكفاءة العالية تضمن أن تكون الأفلام
الأمريكية والمؤسَّسات الإخبارية وبرامج «السوفت
وير» وغيرها من المنتجات، موجودة في أنحاء العالم.
بالإضافة إلى ذلك فإن ماركات أمريكية مسجلة (مثل:
ليفي شتراوس – بيرجر كنج – ماكدونالد – بيبسي كولا
– كوكاكولا – بيتزاهت)، وموسيقى وأزياء الشارع،
وجوانب أخرى من ثقافتها الشعبية تَحظَى بقبول
متزايد وتأثير عالمي كبير. الولايات المتحدة كذلك
تَقود مجال تكنولوجيا المعلومات، وتَتمتَّع بمميزات
مُعيَّنة على منافسيها، وخاصة أنها بسبب وجودها منذ
بداية ثورة المعلومات، استطاعت أن تُشكِّل نُظم
المعلومات وعملياتها (Nye,
2002).
على الرغم من ذلك، فإن فكرة اعتبار الثقافة
الكونية شكلًا من أشكال الأمركة تظل قضية إشكالية
لعدة أسباب؛ ولنبدأ ببعض الاستوديوهات القوية في
هوليوود مثل «كولومبيا تريستار»، و«فوكس». هذه
الاستوديوهات تَملكها مؤسَّسة «سوني» اليابانية،
و«نيوز كوربوريشن» ومركزها أستراليا، الأهم من ذلك
أنه إذا كانت ملكية المؤسَّسات في المرحلة المعاصرة
ذات طبيعة مُعقَّدة، فهل ينبغي أن نكون مَشغُولين
أكثر من اللازم بالأصول القومية للمؤسَّسات
والتكتلات التجارية؟ أما بالنِّسبة لمسألة الهيمنة
الأمريكية على الميديا عالميًّا، فنجد أن
المؤسَّسات الإخبارية والإعلامية الأمريكية؛ مثل
CNN مؤثرة إلى حد
كبير، إلا أنها، على الرغم من ذلك، لا تقرر أجندة
الأخبار للدول الأخرى. في هذا السياق فإن التغطية
الإخبارية العالمية الواسعة لقضايا مثل خليج
«جوانتانامو» وإيذاء السُّجناء العراقيين بواسطة
الجنود الأمريكيين في «أبو غريب»، توحي بأن أمريكا
عامة وواشنطن خاصة تُحاولان بشتى الطُّرق تشكيل
أجندة الأخبار العالمية. بالإضافة إلى ذلك فإن ظهور
مؤسَّسة إعلامية مثل «الجزيرة»، وإطلاق قناة
الإعلام الدولية International
Information Channel في فرنسا،
التي تُعتَبر بمثابة
CNN الفرنسية، في
٢٠٠٥م ربما يكون دلالة على أنه ستكون هناك في
المستقبل وجهات نظر مُتعدِّدة بالنسبة للشئون
العالمية. نفس الأمر تقريبًا أن الميديا العالمية
بكل أشكالها المختلفة والمتعددة لها تأثير في
المجتمع الأمريكي، وقد كان ذلك واضحًا في الأيام
القليلة السابقة على الانتخابات الرئاسية؛ حيث كانت
هناك تكهنات كثيرة عن المدى الذي يمكن أن تؤثر به
الرسالة التي أطلقها آنذاك أسامة بن لادن عَبْر
شبكة الجزيرة الإخبارية على النتائج النهائية، فوق
ذلك، أن السيادة الأمريكية الثقافية ليست كاملة حتى
داخل الولايات المتحدة، حيث يُوجَد عدد يحصى من
القنوات التليفزيونية والمحطات الإذاعية يُبَثُّ
داخل البلاد بلغات مختلفة؛ مثل الإسبانية
واليابانية، وكلها مُوجَّهة إلى جماعات عرقية أو
ثقافية خاصة.
هناك كذلك جوانب من الثقافة الأمريكية لا تلقى
قبولًا عالميًّا. في هذا السياق فإن أفكارًا
سياسية؛ مثل دولة الحد الأدنى والفردانية ليست
جذابة عالميًّا، وبالمثل هناك شيء من رد الفعل
السلبي أو المضاد في أجزاء كثيرة من العالم ربما
يقيد انتشارها المستقبلي. هذه الظاهرة يُلاحِظها
كثير من المُعلِّقين الذين يوردون أسبابًا تتراوح
بين الحقد على القوة الأمريكية وعدم شعبية إدارة
جورج دبليو بوش (انظر: Sardar and
Wyn Davies, 2002). والحقيقة أن
ظاهرة مُعاداة كل ما هو أمريكي كانت منتشرة لدرجة
أن وزارة الخارجية نَظَّمَت مؤتمرًا لمواجَهة
الموقف؛ حتى الحكومات الغربية مثل الحكومة الكندية
والحكومة الفرنسية اتَّبعَت سياسات مُعدَّة خصيصى
لمقاوَمة ما يعتبرونه أشكالًا من الهيمنة الثقافية
الأمريكية وخاصة في مجال التسلية الشعبية والترفيه.
مثل هذه المشاعر المعادية لكل ما هو أمريكي، ربما
تكون، في جزء منها، ردًّا على عدد وحجم المنتجات
الثقافية الأمريكية التي تُصدَّر للخارج، وإن كان
هناك عادة عنصر من عناصر الاختزالية. بعبارة أخرى،
ظاهرة معاداة كل ما هو أمريكي تعتمد على فَهْم خاص
لماهية الثقافة الأمريكية وكون هذه الثقافة
مُتَّسِقة أو مستقرة، وكما سنبين لاحقًا لا شيء من
ذلك صحيح.
(٣) المجانسة الثقافية باعتبارها «مَكْدَلَة
McDonaldization»
يقال إن جوانب العولمة؛ مثل الشركات متعددة
الجنسيات والعابرة للحدود القومية تُسهم كذلك في
تَجلٍّ آخَر من تجليات الثقافة الكونية وهو
«المَكْدَلَة» بالتحديد، كان أول من اعتنق هذه
الفكرة وروَّج لها «جورج ريتزر
George Ritzer»
(١٩٩٣) ليصف كيف أن «مبادئ مطعم الوجبات السريعة
تتزايد سيطرتها على المزيد من قطاعات المجتمع
الأمريكي بالإضافة إلى بقية العالم»
(
ibid., 19). ريتزر
يعمل في إطار علم الاجتماع الفيبري
٢ فعالم الاجتماع الألماني «ماكس فيبر
Max Weber» كان يرى
أن المجتمعات الجديدة تُحرِّكها مبادئ العقلانية
وإمكانية الإحصاء والتنبؤ والكفاءة، ريتزر يرى أن
ماكدونالدز يستخدم مثل هذه المبادئ، كما تستخدمها
مؤسَّسات تجارية حديثة أخرى بشكل عام. التأثير
التراكمي لهذه التَّوجُّهات هو أنه يُوحِّد معيارًا
للحياة المعاصرة، وهذا النموذج شَكْل من أشكال
المجانسة الثقافية أكثر اكتمالًا من
الأمركة.
إلا أن فكرة «المَكْدَلَة» هذه تواجه انتقادات
كثيرة، فهي تُسقِط من حسابها وجود اختلافات
وتَنوُّعات في هذا النموذج، وكذلك أشكال مختلفة من
تنظيم، وممارَسات، وثقافات العمل التجاري، كما أن
هناك تَنوُّعات واختلافات إقليمية مثل الأساليب
المختلفة لتنظيم المؤسسات والهيئات الحديثة — كما
في فرنسا والمملكة المتحدة وإسكاندنافيا وآسيا —
بما يعكس الظروف المحلية، وبعض هذه النماذج يخضع
لمؤثرات خارجية كبيرة وبخاصة في الأساليب اليابانية
في الإدارة، وهي العوامل التي أدخلتها أو
قَلَّدَتها الشركات في كل من أوروبا وأمريكا
(
Elger and Smith,
1994). والحقيقة أن ما يطلق عليه
«التيوتية
Toyotism» أو
«نموذج تويوتا» الذي يتضمن نظام
Kauban أو «في وقته
تمامًا
Just In
Time» لتنظيم العمل ومراقبة
الجودة، هذا النموذج يُنْظَر إليه غالبًا كبديل
لنموذج فورد (
Fordist
Model) للمنظمات الصناعية الذي ظهر
في البداية في الولايات المتحدة
٣ ومن الطبيعي أن تستخدم الشركات مجموعة
مختلفة من الأساليب والأفكار مُستمَدَّة من مصادر
عدة ومكيفة مع الظروف المحلية، لكي تناسب أهداف
أعمالها التجارية، وكل ذلك يسير ضد فكرة أن هناك
ثقافة عمل تجاري عالمية أو كونية، أو مجموعة مبادئ
عامة لتنظيم المؤسَّسات الحديثة، سواء أكانت
«المَكْدَلة»، أو «الفَوْرَدة»، أو «التَّايْلَرة»
(إدارة تيلور العلمية)، أو «التيوتية» أو أي نموذج
آخر.
(٤) المجانسة الثقافية باعتبارها أمركة
يمكن أن نقول إن أصول تَصوُّر الثقافة الكونية
باعتبارها غَرْبَنَة، تعود إلى مرحلة الاستعمار
الأوروبي وقيام الأوروبيين بفرض مُؤسَّساتهم
وممارساتهم الخاصة على رعاياهم من المُستعمَرين.
كان ذلك يتضمن إنشاء أو تنمية الدولة-الأمة، ونظام
العمل المأجور، واقتصادات السوق، والأنظمة
القانونية الأوروبية، ومفاهيم الملكية الخاصة، ونشر
اللغات، وفي بعض الحالات الديمقراطية البرلمانية
داخل مُستعمَراتهم؛ ولعل هناك أيضًا أشكالًا من
الهيمنة الثقافية في ظل العولمة المعاصرة.
