الفصل الخامس
العولمة والثقافة القومية
كثيرًا ما يؤكد أن العولمة تؤدي إلى تآكل الثقافة
القومية. هذا الفصل من الكتاب سوف يقوم بعملية تقويم
لهذه الرؤية في ضوء التحديات التي تواجه الدول-الأمة
والثقافات القومية في حقبة العولمة؛ مثل تأثير الميديا
العابرة للحدود، وتكنولوجيات المعلومات والاتصال،
وأنماط الهجرة، والتعددية الثقافية المتزايدة في كثير
من المجتمعات
١ كما سوف نعرض لآراء كل من «أنتوني سميث»
(١٩٩٥م)، و«مايكل بيلنج» (١٩٩٥م) اللذين يُؤكِّدان
الصلة المستمرة للثقافات القومية في عصر العولمة، وكذلك
لتأثير التهجين ونظرية الهجنة على هذا الجدال، وسوف
نبدأ بتلخيص بعض الأفكار النظرية الرئيسية عن القومية
والثقافة القومية بالإضافة إلى النقاش الدائر حول ذلك.
يضاف إلى ذلك أننا سوف نقوم بتوضيح كيف أن النظرية التي
ترى العولمة خطرًا على الثقافة القومية تُعتبَر مفهومًا
مُغرقًا في التبسيط، يقوم على فَهم قاصر لطبيعة الثقافة
القومية، وعلى افتراض معيب بأن التدفقات الثقافية
الكونية تعمل بأسلوب مفرد.
(١) القومية والثقافة القومية
قبل أن نبحث كيف تؤثر عمليات العولمة في الثقافات
القومية، لا بد من أن نضع في اعتبارنا طبيعة تلك
الثقافات، وهو ما يتضمن أن نكون على دراية بعلاقات
القوى التي تعمل على تكوينها؛ وفي هذا السياق نجد
أن الثقافات القومية تعكس — تقليديًّا — تأثير
القوى أو النخب المسيطرة داخل المجتمع، الذي كان
يعني إلى عهد قريب نسبيًّا أن المرأة وجماعات
الأقليات قد أسهمَتْ قليلًا في تَطوُّرها بشكل عام،
وهذا بدوره يعني أن الثقافات القومية والدول كانت
تقليديًّا أماكن للنزاع الثقافي؛ وهناك صعوبة
تحليلية أخرى تُقدِّمها لنا الثقافات القومية لتعكس
هذه الحقيقة، هي أنها ليست كيانات ثابتة أو مستقرة،
وإنما — بالأحرى — تَتطوَّر مع الزمن، ممَّا يضيف
إلى صعوبة تحديد أي تأثير للعولمة عليها. باختصار …
هل الثقافات القومية تتغير نتيجة تحولات داخلية أم
نتيجة مؤثرات خارجية تقدمها عمليات العولمة، بما في
ذلك إطار كوني متغير؟ وهل هذه التغيرات تتم نتيجة
للتغلغل المتبادَل بين الكوني والمحلي؟ يضاف إلى
ذلك أن هناك عوامل أخرى تزيد الأمور تعقيدًا عند
التفكير بالثقافات القومية، وخاصة الانزلاق
المفهومي الذي يحدث عادة عندما يناقش الكتاب
موضوعات القومية والدول والدول-الأممية، والهويات القومية
٢ انظر: (
Connor,
1978)، وهذه المشكلة تَتفاقَم بسبب
عدم وجود إجماع على أصول وطبيعة القومية والهوية
القومية، الذي ينعكس في ظهور عدد من المدارس
الفكرية المختلفة في هذا الموضوع، والتي تُصنَّف
إلى مفاهيم بدئية (أصلية) وحداثية وعرقية (رمزية)؛
ويضاف إلى هذه القائمة تفسيرات أخرى لدى كُتَّاب
يحاولون التَّحرُّك إلى ما هو أبعد من أساليب
الاستشراف التقليدية للقومية، وهو ما سوف نفصله هنا
باعتباره «ما بعد قومي».
(٢) المفهوم البدئي للقومية
يعتقد دعاة هذه الفكرة أن بالإمكان تعريف الدول
والثقافات القومية والشعور بالوَلاء القومي،
بالرجوع إلى الإغريق والحضارات الباكرة الأخرى
(انظر: Geertz, 1963; Van den
Berghe, 1979). الدول من هذا
المنظور، طبيعية وشاملة وهي امتداد لعلاقات القربى
وجزء لا يَتجزَّأ من السلوك الإنساني، بمعنى أنها
تشبع حاجة إنسانية. الدول قد تَختفي وتُعاوِد
الظهور على مدار التاريخ الإنساني؛ ولكنها دائمًا
هناك لا يمكن اختراعها هكذا ببساطة
(Kellas, 1991).
ومثلما قد يخطر على ذهن القارئ، إذا كنا سنقبل هذا
الطرح، فإن الكثير سوف يتوقف على تعريفنا ﻟ
«القومي». على نحو أكثر تحديدًا، «المجتمعات
القومية» في المرحلة القديمة ربما لا تكون متسقة مع
مفاهيمنا عن القومية، وهي دول بمعنى أضيق أو أوسع
بكثير مما نفهمه اليوم، في هذا السياق فإن الإصرار
على المفهوم القديم بأن الدول كانت موجودة قديمًا،
لا يصمد أمام حقيقة مهمة، وهي أنه خلال تلك المرحلة
كانت هناك قوى كثيرة موازية تعمل، وبخاصة:
الإقليمية، والهجرة، والتعددية، والاختلاط
الثقافي.
(٣) المفهوم الحداثي للقومية
على النقيض من ذلك، يرى الحداثيون أن الثقافات
القومية والقومية، انبعثت خلال فترة معينة من
التاريخ الأوروبي الحديث، وفي ذروة عدد من
التطورات، قبل أن تنتشر في بقية العالم. في رأي
«بنديكت أندرسون Benedict
Anderson» (١٩٨٣م) على سبيل
المثال، ظهور رأسمالية الطباعة في أواخر القرن
الثامن عشر أمر محوري في تطور القومية؛ لأن ذلك
أدَّى إلى ظهور أشكال مختلفة من الأدب (كتب، صحف …
إلخ) أصبحت منتشرة وتساعد في جعل الناس «يتخيلون»
أنفسهم جزءًا من جماعة قومية مشتركة في تجربة
مشتركة، حتى على الرغم من أنهم، غالبًا، لم يكونوا
يلتقون بأغلبية أقرانهم من المواطنين. في سياق
مشابه، يحدد «إرنست جلنر Ernest
Gellner» التصنيع وصعود «المجتمع
الصناعي» اللذين ظهَرَا في أجزاء من أوروبا في
نهاية القرن الثامن عشر كلحظات فارقة في تاريخ
القومية. الصلة بين التصنيع والقومية عنده، نابعة
من كون النمو الصناعي يتم تسهيله من خلال نمط
مُعيَّن من الثقافة والنظام السياسي، وبالتحديد
القومية الحديثة والدولة-الأمة
(Kellas, 1991:
42). بعبارة أخرى، النمو الصناعي
كان يتطلب وشجع في الوقت نفسه لغة مشتركة، وعملة
واحدة، ونظامًا قانونيًّا وتعليميًّا مشتركًا،
ودولة مركزية لكي تطبق وتنسق هذه التطورات، التي
أسهمت كلها في تَكوُّن الدولة المتجانسة، وتصنيف
العدد الكبير من اللغات والثقافات المحلية
والعرقيات، التي كانت تُميِّز المجتمع الإقطاعي،
أثناء هذه العملية؛ وهناك كُتَّاب آخرون يرون أن
القومية كانت مشروعًا محسوبًا عندما «اخترعت» النخب
فكرة الدولة والتقاليد القومية لكي تحافظ على الوضع
القائم وعلى أوضاعها الخاصة
(Hobsbawm and Ranger,
1983). على أن المشكلة مع الخط
الحداثي في الجدال كما لاحظ كثير من النقاد، هي أنه
يكافح لكي يفسر النزعة العاطفية القوية للقومية،
ولماذا كان كثيرون مُستعدِّين للقتال والموت من أجل
أوطانهم (Kellas, 1991:
43). والحقيقة أن هذا يعني أن
السكان يتم خداعهم بشكل جماعي وعلى نحو مستمر، ولكي
نعيد صياغة «أنتوني سميث» نقول: «إنك لا تستطيع أن
تخترع دُولًا لا وجود لها» (١٩٩٠م، ١–١٨٠).
(٤) المفهوم العرقي – الرمزي للقومية
في مسار متوسط بين هاتين المدرستين الفكريتين،
يصر دعاة العرقية الرمزية على وجود أصول عرقية
للدول الحديثة؛ وفي هذا السياق يجادل «أنتوني سميث»
(١٩٨٦م) بأن الدول لم تنتج عن التطورات الحديثة مثل
الرأسمالية والتصنيع فحسب، بل إنها — بالأحرى — لها
جذورها وأصولها في الجماعات العرقية في المرحلة ما
قبل الحديثة. هناك إذن داخل هذا التقليد
العِرْقي-الرَّمزِي تأكيد قَوي على الاستمرارية
(Kellas, 1991).
وبعبارة أخرى، فإن الدول الحديثة لا تنبثق من
المجهول وإنما تُنمِّي وتُطوِّر الأساليب التي
يتواصل بها أعضاء الجماعة العرقية.
الرمزية-العرقية، على أية حال، تُواجِه انتقادات
كثيرة، فدُعَاتها مثل «سميث» مُتَّهَمون بالتقليل
من شأن الفوارق بين الدول الحديثة والمجتمعات
العرقية الباكرة (Özkirimli,
2000). كما أن هناك زعمًا — على
نحو خاص — بأن طبيعة وبنية الدول «المدنية» الحديثة
لا وجود لها في المراحل الباكرة من التاريخ.
(٥) المفاهيم ما بعد القومية للقومية
هناك المزيد من الانتقادات لهذه الاستشرافات
المستقرة، وبخاصة لأنها ذات مركزية أوروبية
(Chatterjee,
1986). وعمياء عن النوع
(McClintock,
1996). وتفترض التجانس الثقافي
والاستقرار، بينما هناك في الواقع تنوع وسيولة
(Bhabha, 1990). ما
هو عام بالنسبة لأساليب الاستشراف «ما بعد القومية»
مثل الدراسات الخاصة بالنسوية وما بعد الاستعمار،
هو محاولة المُضِي إلى ما هو أبعد من حدود وأشكال
الإقصاء التي تأسَّست عليها القومية والدولة
تقليديًّا، ما يجعل الثقافات القومية مشكلة،
ويَتحدَّى البنى السائدة للدولة وحتى مُجرَّد
التفكير فيما هو أبعد من الدولة نفسها
(Özkirimli,
2000).
