وراء جدل التأليه ونفي اللاهوت (تطبيقات فلسفية وملاحظات عمل)
١
العقيدة والطقس، الدين والتديُّن، مَفْهَمة العالم في وجهة النظر
الدينية موازنة أنطولوجية.
***
(١) الدِّين نمط محدَّد من العقائد والطقوس أنتج نظامًا رمزيًّا
متكاملًا ظاهره اكتشاف الوجود المفارق وواقعه ترسيخ آليات ثابتة
تهدف إلى تسيير الحياة الاجتماعية والتدخُّل فيها، ويتمثَّل البشر
مجموع الإحالات الدينية للإجابة عن أسئلة الحياة وتلبية احتياجاتهم
المعنوية (= الروحيَّة)، وفي هذا الطيف الواسع الذي يستعين بضراوة
المفاهيم، وبلينها، بكثافة دفاعاتها الصلدة، وبشفافية دعواتها
الحائرة، يولد خليطٌ من مواقف الصداقة والعداء، ومن الممالاة
والكره.
(٢) الدين مصدر رمزي دائم يقوم على فكرة التأليه، التديُّن شكل
اجتماعي يدِّعي تمثل هذا المصدر، ولكنه في الواقع يحتكره، وباسم
الدين يضفي المتدينون الشرعيَّة على مكانتهم الاجتماعية ورُؤاهم عن
العالَم، ويجعلون رغباتهم الفانية انعكاسًا لوجود إله خالد. إن
ارتباط الدين بمحاولات تلمس ما هو مفارق يجعله في منأًى عن
الاختبار والمساءلة الواقعية، أما التديُّن الذي يرتبط بشكل
اجتماعي معين ويوطِّن الدين في بيئة محددة فإنه يخضع بالضرورة
للتشكيك والمقارنة ومختلف أنواع السؤال.
(٣) يبدو المعتقد أكثر حضورًا وسيطرةً من الممارسة الدينية. إن
الاعتقاد لا يتطلَّب أن يتخلَّى المُعتقِد عن الوقت المخصَّص
للحياة في سبيل إثبات جدارته بالإيمان، بينما تلحُّ الممارسة
الدينية على هذا الشرط. البشر دينيُّون في العمق ولا يعنيهم كثيرًا
أن يكونوا متدينين.
(٤) عندما نكون «في الدين» فإننا نعثر على أفكار متجاورة هي في
الحقيقة فكرة واحدة متناسلة ومستنسخة، لا يوجد مفهوم، أو مفاهيم
متضافرة، أبدًا، فإذا أردنا أن نتحدث عن الدين لزم أن نقف خارج
محيطه، وأن نستعمل «شفرة أوكام»١ التي بين أيدينا. ﻓ «العلامة غير الضرورية لا معنى
لها»، كما يقول فتغنشتاين،٢ ونستطيع أن نستبقي ما هو ضروري بتجريد العقيدة ضمن
منظومة المتواليات الصورية التي تظهر كعلامات قارَّة وتؤدي أدوار
المفاهيم.
(٥) مَفْهَمة العالَم
conceptualization في المحصلة
الدينية ثابت لا يتغيَّر، بينما هي في أطروحات نفي اللاهوت دائمة
الحركة والتغيُّر لأنها انعكاس إنثروبومورفي مهاجرٌ بين الأزمنة
والأجناس.
(٦) تبدأ المفاهيم بأفكار أوليَّة؛ المعرفة الدينية توقفت عند
عتبة الأوليَّات دون أن تتجاوزها، مع مرور الوقت أضافت لها — كلما
تطلَّب الأمر مزيدًا من الشرح — صورًا وظلالًا جديدة، وكنتيجةٍ فقد
كانت عاجزة دائمًا عن صياغة أفكارها في مفاهيم محدَّدة. إننا الآن
نلجأ إلى التأويل والأدوات الهرمونيطيقية لإعادة تظهير الصور
القديمة، وتحديد الأفكار بانتزاعها من الظلال التي ترتسم على
الجدار.
(٧) مسلَّمة أنَّ الدين فطريٌّ بدهيًّا يتمَّ تمريرها دائمًا
بالاعتماد على ما يُحدثه الإصرار على هذه الفكرة من توتر، وهي حشوٌ
يتم التعامل معه دائمًا كأمر مُعطًى طبيعيًّا. الإيمان بعقيدة
دينية هو قبولٌ إرادي بتفسير محدَّد وخاص لنشأة العالم وسيرورته ثم
مآله، وهو الأمر الذي يُنتِج دائمًا منظومة متصلة من أداء الطقوس
التي تعتبر بدورها تواضعًا جمعيًّا على تحويل القبول الإرادي
المسبق (أي الإيمان) إلى شكل اجتماعيٍّ محدَّد.
(٨) الموازنة الأنطولجية بين الإيمان بالعقيدة (القبول بالتفسير
الديني للعالم) وبين الشعائر والطقوس (الشكل الاجتماعي لممارسة
الإيمان) ليست مؤكدة دائمًا. إن الموازنة المسبقة بين الطرفين تبدو
حقلًا فارغًا.
(٩) التوتُّر هو انزياح التفاعل مع الموضوع (الأشياء، الحالات،
الأوضاع …) إلى مستوى معيَّن من مستويات الشدة
Intensity، وهو يقابل الانزياح
عن مستوى مفترضٍ من الاتساع
Extensity أو عن درجة مسبقة أو
متصوَّرة من هذا المدى، والمستويان يتناظران طرديًّا في الآن ذاته،
ذلك يعني تحويل الإيمان وممارسة الطقوس إلى طيف واسع من آليَّات
التفاعل والتوتر يمتد من الشدة إلى الاتساع (المدى)، أي من
اللامبالاة (مع تأكيد عدم التناقض أو التضاد) إلى التسمية (أي
القبول العام بالعقيدة) إلى الانخراط الاجتماعي في طقسية الدين
(مثل صلاة الجمعة أو حضور القُدَّاس أو الترتيل أمام حائط
المَبْكى) إلى الاعتراف بالتميز (أي الولاء والخضوع تحت اسم الدين
لمقام أكثر تأثيرًا كما في أدوار شيوخ الدين والكهنوت) … إلى آخر
ذلك من أشكال اللاقياسية
incommensurability أو عدم
القابلية للتناسب.
(١٠) الدين أنتجه سؤال إنساني عميق يتوخَّى بناءَ تصوُّر مُقنِع
عن الوجود والحياة. نشأت الآلهة والكائنات العلوية والخارقة
بالتدريج عبر آلاف السنين، ثم توطَّنت تاريخ البشر وأصبحت طاعتها
والالتزام بها مصدرًا للسعادة الآنية حينًا، والبعديَّة حينًا
آخَر. عندما فسَّر البشر قسوة الطبيعة بغضب الآلهة نشأ سؤال الموت
والخلود، لجئوا إلى الآلهة لأنهم عجزوا عن وضع حد لآلامهم
وأحزانهم، أو لأنهم أرادوا إرضاءها ومداراة غضبها إذا ارتكبوا ما
اعتقدوا أنه خطيئة، بل إن الخطيئة أصبحت عملًا محبوبًا مُفضَّلًا
كلما قادت إلى ندم حقيقي وتوبة نصوح. وعندما بدأت مواجهة العبء
المستحيل: تفكيك شفرة الموت، وتجاوز عقدة القلق الوجودي من عالَم
ما بعد الحياة الذي لا يعني شيئًا سوى الموت نفسه، صار الخلاص من
العقاب حلمًا بجنَّة ما؛ ديلمون أولًا ثم جنَّات أخرى كثيرة في
أمكنة متفرِّقة، ونشأت الثنائيات الكبرى التي عبَّرت عنها ملاحم
وحكايات ونصوص قديمة قُدِّست أيضًا، وتركَّزت فكرة الجنَّة
المتخيَّلة في مكان ما من السماء، هكذا أحال البشر الأخطاء
الاجتماعية التي تم ارتكابها إلى معاصٍ وآثام. اللغة مِطواعةٌ
دائمًا، وهنا نشأ طقس الأضحية الذي أنتج القربان. ظهر طقس الفداء
ليكون صفقة كاملة ونهائية في تاريخ البشر.
٢
من ديلمون السومرية إلى يوم الدينونة، اقتباس الشرائع القديمة
وصور الجزاء البعديِّ في الديانات التوحيدية. نبذ العالم والتعلُّق
بالغيب، تقديس الفراغ.
***
(١١) ديلمون القديمة أصبحت عنصرًا يوتوبيًّا دائمًا، وفردوسًا لا
يدخله إلَّا الأتقياء المؤمنون، لدينا الآن غاية مقدَّسة لا بد لها
من شريعة واضحة، اقترحَ أورنمو شريعة بدائية أقرها الكهنة، ثم قام
حمورابي بتطويرها، وهذه الأخيرة سوف تصبح أساسًا لبناء الشرائع
الكبرى بدءًا باليهودية وصولًا إلى القانون الروماني الذي سينتشر
في أرجاء الأرض كافةً بصيغ وأشكال مختلفة. قام اليهود بدور تاريخي
مذهل في هذا المسار، فهم اقتبسوا حضارة وآداب وأعراف كل مكان
حلُّوا به، وهم كانوا رحَّالين دائمًا، طوعًا أو كرهًا. كانوا في
الحقيقة «ينسخون». إن النسخ هو أن تنقل شيئًا (كتابة غالبًا) من
مصدر إلى محتوًى آخَر، إذا ضاع الأصل بعد زمن يحدث أن تصبح النسخة
هي الأصل. يمكننا بتصعيد هذه الحركة إلى المحيط الاجتماعي أن نقول
إن النسخ هو أن يصبح العمل المقرَّر بديلًا عن سابقه. الشرط الوحيد
هنا هو الآنية، الآنية تعني أن النسخة أصبحت قَيْد التداول،
وأصحابها (المؤمنون بها) يقولون إنها الوحيدة، وهم يدافعون عنها
لتبقى إلى الأبد.
(١٢) يُعَد الدين من الناحية التاريخية أصلًا من أصول نشأة
المجتمعات التي نظَّمتها المعابد بالتضافر مع السلطة في صورة
الملك-الإله. لم يكن الرعايا في سومر ومصر قادرين على التمييز بين
وجهَي هذه الصورة، ونشأت بالتدريج توليفة عميقة بين الحياة والموت
يُقابَل فيها الخضوع في عالم الحياة بالمكافأة في عالم ما بعد
الحياة، وهي التوليفة التي ستنعكس في العصور التاريخية على الولاء
(الطاعة) والانتماء (الهُويَّة). بالنسبة إلى أيِّ دين من الأديان
التوحيدية الثلاثة، فإنه لم يعُد يمثِّل استعدادًا إيمانيًّا
بمجرَّد أن اكتملت شروط انتشاره الاجتماعية، ولم يعُد من الممكن أن
يسمح بأي قابليَّة أخرى، بل غدَا مؤسسة تمكَّنت في زمن قصير من فرض
نموذجها الهيروقراطي، وسيطرت على السلطة في المجتمعات التي صارت
ضمن نفوذها.
(١٣) يكاد يتلخَّص أثَر اليهودية في تجديد شريعة حمورابي، أي
إعادة تنظيم الحياة، أما المسيحية — وهي في الأساس حركة اجتماعية
نشأت تصحيحًا للشريعة اليهودية — فتدور تمثُّلاتها على محور الخلاص
فيما بعد الحياة. المسيح، بوصفه مخلِّصًا، أضاف للدين ما كان
يفتقده، أي رسَمَ «خارطة طريق إلهية» لما بعد الحياة، وهو ما لم
ينجزه الدين اليهودي. إن التصور الإنجيلي للبعث والنشور يبدو أكثر
تطورًا من التصور التوراتي الضعيف. الإسلام، باستعارته الطابع
التشريعي، من ناحية، وتصوره الحسي لما بعد الحياة من ناحية أخرى،
قام بنقلة مزدوجة تمثَّلت في تثبيت التشريع في عالَم الفناء، ثم
إحالته حرفيًّا إلى عالَم الخلود، ليصنع بذلك توليفة تجمع بين
التصورين السابقين، ويجعل الحساب والجزاء والعقاب مُعادِلًا
إلهيًّا للعدل والحق والإنصاف، كمضمون قانوني عرَفه الإنسان في
حياته الأولى. أقرب نموذج قبل تاريخي لهذا التقابل هو التصوُّر
الأخروي الفرعوني؛ حيث يمرُّ الموتى بحساب الميزان، فإما يُلقى بهم
إلى أودية النار، حيث «عمعموت»، أو يحملهم حورس إلى أبيه أوزيريس
الذي يتولى جزاءهم ويدخلهم الحديقة (الجنة) ليعيشوا حياة مُنعَّمة
أبدية. هكذا يتوزَّع التصور الأخروي في ديانات الشرق الأدنى بين
صور مروِّعة تقابلها صور مشرقة. الأساس في التصور التوراتي هو «يوم
هدَّين» (يوم الحساب)، وعودة اليهود بعد التطهر إلى أرض المعاد
تمهيدًا للبعث الكوني؛ «يوم الربِّ قريبٌ قادمٌ كخراب»،٣ «اليوم المتَّقد كالتنُّور»،٤ ولكن أيضًا «ها أنا ذا خالق سموات جديدة وأرض جديدة
فلا تذكر الأولى ولا تخطر على بال»٥ أما في التصور المسيحي ﻓ «تقوم أمةٌ على أمةٍ ومملكة
على مملكة وتكون مجاعات وأوبئة وزلازل»،٦ و«يأتي ابن الإنسان على سحاب السماء فيرسل ملائكته
ببوق عظيم الصوت»٧ ليوقظ العالم، ولكن أيضًا «ثمَّ رأيت سماءً جديدة
وأرضًا جديدة لأن السماء الأولى والأرض الأولى مضتا والبحر لا يوجد
فيما بعد»،٨ و«رأيت المدينة المقدَّسة أورشليم الجديدة نازلة من
السماء من عند الله»،٩ وأخيرًا: «هو ذا مسكن الله مع الناس وهو سيسكن معهم»١٠ وفي التصور القرآني يَوْمَ
نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ،١١وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا
وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ،١٢ ولكن أيضًا يَوْمَ تُبَدَّلُ
الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ،١٣ ووَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ
رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ١٤ إن ثنائية النعيم والجحيم تتوزَّع في الديانات الثلاث
بين الحرب والسِّلم، الفوضى والانتظام، الاضطراب والاستقرار، العدم
والانبعاث. التعبير الذي يلخِّص هذا التجاذب اللانهائي هو الجنَّة
والنار، على أننا يجب أن نتذكر دائمًا أنَّ تصوُّر الجنَّة (جذر
«جن» gn) الذي بدأ مع السومريين
ثمَّ هذَّبه المصريون جعلها تعني في المصرية القديمة حديقة الأب
السماوي، كما تعني بستان الإله آمون؛ وهي في السومرية
gana: حديقة، أو حقل، انتقلت
إلى الأكدية جنَّانوتو gannānūtu،
واستقرَّت في السريانية جنت ܓܢܬܐ، والعربية
جنَّة، جمعها جِنان، وصُوِّرت في القرآن من خلال إيهام مُتْعوي
باذخ هو بالطبع من تأثيرات البيئة الصحراوية الجافة
الضنينة.