تكنولوجيات المعلومات والاتصال والميديا العابرة
للحدود القومية ساعدت مثلًا على نشر اللغة
الإنجليزية التي يتحدث بها اليوم قرابة ربع الجنس
البشري؛ وبينما تواجه تَحدِّيًا من قبل الماندارين
الصينية على الإنترنت، فإن الإنجليزية هي اللغة
المُشترَكة للعولمة. انتشار الإنجليزية هذا من
نتائج الاستعمار البريطاني والسيادة الأمريكية بعد
الحرب، على الشئون العالمية؛ وهي ليست فقط لغة
التجارة، وإنما لغة السياسة الدولية والدبلوماسية
والعلم، وهو ما نجده منعكسًا في استخدامها داخل
منظمة الأمم المتحدة، والبنك الدولي، وصندوق النقد
الدولي؛ ويُضاف إلى ذلك كله أنها اللغة الرئيسية
للكمبيوتر والاتصالات العالمية
٤ وكما يرى «أبرام دي سوان
Abram de Swaan»
فإن استقرارها على قمة النظام اللغوي العالمي، يجعل
من المُرجَّح أن تُواصِل انتشارها لأن «الناس
يتجهون لتعلم اللغة ذات القيمة الأعظم في الاتصال»
(انظر:
Swaan, 2001:
188). الجانب السلبي لهذه الظاهرة
أنه في أجزاء من العالم يمثل انتشار الإنجليزية
خطرًا على اللغات الأخرى، إذ يتنبأ بعض علماء اللغة
بأن ٩٠٪ من اللغات مُعرَّض للانقراض خلال هذا القرن
(
Wurm, 1996). على
أن «ديفيد كريستال
David
Crystal» (٢٠٠٣) يقترح سيناريو
بديلًا لتعميم الإنجليزية عالميًّا، مشيرًا إلى أنه
عند انتشار لغة سائدة، تظهر بمرور الوقت تنويعات
جديدة عليها قد تجعلها غير مفهومة للطرفين. ولكن
إذا كان ذلك يحدث فمن المرجح أن يكون في المستقبل
البعيد؛ وعلى أية حال ليس من صالح الناس الذين
يتعلمون الإنجليزية أن يتعلموا صيغة أخرى منها؛ لأن
ذلك سيكون ضد الهدف من تَعلُّم لغة أجنبية.
أبعد من قضية اللغة، هناك كذلك شعور بأن الثقافة
الكونية واقعة تحت سيطرة قيم وأيديولوجيات غربية،
النقاد غير الغربيين يجادلون بأنهم يلقون تشجيعًا
لاستهلاك السلع الغربية والإقبال في الوقت نفسه على
أساليب الحياة الغربية، وبخاصة التأكيد على
الفردانية. الحكومات الغربية تُعزِّز ذلك من خلال
محاولتها فرض مفهومها الخاص عن حقوق الإنسان على
العالم غير الغربي، مستخدمة في ذلك كُلًّا من
قُوَّتها الاقتصادية ووضعها المسيطر في مؤسَّسات
التحكم العالمية مثل الأمم المتحدة. ويعتقد كثيرون
أن الفردانية الغربية متغلغلة في الإعلان العالمي
لحقوق الإنسان، وأن الحكومات الغربية تكرسها بصرف
النظر عن ملاءمتها للمجتمعات غير الغربية التي هي
غالبا أكثر تديُّنًا وترابطًا من الناحية
الاجتماعية، وفي السياق نفسه هناك زَعْم قوي بأن
المؤسَّسات التي تنشأ لتتناول قضايا التجارة
العالمية والمعونات والقروض والتنمية؛ مثل البنك
الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد
الدولي، إنما تعمل على تنمية وترويج مفهوم غربي
للحداثة والتحديث. بعبارة أخرى، هي تقوم على فكرة
أن هناك طريقًا صحيحًا للتنمية ومَعنًى محددًا لما
يُمثِّل النمو الاقتصادي والسياسي، وهي تحديدًا
تأسيس مجتمعات ليبرالية تعتمد على اقتصاد السوق،
وهو ما يمكن أن نراه في سياسات إعادة الهيكلة التي
كانت تفرضها هذه المؤسَّسات في ثمانينيات وتسعينيات
القرن الماضي، التي كانت القروض تعتمد فيها على
الحكومات التي تطبق إصلاحات تساعد على اتساع السوق
الحرة. التأثير التراكمي لمثل هذا التَّوجُّه هو
أنه يضع ضغوطًا على المجتمعات غير الغربية لكي تسلك
نهجًا خاصًّا نحو التنمية، وبالتالي تعمل كشكل من
أشكال الاستعمار الثقافي.
هناك كذلك اعتراضات كثيرة على مفهوم الغَرْبَنَة،
فمضمونه — بداية — يَتصوَّر العولمة باعتبارها
ظاهرة حديثة؛ أي إنها وَضْع يعتمد على صعود الغرب،
وهو تَطوُّر بدأ من القرن السادس عشر. هذا المنظور
بالتالي، يُغفِل الإسهامات غير الغربية في عملية
العولمة، التي يمكن أن نجدها إذا تَعرَّفنا على
التاريخ ما قبل الحديث ودرسناه. وبالمثل، إذا
رَكَّزْنا حصريًّا على الغَرْبَنَة في حقبتنا هذه،
فإننا بذلك نُخاطِر بإهمال القوى الأخرى التي تُسهم
في العولمة مثل «الآسينة
Asianization»،
و«اليبننة
Japanization»،
و«الأسلمة
Islamization».
يضاف إلى ذلك أننا لا بد أن نضع في اعتبارنا أن
المجتمعات الغربية تصبح أكثر فأكثر تَنوُّعًا
وتعددية من الناحية الثقافية، مما يثير قضية ما
نعنيه أو نقصده عندما نقول «ثقافة غربية»
و«غَرْبَنَة» (وهي نقطة سنعود إليها في القسم
الثالث)، بينما تعني فكرة أن المؤسَّسات الدولية
تنشر القيم الثقافية الغربية، أن أولئك الناس الذين
يعملون في إطارها عناصر تعمل دون وعي في هذه
العملية، ويتجاهلون حقيقة أن هذه المنابر تنطوي على
جدال كبير حول سياساتها، كما نلاحظ الآن في إعادة
النظر في سياسات إعادة الهيكلة.
والحقيقة أن منظمات عالمية مثل «اليونسكو» لديها
حساسية شديدة، وتحاول أن تتفادى اتهامات بأنها
تُبقِي على الهيمنة الثقافية الغربية، وهو تَوجُّه
يمكن أن نجده — حتى — بين بعض الحكومات الغربية،
بالرغم من أن ذلك ربما يكون نابعًا — في جزء منه —
من شعور بالذنب بسبب ماضيها الاستعماري.
(٥) الثقافة الكونية والرأسمالية
يَعتَبر كثير من الكُتَّاب — وخاصة من اليسار
السياسي — الرأسمالية القوة الرئيسية المُحرِّكة
للعولمة الثقافية، وبالتحديد من أجل ثقافة عالمية
استهلاكية، وهو تَوجُّه يشجع عليه الإعلام
الجماهيري وصناعة الإعلان، الاستهلاك الثقافي
الكوني يتخذ عدة أشكال؛ ولكنه واضح، على نحو خاص،
في ثقافة الشباب والثقافة الشعبية وأساليب الحياة
وأنماط الاستهلاك الرمزي (انظر:
Miller, 1995; Shields,
1992).
هذا الوضع له تاريخ أكاديمي طويل، فقد ظهر في
أربعينيات القرن العشرين وفي أعمال مُنظِّري مدرسة
فرانكفورت: «تيودور أدورنو
Theodor
Adorno»، و«ماكس هوركهايمر
Max Horkheimer»
اللذين أكَّدَا كيف كان يتم تسليع الثقافة في ظل
ظروف الرأسمالية المعاصرة؛ حيث إن القيمة السوقية
للسلع الثقافية هي التي تحدد حجم إنتاجها وطبيعتها
(
Adorno, 1991; Lash and Lurry,
2007). ويعني ذلك أيضًا أن أشكال
المجانسة الثقافية التي عَرضْنَا لها في بداية هذا
القسم، من هذا المنظور، مُنتجات للتوسعية
الرأسمالية. وفي إطار هذا التقليد، هناك مَزاعم
كثيرة بخصوص التأثير الثقافي للرأسمالية العالمية،
سوف نتناول اثنين منها على خلفية أعمال كل من
«إيمانويل فالرشتاين
Immanuel
Wallerstein»، و«ليزلي سكلير
Leslie Sklaire»
على التوالي.
٥
(٥-١) إيمانويل فالرشتاين
الثقافة باعتبارها «الفكرة-النظام»
للاقتصاد الرأسمالي العالمي
كما رأينا في الفصل الأول، فإن النظام
العالمي من وجهة نظر المُنظِّرِين له هو اقتصاد
رأسمالي عالمي. «إيمانويل فالرشتاين» يرى — عن
اقتناع — أنه يقوم على منطق خاص هو «المراكمة
المستمرة لرأس المال» (١٩٩٠م، ٣٦)، ومن هنا فإن
الرأسمالية، في رأيه، هي المُحرِّك الذي يقود
«العولمة»، رغم أنه يرفض هذا المصطلح، ويُفضِّل
عليه مصطلح «النظام العالمي». أما بالنسبة
للثقافة فهو يراها «الفكرة-النظام» لهذا
الاقتصاد العالمي (1990a:
38). على أنه لا يبلور مفهومًا
للثقافة الرأسمالية باعتبارها كيانًا مُهيمنًا،
وإنما يرى أنها تُؤدِّي دورًا خاصًّا داخل
النظام العالمي وهو الحفاظ عليه، تحديدًا، من
خلال احتواء «التوترات المتعارضة» التي يثيرها
(ibid., 51).
أما الأيديولوجيات الثقافية المختلفة في جوهرها
(والتي تتراوح بين العرقية والجنسانية
والعالمية)، والمعارك التي تَنجُم عنها، فهي
تُحوِّل الاهتمام عن الانقسامات الاقتصادية
الموجودة في الرأسمالية، ومن هنا فإنها تلعب
دورًا في إخفاء الاستغلال واللامساواة
الموجودَين في النظام العالمي
(Holton, 1998:
171-2). العالمية تؤسس أسطورة
أن النظام يعمل من أجل مصلحة عامة، بينما
العرقية والجنسانية تصنعان تراتبية تُمكِّن
الرأسمالية من أن تُفرِّق لكي تسود. عند
«فالرشتاين»
(1990a)
الأيديولوجيات المزدوجة للعالمية
والعرقية-الجنسانية (وهي مضادة للعالمية) تعمل
لكي تُضعِف المقاومة المضادة للنظام، ولهذا
السبب يصف الثقافة بأنها ساحة القتال
الأيديولوجي للنظام العالمي الحديث، والحقيقة
أن الرأسمالية هي المستفيد الرئيسي من ذلك
الارتباك المحيط بكل مفهوم الثقافة.