الكتاب المنخرطون في الجدال حول الظرف المعاصر
للثقافة القومية، سوف يعتمدون دائمًا على الاستشراف
النظري الخاص للقومية الذي يناسب حالتهم، وعليه فإن
أولئك المُعلِّقين الذين يرون أننا نشهد انكماش
الثقافات القومية نتيجة للعولمة، سوف يشيرون إلى
المزاعم بأن الدول والقوميات عبارة عن هياكل أو
اختراعات حديثة وهو ما يتفق مع طرحهم. لو لم تكن
الثقافات القومية موجودة منذ زمن بعيد لكان معنى
ذلك أننا كنا قادرين على العيش بدونها في الماضي
ونستطيع أن نفعل ذلك مرة أخرى، وهذا ما يحدث الآن
(Held and McGrew,
2002b). الكُتَّاب الذين يعتقدون
أن الثقافات القومية ستبقى حية في زمن العولمة،
يشيرون إلى تاريخها الطويل، والوسائل التي أصبحت من
خلالها مُتجذِّرة سواء في مجتمعاتنا أو خيالنا،
ولكن هذا النقاش سينتقل الآن إلى درس الأساليب
الخاصة لعمليات وتطورات العولمة المعاصرة في تحديها
للثقافات القومية.
(٦) العولمة وانكماش الثقافة القومية
(٦-١) التدفقات الثقافية الكونية والثقافات
القومية
هناك الآن كثير من الكتابات التي ترى —
بإصرار — أن التدفقات الثقافية الكونية ضارَّة
بالدولة-الأمة وبالثقافة القومية؛ فنجد على
سبيل المثال كُلًّا من «سكوت لاش
Scott Lash»،
و«جون أوري John
Urry»، مُتَّخذَيْن من فكرة
«أبادوراي
Appadurai» عن
«المشاهد» نقطة انطلاق، يُجادِلان بأن فضاءات
الميديا أهم من فضاءات الأفكار. بعبارة أخرى،
نجد أن الانتشار الإلكتروني وانتشار الصور
والمعلومات في حقبة ما بعد الحداثة يحظى بأهمية
أكبر من الأفكار، والأيديولوجيات، والمؤسَّسات،
والخطاب العقلاني الذي يُميِّز الحداثة، التي
تَعْتَبر القومية والدولة-الأمة جزءًا لا يتجزأ
منها؛ ونجد ذلك منعكسًا في حقيقة أن الحكومات
القومية لم تَعُد تحتكر تَدفُّق المعلومات. في
هذا السياق، فإن تَطوُّر ميديا عابرة للحدود قد
يبدو له مُتضمنات ملحوظة بالنسبة للدول الأممية
وللثقافات القومية. الصين مثلًا، لها تراث من
السلطوية والسيطرة المُحْكمة على الميديا، ومن
هنا فإنها قد تبدو نموذجا للدولة-الأمة القادرة
على التحكم في أي مؤثرات ثقافية خارجية. على
أية حال، نتيجة لظهور الميديا العابرة للحدود،
التي بدأت في تحدي الميديا القومية داخل الصين،
نجد أن المجتمع الصيني قد تم اختراقه بواسطة
قوى ثقافية خارجية، وليست غربية فقط كما رأينا
في الفصل السابق، بل ومن دول جوار. في هذا
السياق، وبناء على دراسة حالة لشانغهاي، نجد
«ماي فير مي هوي يانج May Fair
Mei-hui Yang» يرى أن نجاح
هوية ثقافية صينية عابرة للحدود، يُضعِف تأثير
الدولة على نحو متزايد، بما يجعل من الصعب على
الدولة الحزبية الصينية أن تُشكِّل رعاياها،
كما يقول؛ وكان الكاتب الراحل «جيرالد سيجال
Gerald Segal»
(٢٠٠٢) أحد أهم من كتبوا عن الصين، قد لاحَظ أن
الدولة الحزبية الصينية أنفقت معظم العقدين
الأخيرين في حرب وقائية ضد المؤثرات الثقافية
الخارجية.
ينظر كثيرون إلى التدفقات الثقافية الكونية
كذلك باعتبارها مؤثرات تُؤدِّي إلى ضَعف الفضاء
القومي، كما ينظرون إلى العولمة باعتبارها
تُمهِّد الطريق أمام مفهوم أكثر انفتاحًا
للسكان والثقافة يتحدَّى الفضاءات المحدودة
للدول-الأممية، وهو ما يتحقق عَبْر الشبكات
المُعقَّدة للميديا الإلكترونية الكونية،
والتدفقات الثقافية التي تخلق مساحات جديدة من
الفضاء الافتراضي بما يسمح بِتطوُّر مجتمعات
وثقافات افتراضية قليلة الصلة بالمكان أو
المنطقة القومية، وربما مُنْبَتَّة الصلة بها
(انظر: Jones, 1997; Woolgar,
2002). تكنولوجيا المعلومات
والاتصال الحديثة تحديدًا، مثل الإنترنت
والفضائيات تُمثِّل خطرًا على الحدود القومية
وتعيد تشكيل علاقتنا بالفضاء والمنطقة والهوية
أثناء هذه العملية (Morley and
Robbins, 1995). ومثل هذه
التطورات هو الذي جعل «دورين ماسي
Doreen Massey»
(١٩٩٤) تحث على «مفهوم تقدمي للمكان»، مُصِرَّة
على أن شبكة العلاقات الاجتماعية والتحركات
والاتصالات والتفاعلات التي تربط الأماكن
ببعضها ليست ساكنة، وإنما ينبغي النظر إليها
باعتبارها عملية مستمرة. وبالإضافة إلى ذلك ترى
أن الأماكن ليست كيانات مُحدَّدة أو مقيدة
وإنما يجب فهمها في إطارها الجغرافي الأوسع.
بعبارة أخرى، فإن ما يساعد على تحديد أو تعريف
المكان هو علاقته بما هو خارجه، فمحاولات إبعاد
أو إقصاء مَن يُعْتَبرون غرباء، تُوضِّح لنا
الكثير بخصوص المكان. في سياق مماثل، يعتقد
«مانويل كاستلز» (١٩٩٦م) أن ظهور مجتمع شبكي
يُغيِّر طبيعة الحياة الاجتماعية بأن يحملها
إلى ما هو أبعد من الحدود القومية؛ كذلك يجادل
«تيموثي لوك Timothy
Luke» بأن التدفقات العابرة
للحدود في رأس المال والبشر والسلع والمعلومات
والثقافة، كل ذلك يخلق «محلية/كونية/فضائية
إلكترونية تليفزيونية/معلوماتية، تصهر المحلي
والكوني في حياة يومية عالمية جديدة» (١٩٩٥م،
٩١)، يضاف إلى ذلك أنه يعتبر «المحلي والكوني
يَمتزجان في أساليب إنتاج كونية/محلية جديدة،
عبر وخارج الحدود القومية، وفي رأيه أن الحدود
المسامية بالفعل، يتم اختراقها اليوم من قبل
التدفقات الكونية من السلع والخدمات
والمعلومات، وبالتالي يتزايد تآكلها أثناء هذه
العملية. كذلك فإن مساحة الاعتماد المتبادَل
كبيرة بين المُجتمعات والمناطق في أرجاء
العالم، لدرجة أن الكثير من المؤسسات في
الدول-الأمة الحالية، تعتبر الآن قيدًا على
النماذج والأساليب الكونية المحلية الناشئة»
(ibid). ويتابع
«جون أوري John
Urry» (٢٠٠٠) مثل هذه الأفكار
إلى أقصى مدى، مُحاجِجًا بأن الاختراق اليومي
للحدود القومية بواسطة عمليات العولمة
والتدفقات، يقلل من أهمية دور علم الاجتماع،
الذي كان، تقليديًّا، يتمحور حول درس المجتمعات
القومية وأصبح في حاجة إلى تطوير «علم اجتماع
حركة» قادر على تجاوُز حدود الدولة
الأمة.
عودة إلى فكرة أن الناس حملة ثقافة، نجد أن
تدفُّقات الهجرة المعاصرة تَجلِب معها تعقيدات
وعوامل تنافُر تجعل المجتمعات تصبح — على نحو
مطرد — مُتعدِّدة الثقافة، مُتعدِّدة العرقية.
هذا التحول من دول عرقية إلى دول تعددية يثير
كثيرًا من النقاش حول ملاءمة استخدام نماذج
مجتمعية مُتعدِّدة الثقافة أكثر منها عرقية
قومية (e.g., Glazer,
1997). هذا بالإضافة إلى
الإسهام في إعادة ظهور القومية العرقية
والسياسات المُغرِقة في اليمينية والعنف
العنصري في عدد من الدول (انظر الفصل السادس).
العلاقة بين ذلك والجدال حول الثقافة القومية،
هي أنه يستتبع (كما ذكرنا في القسم السابق) أن
تكون الثقافات القومية أقل تجانسًا واستقرارًا
نتيجة لنمو الأقليات القومية، وبالتالي أقل
تَميُّزًا. باختصار، يصبح التَّعرُّف على ثقافة
قومية مُوحَّدة أمرًا أكثر صعوبة، وكذلك
التماهي معها؛ وهو تَطوُّر تعكسه المجادَلات
حول أزمة الهوية القومية (e.g.,
Delanty, 1996; Rex, 1996).
يضاف إلى ذلك أن الطبيعة الأكثر تعددية أو
مُتعدِّدة الثقافة للمجتمعات الحديثة تجعل من
السهل التعبير عن هُوِّياتنا المتعددة. في ظل
مثل هذه الظروف فإن ثقافتنا وهويتنا القومية
تكون أقل قدرة على السيادة، وتدرج هوياتنا
الأخرى وولاءاتنا لِتصبح مُجرَّد جزء من
المُكوِّنات الذهنية أو المجتمعات المُتخيَّلة
التي نحملها معنا، والحقيقة أننا عند النظر على
نحو أشمل إلى هذه القضية، نجد أن حياتنا
وارتباطاتنا الخاصة تصبح أكثر معنًى بالنسبة
لنا من حياتنا وولاءاتنا القومية أو
العامة.