(١٤) تشترك الديانات الثلاث في نبذ العالَم الوحيد المتاح أمام
البشر والتعلُّق بالغيب، أو التخلِّي الطوعي عن الأيروس الطبيعي،
لأنه حادٌّ وجسديٌّ وشهواني، واللحاق بالثاناتوس اللطيف والروحاني
والعفيف. هذا ما ينتج بالضرورة مصادرة العقل في مقابل الرضا
والاكتفاء بنص مُقدَّس، وتحقير الحياة الفانية في مقابل حياة خالدة
بعد الموت، وتحقير الجسد في مقابل إعلاء متخيل للروح؛ والسعادة
بتحويل العالَم الأرضي إلى جحيم لكي تهنأ الروح في العالَم
الأخروي، وإمعانًا في التلذُّذ البَعدي فإن هذه الديانات تجعل
البعث جسديًّا (يضيف إليه الإسلام ألوانًا من المتع الحسيَّة ممَّا
لا عين رأت ولا أذن سمعت). إن الحياة (المُعَبَّر عنها بالدنيا) في
منظور هذه الديانات هي مجال عبور الزمن حيث يمكن ترويض الطبيعة
وتملك الأشياء وصنع الأدوات، أما الغيب (حيث تكمن الآخِرة) فهو
عالم القوى المجهولة التي لا يستطيع الإنسان أن يتحداها أو
يُعارضها، لكنه يستطيع من خلال الدين أن يتفاوض معها ويكسبها إلى
صَفِّه أو يلجأ إليها.
(١٥) لم يكُن الإنسان يرى نفسه منفصلًا عن الطبيعة، تمثَّلها
حيَّةً ذات إرادة وانفعال، ميَّز الحيوانات فأصبحت أممًا مثل
الإنسان، تكلَّمت معه الأشجارُ والينابيع والسماء والجبال، جعل
القوى الطبيعية كائنات إنسانية وأضفى عليها صفات الأب، وحولها إلى
آلهة، «ومع مرور الأزمان تراكمت الملاحظات الأوليَّة عن انتظام
ظواهر الطبيعة وقانونيتها، فجرَّدت القوى الطبيعية من سِماتها
وقسماته الإنسانية. لكن الضائقة البشرية تبقى كما هي، ويبقى معها
الحنين إلى الأب وإلى الآلهة.»١٥
(١٦) نشأ الدين ليُجيب عن أسئلة القلق الوجودي بالدعوة إلى تأسيس
مملكة السماء، فانتهى إلى التشبُّث بمملكة الأرض وفقًا لطوبولوجيا
تأليهية أعادت تخريط السطوح القومية والأقاليم التقليدية في
الأويكومين القديم. شيئًا فشيئًا تحول الأوصياء (البابا والإمام
والحاخام …) إلى شخصيات لا أخلاقية عنيفة، كأنها تُعاني من فرط
«المورالين»، يصادرون المستقبل بالاعتماد على نُسَخهم الخاصة من
تاريخ البشرية الذي يعكس قدرًا أبديًّا مسبقًا، فالمستقبل ليس على
سطح الأرض بل هو عودٌ أبدي. لقد ظلَّ البشر دائمًا يتطلَّعون إلى
معرفة المستقبل، تخيلوا، تنبَّئوا، استعانوا بحركة الكواكب
والأجرام، توهَّموا حاسة سادسة، لكن الدين أغلق الأفق بضربة واحدة:
يوم الدينونة الذي لا نهاية له هو المستقبل الوحيد. جفَّت الأقلام
وطُوِيت الصحف، لا نبوءة بعد ذلك يمكنها أن تخترع أي شيء إلا إذا
أضمرت هذه النهاية المقدَّرة. هكذا صار الأوصياء يدعمون امتيازاتهم
بسلطة تعيين الموت النظيف وإرسال المزيد من المؤمنين إلى عالم
الآخِرة مزودين بصكوك الغفران وبُشرى الجنان. هم يلعبون دور الإله
على سطح الأرض؛ الأسوأ من كل ذلك أن الجموع التي منحتهم الوكالة
تمارس تقديس الفراغ دون أن ينتابها فعلًا نوع من القلق، بل تتآلف
مع أوهامها ووساوسها وتبتهج باضطراباتها العصابية.
٣
تأسيس الأورغانون الديني، المعصية، حرية الإرادة، الأخلاق بين
الواجب والولاء.
***
(١٧) عندما تُرك الإنسان حُر الإرادة صار إلى المعصية، فأكل من
الشجرة المحرَّمة وكان صديقًا للشيطان، وعندما كُبِّلت إرادته
امتنع عن ارتكاب المعاصي وصار عدوًّا للشيطان. على الإنسان إذَن أن
يعيش مسلوب الإرادة إلا ما مُنح منها بتقدير من الله. القاعدة
الأولى في الأورغانون الأخلاقي الديني: مَن تجرَّأ وتحرَّر فقد
كفر. الإنسان «خطَّاء» بالقوة.
(١٨) تأسَّس الأورغانون الأخلاقي الديني منذ القِدَم على الإخضاع
ومنع الأفراد من التفكير المستقل وتخطِّي ما لا يجوز، ووضعَ مسطرةً
دقيقة على طرفَي التابو (المُحرَّم) والنوا (المُحلَّل). لقد
ثبَّتت التقاليد الدينية ذكرى الثمرة المحرَّمة كأول تمرُّد فردي
جرَّ سلسلة من الكوارث على الجنس البشري بأكمله، وحوَّلت حياة
الإنسان إلى محاولات مستميتة للتكفير عن نتائج الخطيئة الأولى التي
سبَّبت البؤس والمعاناة والكدح، ومع توالي الإكراهات فمن الطبيعي
ألا يعتقد الإنسان بالإحساس بالواجب قَدْر خضوعه للأوامر، فالإحساس
بالواجب لا يتأتَّى إلا عن فكر حُر، والحال أن الدين يمنع الفكر
الحُر فلا سبيل للطوعية. ليس ثمَّة واجب، كما يقول برغسون، بل
ضرورة حيوية. إن الضرورات مُستساغة ومتوارثة؛ لأنها تراكمت عَبْر
زمن طويل وتحوَّلت إلى تقاليد وعادات مُكتسَبة دون التساؤل عن
نشأتها أو عن انسجامها مع الفطري والطبيعي بالنسبة إلى الفرد من
حيث هو إنسان.
(١٩) القاعدة الكارامازوفية «إذا لم يكن الله موجودًا فكل شيء
مُباح»، إحراج لاهوتي مبني على إهانة مركَّبة تحط من قيمة الوجود
الإنسانية وتجعل البشر بلا تاريخ. إن الإنسان هنا ليس أكثر من
حيوان خاضع يتميَّز بأنه قادر على ابتكار اللغة للتعبير بوضوح عن
خضوعه. ليس لدى جموع غفيرة من الناس سببًا فعليًّا يجعلهم يقفون
موقف عداء من الفكر الحُر، والسبب الوحيد الذي يمكن التفكير فيه هو
تأثرهم بالتلقين الدائم الذي يتلقونه من رجال الدين الذين حوَّلوهم
إلى أُمِّيِّين بالمعني الحضاري، وجعلوهم يعتقدون أن العالَم
سينهار، أو أن نقمة من السماء ستحلُّ بهم حتمًا إذا فكَّروا بطريقة
أخرى لا يكونون فيها مجرَّد رعيَّة لوكلاء الله على الأرض، الوكلاء
الذين بإمكانهم وحدهم أن يقودوا البشر في طريق الخلاص.
(٢٠) الفهم العام يحدِّد عبء الواجب ولاءً محضًا للمعايير
الأخلاقية. إن المعايير التي ترسم حدود الفضائل والقيم الخيِّرة لا
يمكن تحديدها بمعزل عن مصدرها الديني بالرغم من الاعتراف بأسبقيتها
على كل دين. لقد أصبح التفاني الإرادي وطوعيَّة الالتزام إزاء أي
قضية دليلًا على الإيمان. ثمَّة وجه آخَر في هذا التعميم: يحدث ذلك
لا بمقتضى الالتزام الذاتي، ولكن إلزامًا باقتضاء لاهوتي. أليس من
المثير أن التزام المؤلِّه يتوافق غالبًا مع الإلزام؟ هذا صحيح،
ولكن الالتزام في هذا الوضع المركَّب لا يدلُّ على الإرادة
بالضرورة.
(٢١) لا معنى للولاء الديني بوصفه تعبيرًا عن الإيمان، أي بما هو
انسحاب أو نكوص سلبي، سوى تبرير الطاعة وقابلية الإذعان، مثلما لا
معنى له، تعبيرًا عن الإحلال العنيف للتشريعات الإلهية، كما لدى
المتطرفين، سوى تبرير انتهاك الحياة. إن الولاء مرتبط كذلك بإرغام
الأفراد والجماعات على الإيمان الذي لا يُقابل هنا بحرية عدم
الإيمان، بل بالتخيير بين الطاعة والإذعان أو التحوُّل إلى نقيض (=
غريب، أجنبي، كافر، عدو).
(٢٢) يمتزج الشعور بالولاء مع وَهْم الإيمان الديني ليحل بدلًا
عن الإرادة الحُرة والوعي الذاتي والتمييز بين الصواب والخطأ،
والخير والشر. منذ سقراط أمكن للثقافات أن تتوافق على أن الإنسان
لا يكون شريرًا بإرادته. رسالة المسيح في التسامح جعلت كل إرادة
حسنة. أوغسطين في «الاعترافات» لخَّص هذا الخطأ في أن الإرادة
الوحيدة في العالم هي الإرادة الأزلية، لأن «الله أراد ما أراد
دفعة واحدة في نفس الوقت وإلى الأبد»،١٦ هذا التحوير المسيحي انتقل إلى الإسلام ليصنع «محنة
القدر» التي جرَّدت الإنسان من قدرته على الاختيار العقلي، لكن
منَحَته — بالمثل — مطلق الحرية في الإقدام على ارتكاب ما يستطيع
من أجل مصلحة الدين، أو ارتكاب ما عنَّ له طالما أنه «يبتغي وجه
الله». إن الشجاعة من أجل أوهام العقيدة حوَّلت الدمويَّة والشرَّ
إلى ولاء ديني محمود. أما على المستوى الفردي وبعيدًا عن الولاء
الديني فقد انتهى الأمر في الثقافة الإسلامية إلى لعبة لغوية صفرية
حاسمة لم تلقَ اعتراضًا، فالإنسان «مُخيَّر فيما يعلم ومُسيَّر
فيما لا يعلم». حلقة مفرغة أخرى في جدل الحرية والحاجة تدور على
محور الوهم اللاهوتي.
(٢٣) أقتبس من ابن سلامة هذه الفقرة النابضة: «إن التصورات
الدينية ليست قوية إلَّا لأن الحصن الذي يبنيه وهمُها ليَحُول دون
الجَزع هو أقرب إلى الطابع الانفعالي والجسدي للمنزلة البشرية،
وهنا تكمن نجاعة الدين، كما تكمن صعوبة الفكاك منه بسرعة. لقد
حذَّرنا فرويد قائلًا: «لا شك أن الرغبة في التخلُّص من الدين
وبدفعة واحدة أمر لا معنى له»، ومن الوهم أن نعتقد أيضًا بأن الوهم
الديني قد يتراجع أمام زحف أكبر للفعاليات العقلانيَّة»،١٧ ما لم تستوعب هذه الفعاليات عبء اليأس فتحد منه أو
تكبحه باقتراح حلول ناجعة. ومع ذلك فإن فرويد لا يترك هذا التحذير
بالطبع يعرقل مشروع تعويض الدين، ذلك «أن الاعتراف بما لبعض
المذاهب الدينية من قيمة تاريخية يزيد في مقدار الاحترام الذي نسلم
به لها، لكنه لا ينال البتَّة من قيمة ما نفترضه من وجوب إقصائها
واستبعادها عن تعليل الأحكام الثقافية والمقتضيات الحضارية.»١٨
٤
المتلازمة التوحيدية، الليتورجيا والإغواء الإلهي، التعليم
اللاهوتي وتوجيه السلوك، معنى الفضيلة والرذيلة في وجهة النظر
الدينية، الشر المقدس، بارانويا النجاة، نرجسية التدين.
***
(٢٤) إن صلاة الجُمُعة وخطبتها، وقُدَّاس الأحد والخدمات
الليتورجية، وطقوس السبت والتبريكات الربيَّة، مناسبات مخصصة كلَّ
أسبوع للإنصات لكلمة الرب وتوقيرها. ليست هذه الفضاءات الاجتماعية
أمكنة للحوار أو دعوة للتفكير وإسماع الصوت الخاص، بل هي تكمل
منظومة التعليم الدينية وتمثِّل تدريبًا عمليًّا على الدروس
النظرية التي يتلقاها الناس يوميًّا في هياكل التعليم المقدَّسة.
هكذا، بعبارة ابن حيَّان: «يستريحون من التعب ويريحون المتعلِّم.»
يتفق سفر التكوين وسورة الإسراء على قاعدة: «لا تقْفُ ما ليس لك به
علم». إنها قاعدة عامة تأسَّست عليها التعاليم المقدسة في كل زمان:
أنصِت، ردِّد، لا تناقش، حيث تصبح الصلاة، كما يرى كانط، وهمًا
أشبه بترديد الطلاسم و«مجرد أمانٍ مصرَّح بها لكائن لا يحتاج إلى
تصريح بالنيَّة الباطنة للمتمني.»١٩ الإسفاف حصيلةُ التلقين الديني. مزيد الأسئلة: درسُ
نفي اللاهوت.