على أن «فالرشتاين» واجه انتقادات كثيرة
لتقديمه تَصوُّرًا للثقافة باعتبارها أحد
مُشتقَّات النظام العالمي واختزالها في
أيديولوجيته (Boyne,
1990). بعبارة أخرى، الجوانب
الاقتصادية الرأسمالية تُسيطر على الثقافة
وتُحدِّد هدفها، أو، في أقل القليل، تُشكِّل
المُحدِّدات التي ستعمل في إطارها؛ ولكن مثل
هذا التَّصوُّر للثقافة يحاول أن يُفسِّر ظهور
الأصولية الثقافية التي شهدناها في المرحلة
الحديثة، بالإضافة إلى ثقافة مناهضة العولمة
الرأسمالية التي ظهرت، وكلتاهما تُمثِّل تحديات
للثقافة الرأسمالية. وهكذا فإن توصيف
«فالرشتاين» يُهوِّن من أمر الأساليب التي يمكن
أن تُستَخْدَم بها الثقافة كشكل من أشكال
المقاوَمة. يضاف إلى ذلك — كما عرضنا في الفصل
الأول — أن النظام العالمي الذي يقول به
«فالرشتاين» يواجه نقدًا شديدًا لتجاهله
العمليات والتطورات الثقافية أو الحضارية التي
حدثت في المرحلة ما قبل الحديثة، وأسهمت في
العولمة (Friedman,
1995).
باختصار، نظرية «فالرشتاين» عن النظام
العالمي مُتَّهمة بأنها نموذج لاقتصاد سياسي لا
يعطي الثقافة سوى قدر ضئيل من الاهتمام، وبأنها
بتركيزها على البنى العالمية والمنطق الكلي
للنظام، تُهمِل العامل الإنساني؛ وفي رأي
مُنظِّرِي الثقافة على نحو خاص، فإن
«فالرشتاين» لا يتناول قضية الثقافة بجدية.
٦
(٥-٢) ليزلي سكلير
ثقافة وأيديولوجيا النزعة
الاستهلاكية
تنتهج «ليزلي سكلير» (٢٠٠١م، ٢٠٠٢م) بالمثل
أسلوبًا بِنيوِيًّا في هذا الشأن، وتحاول أن
تبين أن الرأسمالية العالمية تُشكِّل وتُعَرِّف
كُلًّا من العالم والعولمة؛ وهي مهتمة، على نحو
خاص، بالنظام العالمي وكيف يعمل، وترى أنه يقوم
على مُمارَسات عابرة للقوميات تعمل في مجالات
ثلاثة هي: الاقتصادي، والسياسي،
والثقافي/الأيديولوجي. يضاف إلى ذلك أن كُلًّا
من هذه الممارسات يتميز بمؤسَّسة رئيسية:
المؤسَّسة العابرة للحدود القومية والنزعة
الاستهلاكية … هكذا على التوالي. ومن هذه
المجالات نستطيع أن نرى أن الثقافة — مرة أخرى
— مرتبطة بالأيديولوجيا، كما هي مرتبطة بالطبع
بالجوانب الاقتصادية، وعليه لا يمكن القول إن
لها وجودًا مُستقلًّا
٧ في هذا السياق، فإن إحدى الدعاوى
الأساسية عند «سكلير»، فيما يتعلق بالممارسات
الثقافية-الأيديولوجية العابرة للحدود القومية،
هي أن النزعة الاستهلاكية تُسهِم في بقاء
الرأسمالية على قيد الحياة؛ لأنها تحاول إقناع
أغلبية الناس بأن مثل هذا الأسلوب في الحياة
يحقق لهم مطالبهم. بعبارة أخرى، «سكلير» ترى أن
الأيديولوجية الثقافية للنزعة الاستهلاكية
تُقدِّم الكثير الذي يُؤدِّي إلى تماسُك النظام
العالمي، «بدون النزعة الاستهلاكية فإن منطق
التراكم المستمر لرأس المال يتلاشى» (٢٠٠٢م،
١١٦). كذلك فإن الوظيفة التي تقوم بها النزعة
الاستهلاكية تكشف عن أن النظام الرأسمالي
العالمي مُتورِّط في عملية مستمرة للإبقاء على
نَفْسِه وإعادة إنتاج ذاته؛ ما تعتقد «سكلير»
أنه واضح على نحو خاصٍّ في محاوَلة مَد
العلاقات الرأسمالية إلى دول العالم
النامي.
(٦) الثقافة الكونية والعصرية
كما رأينا، فإن عددًا كبيرًا من علماء الاجتماع
يرى أن العولمة وما تحمله من ثقافة كونية، تتضمن
انتشار عمليات وقُوى العصرية، مثل الرأسمالية
والعقلانية والتَّحوُّل إلى الديمقراطية
والليبرالية والتصنيع (e.g.,
Giddens, 1990; Spybey, 1996). أو
بمعنًى آخر، إنها تحديث العالم الذي نشهده. لهذا
السبب فإن بعض أشكال المُجانسة الثقافية التي
نلخصها هنا مثل «المَكْدَلَة»، و«الغَرْبَنَة»
تُعتبَر جزءًا من هذا التَّوجُّه، وهنا نجد شيئًا
تسعى كل الشعوب والدول إليه، وهو تَوجُّه يمكن رصده
في نظرية التحديث الباكرة وصولًا إلى طرح «فرانسيس
فوكوياما Francis
Fukuyama» عن «نهاية التاريخ»،
الذي سوف نناقشه لاحقًا. الحداثة — من هذا المنظور
— توسعية بطبيعتها، أو كما عَبَّر عن ذلك بوضوح
شديد الشاعر والناقد المكسيكي «أوكتابيو باث
Octavio Paz»
بقوله: «كل الثقافات محكوم عليها بالعصرية»
(Berman, 1983:
125).
على أننا لا بد من أن ننتبه لاستخدامنا لمصطلحات
مثل «العصرية
Modernity»،
و«التحديث
Modernization»
فهذا «أنتوني كنج Anthony
King» (١٩٩٥م) على سبيل المثال،
يُفَرِّق بين فَهْم الإنسانيات ﻟ «العصرية الحداثة»
وفَهْم العلوم الاجتماعية ﻟ «التحديث»، مجادِلًا أن
الأولى مفاهيم أوروبية – أمريكية بالأساس ومستقرة
في مُؤقَّتِيَّة تاريخية مُقيَّدة مكانيًّا»
(١٩٩٥م، ١١٥) بينما الأخيرة مصطلح أمريكي إلى حد
كبير. بالإضافة إلى ذلك يزعم «كنج» أن علماء
الاجتماع بعد الحرب العالمية الثانية كانوا
يتصورونها ذات أبعاد عالمية، ومن ثم تتحرك إلى ما
هو أبعد من الحدود الجغرافية التي تقيمها العصرية
والحداثة، وعند المخاطرة قيد الأمور أكثر من ذلك،
يجب ملاحظة أن داخل التمييز العريض الذي يضعه
«كنج»، يمكن أن نجد مفاهيم مختلفة عن العصرية
والتحديث. بالنسبة للعصرية مثلًا، يحدد بعض علماء
الاجتماع فترة للعصرية «العالمية» أو «المتأخرة» في
علاقتها بالتغيرات التي أدخلتها العولمة. هذا
الأسلوب في التناول يحاول أن يدمج ما يتصور أنه
حقبتنا الأساسية، الناتجة عن تَحدِّي التقاليد
والسلطة التقليدية من جانب العصرية العالمية. في
حقبة ما بعد تقليدية فإن إحدى الظواهر المصاحبة
للحريات الفردية الأوسع التي نتمتع بها، هي أن
حقائق الماضي وثوابته المستقرة قد قَلَّت، وأصبحنا
نعتمد — بشكل متزايد — على أنفسنا ونحن ندخل مرحلة
من التاريخ الإنساني أكثر قلقًا وأقل استقرارًا،
ومرة أخرى يتم تَصوُّر هذه الحالة على أنحاء
مختلفة، فهذا مثلًا «أولريخ بيك» يرى أننا نعيش
الآن في «مجتمع مخاطر». العصرية من هذا المنظور إذن
عصرية انعكاسية، وهو موضوع سوف نعود إليه في الفصل
السابع.
إلا أن «مارتن ألبرو Martin
Albrow» (١٩٩٦) يعترض على الربط
بين العولمة والعصرية، فهو يرى أن «الحديث»
و«العالمي» من العصور ليسَا حقبًا مختلفة فحسب،
وإنما الأهم في رأيه أننا تَحرَّكنا إلى ما هو
أبعدُ من العصرية، ودخلنا حقبة كونية، وهو تَطوُّر
يعكسه تَحدِّي العقلانية والدولة-الأمة باعتبارهما
الأساس الأَوَّلي للعمل والتنظيم الاجتماعي.
«ألبرو» مُصِرٌّ على أن سبب عدم الاعتراف بهذا
التحول على نطاق واسع، يقع جزء منه على عاتق لغة
العصرية. أن تكون عصريًّا يعني أن تكون حديثًا
وجديدًا، فكيف إذن يمكننا التحرك إلى ما هو أبعد من
هذا الظرف؟ بل لماذا — حقيقة — نريد أن نفعل ذلك؟
من هذا المنظور فإن كاتبًا مثل «فرانسيس فوكوياما
Francis Fukuyama»
(١٩٩٢) الذي يعتقد أن نظامًا عالميًّا ديمقراطيًّا
ليبراليًّا يُمثِّل مستقبل الإنسانية، يظل أسير
نزعة وأفكار العصرية؛ وكما يعبر «ألبرو» عن ذلك فإن
«العصرية أصابت الخيال الإبداعي بالشلل»
(ibid., 9). الأمر
الذي قد يُفسِّر تَعلُّق بعض الكتاب بمفاهيم
«العصرية العالمية» أو «العصرية المتأخرة»، حتى على
الرغم من انقضاء زمانها. وفي رأي «ألبرو» أن حلول
الكونية محل العصرية، واضح في مدى الضرر الذي لحق
بالبيئة العالمية، والتَّسلُّح المعاصر مع احتمالات
تدميره العالم، وتأثير نُظُم الاتصالات العالمية،
وصعود الاقتصاد العالمي، ومن المثير للاهتمام أن
الطريق الخامس الذي يعتقد «ألبرو» أن «الكونية» قد
أخذَتْنا به إلى ما هو أبعد من افتراضات العصرية،
يخص ما يُطلق عليه «انعكاسية العولمة»، التي وفقًا
لها يشير الأفراد والجماعات الآن إلى العالم
باعتباره الإطار المرجعي لآرائهم ومعتقداتهم
(١٩٩٦م، ٦٤)، وعليه ليس هناك عصرية انعكاسية وإنما
«كونية انعكاسية».