(٦-٢) التدفقات الثقافية الكونية والولايات
المتحدة
حالة الولايات المتحدة تُؤكِّد عددًا من
النقاط السابقة، فهي بداية تُقدِّم دليلًا على
الآثار المعقدة لأنماط الهجرة المعاصرة؛ لأن
معظم الجدال في الولايات المتحدة مُركَّز على
الهجرة من المناطق الإقليمية. هناك قلق خاص
حيال عدد المهاجرين غير الشرعيين الذي كان يقدر
ﺑ ١١٫٥ المليون نسمة في ٢٠٠٦م وهو ما يوازي
٣٫٦٪ من سكان الولايات المتحدة، الذين يلتحق
بهم كل عام ما بين نصف المليون والمليون يدخلون
البلاد عَبْر الحدود الطويلة مع المكسيك.
الأكثر دلالة هو أن مُعدَّل القادمِين بشكل غير
رسمي يتزايد باطراد منذ ثمانينيات القرن
العشرين بِمعدَّل يصل إلى خمسة أمثال عدد
المُهاجرِين غير الشرعيين الذين يدخلون البلاد
كل عام كما كان يحدث، وهي قضية مثيرة للشعور
بالقلق أدَّت إلى اتخاذ إجراءات من قبل
الجماعات المعارِضة للهجرة أو مُؤيِّديها على
السواء؛ الأولى وجَّهَت أنشطتها نحو إنشاء
مجموعات مراقبة تقوم بدوريات على الحدود
الأمريكية وتُحاوِل منع الدخول غير الشرعي
للبلاد، يضاف إلى ذلك أن جماعات المؤيدين
للهجرة ينظمون سلسلة من المظاهَرات المعارضة
لاقتراحات تغليظ قوانين الهجرة، وأهمها ذلك
الاحتجاج العام الذي انطلق تحت شعار «يوم بدون
مهاجرين»، في ١ مايو ٢٠٠٦م، والذي تضمن، بين
أشياء أخرى، مقاطعة الأعمال التجارية لإظهار
مدى أهمية المهاجرين غير الشرعيين للاقتصاد
الأمريكي بشكل عام. الشعور بأن البلاد تصبح
أكثر تَنوُّعًا ثقافيًّا وعرقيًّا — باطراد —
نتيجة للهجرة، أثار نقاشات واسعة عن حالة
الثقافة القومية وما إذا كنا نشهد حالة «تفكيك
أمريكا»
disuniting of
America (Schlesinger, 1998)٣ «صمويل هنتنجتون
Samuel
Huntington» يرى أن الولايات
المتحدة قد قامت على «الأساسين المتلازمين:
الثقافة الأوروبية والديمقراطية السياسية»
(١٩٩٦م، ٢١) المُتضمَّنَين في مبدأ الحقوق
المتساوية للأفراد، ولكنه يعتقد أن ذلك قد بات
مُهدَّدًا بسبب التعددية الثقافية وتأكيد حقوق
الجماعات، ويخشى أن يؤدي ذلك، بشكل مُؤثِّر،
إلى صدام داخلي للحضارات يفكك الولايات المتحدة
(٢٠٠٤م). «هنتنجتون» مقتنع — على نحو خاص — بأن
المستويات الحالية للهجرة المكسيكية
والهسبانية، والاستيعاب المحدود لهؤلاء
المهاجرِين في المجتمع الأمريكي سوف يُضعِف
الثقافة القومية في وقت ما، ويشير إلى إطلاق
الصيغة الإسبانية من النشيد القومي الأمريكي،
دليلًا يؤيد ما يقول. المشكلة مع مثل هذا
الموقف هي أنه يقوم على فكرة أن التزام
الأقليات العرقية غير الأوروبية في الولايات
المتحدة بالديمقراطية الليبرالية أقل، وبالتالي
فهم يتجاهلون التَّضحية البالغة التي قدَّمَها
الكثيرون لكي يجيئوا إلى أمريكا، ربما لأنهم
كانوا على الأقل منجذبين إلى أسلوب الحياة
الأمريكي والحريات المصاحبة له. على النقيض،
نجد لدى «جوزيف ناي الابن
Joseph Nye
Jr.» (٢٠٠٢) تقييمًا أكثر
تفاؤلًا عن حالة الدولة، ويُعبِّر عن ثقته
بالحاجة إلى أناس يعملون، وكذلك في مجالات
الاتصالات الحديثة والميديا التي تَتطلَّب
إتقان الإنجليزية، إلى جانب توليد ضغوط تعمل من
أجل التجانس؛ وهو ما يعني أن المهاجرِين
المُستقرِّين حديثًا ليس لديهم الحوافز فحسب،
وإنما الوسائل للاندماج في المجتمع الأمريكي
كذلك.
على العكس من ذلك، وبنظرة إلى ما هو أبعد من
الولايات المتحدة، نجد «جوناثان خافيير إندا
Jonathan Xavier
Inda»، و«ريناتو روزالدو
Renato
Rosaldo» (٢٠٠٢) من رأيهما أن
الدولة-الأمة الغربية، أقل تأثيرًا في ممارسة
هذه التوجُّهات المجانسة ممَّا كانت عليه في
السابق، مرة أخرى، بعض التطورات في المرحلة
المعاصرة من العولمة من المُرجَّح أن تسهم في
هذا النمط، وبشكل أكثر تحديدًا نقول إنه سيكون
على تدفقات الثقافة القومية أن تتنافس مع
تدفقات الثقافة الكونية، لدرجة أن الأفراد سوف
يجدون أنفسهم في مواجهة سيل لا ينقطع من
الرسائل المختلطة. كذلك، كما رأينا سابقًا، فإن
الاتصالات الكونية وتكنولوجيا المعلومات تجعل
من الأكثر سهولة على المهاجرين ومجتمَعات
الشَّتات أن يَظلُّوا على اتصال وعلاقة
بأوطانهم الأصلية، وهو ما يُضعِف الحاجة لديهم
للتماهي مع الدولة المضيفة بقوة. نجد ذلك في
الولايات المتحدة فيما أطلق عليه
ampersand
Americans الذين يتمسكون
بجنسية مزدوجة، وفي بعض الأحيان يحاولون الحصول
على مواطنة مزدوجة، مواطنة أمريكا وبلادهم
الأصلية (The Economist,
2000). وفي هذه الحالة تصبح
الهوية الأمريكية بالفعل هوية عابرة للحدود
القومية (Kivisto,
2002). ذلك كله أثار قدرًا من
القلق في دول أخرى، ولعله يفسر، في جزء منه،
سبب إقدام حكومة المملكة المتحدة على تنظيم
مَراسم مُواطَنة لمن يريدون أن يكونوا مواطنين
بريطانيين، ولماذا تحاول الحكومة الهولندية
ترحيل المهاجرين الذين يعيشون في هولندا منذ
سنوات، ولماذا أصدرت الحكومة الفرنسية قوانين
جديدة لتضمن استيعاب الأقليات الدينية في ثقافة
البلاد العلمانية، ولماذا تبني دول الاتحاد
الأوروبي «أوروبا القلعة» ردًّا على الأنماط
المعاصرة من الهجرة والانتقال. في الحالة
الأخيرة، فإن هذه المحاولات المنسقة للسيطرة
على تدفقات الهجرة، دليل على أن الحكومات
القومية غير قادرة على عمل ذلك منفردة، بل يمكن
قراءة ذلك كدليل أكبر على تقلص استقلاليتها
الذاتية.
(٦-٣) العولمة والدولة الأمة والسيادة
القومية
هناك ضغط آخر، غير مباشر، على الثقافات
القومية، يمكن أن نقول إنه مُستمَد من التحديات
التي تُمثِّلها الجوانب المختلفة للعولمة
بالنسبة للدولة-الأمة والسيادة القومية
(انظر: Barry Jones, 2000;
Holton, 1998; Mann;
1997).
أحد هذه التحديات هو ذلك الناجم عن
التَّطوُّر المتواصل لمؤسَّسات الهيمنة
العالمية؛ وحيث إن البنك الدولي، ومنظمة الأمم
المتحدة، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة
العالمية، ومحكمة العدل الدولية؛ تضطلع بدور
أكثر أهمية في الشئون الدولية، فإنها أصبحت
تمثل — على نحو متزايد — مواقع بديلة للسلطة
بالنسبة للحكومات القومية. والواقع أن قرارات
وأحكام مثل هذه المؤسَّسات مقصود بها أن تكون
ملزمة للدول-الأمة. وبالمثل فإن نمو الإقليمية
والمنظمات الإقليمية مثل الاتحاد الأوروبي
و«النافتا
NAFTA» اتفاقية
التجارة الحرة لدول أمريكا الشمالية)، واﻟ
«آسيان ASEAN»
اتحاد دول جنوب شرق آسيا)، و«سادك
SADC اتحاد
تنمية جنوب أفريقيا»، و«ميركوسر
MERCOSUR السوق
المشتركة للمخروط الجنوبي» في أمريكا
اللاتينية؛ تُعتَبر بشكل عام دليلًا على تآكل
السيادة القومية. معظم الحكومات القومية تقر
الآن بضرورة التعاون الإقليمي إن كان لها أن
تظل من اللاعبين الرئيسيين على المسرح العالمي،
مع بعض التجميع لسيادتها بإقامة مؤسَّسات
إقليمية. والحقيقة أنه في حالة الاتحاد
الأوروبي نجد أن التكامل الاقتصادي والسياسي
مُتقدِّم، لدرجة أن إمكانية قيامه بدعم هوية
أوروبية مُشترَكة — وهي التي قد تتحدَّى
الثقافات القومية للدول الأعضاء في الوقت
المناسب — هي الآن محل جدال (انظر:
Hopper, 2004).
بالإضافة إلى هذه التحديات الخارجية
للدولة-الأمة، فقد تُغيِّر العولمة من طبيعة
العلاقة بين الدولة ومواطنيها. وبحسب «جيرار
ديلانتي Gerard
Delanty»، و«باتريك أوماهوني
Patrick
O’Mahony» فإننا نشهد الآن
المزاوجة بين الأمة والدولة ويتبع ذلك المزاوجة
بين الجنسية والمواطنة. وهناك جدال مفاده أنه
بينما ظهرت القومية من العلاقة بين المشروع
السياسي والحداثة (تكوين الدولة والمواطنة
العالمية مثلًا)، والمشروع الثقافي للحداثة
(صوغ هُوِّيات جديدة مثلًا)، فإن الصلة بين
الاثنين تُواجِه تحدِّيًا في حقبة العولمة هذه؛
وهناك الآن عدة أساليب لم تَعُد تعرف فيها
العولمة بالجنسية على وجه حصري. الملاحَظ أنه
مع تزايد اعتراف الحكومات القومية، وخاصة في
مجالات حقوق الإنسان، أصبحت المواطَنة منفصلة
عن الارتباط بالدولة، وهو ما يعني عند «ديلانتي
Delanty» أن
«الشخصانية العامة» في طريقها لأن تَحلَّ محل
الرابطة القومية (٢٠٠٠م، ٧٩). لعل من الواجب
علينا أن نبدأ بالتفكير في المواطنين كذوات
مُستقِلَّة في هذه الحقبة الكونية، أكثر منهم
كهيئات أو مؤسَّسات جمعية مثل الدولة والأمة.