(٢٥) يحوِّل اليهود والمسلمون اسم الله إلى تميمة يومية
يتحصَّنون بها في كل ما يفعلونه من الاستيقاظ صباحًا إلى الاستعداد
للنوم مساءً، ولا يتوقَّف المرء أثناء النهار عن ذكر الله في كل ما
يقدم عليه من أفعال مهما كانت تافهة، كالتحية مثلًا، أو ركوب
السيارة، أو الأكل والشرب، أو الجماع، أو ارتداء الملابس، أو
الخروج من البيت. أصطلحُ بمتلازمة توحيدية
Monotheistic Syndrome على مثل
هذه الحالة، وهي تتمثَّل في أعراض وعلامات تظهر على المتدينين
الموحِّدين الذين يؤمنون بأن «كائنًا» واحدًا خارقًا هو الرَّب،
يحتلُّ «مكانًا» ما في فضاء الكون ويُشرف منه على الأرض، ولا بد من
لفت انتباهه كل حين لكي يفتح بوابات السماء ويلقي شآبيب الرحمة
والعناية من ملكوته العالي! إنه وضع مَرَضي يستوجب العلاج بالطبع،
ولا يتعلَّق هذا الوسواس القهري بالأفراد فحسب، فهو منتشر جدًّا في
أشكال جماعية حيث تظهر أعراض «المتلازمة التوحيدية» على مجموعات
متآلفة تندمج بعمق وهدوء في ترديد اسم الرب أو مناجاته والتضرُّع
له، وتُشيع إتيقا شرطيةً تعزِّز بين أعضائها نوعًا من التضامن
الامتثالي دليلًا على قوة الله في نفوسهم. قد لا تنتشر هذه
المتلازمة في أيٍّ من الأديان الأخرى قدر انتشارها في اليهودية
والإسلام، والهندوسية كذلك وإنْ بدرجة أقل، حيث لا يمكن تصور
العلاقة بالذات والآخر، وبالأشياء والعالم، إلا من خلال الدين،
وحيث كل شيء محدَّد سلفًا بطريقة غامضة تجعله مرفوعًا إلى قوة أعلى
(سن). في مثل هذه الأديان ليس
الإله، أو الأفاتار الإلهي، سوى لفظ محايد (مراوغ) يعبِّر عن
المفارق، ومعادل شخصي لترويض القلق والخوف والاضطرابات واستيهام
الخلاص.
(٢٦) نعلِّم طلبة الفنون كل ما نعرفه عن رسومات الكهوف في لاسكو
وفينتورا وتاسيلي وألتميرا ودي لاس مانوس وبيمبتكا، والفن السومري
والمصري، والنحت اليوناني والروماني، وفنون عصر النهضة والواقعية
الاشتراكية؛ بهذه الطريقة — أعتقد — يجب أن نعلم الطلبة كيف وُلدت
فكرة الله ثم تجسَّدت ثم بهتت وتغيَّر لونها وأخيرًا تحلَّلت
المعتقدات وعادت إلى الأرض، كما تحلَّلت الفنون القديمة في تنصيبات
وأنماط تجريدية ومستقبلية واتجاهات فنية حديثة. لا نستطيع أن نلغي
التراث الفني، ولكن من الخطأ أن نجعله نموذجًا لا يجب تجاوزه، كذلك
لا نستطيع أن نلغي التراث الديني، ومن الخطأ أن يصبح هو الحدُّ
النهائي الذي ترتد على سطحه كل فكرة ورغبة.
(٢٧) اكتسبت الغواية التأليهية حِيَلًا وطرائق دعويَّة جد بارعة
عبر مئات السنين من محاولات إثبات الذات والهيمنة، وكانت تعزف طوال
هذا التاريخ القصير على لحن نوستالجيا كونيَّة تضمن لها استسلام
الأتباع الوجداني الشغوف، وإعرابهم عن رغبتهم المُلحَّة في اللحاق
بركب القافلة الأبدية التي ستعود بالزمان إلى أوَّله حيث لن يبقى
شيء سوى وجه الله.
(٢٨) توجيه السلوك إلى نهايات محدَّدة سلفًا ورسم قواعد معينة
يحظر تجاوزها، ودعم التنافس، وأخيرًا تطبيق توازنات الجزاء (الربح
والخسارة)، هذه هي مسارات جميع الأديان. نحن في الحقيقة أمام لعبة
صفريَّة صارمة، بعضٌ يعتبرها شائقة جدًّا تستحق أن نكرِّس لها
وجودنا بأسره، وهم المؤلِّهون، وآخرون يعتبرونها سفهًا مُضنٍ
ومضيعة للوقت دون الاستمتاع به، ويؤدي الانخراط فيها إلى إدمان
الأوهام، وهم الملحدون.
(٢٩) ليس الإله وهمًا لاهوتيًّا خالصًا بقَدْر ما هو ضرورة مثل
الرجاء والأمل والشعر والأساطير وحكايات الغيلان والجنيَّات. نحتاج
إلى الدين قَدْر حاجتنا إلى الخيال، كما في الفن، الشعر والموسيقى،
لنتذكر عبارة غوته التي استشهد بها فرويد:
«من يملك العلم والفن
يملك الدِّين أيضًا.
هل يمكن أن يكون صاحبَ دِين
مَن كان خالي الوفاض من الاثنين؟
هذه الكلمة، من جهة أولى، تضع الدِّين موضع التعارض مع أعظم
إبداعَين للإنسان؛ وتعلن، من جهة ثانية، أن هذه الإبداعات قابلة،
من منظور قيمتها الحيوية، لأن يحلَّ بعضها محل الآخَر»٢٠ الدِّين كالفن يحقِّق إشباعًا بديلًا، لكن الفنون لا
تتوقف عند حدٍّ يتم تعيينه بصرامة، ويعتبر كل ما تجاوزه هرطقةً
وإخلالًا بنظام الوجود. مسافة شاسعة بين الخيال كما نمارسه من خلال
الفن، والخيال الديني المُعَد مسبقًا، وغير المنفتح على أي إضافة؛
بينهما ساحة صراع يلتقي فيها الانفتاح والتجريب من ناحية، والدوغما
وبانتومايم الطقوس من ناحية أخرى.
(٣٠) الرجاء هو الخوف، التمنِّي هو الكذب. الرجاء يعني الأمل
والتوقُّع، وهو نقيض اليأس، ولكن الرجاء لغةً هو الخوف أيضًا.
والإرجاء أي التأخير من جنس الرجاء، وأرجأ كأرجى: أي لم يُصب
مراده. أما التمني في لسان العرب فهو تَشَهِّي حصول الأمر المرغوب
فيه وحديث النَّفْس بما يكون وما لا يكون، فالتمني — يقول ابن
منظور — هو الكذب. قريبٌ من هذا نجد المنيَّة، أي الموت. إن الرجاء
الديني بما هو يأسٌ يقود إلى تقديس الفراغ واستيهام الخلاص.
(٣١) عندما يُحيل المؤلِّهون الحياة إلى التعاليم الدينية فإنهم
لا يجدون غضاضة في ارتكاب ما يريدون. كل شرٍّ يصبح مُقدَّسًا، وكل
شيء يصبح مباحًا باسم الله. يقول الرازي: «لولا ما انعقد بين الناس
من أسباب الديانات لسقطت المجاذبات والمحاربات والبلايا»، ويقول
فرويد: «في كلِّ زمن وعصر لاقَت اللاأخلاقية في الدِّين من الدعم
قدرًا يُوازي ما لاقَتْه الأخلاقية»٢١ هكذا يمكن «لليهودي والمسيحي والمسلم أن يغترفوا من
التوراة ومن الأناجيل أو القرآن وفق ما يتمنون، وسيجدون وفق حاجتهم
ما يبرِّرون به الأبيض والأسود، والليل والنهار، والفضيلة والرذيلة»٢٢ أو إثرَ نيتشه: «وراء أكثر الأسماء قدسية وجدت أشدَّ
الميول تدميرًا»٢٣ باسم الآلهة شُنَّت الحروب وعُلِّقت المشانق وأُقيمت
المحارق وحُرِّضت الفتن؛ أشكالٌ تُنفخ فيها روح مقدَّسة فيرتضيها
الأتباع: كذب، سرقة، جشع، نهب، شراهة، كسل، غضب، حقد، تباهٍ،
تزوير، زور، اغتصاب، احتقار، امتهان، استعباد، رذيلة، نكث عهد، عدم
إيفاء بالوعد، انحطاط خُلق، مكر، عنف، سطو. إن الفضيلة لا تنتصر
على الرذيلة إلا إذا كانت تنفيذًا لأمرٍ عُلويٍّ؛ أيْ لنصرة غاية
دينية فقط، وليس بناءً على إرادة الإنسان الحُرة أو لداعي الحياة،
وتنزيهها والحفاظ عليها.
(٣٢) الإرادة امتداد لممكنات يتيحها المحيط الذي يحتضن فعل
الإنسان. لا يمكن معرفتها بما هي قوة فقط، بل لا بد من تحقُّقها
فعلًا ماديًّا. وهي شكل من التدريب الاجتماعي المتصل قابلٌ للتطور
باستخدام الأدوات التي يبتكرها الإنسان ويجدِّدها بما ينسجم مع
فهمه للفضائل التي تُمثِّل حدًّا خارجيًّا يقيد الإرادة ويذكرها
بمثال ذهبي يجب الاقتداء به … (عندما يتعلق الأمر بالأدوات يكون
باستطاعة الإنسان أن يقول دائمًا أن البشرية قد وصلت إلى مرحلة لم
يسبق لها مثيل في التاريخ، أما عندما يتعلَّق الأمر بالفضائل فلا
شك أن المتحسرين يرددون منذ هوراس أن جيل الآباء أقل شأنًا من
الأجداد، وأن الآباء أنجبوا أبناءً أسوأ منهم، وهؤلاء الأبناء
سينجبون جيلًا آخَر أكثر سوءًا).
(٣٣) عندما تقوم بعمل ما فإنه عملك أنت، طالما أنك تقوم بما تقوم
به غير مضطر، دون أن يتطلب الأمر توفيقًا بين ما «يجب عليك» وما
«يَحسُن بك» أن تفعله. إن الإلزام: «يجب أن تقبل هذا (أو ترفضه)
لأنه أمر الله لا لأنه جزء من آدميتك»، أمر يدعو إلى الاستغراب،
ولا تملك إلا أن تعيد النظر وترى محدِّثك من جديد بنظرة ملؤها
الشفقة (أو السخرية، أو ربما الاشمئزاز)، ومع ذلك فإن ما تُعانيه
في تلك اللحظة هو وجه واحد من الإلزام الديني الذي لا يطال الفعل
وحده، بل التفكير أيضًا. إن الرضوخ هو انكسار الإحداثيات التي
تتقاطع في الفعل دون أن تستجيب لإرادة الإنسان، وقد تأنس إلى أن
الفعل مشروط بضرورات مُسبَقة، فهل حرية التفكير كذلك؟ ألا يجب أن
تكون مُطلَقة وإلَّا فإنَّها لا شيء؟
(٣٤) للغائية الدينية هذا الإطار: «لا يستطيع الإنسان أن يقف
وحده». إن الاستسلام للعجز يختبئ في عُمق تخييل الوجود وفي تحويل
الهذاء (البارانويا) إلى نجاة وإلى فوز بنعيم أخروي. هناك يولد
تقسيم الزمان ويصبح العالم المأهول وهمًا لاهوتيًّا، أو على أقل
تقدير عتبةً.
(٣٥) الهدف من «كبح الشهوة»، وهو فعل إنسانيٌّ وقاعدة عامة في
جميع الحضارات، هو أن يعيش الإنسان سويًّا بتنازله عن بعض رغباته.
جميع الأديان (الكتابية والوثنية والوضعية) تُسمِّي الشهوة حرامًا
ومكروهًا، ويتَّفق نظام التحليل والتحريم في الأديان التوحيدية
(اليهودية والإسلام تحديدًا)، ويتضمَّن سلسلة ثنائية من
المتقابلات: مباح # ممنوع، جائز شرعًا # مكروه أو
مرذول، طاهر # نجس، نقي # خبيث … إلخ. هذا النظام
يُلقي بظلاله على مختلف أوجُه الحياة، وهو ترديد ذهني لمتقابلات
ثنائية أساسية: الله # الشيطان، إيمان # كفر، سماء
# أرض، ملاك # إنسان … إلخ. إنه الممنوع واﻟ «ما لا
يجوز» في قانون الدولة، وهو المذموم والمرذول والمعيب في القانون
الاجتماعي. إن القبول بالتقييد والإكراه بالنسبة إلى الفرد جزء من
حرية الجموع، فالفرد يستعيد ما تنازل عنه تلقائيًّا؛ لأن قبوله
بهذا المبدأ يوفِّر له قدرًا متفقًا عليه من الحرية. هذا المبدأ
يجعل التواضع والعيش السلمي ويجعل الديمقراطية والعمل الطوعي سِمة
إنسانية لا يستطيع الدين أو القانون أو العُرف إلغاءها؛ لأنه يسكن
عمق الآدمية والحياة المشتركة.
(٣٦) لا معنى لولاء وطني أو عام، في حدِّ ذاته، إنه طيف الولاءات
الفردية التي تتوافق لإنجاز مصلحة عامة. المثل الأعلى لهذه المصلحة
يُدعى الهُوية. التديُّن — لا الدِّين مجرَّدًا — خطَرٌ يُهدِّد
هذه المصلحة المُرسَلة.
(٣٧) يستفيد الدين من القومية خاصيةً دفاعيَّة؛ هي تأميم
المُقدَّس، وتستفيد القومية من الدين خاصيةً وجودية؛ هي تقديس
الهُوية.
(٣٨) عندما ينتصر الكيان السياسي يجعل الدِّين قانونًا قوميًّا،
يصبح الدِّين قانون الهُوية التي احتلَّت الأرض وهيمنت على الموارد
العامة (من الأمثلة: خيَّرَت محاكم التفتيش في إسبانيا اليهود
والمسلمين بين التمسُّح أو الرحيل عن ممتلكاتهم أو المحرقة، وخيَّر
المسلمون اليهود والمسيحيين بين الإسلام أو الجزية أو الرحيل أو
القتل).
(٣٩) كل متديِّن نرجسي. تُميِّز النرجسية الدينية الأفرادَ الذين
يحملون صورة مُضخَّمة عن عقيدتهم، وكما يُوصَف النرجسي بتحصُّنه
الذاتي وسلبيته إزاء الآخَر، فإن أتباع كل دين يقومون بتعزيز
كيانهم بأعمال عدوانية وثأرية، وتقديمها كدفاعات مشروعة ضد أعمال
أو مشاريع تآمُرية يقوم بها أتباع الديانات الأخرى.
(٤٠) يصبح التديُّن شكلًا اجتماعيًّا صلبًا يستمد قواعده من
تقاليد مُحصَّنة، أو جرى تحصينها عَبْر التاريخ، وهو يغذي الهُوية
ويمنحها دفاعًا زائفًا ولكنه حاسمٌ، قادرٌ على تعميم فكرة الفداء
كما في «التضحية» المسيحية، و«الشهادة»٢٤ الإسلامية، و«التقربن» (القربان الذاتي أو التقرُّب
للآلهة بقتل المرء نفسه) في الديانات الأكثر بدائية.
٥
التديُّن والهُوية، كيف يصبح التدين شكلًا اجتماعيًّا يطوي
الهُوية، الدين ونظرية اللعب، سوق العقيدة، الله عاريًا،
كرونولوجيا التأليه، الصراع الاجتماعي باسم الدين.
***
(٤١) إن الوضع الأسوأ على كل حال هو أن يصبح الدين مظلَّة
اجتماعية قادرًا وحده على منازعة قوانين الدولة.