(٦-١) رولاند روبرتسون النظرية الاجتماعية
والثقافة الكونية
الظرف الإنساني الكوني والاختراق
المتبادَل بين الكوني والمحلي
يؤكد «رولاند روبرتسون Roland
Robertson» (١٩٩٢، ١٩٩٥)، وهو
أحد الكُتَّاب البارزين في علم اجتماع العولمة،
أهمية المواجهة بين الكوني والمحلي، بوصفها
جزءًا من محاولة أوسع لتنمية عالم الثقافة داخل
دراسات العولمة، وهو مجال يؤكد أهمية الجوانب
الاقتصادية والسياسية. ونتيجة لذلك، فإن أسلوب
تناوله، أكثر من تأكيده البنية والنظام،
يُركِّز على العامل الإنساني ويُحدِّد ما هو
حالة اجتماعية وظاهراتية، أو حالة إنسانية
كونية كما يقول. هذه الحالة هي نِتاج عملية
تاريخية طويلة وتمثلها أربعة «أشكال من الحياة»
(الذوات – المجتمعات القومية – النظام العالمي
للمجتمعات – الجنس البشري)، هي في حالة تفاعل
مستمر فيما بينها وتَتغيَّر أثناء ذلك، ولكنها
تُثري أُسلوب رؤيتنا للعالَم. العولمة، عند
«روبرتسون» تشير بالتالي إلى تَقارُب أشكال
الحياة تلك، على أنه يَعتَبِر الاستعارة أو
نموذج «الميدان العالمي» مفهومًا أكثر دقة
للكوني أكثر من النظر إليه باعتباره نظامًا
كونيًّا مُتحدًا أو ثقافة كونية متكاملة
(١٩٩٢م، ٩-٢٦). من نقطة البداية هذه، يعتقد
«روبرتسون» أن هناك أوجه نَقْص مُعيَّنة في
مفهوم «العولمة». الذي يعتقد أنه يصف «انضغاط
العالم واتساع الوعي بالعالم ككل»
(ibid., 8).
على أن ذلك، كما قال سابقًا، لا يعني أنه يغفل
المحلي في تصوره للعولمة. العولمة عنده «تتضمن
خلق واحتواء ما هو محلي، كما تتضمن عمليات
تُشكِّل هي نفسها بدورها انضغاط العالم كله»
(١٩٩٥م، ٤٠). بعبارة أخرى: هناك دائمًا عملية
مستمرة يَتَّحد فيها الكوني والمحلي، العام
والخاص، بحيث يصبح المحلي نتاجًا للعولمة أو
على الأقل أحد جوانبها، وهي نقطة سوف نعود
إليها لاحقًا (ibid.,
30). ولكن «روبرتسون» يذهب إلى
ما هو أبعد من ذلك، حيث يرى الكوني والمحلي
يتبادلان الاختراق والتغلغل ببعضهما، لدرجة أن
يصبح المفهوم الأكثر ملاءمة لوصف هذه الحالة
هو:
Glocalization؛
أي إضفاء الطابع الكوني على ما هو محلي، وهذا
التغلغل بين الكوني والمحلي يؤكد أنَّهما ليسا
كيانين ثقافيين منفصلين أو مُتمايِزَين، وإنما
مزيج اندماجي تَوفيقي يحتوي عناصر من كليهما
(Holton,
2005).
كل ما سبق يعني أننا على مدار حياتنا اليومية
موجودون وفي أذهاننا الشعور بكل من الكوني
والمحلي. أن نعمل بشروط الكوني فقط يعني أننا
سوف نعمل بأسلوب شديد التجريد، نحن بالأحرى
نفهم الكوني، ونعيد إنتاجه في السياق المحلي،
ونُشكِّله على ضوء المؤثرات الثقافية المحلية
مثلنا. العام إذن يتم تخصيصه، وليس الأفراد فقط
هم الذين يمكن نسبتهم للكوني أو العالمي، فهذا
التَّوجُّه يمكن أن نجده في المؤسسات والأديان
والمجتمعات القومية على سبيل المثال
(Robertson, 1992:
29). ومن وجهة نظر «روبرتسون»
فإن ذلك يساعد أيضًا في تفسير ما نشهده من صعود
للقوى الوطنية والمحلية بما يؤدي إلى «صدامات
بين الأفكار الحضارية والاجتماعية والمجتمعية»
(Robertson, 1992:
141).
هذا التَّشظِّي هو نتاج للقدر الكبير من
الاختراق المتبادل والانتساب الحادث في المرحلة
المعاصرة، بالإضافة إلى الوعي المتزايد بالعالم
باعتباره مجتمعًا واحدًا، والتحديات المحتملة
التي يمثلها ذلك. هناك إذن تماثل واختلاف،
تَجانُس وتنافُر في حالة عمل، والنتيجة في نظر
«روبرتسون» (١٩٩٥م) هي أننا لا بد من أن نتحرك
إلى ما هو أبعد من الجدل حول المجانسة أو
التنافرية العالمية. وبينما هذه التوجهات، التي
تحدث في الوقت نفسه، «يمكن أن تتصادم في مواقف
مُحدَّدة، وهي تتصادم بالفعل»، لا يعود الأمر
مسألة خيار بين «إما وإما»، وإنما يصبح من
الضروري الاعتراف بأنها مُتمِّمة لبعضها،
ومُتغلغِلة في بعضها (ibid.,
40).
تعميم الخصوصية وتخصيص العمومية
لا ينكر «روبرتسون» وجود خطابات
مُعَولَمة أو وجهات نظر كونية عامة، كما لا
ينكر أننا نتأثر بما هو كوني؛ والحقيقة أن
الحياة الاجتماعية تُثرَى بالخطابات
العالمية عن طبيعة العالم ومكاننا فيه؛
ويعتقد — كما رأينا في الفصل الأول — أننا
يمكن أن نجد هذا التوجه عند الإغريق
القدامى (Robertson and
Inglis, 2006). بل، أكثر
من ذلك، يعترف بوجود ثقافة كونية على الرغم
من أن ذلك — ونحن نكرر هنا — ليس بالتنوع
المتكامل، وأنها تنبثق من التفاعل
المتبادَل بين الخاص والعام، والمحلي
والعالمي. على نحو أكثر تحديدًا، هناك
عمليات تُجْرَى تُشجِّع على «الخلق الكوني
للمحلي»، وذلك واضح في شكل حركة بيوت
الشباب الموجهة محليًّا، وانتشار سكن
الضواحي في العالم، والتوجه نحو تنمية حقوق
ومصالح الشعوب الأصلية عالميًّا، في شكل
حركات وحملات سياسية عالمية
(Featherstone and Lash,
1995: 4-5). كذلك فإن
الطبيعة الجمعية للثقافة الكونية منعكسة في
تَبنِّي أساليب العمل والإنتاج اليابانية
وتعميمها في دول أخرى؛ وكذلك فإن القومية
والمجتمع القومي اللذين انبثقا من هذه
الأيديولوجية، قد تَطوَّرَا بالترادف مع
العالمية. انتشار فكرة المجتمع القومي إذن،
شكل من المجتمعية المؤسسية، أو تمثل —
بمعنى آخر — تأسيس نظام عالمي للمجتمعات
القومية (Robertson, 1992:
58). عند «روبرتسون»
«الالتزام بفكرة المجتمع القومي مُكوِّن
حاسم في الشكل المعاصر للدولة» (١٩٩٢م،
١١٤). في رأيه أن الثقافة الكونية يتم
خَلْقُها، جزئيًّا، من التفاعلات بين
المجتمعات القومية (١٩٢٢م، ١١٤)، ومن هنا
فإن فكرة وجود «ثقافة كونية» «فكرة معقولة،
بالضبط مثل فكرة وجود المجتمع القومي أو
الثقافة المحلية»
(ibid).
قبل ذلك كله، ينبغي «ألا نتصور الثقافة
الكونية باعتبارها فوق أو أبعد من كل
المحليات، أو أن لها مواصفات تَتسامى إلى
ما هو أبعد من أي شيء يمكن أن نجده في
وحدات نظام كوني»
(Robertson 1995:
34). والحقيقة أن الكوني
ليس في مواجهة المحلي ولا مضادًّا له
(ibid.,
35). المحلي عند
«روبرتسون» جزء من الكوني. هناك، باختصار،
عملية ماضية في اتجاهين تتضمن «اختراق
العام للخاص»، و«تخصيص العام»
(Robertson, 1992:
100). وبالعودة إلى أساليب
العمل والإنتاج اليابانية، لتوضيح هذا
التوجه، نجد أن تلك الأساليب كان قد تم
سَبْكُها من مؤثرات عديدة عالمية/خارجية.
بعبارة أخرى: العام كان قد تم تخصيصه قبل
تعميم الخاص.
روبرتسون والثقافة والعولمة
إذا كان «روبرتسون» مُحقًّا، فإن الثقافة
تكون إذن في قلب العولمة؛ لأننا نُطبِّق
إطار عملنا الثقافي الخاص باستمرار على مدى
مسيرة تفاعلاتنا اليومية مع كل ما هو كوني.