على مستوى يومي، هناك الآن تأكيد أكبر على حقوق
الجماعات أو الحقوق الثقافية داخل المجتمعات
التي تزداد تَعدُّديَّة وتنوعًا ثقافيًّا. هذا
التَّوجُّه يفصح عن نفسه بعدة صور، بدءًا من
سياسات عمل إيجابية لجماعات دينية ومُهاجرِين،
وأقليات عرقية يصبحون أكثر إصرارًا على حقوقهم،
إلى جانب كونهم أكثر تنظيمًا للتعبير عن
مطالبهم (انظر: Soysal,
1994). في سياق مماثل، فإن
العمليات العابرة للحدود القومية والمجتمعات
والدوائر؛ لأنها تمتد أو تَتخطَّى أكثر من
دولة-أمة، قد تعمل على تمزيق الصلة بين القومية
والمواطَنة، وخاصة فيما يتعلق بدرجة التزام
أصحاب الجنسيات العابرة بدولة ما، واستعدادهم
لدفع الضرائب والمُشارَكة في عملياتها
الانتخابية ومجتمعها المدني؛ وهذا غالبًا ما
يُؤدِّي بالقوميين إلى مساءلة التزام أصحاب
الجنسيات العابرة بالنسبة لوطنهم. وقد طرح
«ألياندرو بورتس Alejandro
Portes» السؤال: «ما معنى أن
يكون هناك مواطنون كثيرون وهم في حقيقة الأمر
ليسوا هنا ولا هناك؟» (١٩٩٦م، ٧٧). القومية
العابرة للحدود قد تَعني — على الأقل —
أحيانًا، تَحولًا عن فكرة المواطَنة التي تعتمد
على الدولة بشكل تقليدي، نحو مفاهيم أكثر مرونة
(انظر: Ong,
1999).
مثل هذه التحديات الداخلية والخارجية لسلطة
ومكانة الدولة-الأمة، قد تُسهِم في التَّحرُّر
من الوهم بالنسبة للسياسات القومية في دول
كثيرة، وهو ما يتضح في انخفاض عدد أصوات
الناخبين وظهور حركات اجتماعية جديدة. ما يتعلق
بهذا النقاش هو ما إذا كان هذا الموقف النقدي
من الدولة-الأمة، على افتراض أن ذلك يحدث،
يُضعِف ارتباطنا بكل ما هو قومي، بالنسبة
للبدئيين
(Primordialists)،
والعرقيين الرمزيين
(ethnosymbolists)
فإن التقاليد القومية و«أساليب الحياة» سابقة
على ظهور الدولة-الأمة، وبالتالي فإنها سوف
تبقى، وتظل ذات أهمية في حياة الناس بصرف النظر
عمَّا يحدث لهذه المؤسَّسة؛ بينما يرى
المتشككون أن العولمة إن لم تكن موضع شك، فإن
بعض الآثار المنسوبة إليها لا بد من أن تُوضَع
هي الأخرى مَوضِع المساءلة.
على النقيض من منظور دعاة العولمة، فإن دلائل
تَدهور تأثير الدولة-الأمة يمكن إدراكها من
كونها لم تَعُد مصدرًا للثقافة، وهو ما يتناقض
تمامًا مع ماضيها السابق. الواقع أن تماسك
الدولة-الأمة في أوروبا كان هو المُقدِّمة
للتوسع الإمبريالي في أفريقيا وآسيا والشرق
الأوسط وأمريكا اللاتينية عند منعطف القرنين
التاسع عشر والعشرين، وإعادة تشكيل هذه
المجتمعات ثقافيًّا وسياسيًّا اليوم، دور ناشر
الثقافة والقيم الثقافية يصبح — على نحو متزايد
— حِكرًا على المؤسَّسات الخاصة، وإذا كنا
نعتبر العولمة أمْرَكة، فإن الاستثناء الوحيد
على الأقل سيكون هو الولايات المتحدة؛ على أنه
حتى في حالة أمريكا، كما رأينا في الفصل
السابق، فما زالت شركات مثل «ماكدونالدز»،
و«كوكاكولا»، و«ديزني» — أكثر مِمَّا هي واشنطن
— هي العناصر الرئيسية في التوزيع والنشر
الثقافي. يُضاف إلى ذلك أن الميديا العابرة
للحدود القومية وانتشار تكنولوجيا الاتصال، قد
تُمكِّن المواطنين العاديين والشبكات الكونية
غير التابعة للدولة، في المستقبل، من أن يكون
لها تأثير أكبر على التوجهات والتطورات
الثقافية.
(٦-٤) الأسواق الرأسمالية العالمية والثقافات
القومية
عولمة الأسواق الرأسمالية قد تُقوِّي التقارب
الثقافي بتشجيع الأساليب المشتركة لتنظيم
الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وهو تَوجُّه ذو
متضمنات واضحة بالنسبة للثقافات القومية. وهكذا
فإن ضغوط المنافَسة في سوق كونية وانتشار أفضل
الممارَسات والتكنولوجيات الصناعية وحركية رأس
المال والمنافسة، بالإضافة إلى قدرة المؤسَّسات
مُتعدِّدة الجنسية والعابرة للحدود على إقامة
تقسيم عمل دولي وشبكات اتصال عالمية؛ كل ذلك
يُؤدِّي — كما يقال — إلى تقارُب عالمي
(Berger and Dore,
1996). هذه الحالة المصحوبة
بحكومات قومية، عليها أن تتبع قواعد واتفاقيات
التجارة العالمية وأن تحرر اقتصاداتها. مثل هذه
الحجج يعكس قلق مرحلة سابقة، عندما كان يَخشى
من الثقافات الصناعية المُوحَّدة القائمة على
ممارسات عامة، أن تؤدي إلى تآكل الخصوصية
المحلية والقومية، وأن تسهم في المجتمع
الجماهيري. العولمة تعيد إحياء هذا الجدال
بدرجة ما؛ لأنها تصف التوجُّهات التي تَتخطَّى
الحدود القومية، واليوم يمكن رؤية هذه التوجهات
على نحو أكثر وضوحًا، ليس في مجال الإنتاج
وإنما في مجال التسويق والاستهلاك؛ حيث يوجد
تأكيد كبير على العلامات التجارية والماركات
المسجلة (Klein,
2000). يبدو من ثم أن
الرأسمالية الكبيرة تُؤسِّس ثقافتها العولمية
وأيديولوجيتها الخاصة، على أن هذه النقطة
تستلزم موازنة عدد من الدراسات التي تؤكد
استمرارية التَّميُّز المحلي والقومي، بما في
ذلك أشكال المقاوَمة الثقافية، في وجه المسيرة
التواصلية للرأسمالية العالمية
(e.g., Lowe and Lloyd,
1997). كذلك فإن من الأنماط
التي تزيد من تعقيد التقارب الثقافي أن
تكنولوجيات الكمبيوتر الجديدة تُسهِّل أنظمة
التصنيع المرنة (ما بعد فورد)، بما يُمكِّن
الشركات من أن تُكيِّف مُنتجاتها حسب
مُتطلَّبات أسواق مُعيَّنة، ولكي تقدم ما يروق
— حتى — لأذواق وأساليب حياة فردية. مثل هذا
الإضفاء للصفة الفردية على أنماط الاستهلاك،
ربما يبدو أنه ضد فكرة التقارب الثقافي، على
الرغم من أن الناس، بالطبع، ما زالوا مُنخرطِين
في تجربة مشترَكة من الرأسمالية الاستهلاكية؛
وسواء كان ما نشهده تقاربًا ثقافيًّا أو إضفاء
للصفة الفردية أو كليهما، فليس من المرجَّح أن
تكون الظاهرتان في صالح الثقافة القومية
والدولة-الأمة، وخاصة فيما يتعلق بتكوين
مواطَنة فعالة.
هناك فوق ذلك وسيلة أخرى يمكن أن تُستَخْدَم
من قِبَل أحد جوانب العولمة ضد الدولة-الأمة
والثقافة القومية، وهي — مرة أخرى — تتعلق
بتكنولوجيات المعلومات والاتصال العالمية التي
يمكن أن تعيد إحياء المحلي في مواجهة القومي.
الأغذية المحلية، والموسيقى، والفنون، والحِرف،
واللغات، واللهجات الإقليمية، والعادات
والتقاليد المحلية، لديها من خلال الإنترنت
والشبكة العنكبوتية العالمية وسائلها للانتشار
والنمو. حتى المدن الصغيرة والقرى غير المعروفة
جيدًا، قادرة على تعميم وجودها من خلال تلك
الوسائل، وغالبًا لجذب السُّيَّاح
والاستثمارات. يُضاف إلى ذلك أن أولئك المحليين
الذين غادروا المنطقة يمكن أن يبقوا على صلة
بمدنهم أو مناطقهم السابقة ويُسهموا في
إحيائها، وخاصة من خلال شراء مُنتَجاتها، وهذا
من شأنه أن يُمكِّن أشكالًا متعددة من الانتعاش
الإقليمي وتعبيرات المحلية التي كانت في انهيار
لفترة طويلة، والحقيقة أن انتشار الثقافة
القومية هو الذي حَجَّم الثقافات والهُوِيَّات
المحلية.
وأخيرًا يقدم «تيموثي لوك
Timothy Luke»
(١٩٩٥م) تقييمًا ضعيفًا لحالة ومستقبل
الدولة-الأمة. معتمِدًا على عمل «بودريار
Baudrillard»
يصور «لوك» عصرنا كعصر تَمَّت فيه إساءة
استغلال العالَم الواقعي الجديد للدولة-الأمة،
من قِبَل مجموعة عالمية جديدة، ما بعد حداثية،
فائقة الواقعية، خلقتها التدفقات الكونية
المعاصرة. نحن انتقلنا إذن إلى ما هو أبعد من
مجتمعات «بندكت أندرسون» (١٩٨٣م) القومية
المتخيلة، انتقلنا إلى عالَم من المجتمعات
الافتراضية، حل فيها الواقع المُتشعِّب محل
التاريخ والواقع الاجتماعي. «لوك» يشير إلى أن
لذلك متضمنات مهمة بالنسبة للسياسة حيث يتحول
الاهتمام من عالم الدولة-الأمة إلى السياسات
الفائقة للواقعية، السياسات المتشعبة التي
يديرها فاعلون غير رسميين في الفضاء
الإلكتروني. ادعاءاته تثير أسئلة عن مَكامن
القوة وما تُمثِّله في مرحلة عوالم جديدة، على
أن «لوك» يُقدِّم العالَم باعتباره مكانًا
يتلقَّى معلومات وبذلك يقدم شيئًا ذا طابع
مثالي، حيث إن عدم المساواة في فرص الوصول إلى
المعلومات وتكنولوجيا الاتصال ما زال قائمًا.