(٤٢) الدِّين ضرورةٌ تستدعيها أسئلة غير مُجابة، التديُّن
استثمار اجتماعي. الدين حاجة أساسية لكلِّ فرد، أما إعلان التديُّن
واتخاذه نمط حياة فإنه يحوِّل المجتمع إلى كيان مُستلب لا يستطيع
التعبير عن ذاته إلا من خلال تحريك الأقانيم الدينية الكامنة في
عمق اللاوعي الجماعي، وبالتوافق مع أصل متوهِّم يغذي الولاء
والامتثال لأداء واجب افترضه الأكليروس لا علاقة له بأصل فكرة
الدِّين في حدِّ ذاتها.
(٤٣) لنرى الدِّين من خلال نظرية اللعب، دون أن نعتمد على
التحليل الرياضي قَدْر اعتمادنا على وصف الآليات ومتابعة التفاعلات
الممكنة بين اللاعبين للوصول إلى حالة من التوازن
equilibrium المقترح، أو
القيام بتشتيت هذا الاحتمال. في نظرية اللعب الدينية يكون الدِّين
لعبة غير تعاونيَّة يؤديها لاعبان أساسيَّان، وعندما نتفحص الحركات
التي تنقل اللعب من مرحلة إلى أخرى نجد أنها متوقَّعة دائمًا من
الطرفين، ما يجعلها لعبة مفتوحةً يتم الانخراط فيها بمعلومات
كاملة، دون حساب لاحتمالات عشوائية معقَّدة أو خيارات غير محسوبة.
تعتمد لعبة الدِّين في الواقع الاجتماعي على التنافس الذي يأخذ شكل
تصادم مستمر، ولا ينشأ التعاون لانتفاء المنفعة المشتركة بين
اللاعبين. لكن لا أحد يربح. الدِّين لعبة صفريَّة المجموع
Zero-sum game تتساوى فيها
الخسائر والأرباح.
(٤٤) لنرى إلى الدين في سوق العقيدة. تدخل سوق العقيدة، تتفحَّص
البضاعة، تقارن بين مختلف العروض، تكتشف أن جميع الحوانيت تبيع
البضاعة نفسها، كل ما يختلف هو طُرق التغليف والعرض وأسلوب معاملة
الزبائن. بعض الأديان تسمح لك بالاختيار حسب الحاجة، بعضها الآخَر
لا يبيع لك إلا حزمة كاملة Full package
deal، مقابل سعر منخفض. الباعة المتلهفون
الذين يطلبون أعلى الأسعار للبضاعة نفسها يتنافسون وهم يسعون إلى
كسب المزيد من المستهلكين الذين يطلبون جودة أعلى بسعر أقل.
(٤٥) القاعدة الرئيسية في كل دِين باختصار: حساب التكلفة وتقدير
العوائد؛ الإله الذي يطلب من عباده التضحية دون أن يعرض عليهم
منفعة مجزية هو إله فاشل في سوق العقيدة.
(٤٦) لنرى إلى الله عاريًا. كيف تمكَّن الإنسان من تهذيب وصقل
ومراكمة فكرة أساسية عن الخلق؟ الإجابة سوف تكون درسًا مختلفًا.
سوف نعود لنقف على سطح الأرض؛ الله لم ينبجس هكذا حتى نعجز عن
تتبُّع جذوره الماضية التي تسكن الحجارة والتراب والهواء والرياح
والأمطار والنجوم والشُّهب والشمس، الشمس تحديدًا. تجاوز عُمر
الشمس أربعة مليارات من السنين، ولكنها تبدو جديدة كل يوم. إن
تصوُّر وجود الإله فكرتنا، نحن البشر. لا أحد يدري ماذا كان يمكن
أن نعتقد لو أننا وُجدنا في حيِّز ما من أرجاء الكون الأخرى التي
لا نعرفها. وجود الإله أو عدم وجوده ليست مسألة علمية. لا يمكن
إثباته أو نفيه، يمكن الإيمان بوجوده أو عدم الإيمان به. إذا أزحت
الثقة العمياء أو إيمان العجائز جانبًا، فلن يبقى بين يديك سوى
أسطورة سومريَّة تناسخت واسترسلت على مرِّ العصور.
(٤٧) يستطيع الدِّين وصف كائن علوي متخيَّل ولكنه بالطبع لا
يستطيع تعريفه، إنه لا يعرِّف الله، بل يصفه فقط، كلما حاول تعريفه
فإنه «يشرح» لماذا وجب أن يوجد. الله هو الله، كما نقول السحاب هو
السحاب أو الماء هو الماء.
(٤٨) مرَّت كرونولوجيا التأليه بنقلة فعلية واحدة: الإله كان
إنسانًا تم تنزيهه عن بشريته. المسيح كان آخِر المؤلَّهين الكبار.
سبقه كثيرون؛ الإسكندر المقدوني مثلًا، وهو ابن آمون، كان آخرهم
ارتباطًا بأصله البشري، لابد أنه ضحك كثيرًا عندما قلَّده الكهنة
في ليبيا القديمة تاجًا مُقرَّنًا وعرف أنه ابن إله. الآلهة الذين
لا نعرفهم جيدًا يمكننا توقُّع أصولهم البشرية. أوزيريس، إيزيس،
حورس. هم أصل الثالوث المقدس: الآب، الابن، الروح القدس. مريم كانت
عذراء عندما أنجبت عيسى، وكذلك كانت إيزيس أم حورس
in puris naturalibus.
(٤٩) منذ حقبة مبكرة من تاريخ البشر أنقذت الحاجة إلى الإيمان
بالله أممًا كثيرة لم تكُن تستطيع إنقاذ نفسها دون الثقة المطلقة
بوجود كيان كلي خارق، والسبب واضحٌ، وهو حاجتها إلى مَن — أو ما —
يجمعها على غاية قومية أو إقليمية في وضع كارثيٍّ عام حلَّ بها.
هكذا نشأ الدين كنظام إحالة رمزي يتكفَّل بتقديم حلول يقينية
يمكنها أن تُعالجَ المعضلات، وتُوقِف الكوارث، وتضمَن المستقبل،
وبإمكانها أن تجيب عن كل مجهول في الحياة. الأدبيات الأممية ربَّت
أجيالها على أن الخلاص لا يمكن أن يكون بشريًّا أو ذاتيًّا، بل
بتوسُّل وجود عُلوي والارتباط به، إن «الإنسان الأكثر سذاجة
وتخلُّفًا يُرجع الأمل والطمأنينة والإحساس بالخلاص إلى إلْهَام
نفساني من الرب»،٢٥ كما يقول نيتشه، وفي مقابل ثبات هذا الارتباط يحصل
المرء على نوع من المكافأة المجزية فيما بعد الحياة؛ أما في الحياة
نفسها فإن الإنسان يبقى مثالًا ناطقًا للهمجية والتوحُّش والانحطاط
الأخلاقي كالذي عاناه الأسلاف ما لم ينتمِ إلى نظام الإحالة
هذا!
(٥٠) نجح الدِّين في تذويب الغريب والمحيِّر والمجهول، وطوَّع
انفتاحات السؤال باستقطابها إلى بؤرة اليقين المطلق، وقام بتعويض
مكابدات المصير التي ينوء بحملها الإنسان من خلال تصعيدها وإحالتها
إلى «الملكوت». لم يجنِّب الإنسان غرابته أو يطفئ أسئلته غير
المجابة، بل زوده بنظام الإحالة الذي يستطيع به تخييل الواقع
واستيهام الخلاص.
(٥١) الأمم التي أنقذتها الأديان وتماثلت للشفاء دون أن تخرج من
وضع النقاهة هي مصدرٌ دائم للعدوى.
(٥٢) الصراع الذي يتكئ على المعتقدات الدينية، ويتخذها مظلَّة
مُقدَّسة يحتمي بها فتمنحه المزيد من القوة لخوض الحروب وإدارتها
ليس صراعًا دينيًّا بل هو صراع اجتماعيٌّ بين طبقتين أو طائفتين أو
شعبين. عندما لا تعود آليات التبادل قادرة على تنظيم علاقة سلميَّة
بين الطرفين يعمد أحدهما أو كلاهما إلى توظيف ثروته الرمزية وتراثه
المعنوي لكسب المغانم وتحقيق المزيد من الامتيازات باسم أحد
الآلهة.
(٥٣) بعد انحسار العصر الجليدي الأخير (١٠٠٠٠ ق.م.) بدأت تظهر
وثائق التأليه متزامنة مع الانتقال من المترياركية البدائية إلى
البطرياركية التاريخية أثناء استقرار المجتمعات البشرية على ضفاف
الأنهار المدارية.
٦
تنميط صورة الإله عبر التاريخ، صورة يهوه ويسوع والله، تحولات
التأليه في الديانات الإبراهيمية، اتحاد النار والنور، التعددية
التوحيدية، تأييد الثيوقراطيا.
***
(٥٤) نعود إلى أفلاطون، يبدو أننا لم نعُد نهتم بالنار التي
وراءنا، صرنا منشغلين أكثر بالظلال التي تتراقص أمامنا على الجدار.
نحن النسخة الحديثة من السجناء الذين يرتضون تلقاءً أن يلعبوا
الدور القديم نفسه فلا يرون من أنفسهم أو من الكهف شيئًا، غير
الظلال التي تُلقيها النار على الجدار، ثم هم يصنعون من تلك الظلال
نظامًا صارمًا ونسقًا ثابتًا لا يحيدون عنه. بكيفية ما يجري في
دمنا اللجوء إلى الكهف. نحن نبتكر كهوفًا بعدد أفكارنا.
(٥٥) المسلمون يقولون إن الإنسان بدأ موحِّدًا مع آدم، ثم تفرق
بنوه واختاروا آلهةً أخرى. آدم بالطبع صُنِع كاملًا من صلصال،٢٦ كما في ألواح سومر، وكما في التوراة فإنه طُرد من
الجنة بعد ارتكابه خطيئة عصيان الأمر الإلهي بعدم الأكل من شجرة
ما. في ظلِّ الشجرة تأخذ المرأة٢٧ دورًا مساعدًا أما الدور الرئيسي فهو للرجل. في
الأديان الإبراهيمية لا يكون الله إلا ذكرًا.
(٥٦) ثمة صور نمطية للإله في معظم الديانات. بالنسبة إلى
الديانات الإبراهيمية الثلاث يمكن تلخيص الصورة النمطية للإله في
سمات مختلفة ولكنها متَّصلة وتؤدي إلى بعضها بعضًا: ثلاثة آلهة
رعويَّة أبويَّة قبليَّة ترعى الماشية وتشرب اللبن هي التي شكَّلت
نظرية الإله الكوني.
(٥٧) يهوه: إله اليهود لا يرأف بالمسيء، نادرًا ما يكون
إيجابيًّا أمام الإنسان، عنيفٌ، أكثر جبروتًا من أعدائه، بالغ
القسوة، متعطِّش للدم، شرسٌ، حقود. كان منتقمًا، جبَّارًا،
مهيمنًا، ثم إنه إله يحتفل بالولائم وتنعشه الأدخنة ورائحة شواء
لحم الخراف.
(٥٨) يسوع: لا يمكن نزع الآب المسيحي عن الثالوث، فالرب ثلاثة
أقانيم في جوهر واحد، هو منذ الأزل ويبقى إلى الأبد، وعنه يتجلَّى
الكمال والحق. كان غفورًا، لطيفًا، رءوفًا، ثم إنه إله ترتبط صورته
بحمل وديع بين القطيع.
(٥٩) الله: كما في معادلة هيغلية قياسيَّة يبدو أن الله هو
التوليفة Synthesis من صورتي
الإلهين السابقين، صفاتهما تصبح أسماءً حُسنى في الإسلام: منتقم
# غفور، جبار # لطيف، أول # آخر، مهيمن
# رءوف، خافض # رافع، مقدِّم # مؤخِّر، مُعِز
# مُذِل، واهب # مانع. إنها على كل حال تسعة وتسعين
اسمًا. ثم إنه إله أمَرَ أتباعه بذَبْح كبش مرَّة في السنة على
الأقل، ودعا «إلى مصالحة توحيدية كونيَّة أساسها عدول الأب عن
التضحية بابنه»،٢٨ ليصنع بذلك نهاية التاريخ التوحيدي.
(٦٠) مثال آخَر عن هذه التوليفة: من اتحاد النار التوراتية
والنور الإنجيلي، تشكَّلَت النار — النيِّرة القرآنية. في عبارة:
«بُوركَ مَن في النَّار»٢٩ المقدَّسة، «هو» لا يحترق، والنارُ لا تحرقه، بل يضيء،
يشعُّ ليدل؛ لأن الإيمان يجعل النارَ نورًا. (مرَّت كلمة «نور»
بتاريخ طويل قبل أن تأخذ بعدها الصُّوفي، وبغض النظر عن الوقع
الاستعاري المحبوب في كلِّ اللغات لكلمة نور، فإن الله (الإله أو
إل، إيل) يتصل في اللغات الأفرو-آسيوية بالنور والضوء، إنه العالي
المنير، الذي يتألق من علٍ، وهو معنًى تحدَّر من السومرية «إليم»
Ilim و«إلَّلا» (الله)
Illa، وهكذا في ديانات الشرق
الأدنى، وهو كذلك في اللغات الهندو-أوروبية: ﻓ
Dyeus يتَّصل بضوء النهار الذي
يبزغ ويعلو، «ديو»: ضياء، مضيء ومنير، هو الشروق وانحسار الظلام.
النور مثال محبوب مفضَّل في معتقدات العالَم بأسرها دون
استثناء).
(٦١) نعود إلى الله الآكل. يبدو أن الله ليس نباتيًّا، وقد ارتبط
إثبات الإيمان بالله بذبح الحيوانات وأكل لحومها. في العصر العباسي
كان المتَّهم بالمانوية من المسلمين يُستتاب أو يُقتل، ولكي
يتأكَّد القضاة (الشيوخ) من صدق توبته يُؤمَر بذبح طائر. في محاكم
التفتيش في أوروبا كان المرتدُّ عن طائفة الأطهار
Cathars من المانويين
المسيحيين يؤمر بأكل اللحم أمام القضاة (الأساقفة). «اللحمانية»
(بعبارة الجاحظ — القرن التاسع الميلادي) أصبحت سِمةً إبراهيمية
بشكل عام، وفريضةً إسلامية بشكل خاص. من بين الأديان الثلاثة انتهى
الإسلام إلى تجديد الأضحية فداءً لإسماعيل كل سنة؛ حيث تقوم كل
أسرة مسلمة بطقس ذبح الكبش الأسطوري. لقد حفظت التقاليد التوحيدية
الثلاثة ذاكرة إسماعيل بوصفه جدَّ العرب الذين عُرفوا باسم
الإسماعيليين، وصار المكان الذي تجلَّت فيه معجزته بانبثاق عين
زمزم مُقدَّسًا، وفيه اختُط بناء الكعبة، وتم تجديد الطقس الوثني
القديم، أي الطواف، ليصبح سِمةً توحيدية رئيسية.