«روبرتسون» بالتالي، يُعارِض «أنتوني
جيدنز» لأنه ببساطة يُعادِل العولمة
بالعصرية؛ لأنها تُقلِّل من أهمية عالم
الثقافة الذي يشمل تأثير الجنس والعرقية
والقومية والنوع
٨ و«روبرتسون» بالمثل، ينتقد
نظرية «فالرشتاين» عن نظام العالم؛ لأنها
لا تضع في اعتبارها — بشكل كافٍ — ذلك
التنافر والتَّعقُّد اللذين يُنجُمان عن
عمليات العولمة الثقافية. مثل هذا التنوع،
في رأي «روبرتسون»، ينبثق عن التفاعل
المُعقَّد بين العناصر الأربعة المكونة
للحالة الإنسانية العالمية، وهو تَنوُّع
يتم إنتاجه بشكل مستمر ويُعاد إنتاجه في
زماننا، وهو إلى حد كبير جانب من القوى
المُحرِّكة نفسها التي من المفترض أنها
تمثل المُجانَسة. على أن طرح «روبرتسون»
يواجه انتقادات كثيرة لإهماله الأبعاد
الهيكلية للعولمة؛ أي إنه يهون من شأن
القوى السياسية والاقتصادية التي تدفع
العولمة، وبالتالي لا يُولِي قضايا القوة
واللامساواة اهتمامًا كافيًا
(
e.g.,
Friedman). يضاف إلى ذلك،
الزعم بأن تَقَصِّيه العالمي والمحلي،
والعام والخاص ليس سوى عملية بحث مُجرَّد،
باعتباره يعتمد في ذلك على ما يحدث عندما
تَلتقِي تلك القوى وتتفاعل
(
Holton,
2005).
٩
على أنه فيما يتصل بفكرة هذا الفصل
والاهتمام العام للكِتاب، فإن إحدى نقاط
القوة في عمل «روبرتسون» هي أنه يطرح أسئلة
مهمة، ليس بخصوص الثقافة الكونية فحسب،
وإنما بخصوص العولمة كذلك.
(٧) العولمة والثقافة الكونية
بعد أن تناولنا أشكالًا بعينها من المجانسة
الثقافية في القسم الأول من هذا الفصل، نقوم الآن
بتوسيع النقاش في محاولة لتحديد أسباب إشكالية
الربط بين العولمة والثقافة الكونية في أي شكل قد
تتخذه الثقافة، إلى جانب إشكالية فكرة الثقافة
الكونية نفسها.
(٧-١) الثقافة الكونية
مُجادَلات نقدية وتطورات
معاصرة
من المستحيل تبين عدد من وجهات النظر في قضية
الثقافة الكونية دون دراسات العولمة؛ وبينما
يعتبر دعاة العولمة تفصيل عولمة الثقافة أمرًا
ضروريًّا، هناك متشككون مثل «هيرست»، و«طومسون»
(١٩٩٦م) يرون أن من المُرجَّح عدم وجود ثقافة
كونية بدون اقتصاد مُعولَم، رغم أنهما لَقِيَا
انتقادات كثيرة، كما أسلفْنَا، لفشلهما في
تقديم تحليل عن العلاقة المتبادَلة بين الثقافة
والاقتصاد وإهمالهما البُعد الثقافي للعولمة
بوجه عام. ردًّا على ذلك يشير المتشككون إلى أن
التصاعد الحديث للتوترات والصراعات بين
الثقافات المختلفة على مُستوًى عالمي، قد يوحي
بأننا ما زلنا بعيدين — كما كنا دائمًا — عن
العيش في عالم متجانس ثقافيًّا؛ وأخيرًا، من
منظور تحويلي، فإن مفهوم الثقافة الكونية غير
قادر على أن يحتوي داخله تَنوُّع وتَعقُّد
التدفقات الثقافية الكونية المعاصرة وردود
الأفعال التي تثيرها، بدءًا من المقاوَمة
الثقافية، وانتهاء بتأسيس شبكات عالمية جديدة
(Held et al., 1999:
327).
قد يبدو أن عددًا من التطورات المعاصرة يسير
عكس أشكال المُجانسة الثقافية التي أوجزناها من
قبل، وخاصة أن تَصوُّر الثقافة الكونية
باعتبارها «أمركة» أو «غَرْبَنَة» يقوم على شكل
مُعيَّن من النظام العالمي تسيطر عليه أمريكا
والغرب على التوالي، بينما يمر في واقع الأمر
بتغيرات مهمة. في هذا السياق يرى «فالرشتاين»
أن تآكُل قوة الولايات المتحدة، هو المَلْمَح
المُحدِّد لعصرنا، وهو تَطوُّر يعود إلى
سبعينيات القرن العشرين، ونتيجة لعدة عوامل بما
فيها التدهور النِّسبي لقوة أمريكا الاقتصادية،
والحقيقة أن مرحلة أفول أمريكا تُعْتَبر، في
نظر بعض المُعلِّقين، دلالة على أننا دخلنا
مرحلة جديدة من العولمة (e.g.,
Taylor, 2001). وفي الوقت الذي
ينبغي ألا نتجاهل فيه حقيقة أن الولايات
المُتَّحدة تظل هي القوة العالمية المسيطرة،
نجد أنها هي والغرب كله يواجهان اليوم
تَحدِّيات كبيرة، وبخاصة أمام ذلك النمو المذهل
لعدد من اقتصادات آسيا مع الصين والهند
المرشحتين لأن تُصبِحَا قُوًى اقتصادية عُظمى
في القرن الحادي والعشرين، وبالإضافة إلى شرق
آسيا، هناك عدد من الدول في أمريكا اللاتينية
تقوم بعمليات تصنيع سريعة وتصبح أكثر تكاملًا
مع الشبكات العالمية في هذه العملية؛ والواقع
أن بعض الملامح الدالَّة على العولمة؛ مثل
انتشار الأفكار، وتكنولوجيات الاتصال العالمية
قد أسهمَت في هذه التغيرات، بما مَكَّن
المجتمعات غير الغربية من أن تدخل في ممارَسات
أفضل، وتستوعب تكنولوجيات جديدة وتَختَصِر بعض
مراحل التطور؛ ولذلك بينما أخذَت بريطانيا مائة
عام لكي تَتصنع، نجد بعض الأنظمة الآسيوية
تُحقِّق ذلك في مدى عشرين إلى ثلاثين سنة.
الأثر التراكمي لهذه التطورات يطمس فكرة
التمييز بين دول العالم الثالث والعالم الأول،
ويمهد الطريق أمام عالَم مُتعدِّد الأقطاب،
وهذا بدوره له متضمنات ثقافية، وخاصة على
مُستوًى عالمي، بما يمكن دولًا ومناطق خارج
الغرب من أن يكون لها تأثير ثقافي أوسع. ولعل
ذلك يحدث إلى جانب انتشار ثقافة العمل التجاري
الآسيوية وأشكال تنظيم العمل التي ذكرناها
سابقًا، كما أن هناك مُنتجَات وممارَسات ثقافية
آسيوية أخرى تنتشر عالميًّا مثل الطب الشعبي،
والعلاجات التقليدية، والأطعمة، والأفلام،
وفنون القتال، وبرامج التخسيس، وبرامج
الكمبيوتر، والألعاب، والفلسفات البوذية
والطاوية، وكما نرى، يتزايد انتشار الروحانيات
وطُرق التداوي الشرقية في الغرب.
«جوناثان فريدمان
Jonathan
Friedman» (١٩٩٩) يرى أننا
نشهد تَحدِّيًا رئيسيًّا للهوية الثقافية
الغربية، ويشير بالمثل إلى «صعود الشرق»، ولكن
أيضًا إلى التطورات الداخلية في الغرب مثل
التعددية الثقافية وتَشظِّي الدولة-الأمة،
ويعتبر ذلك دليلًا على انهيار العصرية الغربية
ومعها الهيمنة الثقافية، وهو يعتقد أن ذلك
مرتبط بالتغيرات التي تحدث في الاقتصاد العالمي
الذي يشهد «تآكُلًا في الهيمنة، وزيادة في
تصدير رأس المال، ولامركزية في تَراكُم رأس
المال على نطاق عالمي» (
ibid.,
235). باختصار، ربما يبدو أننا
نعود إلى العالم مُتعدِّد المراكز الذي كان
معروفًا في القرن الثالث عشر، الذي عرفته
«جانيت أبو لغد». هذه التطورات نجد آثارها في
عالم الثقافة الذي يمر هو الآخر بمستويات عالية
من اللامركزية، أو التعددية؛ مثل إحياء الهويات
العرقية والدينية بما يعكس القوة والنفوذ
الثقافي الغربي الذي ينكمش
١٠ «فريدمان» يرى أن الأهمية
المتزايدة التي تُعطَى الآن للدراسات الثقافية،
ونظرية الهجنة، وأنثروبولوجيا ما بعد الحداثة،
من أعراض أزمة الثقافة والهوية الحديثة.
والواقع أن تَعدُّدية المراكز تسير ضد الفكرة
الكلية لثقافة كونية؛ لأنها حالة يُميِّزها
غياب قوة واحدة مهيمنة وبالتالي — أيضًا — غياب
قوة مُوحَّدة أو قوة مُجانِسة، باختصار، ليس من
المرجَّح أن تُوَلِّد المراكز المتعددة الأشكال
الثقافية نفسها أو حتى أشكالًا مشابهة.
(٧-٢) إدراك التعقُّد الثقافي
تصور الثقافة الكونية باعتبارها «أمركة» أو
«غَرْبَنَة» — وافتراض أنها تَتَّخذ شكلًا
مُعيَّنًا — ليس من المُرجَّح أيضًا أن يُعبِّر
عن تَعقُّد عمليات العولمة المعاصرة.
التَّدفُّقات الثقافية العالمية لا تنبعث —
هكذا — ولا بشكل أساسي من الولايات المتحدة أو
الغرب في أي لحظة. الصور والرموز والأفكار
والإعلانات والأفلام وغيرها من الأشكال
الثقافية سوف تنبعث من مصادر أخرى مُتعدِّدة،
وتنتقل في اتجاهات مختلفة عَبْر الكرة الأرضية،
ولن يكون لكثير منها علاقة كبيرة، أو أية علاقة
بالمرة، بالغرب أو أمريكا. هناك أشكال من
التفاعل الثقافي تحدث بين مناطق من أفريقيا
وآسيا، وكذلك بداخل تلك القارات، وكما رأينا في
الفصل الأول، فإن ذلك يحدث على مدى قرون عدة،
هذا إلى جانب أن فكرة «الغَرْبَنَة» أو
«الأمركة» تتجاهل إمكانية التَّدفُّقات
الثقافية المضادة في هيئة الأطعمة والأزياء
والعقائد والموسيقى والأفلام
(e.g.,
Bollywood). ومُؤثِّرات أخرى
تنتقل من بلاد مختلفة إلى الغرب. الولايات
المتحدة، على سبيل المثال، مستمرة في تَمثُّل
ثقافات أخرى على مدى تاريخها، وهو أكثر ما يكون
وضوحًا في الدستور الذي استمد الكثير من
الأفكار الثورية والأوروبية. باختصار: أمريكا
بمثابة «إسفنجة ثقافية»، وعليه فهي مجتمع دائم
التغير (Nye, 2002:
242). وهو موضوع سوف نعود إليه
لاحقًا.