يضاف إلى ذلك، رغم ملاحظة أن «لوك» يحاول أن
يحدد التوجهات السائدة أكثر مما يُقدِّم حالة
نهائية، ربما يُقلِّل من أهمية المدى الذي ذهبت
إليه الحكومات القومية والدول-الأمة، أنهم ما
زالوا لاعبين رئيسيين على المسرح العالمي، كما
يُشكِّلُون الكثير من التدفقات الكونية؛ وهو
موضوع سنعود إليه في القسم التالي.
باختصار، المجتمعات القومية التي تنبع منها
الثقافات القومية أصبحتْ أكثر مَسامِّيَّة منها
في أي وقت مضى، كل يوم يخترقها ويتغلغل فيها
بَشر وثقافات وأفكار وصور وأصوات مختلفة،
الحكومات القومية تبذل جهدًا مُضنِيًا لتأكيد
سلطانها، وربما لكي تُحافِظ على حدودها
الإقليمية؛ لقد خسرت المعركة لكي تقيم حدودًا
في الفضاء الإلكتروني قبل وقت قريب. فوق ذلك،
نجد أن بعض التطورات المرتبطة بالعولمة والتي
عرضنا لها في مواضع أخرى من هذا الكتاب؛ مثل
التجانس الثقافي والكوزموبوليتانية، تُعْتَبر
تطورات داعمة ومقوية للتكوينات الثقافية
والشبكات والهويات الجديدة. تراكميًّا، تُمثِّل
هذه التغيرات تحديات للدولة-الأمة والثقافة
القومية، تجعل بعض المُعلِّقِين يستنتج أن
كلتيهما (الدولة-الأمة، والثقافة القومية) في
تَدهوُر. على أقل القليل، ربما يكون من المعقول
أن نتساءل عن معنى أن تكون «قوميًّا» في زمن
العولمة هذا.
(٧) استمرار الثقافات القومية في زمن
العولمة
(٧-١) تَجذُّر ما هو قومي في مُقابِل سرعة زوال ما
هو كوني
الزَّعم بأن الثقافات القومية تتآكل أو أنه
يُعاد تشكيلها بفعل قُوى العولمة، أبعد ما يكون
عن القبول العام. النقاد، بداية يجادلون بأن
ذلك يفترض أن يكون الناس الملتزِمون بهذه
الثقافات مُذعِنين على نحو سلبي في هذه
العملية، راضين بأن تجتاحهم مؤثرات ثقافية
كونية. الحالة نفسها، عندما نستوطن ثقافات عدة
في لحظة واحدة وبالتالي نكون تحت قصف صور
ومعلومات قادمة من أرجاء العالم، ولكن ذلك لا
يُضْعِف بالضرورة ارتباطنا بثقافتنا القومية.
وكما رأينا، فإن الكثير من ميديا المؤسَّسات
مُتعدِّدة الجنسية والعابرة للحدود القومية
الذين يعتبرون مُوزعين رئيسيًّا للتدفقات
الثقافية الكونية، يقوم بتكييف منتجاته لكي
تناسب الأسواق القومية بما يوحي بأن التمييز
القومي موجود، وبأن الثقافات القومية محتفظة
بحيويتها. ولكنَّ هناك اعتراضًا أساسيًّا وهو
أن الثقافات القومية نتاج تواريخ مُشترَكة
وذاكرات جمعية، وبالتالي فهي قادرة على توليد
تحالفات وولاءات عميقة، سوف تكافح عمليات
العولمة دائمًا للتهوين من شأنها. في المقابل،
فإن هذه النقطة قابلة للتطبيق بالمثل على تلك
الثقافات القومية ذات التاريخ القصير نسبيًّا،
في أفريقيا مثلًا، نجد أن الثقافات القومية
لكثير من الدول قد تَشكَّلت نتيجة للصراع ضد
الحكم الاستعماري الأوروبي وتعهدتها كل أقسام
المجتمع، وهي خطوة ولدت ذاكرتها الثقافية
الخاصة وساعدت على دمج الدول الجديدة التي
ظهرت، باختصار، الثقافات القومية من هذا
المنظور ذات جذور ومادة، مقارنة بالتدفقات
الثقافية الكونية سريعة الزوال. لهذا السبب
يعتقد «أنتوني سميث» أن الكوزموبوليتانية
والإقليمية، المرتبطتين بالعولمة دائمًا، ينبغي
ألا ننظر إليهما باعتبارهما من نتاج أفول
القومية. الهوية القومية عند «سميث» تمارِس
«تأثيرًا أكثر قوة واستمرارية من أي هويات
ثقافية جمعية أخرى»، مما يجعله يستنتج أن فُرَص
تَجاوُز الدولة وتهميش القومية ضعيفة في الوقت
الراهن (١٩٩١م، ٦–١٧٥).
فكرة أن الهجرة المتزايدة تُضعِف التجانس
القومي، تُواجِه كذلك انتقادات كثيرة. أنماط
الهجرة المعاصرة، قبل كل شيء، محل خلاف أكاديمي
واسع. «هيرست»، و«طومسون» (١٩٩٦م) يُؤكِّدان أن
معظم سكان العالم يجدون صعوبة في الانتقال
لأسباب مختلفة، تتراوح بين فرض قيود شديدة على
الحدود وشروط الهجرة، من قبل الدول الصناعية
المتقدمة ومجتمعات الحدود؛ مثل أستراليا وكندا
وجنوب أفريقيا التي اجتذبَتْ أعدادًا كبيرة من
البشر في الماضي. الحقيقة أن هناك تَنوَّعًا
كبيرًا في المدى الذي يمكن أن يصل إليه الناس
في انتقالهم عبر الحدود، وهو أمر وثيق الصلة
بالمؤهلات المهنية للمُهاجر وثروته ووضعه
الاجتماعي. كذلك يُلاحِظ «هيرست»، و«طومسون» أن
الفترة من ١٨١٥–١٩١٤م كانت أكبر حقبة للهجرة
الجماعية الطوعية، بينما نجد أحداثًا مثل
الحربين العالميتين والحرب الباردة وظهور دول
جديدة، تُعرْقِل عمليات الهجرة في القرن
العشرين. على الرغم من ذلك، هناك إجماع بين
علماء الهجرة على أن أنماطها بعد الحرب،
وخاصَّة منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين
تَتضمَّن دولًا أكثر بكثير ممَّا كان في الحقب
السابقة، مع افتراض أن كل دولة في العالم، إما
أنها تُصدِّر أو تَستورِد عمالة
(Castels and Miller,
1998). الأكثر أهمية أن «هيلد
وآخرين Held et
al. (١٩٩٩) يشيرون إلى تَعقُّد
تدفقات الهجرة المعاصرة التي تَتبدَّى في ظهور
أنظمة إقليمية جديدة للهجرة وخاصة في أمريكا
اللاتينية وداخل أفريقيا، وعَبْر جنوب، وجنوب
شرق آسيا، ويستنتجون، إلى جانب ذلك، أن الأنماط
المعاصرة للهجرة أكثر اتساعًا — من الناحية
الجغرافية — من الهجرات العالمية في المرحلة
الحديثة، وإن كانت أقل كثافة»
(ibid.,
326).
هناك كذلك مَن يَدحَض الزَّعم بأن التَّميُّز
القومي يتآكل؛ لأن الدول أصبحت أكثر تنافرًا من
الناحية الثقافية. «نيكوس باباسترجيادس
Nikos Papastergia
dis» (٢٠٠٠) يرى أنه، حتى،
عندما تعترف الدول-الأمة بالطبيعة مُتعدِّدة
الثقافة لمجتمعاتها، فإن تمثيل هذا الفارق إنما
ينعكس لكي يثبت الصورة الأشمل للثقافة القومية
فحسب (٢٠٠٠م، ١١٣). صحيح أنه لا يقدم أمثلة
تؤكد ذلك، ولكن جنوب أفريقيا، والولايات
المتحدة، والمملكة المتحدة ربما تكون أمثلة على
هذا التوجه. التعددية الثقافية مستخدمة، إذن،
لاستكمال وتقوية الدولة. وبينما قد يكون
«باباسترجيادس» مُبالِغًا في أهمية هذه الحالة،
حيث إن المجتمعات متعددة الثقافات أو متعددة
العرقيات على الأقل، تضمن أن تكون الثقافات
القومية أقل تجانسًا، فإن مجادلاته تعتبر ردًّا
مفيدًا على الرغم من أننا نشهد الآن
زوالها.
في هذا السياق، ينبغي ألا نقلل من أهمية
المدى الذي قد يذهب إليه الناس لحماية
الدولة-الأمة والثقافة الخاصة بهم. في داخل عدد
من الدول الأوروبية مثلًا، هناك قلق بخصوص
التأثير الذي تحدثه العولمة، وبخاصة الهجرة،
على ثقافتها، وهو تَطوُّر يُعتبَر مُسهمًا في
عودة ظهور اليمين المتطرف، الحزب الجمهوري في
ألمانيا، والجبهة القومية في فرنسا — على سبيل
المثال — بترويجهما للعزلة الثقافية وحق الناس
في هوية قومية خاصة، يبدو أنهما عزَفَا على وتر
قطاعات من مجتمعاتهم؛ ولكن القلق على مصير
الدولة-الأمة وثقافتها في المرحلة المعاصرة ليس
حكرًا على اليمين المتطرف. هناك المزيد من ردود
الفعل الدفاعية الواضحة في جهود الكثير من
الدول لحماية جوانب من الحياة القومية؛ مثل
اللغة والعادات والثقافة، من قوى العولمة
وضغوطها. الحكومة الفرنسية، مثلًا، تسعى جاهدة
للحفاظ على اللغة الفرنسية وصناعة الموسيقى،
كما حاولَت تقييد عدد الأفلام الأمريكية التي
يمكن عرضها في فرنسا بهدف حماية صناعة السينما
الوطنية، وفي كندا، تحاول الحكومة أن تُحدِّد
المدى الذي يمكن أن تتملك به الثقافة الأمريكية
حصة في الميديا الكندية وصناعة الاتصالات بها
(Held et al., 1993:
371). وبشكل أكثر عمومية،
الحكومات الوطنية في أنحاء العالم ترى أن تنمية
ثقافتها القومية سواء في الداخل أو الخارج، جزء
مهم من دورها، من خلال أساليب؛ مثل أفلام
الفيديو الدعائية، والاستثمار في صناعة
السياحة، وبرامج التبادلات التعليمية
والثقافية.