(٦٢) صورة الله الآكل هي مصدر لُحمانيَّة الإيمان. قد لا تكون
«اللحمانية» قصرًا على الْتِهام القربان المُقدَّس، ومثلما في طقس
كانيبالي متخيل يقضي بالاستحواذ على قوة العدو بالْتِهامه بعد
قتله، لتحقيق سيطرة مطلقة من خلال تذويب وامتصاص جسد العدو وإحلال
قوته وما يميزه من سمات في جسد المُلتهِم (الكيان المسيطر)، فإن
العقائدي من الديانات الثلاث لا يرضى بعد سحق العدو بأقل من امتلاك
مظاهر قوته وامتصاص السِّمات التي كانت تميِّزه وإحلالها في جسده
(كيانه) الخاص، من خلال تملك مجاله المادي (السطو على ثرواته)
والاجتماعي (استرقاق نسائه وأبنائه)، وتشرُّب علومه واستعمال
أدواته. حسنًا هذا هو الجزء التفسيري للُحمانية الإيمان، أما إذا
جئنا إلى التاريخ فإنه يقدِّم لنا أمثلة كثيرة لا تخلو من الْتِهام
العدو فعلًا.
(٦٣) كان التوحيد تطوُّرًا بدهيًّا للتخلُّص من فوضى الآلهة، أما
في أزمنة ثقافية لاحقة فسوف يصبح نفي اللاهوت تطورًا تلقائيًّا غير
بدهيٍّ للتخلُّص ممَّا تبقى من تلك الآلهة.
(٦٤) تمَّت استعارة قدرات الآلهة القديمة وتكثيفها في إله واحد
كلي القدرة، قام بوضع الكون في منظومة هندسية دقيقة لا يخرج شيء عن
متوالياتها، هذه المنظومة لا تحيطه بالطبع، كما كان أسلافه
البدائيون، فهو وحده الذي أبدعها من لا شيء قبل أن يصنع
العالم!
(٦٥) اليهودية جعلت الله غيورًا شديدًا منتقمًا، المسيحية جعلت
الله عطوفًا لطيفًا متسامحًا، الإسلام جعل الله بين منزلتين:
غيورًا – عطوفًا، شديدًا – لطيفًا، منتقمًا – متسامحًا. ربما لهذا
السبب يبدو المتديِّن المسلم فصاميًّا يحتفظ برؤية مزدوجة للحياة
فيُقبِل بشغفٍ على نصيبه من الدنيا وهو يكنُّ لها كرهًا
شديدًا.
(٦٦) لقد اختزل الإسلام الديانتين اليهودية والمسيحية. نجد في
عمق اليهودية طقوسًا سومرية وأكدية وقبليَّة، ونجد في عمق المسيحية
طقوسًا مصرية وإفريقية وإغريقية، ونجد في عمق الإسلام شيئًا من كل
ذلك، مضافًا إليه المانوية والزرادشتية والطقوس الوثنية والقمرية
في الصحراء العربية.
(٦٧) التعدديَّة تسكن هذه الأديان. «إن السماء ليست خاوية، بل هي
بالعكس من ذلك ممتلئة بآلهة تُصنع يومًا بيوم.»٣٠ في اليهودية نجد في المصدر اليهويِّ الوثني بعل
الكنعاني مُتوَّجًا باسم يهوه، وقد اجتمعت فيه آلهةُ مختلفِ
الظواهر الطبيعية، ثم يعود فيأخذ اسم ألوهيم (أي الآلهة) في المصدر
الألوهيمي شبه التوحيدي، وأخيرًا يظهر التوحيد في المصدر ما بعد
البابلي، ويستعيد يهوه مكانته بعد أن تخلَّص من بعليته. وفي
المسيحية فإن على المرء أن يؤمن بثلاثة في واحد e
pluribus unum، (الآب، الابن، الروح القدس)،
وإليهم مريم (ملكة السماء) الإلهة غير المسمَّاة، ثم القدِّيسين.
وفي الإسلام لا يحتفظ الله بوحدانيته سوى في القرآن، أما
«القرآنات» الموازية كالتي نجدها في كتب الأحاديث، فقد حوَّلت
محمدًا إلى إله دون تسميته، وعلى غراره صير إلى تأليه الصحابة في
كتب أحدث، وعلى الأخص عليٌّ، الأكثر تقديسًا لدى الشيعة، ثم
الأئمَّة المقدَّسون.
(٦٨) في «موسى والتوحيد» يشير فرويد إلى أن انتصار المسيحية كان
ظفرًا جديدًا لكهنة آمون على إله إخناتون،٣١ فمكتسبات المسيحية مثَّلَت تقهقرًا عن روحانيَّة
اليهودية، بأن عادت إلى التقديس المترياركي متداخلًا مع التقديس
التعدُّدي، إن هذه السِّمة ليست كافية طبعًا لهذه المقارنة بين
صفَّي النزعات الأربع، لكن من المؤكَّد أن الإسلام سيُحدث بعد
عدَّة قرون استبدالًا جديدًا، إذا عددنا انتصاره ظفرًا جديدًا
لمُمثِّلَي البعليَّة (اليهودية والمسيحية) واختزالًا بطرياركيًّا
يستقطب ما سبقه من تعدُّدية.
(٦٩) لا يتجدَّد الدين ولكنه يتكرر ويتضاعف من داخله تلقاءَ
نفسه؛ بعد «دلالة» موسى بن ميمون لم تعُد اليهودية كما كانت قبله،
وبعد «اعترافات» أوغسطين لم تعُد المسيحية كما كانت قبله، وبعد
«صحيح» البخاري ومسلم لم يعُد الإسلام كما كان قبلهما.
(٧٠) سبط ثالث عشر،
حواريٌّ ثالث عشر، وإمام ثالث عشر (أو خضر طوَّاف في كل الأزمنة،
أو مسيح سيعود في آخِر الزمان)٣٢ … الفكرة كانت دائمًا هي استمرار صوت الله الذي لا
يزوَر عنه أحد، وهو لا يعدم ممثليه على الأرض. بعد ذلك يمكنك أن
تعثر في كلا الجانبين على قديسين وأولياء، بابوات وأئمة … إلخ. إن
«المؤامرة» المسيحية — الإسلامية لا تضعف بل تتجدد من أجل إنجاز
ثيوقراطيا مؤبَّدة تبتهج بالانتصار على العالم القديم وتعيد صياغة
القارات وهي تتطلع إلى جغرافيا كوسمبوليتية يتردَّد في جنباتها صدى
اسم الله.
٧
براهين ورهانات، الخلاصة اللاهوتية، توما الأكويني وابن رشد،
البراهين الخمسة، المحرك الأول، العليَّة، الممكن والواجب، التدرج
في الكمال، برهان النظام، رهان باسكال.
***
(٧١) إثبات الألوهية بافتراض أن النصَّ المقدس «معطاة أوليَّة
premises يجري عليها القياس»
هو استدلالٌ دائري يدور في حلقة جهنمية مفرَّغة.
(٧٢) منذ أن وضع توما الأكويني٣٣ (ت١٢٧٤م) كتاب الخلاصة اللاهوتية Summa
Theologiae٣٤ ما زالت أفكاره تمثِّل قاعدة فلسفية لدى المؤلِّهين
لمواجهة الإلحاد واللاأدرية. كلما كان في حاجة إلى الاستعانة
بأسلحة الإيمان كان يستخدمها دون أن يتوقف كثيرًا عند مَن صنعها،
وقد استشهد بيهود ومسيحيين ومسلمين، بل بوثنيين أيضًا. كان ثبات
الإيمان بالنسبة إلى توما معركة مع العالم لإثبات وجود
الإله.
(٧٣) استعان توما الأكويني بكتابات ابن رشد وأبي حامد الغزالي في
آنٍ واحدٍ، بالرغم من تناقضهما. المثير في هذا السياق هو أن توما
الأكويني قد تبنَّى وجهة نظر فقهاء الأكليروس الإسلامي في موقفهم
من ابن رشد، وسامتهم غير بعيد عن عبارتهم في أحد أهم كتبه مؤكِّدًا
هذا الموقف بعنوان: «وحدة العقل، ضد الرشديين»، ولكنه عثر في آثار
ابن رشد على تقنية منهجيَّة لم تكُن قد ظهرت قبلُ في أوروبا
الوسيطة، وهكذا طُبعَ في ذهنه شأنُ ابن رشد، كما يقول رينان:
«شارحًا لأرسطو عظيمًا نافذًا موقَّرًا مثل أستاذ من ناحية،
ومؤسسًا لمذهب ملوم وممثلًا للدهرية والإلحاد ضالًّا من ناحية أخرى.»٣٥
(٧٤) اقتبس الأكويني، وفقًا للموسوعة الكاثوليكية، مرَّاتٍ كثيرة
من ابن رشد، واتخذ من مؤلَّفه «الشرح الكبير» نموذجًا له، محاولًا
نقضه وتخطئته. تقول الموسوعة إنه «كان أول المدرسيين
(السكولاستيكيين) الذين يتبنون أسلوب ابن رشد في العرض والتحليل،
بالرغم من أنه فنَّد أخطاءه، وكرَّس أطروحات خاصة لهذا الغرض، كما
كان يتحدَّث دائمًا عن «الشارح العربي» كأحد الذين انحرفوا عن
التقليد المشائي، ولكن كلماته، مع ذلك، يجب أن تُعامَل باحترام
وتقدير.» يقول رينان: «يُعَد القديس توما، في وقتٍ واحدٍ، أخطَر
خَصْم لقِيَه المذهب الرشدي، والتلميذ الأول للشارح العظيم بلا
منازع، وكما أن ألبرت [الكبير] مَدين لابن سينا في كل شيء، فإن
القديس توما مَدين لابن رشد في كل شيء تقريبًا، ولا مراء في أن أهم
اقتباساته منه هو ما شكَّل مؤلَّفاته الفلسفية.»٣٦
(٧٥) استفاد الأكويني من دروس أستاذه ألبرت الكبير٣٧ (ت١٢٨٠م) الذي ساهم في التعريف بالفلاسفة المسلمين،
وكانت شروحات ابن رشد على أرسطو أحد مصادره، بحثًا عن كل مصدر
فلسفي يدعم الفكر المسيحي ويعزِّز الإيمان به، بالرغم من صدور
تحريم كنسي سنة ١٢١٠م يمنع كتب أرسطو وشروحاته، وتبعه أمر بابوي
بتنقيح هذه الكتب مما يشكِّل خطرًا على الدين.٣٨
(٧٦) أورد الأكويني براهينه في «الخُلاصتَين»، إلا أن عرضه لهما
جاء بطريقتَين مختلفتَين؛ «ذلك أن «الخلاصة اللاهوتية» تمتاز بأنها
وُضعَت للمبتدئين؛ فالبراهين فيها لم تُوضَع في ترتيبٍ منطقي
مُحكَم كل الإحكام، بل عُرضَت بوضوح فحسب. وعلى العكس من ذلك نجد
أنه في «الخلاصة ضد الكفار» قد حاول أن يوضِّح بالتفصيل كل جزئيات البرهان.»٣٩
(٧٧) يقوم عبد الرحمن بدوي بعرضٍ مُزدوج للبراهين الخمسة كما
أوردها الأكويني في «الخُلاصتَين»، ونستفيد من ذلك في تلخيصات
مُوجَزة مع تجنيب القُرَّاء زخارف ألعاب المنطق التي يتحصَّن بها
الشرَّاح المؤلِّهون وعلماء الكلام٤٠ عادةً، مع محافظتنا في كل برهان على النص الأصلي الذي
ننقله حرفيًّا عن ترجمة الخوري بولس عواد (١٨٨١م) للخُلاصة
الإلهية، ثم نعود إلى كشف بِنية هذه البراهين من حيث تأليفها على
تكرار معادلة واحدة هي:
الشواهد←
التفاعل← التسلسل.
قُسِّمت البراهين إلى مناهج خمسة، بدأها الأكويني بقوله: «إن وجود
الله يمكن إثباته من خمسة مناهج.»
(٧٨) المحرِّك الأول: «المنهج الأول والأوضح من جهة الحركة، فمن
المُحقَّق الثابت بالحسِّ أن في عالَمنا هذا أشياء متحرِّكة، وكل
متحرِّك فهو يتحرَّك من آخَر لأنه ليس يتحرَّك شيءٌ إلا باعتبار
كونه بالقوَّة إلى ما يتحرَّك إليه. وإنما يحرِّك شيءٌ باعتبار
كونه بالفعل؛ إذ ليس التحريك سوى إخراج شيءٍ من القوة إلى الفعل،
وإخراج شيءٍ إلى الفعل لا يمكن أن يتم إلا بموجود بالفعل، كما أن
الحارَّ بالفعل كالنار يجعل الخشب الذي هو حارٌّ بالقوة حارًّا
بالفعل، وبذلك يحرِّكه ويغيِّره. لكن ليس يمكن لشيء واحد بعينه أن
يكون بالقوة والفعل معًا باعتبارٍ واحد، بل باعتبارات مختلفة؛ لأن
ما هو حارٌّ بالفعل ليس يمكن أن يكون من هذه الجهة حارًّا بالقوة
أيضًا، بل هو من هذه الجهة باردٌ بالقوة. فإذَن ليس يمكن أن شيئًا
يكون محرِّكًا ومتحركًا، أي محركًا لنفسه باعتبار واحد ومن جهة
واحدة. فإذَن؛ كلُّ ما يتحرك فلا بد أن يتحرَّك من آخَر، وإذا كان
هذا الآخَر متحرِّكًا فلا بد أن يتحرك من آخَر أيضًا، وهذا من
آخَر، وهنا لا يجوز التسلسل إلى غير النهاية، وإلا لم يكُن محرِّكٌ
أول، فلم يكُن محرِّك آخَر لأن المحرِّكات الثانية لا تُحرَّك إلا
بما هي متحرِّكة من المحرِّك الأول، كما أن العصا لا تُحرَّك إلا
بما هي متحرِّكة من اليد. فإذَن لا بد من الانتهاء إلى محرِّك أول
غير متحرِّك من آخَر. وهذا الذي يعقل الجميع أنه الله.»٤١
(٧٩) يقول: كل متحرِّك لا بد له من محرِّك، ولكن لا نستطيع أن
نستمر في سلسلة المحرِّكات إلى غير نهاية، بل لا بد أن نقف عند
محرِّك أول غير متحرِّك. برهانٌ عرَضَه أرسطو في المقالة الثامنة
من «السماع الطبيعي»: كل متحرِّك لا بد له من محرِّك، ولكن التحريك
لا يستمر إلى غير نهاية، إنما لا بد أن نقف عند محرِّك لا يتحرك،
يكون هو المحرِّك الأول.