التدفقات العديدة والاتصالات المتبادلة التي
تُمثِّل العولمة، إذن، ليس من المُرجَّح أن
تعمل كقوة مجانسة؛ فهل يمكن، في هذا السياق،
لأي قوة أن تَتسيد التدفقات والعمليات الثقافية
العالمية؟ الحجم الإجمالي للتدفقات العالمية
المعاصرة في المعلومات والصور والأفكار، يعني
أنه لم يَعد بالإمكان احتكارها — إن حدث —
بواسطة أي دولة أو إقليم أو مؤسَّسة واحدة،
وفوق ذلك أنه بالتركيز على الثقافة الكونية،
سواء بالمعنى المفرد أو الجمعي، هناك دائمًا
احتمال إغفال أشكال ومصادر أخرى للهيمنة
الثقافية، بالنسبة لكثير من الجماعات الثقافية،
ليست الأمركة أو المَكْدَلَة هي التي تُهدِّد
استقلالها وهويتها الثقافية، وإنما قوة إقليمية
أو تأثير محلي. أهالي التبت مثلًا، يجاهدون لكي
يُؤكِّدوا ثقافتهم وهويتهم الدينية البوذية
نتيجة لمحاولة الصين «تصيين
Sionization»
بلادهم، في حقبة ما بعد الحرب الباردة — كذلك —
كانت دول كثيرة في الاتحاد السوفيتي السابق
تحاول الحد من مستوى التأثير الثقافي والسياسي
الروسي في مجتمعاتها، إلا أن الضغوط الثقافية
خارج «العالم الأول»، هي كذلك عملية ذات
اتجاهين؛ فالصين والهند مثلًا قوى إقليمية
كبيرة تمارس نفوذًا ثقافيًّا هائلًا على الدول
المجاورة، بينما هي نفسها ليست مُحصَّنة ضد
التَّدفُّقات المضادَّة، في حالة الصين، فإن
الضغط الثقافي وتأثير دول الجوار يأتيها في شكل
الثقافة الشعبية القادمة من هونج كونج وتايوان،
من الأغنيات الشعبية إلى الغناء «الكارا أوكي
Karaoke» وهو
ما يُشكِّل إزعاجًا لحكومة بيجين
(Yang,
2004).
بالنسبة لقضية التَّعقُّد الثقافي، فليس من
المؤكَّد ما إذا كنا نستطيع أن نفكر في الأمر
بالأسلوب نفسه وبالصيغة نفسها … عولمة … أمركة
… آسينة، «بيتر جي تيلور
Peter
J. Taylor» (٢٠٠١) يعتقد أن
وصف التطورات الكونية على هذا النحو عملية
إشكالية، وينبغي تَجنُّبه لأنه يوحي بأن
العملية قد أخذت شكلها النهائي، وهكذا فإن صيغة
الفعللة (إضافة اللاحقة
ization إلى
الكلمة الإنجليزية) تنطوي على حتمية، وبذلك فهي
تنكر التعقد وتنفي إمكانية مسارات بديلة
١١ في حالة مشابهة، هناك سبب إضافي
للحذر من تأكيد أن الثقافة الكونية تعني
الأمركة أو الغَرْبَنَة، أو أنها نتاج
للرأسمالية العالمية، وهو ما يُوجَد في التحدي
النقدي الذي تُواجِهه هذه المفاهيم الآن. وهناك
تَوجُّه متزايد في الوسط الأكاديمي للنظر في
المفاهيم على أساس أنثروبولوجي على ضوء الخبرات
والتجارب المحلية، وعليه يُصبِح بالإمكان القول
بوجود حداثات مُتعدِّدة ورأسماليات مُتعدِّدة،
وكما رأينا عولمات متعددة
(
Berger and Huntington, 2002;
Wei-Ming, 2000). بشكل عام،
هناك الآن تَقبُّل أكثر لطُرق مختلفة للعصرية
ومفاهيمها؛ مثل الحداثة الإسلامية أو الآسيوية،
ووجهة نظر بأن النموذج الغربي قد لا يكون
الطريق الوحيد نحو التحديث، وربما يكون غير
ملائم — من الناحية العملية — لبعض الثقافات
والمجتمعات (انظر:
Eisenstadt,
2002). بينما قد يبدو الاعتراف
بأنواع مختلفة من الرأسمالية مثل النماذج
الأنجلو أمريكية والإسكندنافية والآسيوية، أنه
يسير ضد فكرة الرأسمالية العالمية (انظر:
Albert,
1993).
على أيَّة حال، وعلى سبيل الرَّد على هذه
النقطة تحديدًا، ينبغي علينا ألا نَنسى الدور
الذي يلعبه المال والنفوذ في تشكيل العولمة
المعاصرة، على الرغم من وجود أشكال مختلفة من
الرأسمالية، فإن مبدأ تعظيم الرِّبح موجود في
أساس كل منها، وبهذا المعنى يصبح بالإمكان أن
نتحدث عن شكل كوني من الرأسمالية. يضاف إلى ذلك
أن بعض المُعلِّقين يقللون من أهمية الأشكال
المختلفة من الرأسمالية، مُصِرِّين على أن
النموذج الأنجلو-أمريكي الليبرالي الجديد، هو
المهيمن لأنه يَجمَع بين القوة
الأنجلو-أمريكية، والأيديولوجيا، وتكنولوجيات
الاتصالات الحديثة، ودعم المؤسسات الدولية؛ مثل
البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. يتبع ذلك أن
يصبح بالإمكان الإشارة إلى أهمية تأثير
الثقافات المحلية في مواجهة مثل هذه الضغوط.
ولكن، إذا كان علينا أن نتخلَّى عن ذلك كله،
ونُجري تقويمًا عامًّا لما يَحدُث بالنسبة
للرأسمالية في المرحلة المعاصرة، فسوف تكون
أمامنا أشكال المُجانَسة والتمييز في كِفَّتَين
متساويتين.
إلى جانب النظر إليها من وجهة نظر
أنثروبولوجية، فإن الشك يُخيِّم على درجة دقة
وجدوى المفاهيم التي نُناقشها هنا. الاعتراف
يتزايد بأن «الغرب» و«أمريكا» مفاهيم عامة …
«مظلة» يندرج تحتها تنوُّع هائل؛ فعندما نتنقل
في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، نجد أن
هناك أكثر من أمريكا. في حالة «الغرب»، درجة
التَّنوُّع أكثر وضوحًا، مع وجود. تدفقات
ثقافية متنافسة تتنقل بين أمريكا وأوروبا،
بالإضافة إلى الفوارق الثقافية والسياسية
بينهما، كما ظهر أثناء حرب العراق الأخيرة
(انظر: Kayan,
2003).
الشيء نفسه نجده عند مُنظِّري الهُجْنَة،
فالغرب وأمريكا لهما في نظرهم بِنى ثقافية
مُكوَّنة من عدة مصادر مختلفة؛ فقد رأينا في
الفصل الأول أن الشرق له تراث ثقافي غَنِي
ومختلِط، ولكن ذلك ينطبق بالدرجة نفسها على
الولايات المتحدة، ﻓ «البيتزا» — مثلًا — التي
تُعْتبَر أحد الرموز الأمريكية التي تُصدِّرها
للعالم، هي أحد مُنتجات أجيال من المهاجرين
الإيطاليين (Nye, 2002:
80). كل ذلك يثير أسئلة عنما
نقصده ﺑ «الغَرْبَنَة» و«الأمركة»، وهو ما
يُضعِف بدوره من فكرة أن كليهما يُمثِّل ثقافة
كونية. ومن منظور مُنظِّري الهجنة الذين عادة
ما يتصورون العولمة المعاصرة مرحلة اندماج
متسارع (Nederveen Pieterse,
2004). هل ينبغي علينا
الاستمرار في استخدام مسميات اصطناعية مثل
«الغرب» في ظل هذه الظروف؟
عمليات العولمة المعاصرة، بعبارة أخرى، تبرز
تنافرًا أكثر في المفاهيم ذات الطبيعة الملتبسة
بالفعل؛ وفي هذا السياق هناك زعم دائم أنَّنا
نشهد عدم وضوح أو ضبابية في مفهومي «الشرق»
و«الغرب»، حيث إن الثقافات تمتزج والأقاليم
تصبح أقل تمايزًا واختلافًا، على أنه ربما تكون
هناك مبالغة في أهمية طرح الهجنة، ربما تكون
مفاهيم مثل «الغرب» ابتكارات «اصطناعية»، ولكن
ذلك لا يعني أنه لا توجد ميول أو تَوجُّهات
سائدة بداخلها، الْتحمَت بمرور الوقت. يضاف إلى
ذلك أنه ستكون هناك دائمًا، داخل أي مواجهة
ثقافية، مُؤثِّرات أو قُوى أقوى سائدة على
المستوى الكوني؛ ذلك لأن المجتمَعات الغربية
عُرضة لمستوى القصف الثقافي الخارجي نفسه مثل
المجتمعات غير الغربية.
(٧-٣) الكوني والمحلي
هناك نقد آخر يوجه إلى التركيز على الثقافة
الكونية فيما يتعلق بعمليات العولمة، وهو أنه
يتجاهل الطُّرق المختلفة التي تتأصل بها هذه
الثقافة، أو رفضها ومقاومتها إذا افترَضْنا
حدوث ذلك. هذا التركيز يفترض أن «المحليين»
مُجرَّد مُتلقِّين سلبيين لمثل تلك الثقافة
بدلًا من قيامه بدور في تشكيلها على نحو نَشِط،
ولهذا السبب هناك اعتراف متزايد في إطار دراسات
العولمة بأن الكوني والمحلي موجودان معًا في
عملية تفاعُل مستمر
١٢ هي مواجهة تتضمن العنصر البشرى ولا
تنطوي على مُجرَّد الهيمنة من جانب الثقافة
الكونية والقوى البنائية. وكما رأينا، فإن
«رولاند روبرتسون» يَتبنَّى فكرة إضفاء الطابع
الكوني على ما هو محلي، ليوضح الأسلوب الذي
يتفاعلان به ويتداخلان ليثري كلاهما الآخر.