كذلك يمكن القول إن الثقافات القومية «تعيد
إنتاج» نفسها، وبذلك نضمن أن نواصل الحياة
«كوطنيين»؛ وهناك — في هذا السياق — كتاب ﻟ
«مايكل بيلنج Michael
Billing» (صادر في ١٩٩٥م)
بعنوان «القومية المبتذلة Banal
Nationalism» يرى أنَّنا
نستقبل يوميًّا رسائل تُذكِّرنا بأنَّنا جزء من
أمة، وحتى إن كنَّا لا نقوم بتسجيل ذلك دائمًا.
عملية إعادة الإنتاج هذه تتضمن أشياء؛ مثل
إصدار طوابع البريد، والصحف القومية، ورفع
الأعلام الوطنية على المنشآت العامة، وشعارات
شركات الطيران، والخرائط، والزهور الوطنية،
والمطبخ الوطني، والعمارة، وأحيانًا اللغة
القومية إلى جانب الأعياد والإجازات. مقارَنة
بالرسائل اليومية هذه التي تذكرنا بأننا
مواطنون من أهل البلاد، فإن صور العالَم
المتوالية، التي نراها على شاشات تليفزيوناتنا
يقال إنها تفتقر إلى العمق والمعنى. يضاف إلى
ذلك أنه، حتى المنافسات الرياضية مثل كأس
العالم والأولمبياد، التي من المفترض أن تقرب
الدول من بعضها، غالبًا ما تثير الحماسة
الوطنية بدلًا من الأممية، حيث تنافس الدول
بعضها البعض. وبالعودة إلى قلق «صمويل
هنتنجتون» بخصوص الثقافة الأمريكية والاستيعاب
نجد الحالة نفسها، وهي أن الجماعات المهاجرة أو
المُترَحِّلة التي تعيش داخل جماعات وطنية، بما
في ذلك الولايات المتحدة، ستكون عرضة كذلك لمثل
تلك الضغوط التي تضفي الصفة القومية.
(٧-٢) نظام الدولة-الأمة العالمي
ربما تكون الدولة-الأمة في حالة صحية أفضل
مما يزعم نُقَّادها، وبينما قد يقيد القانون
الدولي السيادة الوطنية إلى حد ما، فإن
الدولة-الأمة هي المسئولة من خلال حكوماتها عن
توقيع وتطبيق مثل هذا التشريع. يضاف إلى ذلك أن
الدولة-الأمة لعبت دورًا محوريًّا في إقامة
منظمات؛ مثل الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي،
ومنظمة التجارة العالمية التي تعتبر حالة
الدولة الأمة شرطًا للعضوية؛ والأهم أن هذه
المؤسَّسات مُستخدَمة بالمثل من قبل الحكومات
كمنابر ومنتديات لتنمية مصالحها الوطنية. وعلى
الرغم من كل المناقشات حول التدفقات والعمليات
الكونية فما زال العالم يُشَكَّل بواسطة نظام
عالمي للدولة-الأمة — نظام تبادلات بين الدول
الأمم — أكثر مما هو من خلال العولمة
(Featherstone, 1990:
6). بالإضافة إلى ذلك كله لا
يبدو أن هناك ما يدل على نمو في الدعم العالمي
الشعبي للمزيد من تطوير مؤسَّسات التحكم
العالمية، على العكس من ذلك، كان هناك زيادة في
عدد الدول الأممية في المرحلة الحديثة، يمكن
ملاحظتها في زيادة عضوية منظمة الأمم المتحدة
التي تضم الآن أكثر من ٢٠٠ دولة أمة. أضف إلى
ذلك أن حالة الدولة-الأمة هي الحالة التي يصبو
إليها كثير من الشعوب المضطهدة والجماعات
المُتحرِّرة في العالم، كما أن مَن حققوا تلك
الغاية ليس من المُرجَّح أن يَتخلَّوا عنها.
القومية والسعي إلى الاستقلال الوطني يظلان قوة
دافعة وهدفًا، سواء كان ذلك في شكل قومية عرقية
(لاحظ الفوران الأخير في البلقان) أو قومية
ليبرالية (الدول الأخرى المتحررة حديثًا في
أوروبا الشرقية مثل بولندا والمجر)؛ وقد يبدو
إذن أن كلًّا من «لاش
Lash»، و«أوري
Urry» (١٩٩٤)
يبالغان في إضفاء أهمية على حالتيهما: الأفكار
والأيديولوجيات الحديثة مثل الدولة-الأمة، تبقى
مهمة مثل المعلومات والصورة في المرحلة
المعاصرة. باختصار، تظل الدولة-الأمة، من منظور
أولئك المتشككين في أمر العولمة، لاعبًا
رئيسيًّا على المسرح العالمي، ويبدو من المحتمل
أنها ستبقى كذلك في المستقبل المنظور.
على أنه إذا كان علينا أن نستجمع صورة أكثر
دقة عن طبيعة العلاقة بين العولمة
والدولة-الأمة، وبالتالي نفهم كيف تؤثر في
الثقافات القومية، ربما كان علينا أن ننتقل إلى
ما هو أبعد من الجدال بين دعاة العولمة
والمتشككين فيها. من المهم جدًّا أن نعرف أننا
في حاجة إلى نظرة تاريخية إلى هذه القضية.
الدولة-الأمة سَهَّلَت العولمة تاريخيًّا، كما
رأينا في الفصل الأول، وهي في الحقيقة تعبير
عنها، بمعنى أنها ظاهرة عامة، ولكنها كانت
تُعطِّل تقدُّمَها أحيانًا عن طريق خلق حدود
وقيود ومن ثم تقيد التبادل الثقافي؛ وما من شك
في أن تكون الثقافات القومية قد أفادت من هذه
العلاقة المتقلبة، أضف إلى ذلك أنَّنا إذا
طبَّقْنا هذا الفحص التاريخي على قضية السيادة،
فالأرجح أن مفهوم السيادة الوطنية كان موجودًا
لفترة محدودة فقط في بدايات أوروبا الحديثة،
وبالتحديد بعد معاهدة وستفاليا في ١٦٤٨م عندما
كانت درجة الاعتماد المتبادَل بين الدول
مُتدَنِّية (Ferguson,
2006). في ظل العولمة
المعاصرة، كما رأينا، فإن الفاعِلِين الجدد
العابِرِين للحدود القومية، والتطور المستمر
للمؤسَّسات الدولية، والتدفقات العالمية من كل
نوع، والأشكال الأكثر اتساعًا من التواصل
والاعتماد المتبادَل، كل ذلك يُمثِّل أشكالًا
مختلفة من التحديات للسيادة القومية. إلا أن
ذلك لا يعني نهاية السيادة القومية، وسيكون
الأكثر دقة أن ننظر إلى السيادة كحالة يتزايد
«التفاوض» حولها بين فاعلين مختلفين على المسرح
العالمي منهم الحكومات القومية الفرعية، مع
الاعتراف في الوقت نفسه بأن تلك كانت الحالة
لبعض الوقت (انظر: Keohane,
1995).
(٨) التهجين الثقافي والثقافة القومية
تقدم نظرية الهُجْنَة رؤية نافذة مختلفة في هذا
الجدال، عن حالة الثقافة القومية في زمن العولمة.
كل الثقافات عند مُنظِّري الهجنة، بما فيها الثقافة
القومية، ثقافات توفيقية تتشكل من خلال استيعاب
وتَمثُّل أفكار ومؤثرات من مصادر مُتعدِّدة مع مرور
الوقت؛ وبالتالي فإن فكرة تَمايُز واستقرار
الثقافات القومية لا يمكن أن تَصمُد؛ لأن الثقافات
تَتمازَج وتقترض من بعضها، يتضح ذلك، على سبيل
المثال، في بعض الملامح المُقوِّمة التي تُميِّز
الثقافة الإنجليزية مثل «سان جورج» القديس الراعي
واللغة الإنجليزية. الأول، كان بالأحرى شخصًا
غامضًا ولكن يُعتَقد أنه نبَع أصلًا من الشرق
الأوسط، والثانية خليط من مصادر لغوية جاءت إلى
إنجلترا من شمال أوروبا في القرن الخامس
(Crystal, 1995).
والحقيقة أن الثقافة الإنجليزية كلها قد تَشكَّلَت
نتيجة غزوات مختلفة، بما في ذلك تلك التي كانت على
يد الأنجلز، والساكسون، والفايكنج، والنورمانديين.
وهكذا تقوم الثقافات القومية باستمرار بتطوير
واحتواء مؤثرات جديدة، في حالة بعض الدول؛ مثل
البرازيل والمكسيك وإندونيسيا وزنربار خاصة، فإن
الأصول والطبيعة الهجينة لهوياتها القومية من السهل
التعرف عليها في ضوء تجاربها مع الاستعمار، وفي بعض
الأحيان تصبح محل حفاوة؛ وفي رأي مُنظِّري الهجنة
أن الهياكل الاجتماعية مثل الدول والأديان، أسهمَتْ
في إخفاء عمليات التهجين. يتبع ذلك أن المدافعين عن
الثقافات القومية والدينية — وتحديدا أصحاب مفاهيم
الثقافة الأحادية من بينهم — إما أنهم يفشلون في
الاعتراف بطبيعتها الهجينة أو أنهم — ببساطة — غير
مدركين لها.
وكما عرضنا في الفصل الأول، فإن كتابا مثل
«ندرفين بيتيرس» (٢٠٠٤م) يعتقدون أن التهجين
المتسارع والتمازج المتزايد بين الثقافات هي
الملامح المحددة للعولمة المعاصرة.