(٨٠) نحن نشاهد في الكون حركة، وكل حركة هي انتقال من حالة القوة
إلى حالة الفعل، والشيء لا يكون من ناحية واحدة وفي زمان واحد
ومكان واحد بالقوة والفعل معًا … لا بد من وجود شيء بالفعل ينقل
هذا الذي بالقوة إلى حالة الفعل (النار تحرق الخشب، فتنطبع فيه
صورة الاحتراق بعد أن لم يكُن، وبالتالي فإن النار لا يمكن أن تكون
محرِّكة ومتحرِّكة، محرقة ومبردة، في نفس الوقت)، ولكن ذلك لا
يستمر إلى غير نهاية، لا بد من الوقوف عند حدٍّ أعلى يكون بالفعل
باستمرار، ويطبع فعله فيما تحته. وإذا فُقد الشيء الذي بالفعل فُقد
الباقي. لا بد إذَن من القول بمحرِّك أول يكون بالفعل وغير قابل
لأن يتحرك. هذا المحرك الأول هو الله.
(٨١) في مثال توما: النار تحرق الخشب، الخشب يشتعل، الاحتراق
وجود بالقوة، النار كائن بذاته؛ ماذا إذَن عن قابلية الخشب
للاحتراق؟ هل هو فعل أم قوة؟ يمكنك التفكير في ضرورة الاشتعال وفي
الموقد إذا شئت. التسلسل ليس تدرجيًّا بقدر ما هو تشعُّبي.
(٨٢) يقول بدوي بعد عرض التشابكات المنطقية التي أوردها توما في
«الخلاصة ضد الكفار»: وعن طريق هذه الحُجَج يُثبت أرسطو — أو توما
معبِّرًا عن أرسطو — عدم إمكان الذهاب إلى غير نهاية في عدد المحرِّكات.٤٢
(٨٣) العليَّة: «المنهج الثاني: من جهة العلَّة المؤثِّرة، فإننا
نجد في المحسوسات الشاهدة ترتبًا بين العلل المؤثرة، وليس يُرى مع
ذلك ولا يمكن أن شيئًا يكون علة مؤثرة لنفسه للزوم وجوده قبل نفسه
وهذا محالٌ. والتسلسل ممتنعٌ في العلل المؤثرة؛ لأن الأول بين جميع
العلل المؤثرة المترتبة هو علة الوسط، والوسط هو علة الأخير سواء
كان ثمة وسطٌ واحدٌ أو أوساط كثيرة. لكنه إذا ارتفعت العلَّة ارتفع
المعلول، فإذَن، لو لم يكُن في العلل المؤثرة أول لم يكُن فيها
أخيرٌ ولا وسط، ولو تسلسلت العلل المؤثرة لم يكُن علَّة أولى
مؤثرة، فلم يكُن معلولٌ أخير ولا عللٌ مؤثرة متوسطة؛ وهذا بيِّنُ
البطلان. فلا بد من إثبات علَّة مؤثرة أولى. وهي التي يسميها
الجميع الله.»٤٣
(٨٤) يقول: لا يمكن للشيء أن يكون علَّة نفسه، والعلَّة تسبق
المعلول بالضرورة، ولكن ذلك لا يستمر إلى غير نهاية، بل لا بد من
الوقوف عند علَّة أولى تهب المعلولات ما فيها من آثار، لأن العلل
المحسوسة يجب أن تنتهي إلى علَّة أولى ليست بمعلول مُعايَن بل هي
علة وجودها ذاته، وتكون علَّة العلل، ذلك هو الله.
(٨٥) برهان أشار إليه أرسطو في المقالة الثانية من كتاب «ما بعد
الطبيعة»، وفصَّله وبرهنَ عليه ابنُ سينا، وعنه استخدمه ألبيرت
الكبير أستاذ توما الأكويني. يقول بعض المؤرخين إن الأكويني أخذ
هذا البرهان حرفيًّا عن ابن سينا. يقول بدوي: «لكن يُلاحظ أن هناك
مع ذلك شيئًا من الاختلاف بين توما وبين ابن سينا في نظرته إلى
العِلِّية. أما العليَّة عند ابن سينا فهي عِلِّية عقلية فلسفية،
بمعنى أنها العلية الطبيعية، أي ارتباط الأشياء بعضها ببعض ارتباط
تأثير طبيعي. أما العليَّة عند القديس توما فهي عليَّة دينية بمعنى
الخلق، أعني أن العلَّة الأولى تخلق خلقًا من العدم ولا تخلق خلقًا
طبيعيًّا. ومن هنا امتاز ابن سينا على توما في عرض كلَيهما لهذا البرهان.»٤٤ يضيف بدوي: «هذا البرهان يُشابه تمام المُشابَهة برهان
الحركة من حيث إن برهان الحركة يشاهد حركة فيبحث عن علَّتها.
والبرهان الثاني يشاهد وجودًا فيبحث عن علَّته؛ فطابع العليَّة
موجود في كلا البرهانَين.»٤٥
(٨٦) الممكن والواجب: «المنهج الثالث: من جهة الممكن والواجب،
وذلك أننا نجد في الأشياء ما يمكن وجوده وعدمه؛ إذ منها ما يُرى
معروضًا للكون والفساد، وهكذا ممكنًا وجوده وعدمه. وكل ما كان كذلك
فيمتنع وجوده دائمًا لأن ما يمكن ألَّا يوجد فهو معدومٌ في حين ما.
فإذَن لو كان عدم الوجود ممكنًا في جميع الأشياء لَلزمَ أنه لم
يكُن حينًا ما شيءٌ، ولو صحَّ ذلك لم يكُن الآن أيضًا شيءٌ؛ لأن ما
ليس موجودًا لا يبتدئ أن يوجد إلا بشيء موجود. فإذَن لو لم يكُن
شيءٌ موجودًا لاستحال أن يبتدئ شيءٌ أن يوجد فلم يكُن الآن شيءٌ،
وهذا بيِّن البطلان. فإذَن ليست جميع الموجودات ممكنة بل لا بدَّ
أن يكون في الأشياء شيءٌ واجب. والواجب إمَّا واجب لذاته أو لغيره.
والتسلسل في الواجبات لغيرها مستحيل كاستحالته في العلل المؤثرة
على ما مرَّ قريبًا. فإذَن لا بد من إثبات شيء واجب لذاته ليس
واجبًا بعلَّةٍ أخرى، بل غيره واجبٌ به. وهذا ما يسمِّيه الجميع الله.»٤٦
(٨٧) يقول: هناك أشياء ممكنة، وجودها جائز أو غير جائز. فالممكن
يستمد وجوده من غيره، لا من ذاته، ولأن شرط وجود الممكن غير متسلسل
إلى غير نهاية، وجبَ الوقوف عند واجبِ وجودٍ من ذاته، فكلُّ ممكن
الوجود أوجَدَه موجودٌ واجبُ الوجود. ذلك هو الله.
(٨٨) يقول بدوي إن هذا البرهان يقوم على التفرقة بين الوجود
والماهية وهو ما نجد أصوله «عند أوغسطين وبوئيس
Boece، ونجد هذه التفرقة بوضوح
عند الفارابي، ثم نجد البرهان واضحًا كل الوضوح وقائمًا على هذا
الأساس عند ابن سينا، وعن ابن سينا أخذه موسى بن ميمون، وعن ابن
ميمون أخذه القديس توما، ويكاد القديس توما أن ينقل كلام ابن ميمون بحروفه.»٤٧ ثم يضيف: «ويتابع توما موسى بن ميمون في هذا البرهان
خطوةً فخطوة، ولا يضيف إليه شيئًا جديدًا إلا في تفصيلات جزئية تافهة.»٤٨
(٨٩) في البراهين الثلاثة الأولى يعتمد توما على ما يمكن تسميته
التراجُع. التراجُع الأكويني ينتهي إلى حدٍّ مُصمَت لا يمكن الذهاب
إلى أبعَد منه. يُعطي الأحيائي ريتشار دوكينز مثالًا تبسيطيًّا
مناظرًا لهذه البراهين الثلاثة لكي يُخرجها من روكوكو لغة اللاهوت:
«اعتاد العلماء أن يتساءلوا عمَّا سيحدث إذا قمت بتشريح، لِنقُل،
الذهب إلى أصغر قطعة ممكنة. لماذا لا تقطع إحدى القطع إلى نصفَين
فتحصل على جزءٍ مساوٍ أصغَر من الذهب؟ التراجُع في هذه الحالة
ينتهي قطعيًّا بالذَّرَّة. فأصغَر قطعة ممكنة من الذهب هي نواة
تتكوَّن بالضبط من تسعة وسبعين بروتونًا وعدد أكبر قليلًا من
النيوترونات، مع حشد من تسعة وسبعين إلكترونًا. إذا «قطعت» الذهب
إلى ما هو أبعد من مستوى الذرة الواحدة، فأي شيء آخَر تحصل عليه لن
يكون ذهبًا؛ فالذرَّة تقدِّم لنا حدًّا طبيعيًّا لهذا النوع من
التراجُع. إنه ليس واضحًا بأي حال أن الله يقدِّم لنا حدًّا
طبيعيًّا لهذا التراجُع الأكويني.»٤٩
(٩٠) التدرُّج في الكمال: «المنهج الرابع: من جهة المراتب
الموجودة في الأشياء. فإنا نجد في الأشياء تفاوتًا في الأكثر
والأقل من حيث الخيريَّة والحقيَّة والشرف ونحو ذلك. والأكثر
والأقل إنما يُقالان على أمور مختلفة بحسب اختلافها في القرب إلى
ما هو غايةٌ في شيء، كما إن ما كان أقرب إلى ما هو غايةٌ في
الحرارة فهو أحرُّ، فإذَن، من الأشياء ما هو غاية في الحقيَّة
والخيريَّة والشرف، وهكذا غاية في الوجود؛ لأن ما كان غايةً في
الحقيَّة فهو غايةٌ في الوجود كما قال الفيلسوف في الإلهيَّات. وما
كان غايةً في جنسٍ فهو علَّة لكل ما يندرج تحت ذلك الجنس، كما إن
النار التي هي غايةٌ في الحرارة علَّةٌ لكلِّ حار، كما قال
الفيلسوف في الكتاب المذكور. فإذَن، يوجد شيءٌ هو علَّةٌ لِمَا في
جميع الموجودات من الوجود والخيريَّة وسائر الكمالات. وهذا ما
نُسميه الله.»٥٠
(٩١) يقول: الحق درجات، فإذا كان شيء أحقَّ من شيء، فلا يمكن أن
تُعرف درجة الحق إلا بالنسبة إلى حق مُطلَق (درجة الكمال). والحق
المُطلَق يقتضي بالضرورة الوجود المُطلَق. ذلك هو الله.
(٩٢) يعرض الأكويني هذا البرهان في «الخلاصة اللاهوتية» باستخدام
قيم الخير والشرف (النبل) والحق، ويعرضها في «الخلاصة ضد الكفار»
باستخدام قِيَم الصدق والحقيقة والحق والحق المُطلَق.
(٩٣) يتابع بدوي مثال النبل: «نحن نجد أن هناك شيئًا أنبَل من
شيء، ولكن النُّبل النسبي لا يوجد إلا بالمشاركة في نبل مُطلَق …
والنُّبل المُطلَق هو الحق المُطلَق، والحق المُطلَق يقتضي الوجود
المُطلَق = الله.»٥١ وهو يصف الأكويني هنا بأنه كان واقعيًّا وصاحب نزعة
أوغسطينية، ويلخِّص انتقادات الخصوم والأنصار — على السواء — لهذا
البرهان؛ بعضهم قال إنه انتقل من التصوُّر (أو الماهية) إلى
الوجود، لأنه انتقل ممَّا هو حق (أو نُبل أو خير، …) مُطلَق، إلى
الوجود المُطلَق، فالحق تصوُّر وليس وجودًا، ولا يحقُّ للأكويني أن
ينتقل من التصوُّر إلى الوجود كما يريد.
(٩٤) عرضَ دوكينز انتقادًا ساخرًا مُوجَّهًا إلى هذا البرهان ضمن
أمثلته المناظرة التي تجرِّد اللغة اللاهوتية من فخامتها.
متهكِّمًا: «أهذه حُجَّة؟ يمكنك القول بالمثل: يختلف الناس في
روائحهم، ولكن يمكننا المقارنة فقط بالرجوع إلى الأكثر كمالًا
ممَّا يمكن تصوُّره من روائح. لذلك يجب أن يوجد شخص يكون هو الأبرز
والأشدُّ نتنًا، ونحن ندعوه الله. أو استبدل ذلك بأي بُعد آخَر
تفضِّله من المقارنة، واستخلص أي استنتاج سخيف مكافئ له.»٥٢
(٩٥) برهان النِّظام: «المنهج الخامس: من جهة تدبير الأشياء.
فإننا نرى أن بعض الموجودات الخالية من المعرفة، وهي الأجرام
الطبيعية، تفعل لغايةٍ، وهذا ظاهر من أنها تفعل دائمًا أو في
الأكثر على نهجٍ واحدٍ إلى أن تدرك النهاية في ذلك، وبهذا يتضح
أنها لا تدرك الغاية اتفاقًا بل قصدًا، على أن ما يخلو من المعرفة
ليس يتجه إلى غايةٍ ما لم يُسدَّد إليها من موجودٍ عارفٍ وعاقلٍ
كما يُسدَّد السهم من الرامي. فإذَن، يوجد موجود عاقل يسدِّد جميع
الأشياء الطبيعية إلى الغاية. وهذا الذي نُسميه الله.»٥٣
(٩٦) يقول: الكون مُنظَّم ككلٍّ، وجزئياته مشدودة إلى غايةٍ
واحدةٍ هي النظام، وكل نظام يقتضي علَّة مُنظِّمة عاقلة هي أصل هذا
النظام وضمان استمراره. ذلك هو الله.
(٩٧) لم تُستنفَذ صلاحية هذا البرهان القديم، ليس بالنسبة إلى
المسلمين فقط، بل جميع الأديان البطرياركية الأخرى، وعلى الأخص
اليهودية والمسيحية، وهو يتكرَّر في جميع المناقشات التي تدور بين
المؤلِّهين والملحدين.