إضفاء الطابع الكوني على ما هو محلي أو
«المحلية الكونية»، هي «رؤية كونية مكيفة حسب
الظروف المحلية»، وكانت في الأصل مفهومًا
شائعًا في دوائر العمل التجاري الياباني كما
يقر بذلك «روبرتسون» نفسه (١٩٩٥م، ٢٨)، واكتسبت
اعترافًا عالميًّا عندما تبنتها «سوني»
إستراتيجية للتسويق، والآن تستخدمها مؤسَّسات
كبرى في أرجاء العالم. بشكل جوهري، تحاول
الشركات تكييف منتجاتها حسب أذواق وتوجُّهات
الأسواق المحلية، تقوم شبكة
MTV ببث موسيقى
صينية في الصين، وأغنيات شعبية هندية في الهند
(
Eckes and Zeil er;
2003). حتى «ماكدونالدز»،
والمفترض أنها أكبر مُجانِس ثقافي، تستشعر
الظروف الثقافية المحلية وتُكيِّف منتجاتها حسب
الأطر التي تعمل فيها. وبينما يعكسون القبول
المتزايد لفكرة أن الكوني والمحلي منخرطان في
عملية تَفاعُل مستمرة، يؤكد بعض الكُتاب
إمكانية انتقال التدفقات الثقافية من المحلي
إلى الكوني لإثراء الأخير (انظر:
Cvetkovich and Kellner,
1997). مرة أخرى، هناك دليل،
ربما، على هذا التوجه من جانب «ماكدونالدز»
التي تُركِّز الآن على أساليب الحياة الصحية
وبيع السلاطة والفاكهة في مطاعمها، على الرغم
من أن هذه النقلة قد يكون مرجعها النقد الذي
وُجِّه إليهم، أكثر من كونها جاءت نتيجة
لاهتمام الشركات بالثقافات المحلية.
على الرغم من التأكيد مؤخرًا على عملية إضفاء
الطابع الكوني على ما هو محلي، فإن هذا لا يعني
بالضرورة أن المواجَهة بين الكوني والمحلي
متكافئة. الثقافات الأصلية في الأساس مستجيبة،
وهي تتكيف مع المؤثرات الأجنبية، والحقيقة أنه
لن تكون هناك ديناميكية كونية/محلية دون المزيد
من القوى الخارجية مثل المؤسسات متعددة الجنسية
والمؤسسات العابرة للحدود القومية التي تصنع
تدفقات ثقافية وتدعم مثل تلك المواجهات. ولكي
نكمل موضوع القوة هذا في علاقته بالمواجهة
الكونية المحلية، ينبغي عدم إغفال إمكانية وجود
البِنى المسيطرة التي تُشكِّل طبيعة هذا
التفاعل. وبالعودة إلى النقطة التي تناولناها
عاليه، نجد أن الرأسمالية والمبادئ الرأسمالية
هي التي تحفز المؤسَّسات متعددة الجنسية
والعابرة للحدود القومية لتأسيس شركات ومنافذ
في أنحاء مختلفة من العالم، بالإضافة إلى
توجيهها لكي تتكيف مع الأسواق المحلية؛
والحقيقة أن هناك كذلك حسابات «فيبرية»
١٣ منطقية تعمل هنا، بمعنى أن المؤسَّسات متعددة
الجنسية والعابرة للحدود مثل «ماكدونالدز» قد
حسبتها، ووجدت أن توجُّهَها في تعاملاتها نحو
المحلي هو أكثر الطرق كفاءة لزيادة
أرباحها.
وفي النهاية علينا أن نفكر ما إذا كان
بالإمكان الآن أن تكون «محليًّا». ومع وجود
القوة وإمكانيات التوسع للتدفقات الثقافية
الكونية، هل هناك أي مكان في العالم لم يتأثر
بدرجة ما بالعولمة؟ ما معنى، إذن، أن تكون
محليًّا؟ وإذا كان المحلي لم يَعُد له وجود فهل
يعني ذلك أن كل شيء قد أصبح كونيًّا؟
«أولف هانرز Ulf
Hanners» (١٩٩١) يُلمِّح إلى
ذلك مشيرًا إلى أن التدفقات المحلية يتزايد
التواصل بينها لدرجة أنها أصبحت تُشكِّل خطابًا
كونيًّا للمحلية. على أننا نستطيع أن نمضي
بعيدًا في هذا السياق، إذ بينما نجد كل مكان في
العالم، تقريبًا، قد تأثَّر بدرجة ما وأفاد من
القوى الكونية، لا بد من أن نعي أن ممارسات
الناس وسلوكهم اليومي تَتكيَّف حسب تاريخهم
الحياتي البيئي والشخصي المباشر، وهذا يوضح
النقطة الأساسية في العلاقة بين الكوني.
والمحلي تمامًا، باختصار، لكي تكون القوى
السائدة أو المجانسة موجودة، لا بد من أن يتسع
تأثيرها وأن يعاد إنتاجها في مناطق جديدة؛
ولكنها في هذه العملية تتفاعل مع ما هو محلي،
حيث المرجح أن يتغير شكلها في هذه الأطر
والسياقات المختلفة.
(٨) «ثقافة» كونية أم «ثقافات» كونية؟
هل نشهد إذن ظهور ثقافة كونية؟ الإجابة باختصار
أن ذلك ليس من المرجَّح حدوثه سواء الآن أو في
المستقبل المنظور. والحقيقة أنه على ضوء المدى الذي
وصل إليه اتساع التنوُّع الثقافي الإنساني، ربما
تكون «ثقافة» كلمة كبيرة وقوية لكي تستخدم على
المستوى الكوني، ولعل الأرجح في حال استمرَّت
الأنماط الحالية، أن نرى المزيد من الناس يُطوِّرون
استعدادهم وقدراتهم على التفكير فيما أبعد من
المحلي والخاص، ويكتسبون الشعور بأنهم موجودون في
العالم وأنهم جزء منه. في النهاية، وعلى الرغم من
ذلك، لكي نقرر ما إذا كان توجد أو تنبثق ثقافة
كونية، نحن مرة أخرى في حاجة للتفكير فيما إذا كان
اهتمامنا بتحديد ثقافة كونية مُوحَّدة دليلًا على
ميلنا للدولة-الأمة، الأمر الذي يصبح — على نحو
متزايد — غير ملائم في المرحلة المعاصرة من
العولمة. وهكذا فإن الاستقرار والتجارب المشتركة
المطلوبة لتكوين مثل هذه الثقافات في حالة صراع مع
كل من اتساع التدفقات الثقافية المعاصرة وعدم
القدرة على التنبؤ بها، يتبع ذلك، إذن، أننا ينبغي
ألا نناقش الثقافة الكونية بالشكل الذي تتخذه داخل
المجتمعات القومية أو الجماعات الدينية؛ وذلك لأننا
لا يمكن أن نتوقَّع أن تمارس ثقافة كونية السيطرة
نفسها علينا وعلى خيالنا وتصوراتنا مثلما تفعل
ثقافتنا القومية أو الدينية
(Featherstone,
1990). وفي هذا السياق يصر «أنتوني
سميث Anthony
Smith» على أن «الثقافة الكونية»،
مقارنة بالثقافات القومية هي ثقافة «بلا ذاكرة
أساسًا» (١٩٩٠م، ١٧٩) بالنسبة له ليس هناك «ذاكرات
كونية» تستطيع أن تُوحِّدَنا جميعًا، وكل ما يمكن
أن تفعله «أكبر التجارب الكونية حتى الآن الاستعمار
والحروب العالمية؛ هو أنها تُذكِّرنا بانقساماتنا
التاريخية» (ibid.,
180). من المرجح كذلك أن نفهم
الأحداث التاريخية من خلال عدساتنا القومية، وبذلك
نستبعدها من أن تكون ذاكرات عالمية أو أساسًا
لثقافة كونية. عمليات التطبيع الاجتماعي، والقيم
المشترَكة، والشعور بتجانس الجماعة، وهي الأمور
المطلوبة لتأمين تَطوُّر مثل هذه الثقافة؛ كلها
غائبة، ناهيك عن الذاكرات التاريخية المشتركة. يضاف
إلى ذلك أن الكثير من مواجهاتنا الكونية سيكون من
النوع الافتراضي الذي يدور في الفضاء الإلكتروني،
وبالتالي من غير المرجح أن تكون ذات معنى مثل
«حياتنا المحلية الحقيقية» وخبراتنا اليومية التي
تحدث في حدود مناطقنا القومية الخاصة. لكي تَطوي
ثقافة كونية صفحة ثقافتنا القومية، فإن الأمر يتطلب
حالة كونية، أو على الأقل مؤسَّسات عالمية أكثر
تطورًا تسمح بأشكال المشارَكة العامة. باختصار،
مقارَنة بثقافتنا القومية، نحن نشعر بقدر قليل من
الارتباط، أو ربما لا نشعر على الإطلاق، بثقافة
كونية، حيث إنها لا تشبع حاجة عاطفية أو عملية
لدينا، من منظور «سميث»، على ضوء وثاقة الصلة
بالثقافات القومية، فإن أفق تَوقُّع تَغيُّر هذه
الأوضاع في المستقبل المنظور ضئيل. «سميث» يذهب
أبعد من ذلك مجادلًا أن «فكرة وجود ثقافة كونية
مستحيلة عمليًّا» (١٩٩٠م، ١٧١)؛ وذلك لأننا إذا
فكَّرنا بالثقافة باعتبارها «أسلوبًا جمعيًّا
للحياة»، أو مستودَعًا للمعتقدات والأنماط والقيم
والرموز، سيكون بالإمكان حينئذٍ فقط أن نتكلم عن
«ثقافات» وليس عن مجرد «ثقافة»، حيث إن «أسلوبًا
جمعيًّا للحياة أو مخزون معتقدات … إلخ»، يفترض
مسبقًا وجود أساليب ومخزونات مختلفة في عالم من
الأساليب والمخزونات
(ibid).