٤ وإذا كان الحال هكذا، فلا بد من أن
يكون له متضمناته الواضحة بالنسبة للثقافات
القومية، وقد تبدو هناك جوانب معينة من العولمة
المعاصرة تسهل الهجنة. وكما رأينا، فإن العمليات
العديدة التي تمثل العولمة تعمل على تمزيق العلاقة
بين الثقافة والمكان. وهكذا فإن الحفاظ على الثقافة
داخل حدود إقليمية معينة يصبح أكثر صعوبة عندما
تخترق هذه الحدود يوميا من قبل التدفقات الثقافية
والإعلامية القادمة من أرجاء العالم من خلال
تكنولوجيات الاتصال الحديثة. وبالمثل، فإن تحسن
وسائل الانتقال والسفر والهجرة المتزايدة — وهي أيضًا
جزء من العولمة الحديثة — تمكن من أن يكون لدينا
عدد أكبر من وهي المواجهات الثقافية المتنوعة، ومن
ثم فرص أكثر للاختلاط الثقافي، يضاف إلى ذلك أن
الحياة المدينية في المدن الكونية اليوم تجعل من
الصعب تفادي التفاعل مع الشعوب والثقافات حول
العالم، سواء في المطاعم والمقاهي والمسارح ودور
السينما، أو ببساطة من خلال لقاءاتنا وخبراتنا
العادية اليومية. (انظر:
Al Sayyed,
2001). بايجاز، التطورات والتجليات
التي ندعوها "عولمة" توفر لنا حراكا وسيولة في
المجتمعات الإنسانية، وتكسر الحدود والعوائق في هذه
العملية، وتلك كلها ظروف مواتية للهجنة.
على أن العلاقة بين الثقافة القومية والتهجين
أكثر تعقيدًا مما ذكرنا إلى الآن، وهنا نُبدي
ملاحظتين لإيضاح ذلك. الأولى: بدلًا من مجرد النظر
إلى الثقافات القومية باعتبارها مُهدَّدة من قِبَل
قُوى التهجين، لا بد كذلك من التعرف على الضغوط
التي تواجهها ثقافة الهجنة في إطار ثقافة قومية
مهيمنة، ومدى احتواء تلك الثقافة لها. والحقيقة أن
مواجهة الهجنة نادرًا ما تكون متساوية في كل
الثقافات، كما أنه ليس من المرجَّح أن تفرز نتائج
واضحة مباشرة، وهنا لا بد من أن نضع في اعتبارنا
فكرة المثاقفة المتبادَلة التي عرضنا لها في الفصل
الثاني، والتي بموجبها توجد الثقافة عبر غيرها من
الثقافات. باختصار، نحن في حاجة إلى أن نضع
باعتبارنا علاقات القوى التي تعمل عندما تتفاعل
الثقافات وأن نتأكد أننا عندما نركز على السيولة
والتدفق والامتزاج، لا نغفل الفوارق والاختلافات
الهيكلية. ثانيًا: حتى مع الاعتراف بالطبيعة
الهجينة للثقافات القومية، فإن هذه الثقافات يمكن،
بالتأكيد، أن تتوازن وأن تبقى، وتصبح في الوقت
المناسب ذات معنى بالنسبة لمواطنيها. في العقود
القليلة المؤدية إلى القرن العشرين، على سبيل
المثال، كان للمملكة المتحدة مزيج عِرقي وثقافي
متجانس نسبيًّا، أدَّى من ثم إلى إنتاج ثقافة قومية
مستقرة تَتمحور حول مؤسَّسات و«أساليب حياة» معينة
مشتركة؛ على أن ذلك، في رأى «ندرفين بيتيرس»، ينبغي
ألا يصرفنا بعيدًا عن حقيقة مهمة، وهي أن
الهُويَّات القومية ما زالت «خليط هويات» (٢٠٠٤م،
٣٣) الثقافات من وجهة نظره، كانت وما زالت «تفيض عن
الحدود» وهي نفسها «تراكمات إضافية متراكبة»
(ibid.,
100).
(٨-١) نقد نظرية الهجنة
تُواجه نظرية الهجنة انتقادات واسعة كما هو
واضح حتى الآن
٥ بداية، هناك قضية ما يتم تهجينه في
عملية المواجهة هذه. ببساطة، ألا بد من أن تكون
الثقافات المتفردة موجودة لكي يتم التهجين؟
وإذا كان الأمر كذلك، ألا يضعف ذلك من زعم
مُنظِّري الهجنة بأن جميع الثقافات ما هي إلا
مزيج استعارات من ثقافات أخرى تفيض عن حدودها؟
كذلك هناك اتهام آخَر لنظرية الهجنة مفاده أن
معظم أشكال التهجين الثقافي سطحية، وأنها
مواجهات عابرة، ولكي تتملك الثقافات الأخرى
تمامًا وتضمن جوانب منها، فإن ذلك يتطلب وقتًا
والتزامًا، إلى جانب الاعتناق لدرجة التقمص.
الناس سوف ينخرطون في أشكال من التمازج الثقافي
والتجريب، مثل تلك الأعداد المتزايدة من
المواطنين الغربيين الذين اجتذبتهم تعاليم
البوذية، ولكن تجربتهم الهجينة في آخر الأمر
ليست متأصلة، إذا ما قورنت بقبضة ثقافتهم
القومية أو حتى الغربية عليهم، في حالة
الأخيرة، بالنسبة لعدد كبير من الناس في الغرب،
ربما تكون حريتهم الفردية هي ما يُثَمِّنونه
عاليًا؛ لأن ذلك هو ما يزودهم بالفرصة
«للامتزاج والملاءمة»، إن كان لنا أن نتكلم من
الناحية الثقافية. على أن مُنظِّري الهجنة
يردون على اتهام المواجهات التهجينية بأنها
عابرة بسؤال: ومن ذا الذي يقرر إذا ما كان
الحال كذلك؟ من غير الفرد المَعْني يستطيع أن
يقول إن إسبانيًّا يمارس البوذية، لا يمارسها
في تجربة ذات معنى؟
بالتوازي مع الانتقادات الموجهة لنظرية
الهجنة، أثيرت شكوك عن المدى الذي وصلت إليه
عمليات التهجين الثقافي في الماضي وفي عصرنا،
أيديولوجيات الإقصاء مثل القومية والداروينية
الاجتماعية لعبتْ دورًا كبيرًا في تشكيل الحقبة
الحديثة، كما عملت بكل تأكيد على تقييد أشكال
التهجيين الثقافي؛ وبشكل عام، هناك تاريخ طويل
لحكومات تحاول حماية ثقافتها القومية من قوى
التهجين، بدءًا من تقييد الهجرة إلى تحجيم
تَدفُّق الأفكار والمُنتَجات الثقافية الأجنبية
إلى مجتمعاتها.
في هذا السياق، لجأت الحكومات المتوالية في
سنغافورة إلى إجراءات سُلطوية لحماية ما تعتبره
ثقافة وقِيمًا قومية؛ كما تشير نتائج مسح
أُجرِي في المملكة المتحدة في ٢٠٠٤م من قبل
لجنة المساواة العرقية
(Commission for Racial
Equality) أن أكثر من تسعة من
كل عشرة بريطانيين بيض ليس لديهم أصدقاء من
الأقليات العرقية (Dodd,
2004). ما حدث هو أن كثيرًا من
البيض كانوا قد تركوا مناطق وسط المدينة، حيث
المرجح أن توجد جماعات المهاجرين، والواضح أن
ذلك خفض حجم التفاعل الثقافي. من ثم، نجد أن
لندن وبعض المدن الأخرى كوزموبوليتانية
ومتعدِّدة الثقافات، بينما مناطق أخرى، وخاصة
الريف، ليست كذلك. وبينما يوجد دليل على أن
البيض الأصغر سِنًّا، أكثر اختلاطًا وامتزاجًا
من الكبار، تشير نتائج المسح أيضًا إلى عكس ذلك
داخل بعض الأقليات العرقية — أكثر من ٣٩٪ من
«البريتونز» (وهي أقلية عرقية) تحت سن الثلاثين
لهم أصدقاء ينتمون كلهم تقريبًا إلى أقليات
عرقية أخرى مقارنة بجيل آبائهم (أي من هم فوق
الخمسين)، حيث يشير الرقم إلى ١٩٪ فقط؛ وهي
أرقام تصبح أكثر دلالة، على اعتبار أن المفترض
أن العولمة تسهل عمليات التفاعل الثقافي. كذلك
هناك حكومات أوروبية عديدة تعبر عن قلقها؛ لأن
كثيرًا من المسلمين يظلون «غرباء»، على الرغم
من أنهم عاشوا «بينهم» في بلادهم على مدى
أجيال، وعلى الرغم من أن ما يزعج الحكومات
الأوروبية في معظم الأحيان هو أن أولئك
المسلمين وغيرهم من الأقليات العرقية لا
يندمجون في المجتمع ويظلون محتفظين بثقافاتهم
القومية، بعبارة أخرى، إنهم يبحثون عن
الاستيعاب الثقافي وليس التهجين.
ليس من المُرجَّح أن يعتبر مُنظِّرو الهجنة
الأمثلة السابقة جوانب ضعف في قضيتهم، فكما
سنرى في الفصل القادم هناك زيادة في حالات
الزواج في المجتمعات الغربية بين أفراد من
أجناس مختلفة وفي عدد الأطفال نتيجة هذا
الزواج، وهو ما قد يعتبر الشكل النهائي للتفاعل
الثقافي، وإن كان ذلك مجرد نوع من أنواع
التهجين الثقافي. التدفقات الثقافية الكونية
المعاصرة، والصور والأفلام والأصوات والرموز
تؤكِّد أننا لسنا مُضطرين لأن نكون في حالة
اقتراب جغرافيًّا وفيزيقيًّا بدرجة وثيقة مع
الآخرين لكي نمارس جوانب من ثقافتهم. يضاف إلى
ذلك، كما ذكرنا من قبل، أن مُنظِّري الهجنة
يرون أن الثقافات القومية التي تحاول بعض
الحكومات أن تدمج جماعات الأقليات فيها، هي
بالفعل كيانات هجينة. من هنا، تقوم العولمة
الحديثة «بتهجين ما هو مُهجَّن» بالفعل وإن
بمعدل أسرع (Nederveen
Pieterse, 2004).