(٩٨) هذا البرهان، يقول بدوي: «برهانٌ شائعُ عام يقول به الرجل
الساذج كما يقول به الفيلسوف، ونحن نجده أولًا في الكتب المقدسة
بكل تفصيل، ويكاد يكون أهم برهان تلجأ إليه الكتب المقدسة، ومن
ناحية أخرى نجد أرسطو قد قال به؛ إذ يقول: إن كل شيء في الطبيعة
مُرتَّب لغاية … فالبرهان من الناحية التاريخية يمكن أن يُؤخَذ من
الكتب المقدسة على صورة بدائية ساذجة، ويمكن أن يُؤخَذ من أرسطو
على صورة منظمة، ومن أفلاطون على صورة أكثر نظامًا وأدَق تفصيلًا.»٥٤
(٩٩) الأحيائي دوكينز بدوره يحتفل باستعادة قصَّة تشارلز داروين
مع هذا البرهان بين مرحلتَين من عمره، ويجعل استبعاده يبدو رهينًا
بمرحلة النضج وتجاوز سذاجة المراهقة: «حجة التصميم (برهان النظام)
هذه هي الوحيدة التي ما زالت تُستخدَم اليوم بشكل اعتيادي، وهي لا
تزال تبدو للكثيرين كضربة قاضية نهائية. لقد أعجب بها داروين
الشاب، عندما كان طالبًا بجامعة كامبريدج، بعد أن قرأها في كتاب
وليام بيلي William Paley «اللاهوت
الطبيعي». ولسوء الحظ بالنسبة إلى بيلي، فإن داروين الناضج أسقطها
نهائيًّا. ربما لم تكُن هناك هزيمة أكثر تدميرًا للاعتقاد الشائع
باستخدام المنطق الذكي من تدمير تشارلز داروين لحُجَّة التصميم
هذه. كان ذلك غير متوقَّع، وبفضل داروين فإنه لم يعُد يصح القول أن
لا شيء مما نعرفه يبدو مصمَّمًا ما لم يكُن كذلك فعلًا. فالتطور
بالانتخاب الطبيعي ينتج صورًا ممتازة من التصميم، بمستويات مذهلة
من التعقيد والأناقة.»٥٥
(١٠٠) كلما بحثنا عن علَّةٍ وجدنا شيئًا ما. هذه البراهين ليست
في الواقع سوى برهان واحد. إذا قمنا بتجريد هذه المشتركات من لغة
اللاهوت الباروكيَّة، أمكَنَنا القول إنها تتلخَّص في ثلاثة أجزاء
متصوَّرة بالتأليف على نسق واحد متَّصل: الشواهد←
التفاعل← التسلسل، حيث تعتمد الشواهد على فرضية أساسية
وتسمية أمثلة لها، وطبيعة التفاعل هي تصور علاقة قائمة بين أمثلة
الشواهد، والتسلسل، وهو تصور اتجاه واحد للعلاقة القائمة بين
الشواهد، يعود بالضرورة إلى بدء واحد. يمكننا أن نعيد صوغ هذه
الخصائص بما يلي: (١) البدء من العيان الحسي، وهو نقطة البدء في
المعرفة الأرستطالية. (٢) افتراض عليَّة أصليَّة. تحديدًا:
المحرِّك، العلَّة، الوجود، الكمال، النظام. (٣) افتراض تصاعديَّة
الشواهد، أو تراجعيتها بعبارة أصح. فإذا نُظر إليها في تسلسلها
وُجدت عائدةً إلى مبدأ واحد.
(١٠١) إذا نظرنا إلى عمق هذه البراهين نجد أنها كانت «وفيَّة»
لفكرة أعم من حيث إنها امتصَّت مبدأ الثالوث
Trinity المسيحي وأعادت
إنتاجه، أما على وجهٍ آخَر فإن هذا الهذيان اللاهوتي لم ينتج سوى
لعبة لغوية صفريَّة في زي منطقي يستفيد من نسق الاتصال وعناصره دون
أن يحقِّق الغاية التي يدَّعيها: إثبات وجود الله.
(١٠٢) رهان باسكال Pascal's
Wager (١٦٢٣–١٦٦٢م): «نعرف أن ثمَّة لا نهاية
ونجهل ماهيتها. وبما أننا نعرف خطأ القول إن للأعداد نهاية، فمن
الصحيح إذَن وجود عدد لا نهائي. ولكننا لا نعرف ما هو: من الخطأ
أنه وِتْر، ومن الخطأ أنه شَفْع، لأنك إذا أضفت إليه عددًا واحدًا
ما تبدَّلَت ماهيته، ومع ذلك فهو عدد. وكل عدد فهو إما وتر وإما
شفع (الحقيقة أن ذلك ينطبق على كل عدد ذي نهاية). وعلى هذا
فبالإمكان أن تعرف أن ثمة إلهًا دون أن تعرف ما هو».٥٦ وعلى ذلك «نحن ندرك وجود المنتهي وماهيته؛ لأننا مثله
نهايةً وامتدادًا، ونحن ندرك وجود اللانهاية ونجهل ماهيتها لأن لها
امتدادًا مثلنا وليس لها حدود مثلنا، ولكننا لا ندرك وجود الله ولا
ماهيته لأنه لا امتداد له ولا حدود.»٥٧
(١٠٣) لكن الكائن الذي وراء فكرة الله ليس رقمًا أو عددًا، وهو
ليس كسرًا أو شكلًا هندسيًّا. كان باسكال فيلسوفًا لاهوتيًّا، وكان
رياضيًّا، وهو الذي اخترع الآلة الحاسبة (سُمِّيَت لغة البرمجة
باسكال نسبةً إليه). رهان باسكال أصبح إحدى الحُجَج «العقليَّة»
المثيرة على مدى أكثر من ثلاثمائة عام: «إذا ربحت فأنت تكسب كل
شيء، وإذا خسرت فأنت لا تفقد شيئًا.» يذكِّرنا ذلك بحكاية من
حكايات فولتير: «أُثيرت خصومة عنيفة بين العلماء حول قانون من
قوانين زرادشت كان يحظر أكل العنقاء. قال بعضهم: «كيف يحرِّم أكل
العنقاء مع أنها غير موجودة؟» وقال بعضهم: «يجب أن تكون موجودة ما
دام زرادشت قد حرَّم أكلها.» أراد صادق أن يوفِّق بين المختصمين
فقال: «إذا وجدت العنقاء فلنتجنب أكلها، وإذا لم توجد فليس إلى
أكلها سبيل، وهكذا نطيع جميعًا أمر زرادشت».»٥٨
(١٠٤) نقرأ من تمهيدات باسكال: «الله إما أن يكون وإما ألَّا
يكون. ولكن إلى أي جهة نميل؟ العقل لا يستطيع أن يجزم بشيء، فدوننا
ودون ذلك فضاء غير متناهٍ، وفي أقصى هذه المسافة تُلعَب لعبة لا
ندري ما نتيجتها: croix ou pile.٥٩ علامَ تُراهن؟ إنك بحسب العقل لا تستطيع أن تراهن على
هذا ولا على ذاك.»٦٠ ولكي يُحلَّ هذا الإشكال فإنه ينتقل إلى الكلمة
الأثيرة لدى المسيحيين والمسلمين: القلب؛ «لأنه حيث يكون كنزك هناك
يكون قلبك أيضًا.»٦١ القلب في مقابل العقل هو أيضًا «فضاء غير متناهٍ»
يمكنك فيه أن تختار النهاية التي تعجبك لجميع الألعاب التي
تبتكرها.
(١٠٥) بعد ذلك بزمن طويل تلقَّى البابا بنديكتوس السادس عشر
Benedict XVI وحيًا شخصيًّا من
الرب يخبره أن «باسكال كان محقًّا» وأنه كان «ينفِّذ أمرًا من
العُلا»، ويستشفُّ لوك فري من ذلك سؤالًا ذكيًّا: «كيف التوفيق بين
الوحي والضمير، أو على حد تعبير يوحنا بولس الثاني: بين جلال
الحقيقة والحرية الفردية؟»٦٢
٨
آليات الوهم الإعلائي في الديانات التوحيدية، الإنابة، الإبادة،
الخروج، الأب الرمزي، تدوير النبوة في المتخيل التوحيدي.
***
(١٠٦) فيما يُطلَق عليه تفكيك الديانات الثلاث، يَرى أونفري في
«نفي اللاهوت» أنها تتأسَّس على نظامٍ واحدٍ من التصورات، أو
الأوهام الإعلائية، بالإمكان جمعها في نموذج واحد، لا مجرَّد
الاكتفاء بالربط بينها والإشارة إلى تماثلاتها، ﻓ «بالرغم من
التنافر الطافح على السطح بين قانون موسى وأقوال المسيح وأحاديث
محمد، وبالرغم من الأزمنة الجنيالوجية المختلفة للروايات الثلاث
المنجزة على مدى أكثر من عشرة قرون حول الموضوع الأوحد — بالرغم من
كل هذا فالمحتوى يبقى هو ذاته، والتغيرات تطال درجة الأشياء، لا طبيعتها.»٦٣ وهو ما يعبِّر عنه يوسف زيدان أيضًا في «اللاهوت
العربي» من خلال ثلاث سمات رئيسية تجمع هذه الديانات، مؤكِّدًا أن
«الجوهر في اليهودية والمسيحية والإسلام واحدٌ، وأن عمق النسق
الرسالي (الإبراهيمي) يمتاز بسمات عامة، وبنيات نظرية أساسية؛ كانت
دومًا، وسوف تظل دائمًا، كامنةً في النسق الكلِّي لهذا الدين
بتجلياته الثلاثة»،٦٤ وتُفصح تجربة الإسلام الذي يعتبر الإيمان بالتجربتَين
السابقتَين عليه (اليهودية والمسيحية) شرطًا لاعتناقه، عن هذه
السمات في نسقٍ قدريٍّ متَّصل، ففي الحديث: «لتتبعُنَّ سُنَن مَن
كان قبلكم، شِبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جُحر ضبٍّ
لدخلتموه. قالوا اليهود والنصارى يا رسول الله؟ قال: فمن؟!» على
أننا نلاحظ أن الإسلام في القرآن يختلف عن فهمه السائد في كتب
الأحاديث وبين المسلمين؛ فالإسلام القرآني يجمع ثلاث دوائر هي
الموسوية والعيسوية والمحمَّدية، بينما يقتصر في الأحاديث على
الدائرة الأخيرة، وهو المعنى المتداول بين عموم المسلمين الذين لا
يرون في الإسلام إلا الدعوة المحمَّدية، على العكس تمامًا مما ورد
في القرآن.٦٥ تتمثَّل هذه السمات العامة في الإنابة والإبادة
والخروج.
(١٠٧) الإنابة: ظهور ممثلي
الله الذين ينطقون بلسانه وينوبون عنه في الأرض. في اليهودية،
بدءًا من آدم (أب النوع الإنساني) إلى إبراهيم (أب الأنبياء)
فإسحاق ويعقوب فموسى وهارون ويوشع بن نون؛ وفي المسيحية كان المسيح
نائبًا عن أبيه (الله) ثم نوَّابه من الرسل (الحواريين) ثم الآباء
البطاركة فالبابوات والأساقفة والكهنة. وفي الإسلام، كان محمَّد هو
النائب الأول الذي لا ينطق عن الهوى، ثم الصحابة فالتابعون وتابعو
التابعين، ثم الأئمة والمجدِّدون والمشايخ وأهل الإفتاء المسئولون
عن توطين الشريعة، وينفرد الخليفة بأنه ظِل الله على الأرض ويليه
أهل الحلِّ والعَقد. يقول زيدان: «لا تكون الإنابة في اليهودية
والمسيحية والإسلام، متاحةً للنوع الإنسانيِّ كلِّه؛ فهي موقوفةٌ
على الرجال دون النساء، لأن الله — وإن كان رب العالمين — إلا أنه
خلق آدم على صورته وفضَّل الرجال على النساء، فجعل المرأة زينةً
للرجل وسبَكَ النساء ضعيفات ناقصات عقل ودين!»٦٦ (أعادت صورة حواء التوراتية في العهدَين القديم
والجديد وفي القرآن إنتاج أسطورة باندورا اليونانية؛ فالأنثى مصدر
البلاء الذي لا رادَّ له والذي حكم على البشرية بالعناء والشقاء
إلى الأبد.)٦٧
(١٠٨) الإبادة: أي حرب الآلهة
ضد البشر، ففي العهد القديم بَلبلَ الله ألسنة أهل بابل بعد أن
كانت لسانًا واحدًا، ودمَّر سدوم وعمورة، وضرب كل بكر في أرض مصر،
وبلغت ذروتها في حروب الرب التي قادها يهوشع بن نون وأباد فيها
ثلاثين مملكة. وفي القرآن يتكرَّر ذكر القُرى والأمم والجماعات
التي دمَّرها الله، وتكون الإبادةُ الإلهية ماحقةً لا تذر: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ،
فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا،
ثُمَّ دَمَّرْنَا
الْآخَرِينَ.
(١٠٩) الخروج: نسَقٌ يتكرَّر
في الديانات الثلاث ويتمثَّل في «إعلاءٍ متوهَّم للذات الواقعة تحت
الاضطهاد [يؤدي إلى] الهجرة والفرار والنقلة الجغرافية والارتحال
بعيدًا لبناء مجتمعٍ جديدٍ مستقلٍّ على هيئة دولة وليدة تتغذَّى
على إيمانها وكراهيتها للمحيط الاجتماعي الذي انبثقت منه الجماعة المؤمنة.»٦٨ أول تطبيقات الخروج في هذه الديانات كان خروج إبراهيم
وابن أخيه لوط، وأشهرها كان خروج موسى من مصر، ثم خرج المسيح إلى
البرية، وخرج أصحاب محمد من مكة إلى الحبشة، ثم خرج هو إلى
يثرب.
(١١٠) الإسلام أخرج اليهودية من حصنها، أو جحرها الثقافي،
ليجعلها ديانة تبشيرية بعد أن كانت عهدًا قبَليًّا يقتصر على بني
إسرائيل؛ أي بني يعقوب،٦٩ وقد أعاد الإسلام تدوير النبوة بين فرعَين إبراهيميين،
فنقلها من بني إسحق (يتسحاق، الذي يضحك) إلى بني إسماعيل (يشمع
إيل، الإله يسمع) في إحداثيات اجتماعية وبيئية وبأنساق متشابهة
(لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو … سأجعله أمة عظيمة.)٧٠ بتدوير النبوة هذا نشأت الدعوة المحمدية على فكرةٍ
أولى مفادها العودة إلى إبراهيم، الأب المقدَّس عند أمم الكتاب.٧١
(١١١) من خلال إبراهيم، بوصفه أبًا أسطوريًّا، تم تأكيد وجود
الله، بوصفه أبًا رمزيًّا. الديانات التوحيدية الكبرى أعادت تجسيد
«الإله-الأب» كوحدة كبرى في الكوسمولوجيا الثيولوجيَّة بتوطينه في
منظومة بشرية أصغر، فكما أن الله هو رب (= أب) الكون الواحد، فإن
إبراهيم هو أب (= رب) التوحيد الكوني. «الأب-الرب» صيغة حافظت
عليها اللغات العربية والعبرية والآرامية وجسَّدتها في الكتب
القومية الثلاثة: القرآن والتوراة والإنجيل.