على أن المؤكد أن مفهوم «سميث» للثقافة متأثر
بعمله في مجالات القومية والثقافات القومية، وهذا
يؤدِّي به إلى تَصوُّر الثقافة وتطوراتها الكونية
على نحو خاص، على العكس من ذلك فإن عالم
الأنثروبولوجيا الاجتماعية «أولف هانرز»، الذي كتب
كثيرًا عن العلاقة بين الكوزموبوليتان (العالميين)
والمحليين في المرحلة المعاصرة، نجد لديه مفهومًا
أوسع للثقافة وأسلوب استشراف مختلفًا للموضوع،
مُحدِّدًا — كما ذكرنا سابقًا — وجود ثقافة عالمية
في التواصل بين الثقافات المحلية، إلى جانب تَطوُّر
الثقافات الذي لا يتوقف في أي منطقة
(1992b). عند
«هانرز» العالم ليس نظامًا للمعنى أو التعبير
متجانسًا ومنفردًا، لقد أصبح بالأحرى، «شبكة واحدة»
من العلاقات الاجتماعية، وهناك بين مناطقه المختلفة
تَدفُّقات من المعاني، إلى جانب تدفقات البشر
والسلع (١٩٩٠م، ٢٣٧)، ولكن مرة أخرى يمكن أن نرى
كيف أن الخلفيات الأكاديمية المختلفة يمكن أن تُثري
المنظورات المختلفة عن العولمة الثقافية، كلاهما،
«سميث»، و«هانرز» مُحِق في تقييمه للثقافة الكونية،
من وجهة نظره لما يُمثِّل الثقافة.
هناك عقبة أخرى أمام تكوين ثقافة كونية موحَّدة،
وهي عدم وجود «آخَر». التكون الثقافي والتضامن
الجمعي يدعمهما إمكانية المقارَنة المضادة بجماعة
ثقافية أخرى، جماعة ينظر إليها باعتبارها مختلفة،
غريبة، لا تنتمي، أو باختصار «خارجية»
(Featherstone,
1990). على أننا لو تَصوَّرْنا
ثقافة كونية بمعنًى محدَّد، الغَرْبَنَة مثلًا، حيث
يكون بالإمكان تحديد «آخَر» في هيئة تلك المجموعات
أو المجتمعات التي لا تتسق مع المعايير والقيم
الغربية، لو تَصوَّرْنا ذلك لأصبح بالإمكان أن يقال
الآن عن «أسامة بن لادن»، وشبكة القاعدة أنهم
يقومون بهذا الدور، فأعمالهم تُقدَّم عادة بواسطة
القادة الغربيين على أنها تَحَدٍّ للنظام العالمي
(الذي يُنْظَر إليه من منظور الغرب باعتباره
الديمقراطية وحقوق الإنسان وحكم القانون)، ومن هنا
فَهُم مُتَّهَمون بالعمل خارج حدود المجتمع
المتحضر، على أن الفكرة الكلية للغربنة — كما رأينا
— لا تَعدم نُقَّادًا لها.
هناك — باختصار — عوامل كثيرة تعمل ضد بلورة
ثقافة كونية في أي شكل؛ وذلك على نحو خاصٍّ في وجود
الأساليب المُعقَّدة التي تعمل بها عمليات العولمة
التي تتضمن — إن كان رولاند روبرتسون على حق — مدى
التغلغل بين المحلي والكوني؛ فمن غير المُرجَّح
تمامًا أن تنبثق ثقافة كونية موحدة. وكما أشار
«مايك فيذرستون»: «إننا بدلًا من التفكير بثقافة
كونية عامة، علينا أن نَتصوَّرها ميدانًا تظهر فيه
الفوارق وصراعات القوى» (١٩٩٥م، ١٤)، وبينما هناك
ضغوط من أجل التجانس تُمارِس تأثيرها في المرحلة
المعاصرة، هناك في الوقت نفسه قُوًى مغايرة تعمل؛
وهذا يعني أن علينا أن نتعامل مع مفاهيم مثل
«الأمركة» و«المَكْدَلَة» بتشكك كبير، رغم أن
«ريتزر» وغيره قد يردون بأنهم إنما يحاولون تحديد
التَّوجُّهات السائدة في عصرنا أكثر ممَّا يحاولون
تحديد ظروف نهائية. حتى هذه التوجهات سوف يطالها
الفهم النقدي ومحاولة التأصيل، وربما يتم رفضها
بالكلية، إلى جانب أنها سيكون عليها التَّصدِّي
لتوجهات مضادة. من هنا فإن النتيجة الرئيسية لقوى
التجانس الثقافي، في نظر بعض الكُتاب، هي
التَّفرِقة والمزيد من التَّشظِّي
(e.g., Axtmann,
1997).
ربما يكون من الأجدى أن نفكر بالثقافة الكونية
بصيغة الجمع … أو بأن هناك ثقافات كونية، أو على
الأقل «ثقافات في حالة تَعَوْلُم». نحن نشهد — على
سبيل المثال — ظهور عدد من الثقافات الكونية في
المرحلة المعاصرة، بما في ذلك إسلام مُعَوْلَم، أو
بوذية، أو مسيحية إيفانجليكية، وحركات مناهضة
للعولمة منتشرة في العالم، وحركة بيئية عالمية،
ومجتمع موسيقى عالمية، وثقافة كرة قدم عالمية.
المشترك بين هذه الحركات، إلى جانب اتساعها الكوني،
هو أن المؤيدين والمتحمسين والتابعين لها يتوحدون
مع شكل ثقافي خاص يميزهم عن سواهم، ومن ثم يكون
لديهم شيء مميز يرتبطون به، والمُرجَّح أن يُقوى
هذا الارتباط. هذه الثقافات الكونية، بعبارة أخرى،
تحتفظ ببعد شديد الخصوصية، وهذا يمضى إلى حد ما في
نفس اتجاه نقد «أنتوني سميث» ومفهومه للثقافة. فكرة
الثقافات الكونية هي كذلك اعتراف بحقيقة أننا نعيش
ثقافات مُتعدِّدة، بما في ذلك تلك على المستوى
الكوني؛ فالمُسلم، على سبيل المثال، سوف يتوحَّد مع
الأمة أو المجتمع الإسلامي العام الذي يمتد في كل
أجزاء العالم، ولكنه في الوقت نفسه قد يكون
مُهتمًّا بكرة القدم العالمية، ومن ثَمَّ مرتبطًا
بثقافة كونية أخرى. هذا الأسلوب من الاستشراف يعني
كذلك أنَّنا يمكن أن نرى أشكال التجانس الثقافي
مغطاة هنا، مثل المَكْدَلَة والأمركة والغَرْبَنَة،
التي قد انتشرت بالتأكيد عَبْر الحدود الجغرافية
وفي مناطق أخرى باعتبارها مجرد ثقافات كونية
متنافسة أكثر من كونها تُمثِّل ثقافة كونية موحدة.
والحقيقة أن تصور الثقافة الكونية بالمعنى الأخير
فيه تجاهُل للتنوع الكبير الموجود في العالم،
بالإضافة إلى كونه تقييمًا غير واقعي لأساليب
عمليات العولمة المعاصرة؛ يضاف إلى ذلك أنه بتناوُل
هذا الموضوع على هذا النحو، فإننا نعترف بأنه بينما
لا توجد قوة تَجانُس ثقافية مسيطرة تعمل، فإن ذلك
لا يعني أن قوى التجانس لا وجود لها، وأنها تمارس
بواسطة أناس مرتبطين بها في أرجاء الكرة
الأرضية.
إذا قبلنا بوجود ثقافات كونية، يصبح بالإمكان أن
نفهم على نحو أفضل كيف يتفاعل الكوني والمحلي،
وبخاصة فيما يتعلق بعملية التكوين الذاتي. ببساطة،
لو أن هناك «ثقافة» كونية منفردة فسوف يكون هناك
تَوقُّع لرفضها من قبل كثيرين في العالم والعكس
صحيح؛ فمع «ثقافات» كونية سيكون هناك البعض ممن
نتوحد معهم وسوف يكونون جزءًا من ثقافتنا المحلية،
التي لا شك في أنها تُثِري تصوراتنا للثقافات
الكونية المختلفة؛ كذلك فإن الثقافات الكونية،
وتحديدًا بعضها، يمكن أن تُشكِّل جزءًا من إطار
تَصوُّرنا للعالم وفهمه. هذا يعني أن التدفقات
الثقافية التالية سوف يتم فهمها في ضوء هذا التفاعل
بين الكوني والمحلي، بوصفه جزءًا من عملية مستمرة
للتكون الذاتي؛ وعليه فالموضوع مُكوَّن من
المواجهة، أو بالأحرى التغلغل المتبادَل بين الكوني
والمحلي.
وفي النهاية، فإن هذا التقصي للثقافة الكونية لم
يكن مقصورًا على العالم الثقافي، وإنما تضمن بين
أشياء أخرى اعتبارًا للنظام السياسي العالمي وطبيعة
الاقتصاد الدولي. واضح أن الثقافة مرتبطة بشكل وثيق
بكل من القوة والمال، وذلك يعيدنا إلى موضوع
لخَّصْناه في المقدِّمة وهو: إذا كنا نريد أن نفهم
العولمة الثقافية، علينا أن نعتمد على الأفكار
بعيدة النظر في أساليب التناول المتعددة المجالات
المعرفية. ما غَدا واضحًا على مسار هذا الفصل هو أن
المواقف والرُّؤى المتباعدة حول قضية الثقافة
الكونية، يمكن إرجاعها إلى الفوارق بين المجالات
المعرفية الأكاديمية، وكما رأينا في القسم الأول من
الفصل، فإن تأكيد التجانس الثقافي (بمختلف أشكاله)،
والأنظمة العالمية كان أقوى بين علماء الاجتماع
والاقتصاد. على النقيض من ذلك نجد أن القسم الثالث
يؤكد التنافر والهجنة فيما يتعلق بالثقافة الكونية،
من جانب مُنظِّرِي الثقافة وعلماء أنثروبولوجيا ما
بعد الحداثة، مرة أخرى، يبدو أن هناك جانبًا من
العولمة الثقافية يُولِّد انقسامات بين العلوم
الاجتماعية والدراسات الثقافية.
للمزيد عن مادة الفصل الرابع:
Roland Robertson’s:
“Globalization,” 1992.
M. Featherstone,
(ed.): “Global Culture,”
1990.
Globalization:
Capitalism and its
Alternatives.
الذي يبحث بالتفصيل أوجه الصلة بين العولمة
والرأسمالية والثقافة الاستهلاكية.
Wallerstein
(1990a).
Boyne
(1990).
George Ritzer’s: “The
McDonaldization of Society,”
(1993).
Barry Smart’s (ed.):
“Resisting McDonaldization,”
(1999).