(٩) العولمة والثقافة القومية والتعقد
على ضوء ما أتمنى أن يكون قد اتضح في هذا الفصل،
هناك حُجج كثيرة لدى كلا الجانبين حول الحالة
الراهنة للثقافة القومية وتأثير عمليات العولمة
فيها. لقد طرحت هذه القضية حتى الآن باعتبارها
جدالًا بين متفائلين ومتشائمين بخصوص مصير الثقافة
القومية، بينما تُوجَد في الحقيقة آراء مختلفة حول
ما هو موضوع مُعقَّد. من الأسباب الرئيسية لهذا
التَّعقُّد أن المواجهة بين الكوني والقومي تتم في
أُطر مختلفة، بعبارة أخرى، الأشكال المختلفة من
بنية الدولة وكذلك الثقافات القومية ذات التواريخ
المختلفة والدرجات المتباينة من الصحة، كلها عرضة
للتدفقات الثقافية الكونية، غير المتساوية سواء في
حجمها أو في المدى الذي تصل إليه، وهذا يعني في
النهاية أن مثل تلك التدفقات التي ستمارس وتفسر
ذاتيًّا، سيكون لها تأثير كبير في بعض البلاد
والمناطق بما يؤدي إلى تآكل الخصوصيات المميزة
نتيجة لذلك، ولكنها في بلاد ومناطق أخرى ربما تلقى
صورًا مختلفة من المقاوَمة القومية. كل ذلك يعني
أنه إذا كان علينا أن نقرر ما إذا كانت عمليات
العولمة تضعف الثقافات القومية، سيكون علينا أن
نبحث أطرًا معينة ونُجرِي الكثير من عمليات دراسة
الحالة. وهكذا فإن الولايات المتحدة باعتبارها أقوى
دولة -أمة، وهو ما يسهم جزئيًّا في المستوى العالي
من الوطنية الذي يمكن أن نجده في البلاد، مع حقيقة
كونها (كما رأينا في الفصل الرابع) مَصْدرًا
مُهمًّا لكثير من التدفقات الثقافية الكونية، سيكون
لها خبرة مختلفة في العولمة الثقافية مُقارَنة
بكثير من دول الشرق الأوسط ذات التاريخ الأقصر أو
الأضعف (مثل حقها في الوجود الذي يهدده بعض
المسلمين في المنطقة)، كما أنها المتلقى لمثل تلك
التدفقات.
عندما نقيم تأثير العولمة في الثقافة القومية، لا
بد من أن نضع في اعتبارنا أيضًا، أن الدولة-الأمة
من بدايتها، كان عليها أن تضطلع بدور مهم في توليد
وتنمية الوحدة الثقافية القومية، وعادة يتم تهميش
الثقافات والهويات المحلية الداخلية أثناء ذلك.
الضغوط الخارجية التي تُمثِّلها العولمة اليوم، هي
إذن — بمعنى ما — جزء من نمط، رغم أننا ينبغي ألا
نهون من شأن التحديات الخاصة التي تمثلها عمليات
العولمة المعاصرة للثقافات القومية، النموذج الأبرز
من بين هذه التحديات، الانخلاع الثقافي عن الإقليم
(الفصل الثاني) الذي ينطوي على أن الصلة بين
الثقافة القومية والإقليم لم تَعُد ضرورية كما كانت
ذات يوم، على اعتبار أنه قد بات اليوم أكثر سهولة
أن يتواصل المرء مع مُواطِنه عن بعد، وكذلك مع
مواطنيه أينما كانوا في العالم. ببساطة، لم تعد
هناك ضرورة كبيرة لأن تعيش في بلدك لكي تعتبر من
أهله، يضاف إلى ذلك أن شعوب الثقافات والجنسيات
الأخرى يعيشون في بلادنا، وعلى الرغم من جهود بعض
الوطنيين والحكومات الوطنية للحفاظ على الخواص
المميزة لثقافاتها، فإن التدفقات الثقافية للصور
والرموز والأصوات والأفكار تَعبُر الحدود القومية
جيئة وذهابًا كل يوم، كما رأينا كيف أن مثل هذا
الحراك والسيولة يمكن أن يعمل على تمزيق الفضاء
القومي. في هذا السياق هناك قضية كيفية تَصوُّر
أوطاننا الأصلية من على البُعد وهي تمر بتغيرات
سريعة، إلا إذا كنا متمسكين، بالطبع، بمفهوم وردي
أو مفهوم راسخ عن ذلك الوطن «الأم»، وهو ما يميز
بعض الجماعات المغتربة.
في آخِر الأمر، يصبح من الصحيح أن نعتبر الثقافات
القومية مُهدَّدة من قبل التدفقات الثقافية
الكونية، إذا تَصوَّرْنا أن تلك الثقافات كيانات
مُستقِرَّة وثابتة ومتجانسة. ولكننا إذا نظرنا إلى
الثقافات القومية — كل الثقافات كما نتصورها هنا —
باعتبارها مُتقلِّبة ومتلونة وحدودها قابلة
للاختراق، فلا شك أن رؤيتنا ستكون أكثر استبصارًا
لطبيعة العولمة وديناميكيتها، وخاصة فيما يتعلق
بإسهام الأولى في تطوير الأخيرة؛ ففي وقت قصير
نسبيًّا، على سبيل المثال، دَخلَت المطاعم الهندية،
أو تم استيعابها في الثقافة البريطانية.
والحقيقة أن الذهاب اليوم لتناول «الكاري» في أحد
المطاعم، أصبح أمرًا مقبولًا في الحياة الثقافية
البريطانية، هكذا، وعلى المستوى الشعبي يتم استيعاب
الثقافات الغربية وإدخالها في إطار الثقافات
القومية والوطنية، فتسهم في تَطوُّرها بدلًا من أن
تكون خطرًا يتهددها؛ وتلك عملية ممكنة لأن الثقافة
البريطانية ليست كيانًا ثابتًا، وهي نقطة تنطبق على
الثقافات القومية الأخرى.
ولعل المثال السابق دليل كذلك على أن النخب
السياسية ستجد من الأصعب أن تتبنى وتسيطر على
الثقافات القومية في عصر العولمة، وهو تَغيُّر
يَقوَى منه تَدهوُر مشاعر الاحترام والتوقير،
وتزايد الفردانية. كل ذلك يُؤكِّد أن أي محاولة من
قِبَل حكومة ما لتشكيل الثقافة القومية، سوف
تُواجَه بالمزيد من الشك والارتياب، مثل محاولة
حكومة حزب العمال الجديدة الفاشلة الدعوة إلى
«بريطانيا جديدة» في أواخر تسعينيات القرن الماضي.
ولكن هذا التغير لا يعني أنه لم يعد لدينا مرشدون
ثقافيون نهتدي بهم. الحقيقة أن هناك نُخبًا ثقافية
جديدة هم: نجوم الأزياء والموضات، والفنون
والموسيقى الشعبية، ولاعبو الكرة، ومحررو الصحف،
وخبراء التصميمات، الذين، وإن كانوا لا يُمْلِون
آراءهم، يُشكِّلون الأذواق العامة؛ وهذا على الرغم
من أن التأثير الذي يحاولون ممارسته، من المرجح أن
يكون على جمهور عابر للحدود، أكثر من كونه وطنيًّا.
وبالمثل فإن الكثير من المنتجات الثقافية ليس
موجَّهًا للمساهَمة في الثقافة القومية، وبينما
كانت الموسيقى والعمارة والأثاث تُصمَّم في مراحل
تاريخية سابقة بحيث تعكس أسلوبًا قوميًّا أو لإشباع
ذوق وطني عام (رغم أن الاستشراق استثناء)، فإن مثل
تلك الحالات نادر الآن. اليوم، يبدو أن مُنتِجي هذه
الأشكال الثقافية أصبحت ميولهم ونزعاتهم إلى ما هو
وطني أو قومي أقل مما كانت عليه، وأصبحوا يستلهمون
مؤثرات ثقافية من أرجاء العالم لإبداعاتهم، كما
أصبحوا يبحثون عن اعتراف أوسع بمنتجاتهم، هنا يصبح
من الملائم أن نتساءل — على الأقل في مجال الأعمال
الفنية وربما في مجالات أخرى — وأين يتم إعادة
إنتاج الثقافة القومية؟ وهل يعني هذا أن الثقافات
القومية سوف تصبح متاحف ذاكرة؟ هل ننظر إليها
باعتبارها مُجرَّد حنين إلى الماضي أكثر منها
تشكيلات ثقافية معاصرة؟ إذا كان الحال كذلك، فإن
وثاقة صلتها بالواقع الوطني أو القومي سوف تتضاءل
بالفعل، وخاصة بالنسبة للأجيال القادمة. على أننا
ينبغي ألا نبالغ في هذه النقطة، فسوف تكون هناك
مجالات أخرى من الحياة القومية تواصل الإسهام في
الثقافة القومية مثل التفوق في مجال الرياضة، ورحيل
رموز قومية مهمة، والأحداث والمناسبات العامة. وعلى
الرغم من ذلك، هناك في الوقت نفسه بعض جوانب من
الثقافة القومية لا تعيد إنتاج نفسها.
باختصار، إذا تصورنا الثقافة عملية مستمرة لا
تتوقف، سيكون فهمنا أكثر وضوحًا للعلاقة المتبادَلة
بين العولمة والثقافة القومية، كما سنكون أكثر قدرة
على قبول فكرة أن الثقافات، بما فيها القومية،
مُكوَّنة من طبقات متراكمة فوق بعضها وأنها خضعت
لمؤثرات طورتها وجمعتها، وأنها طوال الوقت كانت
عرضة لأفكار وصور مختلفة. بهذا المعنى، فإن
التدفقات الثقافية الكونية تسهم في الثقافات
القومية؛ وسوف أورد هنا مثالًا يشار إليه كثيرًا،
ويعيدنا إلى موضوع الهند، في نتيجة لمسح أجري عن
عادات الأكل في المملكة المتحدة اتضح أن الطبق
البريطاني «الوطني» الآن هو «دجاج التيكا»! عمليات
العولمة هنا ملحوظة تمامًا ولا تحتاج إلى مزيد
بيان. الأهم، أن هذا التطور لن يزيح، بالضرورة،
المطبخ الوطني الموجود ليحل محله. هذا التطور
إضافة. بعبارة أخرى دجاج التيكا سيأخذ مكانه إلى
جوار «البيف والبوكشاير بودنج والسمك والبطاطس»
باعتباره جزءًا من الثقافة القومية التي ستصبح بذلك
أكثر ثراء.
للمزيد
هناك عدد كبير من الأعمال الجيدة التي تتناول
المادة التي عرضنا لها في هذا الفصل.
Robert Holton’s:
“Globalization and the Nation State,”
1998.
Jean-Marie Guéhenno’s:
“The End of the Nation State,”
1995.
Anthony Smith’s:
“Nations and Nationalism in A Global Era,”
1995.
Nederveen Pieterse’s:
“Globalization and Culture,”
2004.
Avtah Brah and Annie
Coombes’: “Hybridity and its Discontents,”
2000.