(١١٢) الله في صورة القاضي، أو الله كما تمَّ تمثله في محاكم التفتيش،٧٢ هو الأب الرمزي الذي يقع إحلاله في أحكام الفرز
والجزاء (التبرئة أو الإدانة وتثبيت التبعة)، وهو نفسه الذي يتم
تمثله في عقائد الجماعات الإسلامية. محاكم التفتيش ليست حدثًا بل
هي مبدأ.
(١١٣) كُتِب التاريخ الإسلامي كما كُتب التاريخان اليهودي
والمسيحي قبله، قياسًا على نموذج ثيوقراطي متخيَّل تم ابتكاره لكي
يتم الحكم بالحق الإلهي وإقصاء كل حدث لا تجيزه العقيدة والتعتيم
عليه بإهماله أو محوه وحرق شواهده من نصوص ورموز٧٣ حتى تتمكَّن الرعيَّة من نسيانه في زمن قصير، فمثل هذه
الأحداث مصنَّفة كبدعة أو هرطقة غير قابلة لإعادة النظر، والقاعدة
التي لا جدال فيها هي «كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار»، وهي
قاعدة «الجماعة». أما المفهوم من الجماعة فهو اتفاق «الأئمة» على
مادة التشريعات والأحكام التي تصنع في مجملها قانونًا تعبديًّا غير
قابل للنقض. أما الأئمة فهم أربعة، (أو خمسة، أو ستة، أو أكثر)،
وهم لا يختلفون على «الأصول»، وإن اختلفوا في تفاصيل يسيرة من
«القضايا» الفرعيَّة مثل جواز الصلاة بعد العصر وقبل الغروب، وجواز
المسح على جوربين غير صفيقين أثناء الوضوء، والقول في صلاة مَن
أخرج ريحًا حميدًا! مئات الكتب تمتلئ بالآلاف من مثل هذه «القضايا»
التي لا تترك «شاذَّةً أو فاذَّةً» إلا تناولَتْها بالمقارنة
والتحليل والجواب الصميم، وهي تشكِّل قدرًا كبيرًا من مكتبة العلوم
الدينية، لا قدرة لأحد على ركنها جانبًا، فمن شرائط الإيمان ألا
يسقط العمل بأحكام الفقه مع التقادم ومرور الأزمنة. إن جزءًا
أساسيًّا من نفي اللاهوت العربي كان ردَّة فعل عقلانية على مثل هذه
الثقافة الصفراء.٧٤
(١١٤) إن التراث العربي في مجمله سفسطةٌ لاهوتية. ذهانٌ جمعي
تاريخي ما زال يُلقي بظلاله على الأدبيات المعاصرة المتصلة بالدين
واللغة. التراث المسيحي كذلك ولكن اللغة نجت منه.
٩
نفي اللاهوت في التاريخ الإسلامي، ابن المقفع واشتراع النقد، ابن
حيان ونظرية كل شيء، ابن الوراق والراوندي ونقد الأديان، الرازي
وبطلان النبوة، الغزالي وبروباغاندا التأليب، ابن رشد والدفاع
المضاد.
***
(١١٥) مع ابن المقفع (ت٧٥٩م) صار بإمكان العرب أن يقرءوا عبارات
لم تعتَدْ عليها أسماعُهم، مثل: «اشتبه عليَّ أمر الدِّين» و«أما
المِلَل فكثيرة مختلفة ليس منها شيء إلا وهو على ثلاثة أصناف: قومٌ
ورثوا دينهم عن آبائهم، وآخرون أُكرِهوا عليه حتى ولجوا فيه،
وآخَرون يبتغون به الدنيا، وكلهم يزعم أنه على صواب وهدًى، وأن مَن
خالفه على خطأ وضلالة»، و«لم أجد أحدًا من الأوائل يزيد على مدح
دينه، وذمِّ مَن يخالفه من الأديان».٧٥ كانت طوالع نفي اللاهوت في أوَّلها، وبالرغم من أنه لم
يتصدَّ لها مباشرة وتستر خلف النقل والترجمة إلا أن ذلك لم يشفع له
وقُتل حرقًا.
(١١٦) بدأ نفي اللاهوت العقلي في تاريخ الإسلام مع جابر بن حيان
(٧٢١–٨١٥م)، وهو بعبارة بدوي: «أغرب وأخصب شخصية في الفكر الإسلامي
أمعنت في الغموض واكتنفتها الأسرار»، فلقد انتقل بنفي اللاهوت من
التساؤل الفطري إلى بحث الكليات، وكان يطمح إلى صوغ «نظرية كل شيء»
على أسس القواعد الطبيعية والجدلية المادية. «نظرية الميزان تُعَد
العمود الفقري والمحور الرئيسي لمذهب جابر كله، والميزان يقصد به
هنا القوانين الكمية العددية التي تحكم كل شيء في الوجود، وبالتالي
إرجاع كل الظواهر الطبيعية وكل ما في الوجود إلى قوانين الكم
والعدد. وهذه الفكرة هي أكبر محاولة قامت في العصور الوسطى من أجل
إيجاد علوم طبيعية تقوم كلها على فكرة الكم والمقدار، وهي المثل
الأعلى الذي سعى العلماء الطبيعيون المحدثون جهدهم إلى تحقيقه.»٧٦
(١١٧) مع أبي عيسى الوراق (ت٨٦١م) كان الدين واحدًا، كما عرفه
القرآن، أي الدين المنزَّل مثل الديانات الإبراهيمية، أو الوضعي
كالمانوية والزرادشتية والمجوسية والبوذية. جميع الأديان ليست سوى
هرطقات غايتها تضليل الأمم، وكان بالإضافة إلى ردِّه على المسلمين
يرد على أتباع الأديان الأخرى ويجعل عناوين مؤلفاته «الرد على
النصارى»، «الرد على المجوس»، «الرد على اليهود»، «الرد على أصحاب
الاثنين».
(١١٨) انتقد الوراق اللاهوت بردِّه إلى تجريدات منطقية بسيطة
أثبت بها تناقضه مع العقل في حدود السويَّة الأدنى. نزع الاعتقاد
عن المعتقدات فلم تصمد وحدها، دون القابليَّة المسبقة للولاء
والخضوع لها. أراد أن يستبدل انغلاق الميثولوجيا اللاهوتية
وإطلاقيتها بانفتاح المعرفة الإنسانية وتحولاتها الدائمة التي لا
تقبل الاختزال إلى «أصول» و«حدود»، ولا تقبل الذوبان في العِقادة
والفِقاهة. رَفَض تأبيد الوحي، ورفض تأبيد الإجماعات والأخبار
والمرويات (الأحاديث والأساطير المتواترة على السواء، فالتواتر ليس
سوى «المواطأة على الكذب»، وهو قول كان المعتزلة قد ابتكرته وعملت
به قبل أن تصبح حزبًا معبِّرًا عن سلطة الخلافة). إن الفكرة
الحديثة حول نسخ المجتمع للدين، ورفض أَسْر التحولات الاجتماعية
بنصٍّ مؤبد، ربما شهدت أولى تطبيقاتها الفكرية في حركة الوراق الذي
تنبأ بضرورة بدء اللاهوت مرحلة جديدة. كان يحفز حداثة
اللاهوت.
(١١٩) الشهرستاني، المؤرخ الثيولوجي الشهير، تلقَّف آراء
الورَّاق ولكنه في الغالب الأعم يحجب اسمه ويُحيل عباراته على
مجهول (قال بعضهم، قالوا، زعموا، حُكي عن قوم، حكى جماعةٌ، …)٧٧ لقد تم تذويب نصوصه في متن الثقافة العربية دون
الإشارة إلى شخصه.
(١٢٠) في إثر الورَّاق، كان الراوندي (ت٩١١م) أشدَّ تشنيعًا على
«مخاريق الأنبياء»، فهم في نظره لم يكونوا «إلا سحرة مُمَخرِقين،
والمعجزات التي تُروى عن محمد قائمة على الأكاذيب التي اخترعها
المتأخرون ولفَّقوها، هذا إلى أن بعض هذه المعجزات مُضحك لدرجة
أنها لا يمكن أن تُروى بهذا الوصف، وما أضعَف شوكة هؤلاء الملائكة
الذين حاربوا في صفِّ محمد والمسلمين يوم بدر، وأين كان هؤلاء
الملائكة يوم أُحد؟»٧٨ قال ابن الراوندي: «إن الرسول أتى بما كان منافرًا
للعقول … مثل … الطواف حول بيت لا يسمع ولا يبصر، والعَدْو بين
حجرَين لا ينفعان ولا يضران، وهذا كله مما لا يقتضيه عقل … وما
الطواف على البيت إلا كالطواف على غيره من البيوت.»
(١٢١) حوَّل الراوندي جدل التأليه ونفي اللاهوت إلى مشهد لا يخلو
من طرافة ومرح. قال في كتابه «الدامغ» عن وصف الجنَّة: «فيها أنهار
من لبن لا يتغيَّر طعمه، وهو الحليب، ولا يكاد يشتهيه إلا الجائع؛
وذكر العسل، ولا يُطلب صرفًا؛ والزنجبيل، وليس من لذيذ الشراب؛
والسندس، يفترش ولا يلبس؛ وكذلك الاستبرق، وهو الغليظ من الديباج.
ومن تخايل أنه في الجنة يلبس هذا الغليظ ويشرب الحليب والزنجبيل
صار كعروس الأكراد والنبط»،٧٩ ورد عليه البلخي في «معاهد التنصيص»، وهو تلميذ أبي
الحسن الخياط، صاحب كتاب «الانتصار والرد على ابن الراوندي
الملحد»، بما لا يدلُّ على إدراك طبيعة هذا الجدل الذهني المجرَّد،
بل أخذه على علَّات مفرداته بدلالاتها التجسيمية. قال: «لقد أعمى
الله بصره وبصيرته عن قوله تعالى: وَفِيهَا
مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ،
وعن قوله عز وجل: وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا
يَشْتَهُونَ، ومع ذلك ففيها اللبن والعسل، وليس هو
كلبن الدنيا ولا عسلها، وغليظ الحرير يريد به الصفيق الملتحم
النسج، وهو أفخر ما يُلبس.» وليس ذلك بأسوأ مما يُوردُه ابن الجوزي
في «المنتظم» ردًّا على تعليقات ابن الراوندي في «الزمرد»، يقول:
«وفيه [أي كتاب الزمرد] أن الأنبياء وقعوا بطلسمات تجذب، وإن
المغناطيس يجذب. وهذا كلام ينبغي أن يستحيي من ذكره، فإن المغناطيس
يجذب ولا يرد، ونبينا عليه السلام دعا شجرة وردها.»٨٠
(١٢٢) مع ابن الوراق وابن الراوندي أخذ نفي اللاهوت في الإسلام
طابعًا مذهبيًّا مؤسسًا على مواقف فكرية وآراء عقلية واضحة، إلا أن
محمد بن زكريا الرازي (٩٢٣)، الذي لم تلحقه شبهة المثنوية مثلهما،
صار أكثر ثباتًا، مؤيدًا بتراث قوي يعود إلى ابن حيَّان، وتدعمه في
الوقت نفسه إنجازات علمية في الطب والكيمياء والفلك والرياضيات،
وحده نفي اللاهوت يجعل العلم ممكنًا. وضع الرازي كتاب «مخاريق
الأنبياء» لنفي النبوة وبطلانها ووضع المؤلِّهين في عمق التناقض
الذي يُنسب للأنبياء. فالنبوة إذا كانت وحيًا وإلهامًا من مصدر
واحد توجب أن تتفق آراء الأنبياء دون أن تختلف، أما إذا سلَّم بها
أتباع الأنبياء على اختلافها فذلك يعني أن مصدرها الذي أوحى بها
وألهمها متناقض مضطرب. قال: «زعم عيسى أنه ابن الله، وزعم موسى أنه
لا ابن له، وزعم محمد أنه مخلوق كسائر الناس، وماني وزرادشت خالفا
موسى وعيسى ومحمد في القديم، وكون العالم، وسبب الخير والشر؛ وماني
خالف زرادشت في الكونين (= النور والظلمة) وعالمهما؛ ومحمد زعم أن
المسيح لم يُقتل، واليهود والنصارى تنكر ذلك وتزعم أنه قُتل وصُلب.»٨١ الإعلان عن مثل هذه التناقضات في صلب النصوص الدينية
كان كفيلًا بجعل الناس يأنفون من التطلُّع إلى اكتشاف الحقيقة
المستترة التي يحتكرها الدين، وبوضع فكرة التأليه في حد ذاتها موضع
ريبةٍ وشكٍّ لم تعتده ثقافة ذلك العصر.
(١٢٣) يلخِّص بدوي الأسس التي بنى عليها الرازي إبطال النبوة في
ثلاث نقاط: «(أ) العقل يكفي وحده لمعرفة الخير والشر، والضار
والنافع، في حياة الإنسان، وكافٍ وحده لمعرفة أسرار الألوهية،
وكافٍ ذلك وحده لتدبير أمور المعاش وطلب العلوم والصنائع، فما
الحاجة بعدُ إلى قوم يُختصون بهداية الناس إلى هذا كله؟ (ب) لا
معنى لتفضيل بعض الناس واختصاص الله إياهم بإرشاد الناس جميعًا؛ إذ
الكل يولدون وهم متساوون في العقول والفِطَن؛ والتفاوت ليس إذَن في
المواهب الفطرية [المَلَكات] والاستعدادات، وإنما هو في تنمية هذه
المواهب وتوجيهها وتنشئتها. (ج) الأنبياء متناقضون فيما بينهم؛ وما
دام مصدرهم واحدًا، وهو الله فيما يقولون، فإنهم لا ينطقون عن
الحق، والنبوة بالتالي باطلة.»٨٢
(١٢٤) يُورد بدوي سؤالًا افتراضيًّا يستقي بناءه من ردٍّ صاغه
الرازي، وهو: إذا كانت الأديان على ما تقول من إحالة وتناقض، فكيف
تفسر تعلق هذا الجمهور الأعظم من الناس بها، وكيف تفسر انتشار
الأديان، بحيث لا نكاد نجد إلا النادرين جدًّا هم الذين لم يعتنقوا
دينًا ما، وكيف تفسر من ناحية أخرى قلة المتبعين للفلاسفة وأصحاب
المقالات العقلية، مع أنها الحق في نظرك؟
(١٢٥) كان ردُّ الرازي على هذا الاعتراض المتوقع أن قال: «إن أهل
الشرائع أخذوا الدين عن رؤسائهم بالتقليد، ودفعوا النظر والبحث عن
الأصول، وشدَّدوا فيه ونَهَوا عنه، ورووا عن رؤسائهم أخبارًا توجب
عليهم ترك النظر ديانةً، وتوجب الكفر على مَن خالف الأخبار التي
رووها. من ذلك ما رووه عن أسلافهم أن «الجَدَل في الدين والمِراء
فيه كفر»؛ و«من عرَّض دينه للقياس لم يزَل الدهرَ في التباس»، و«لا
تتفكَّروا في الله وتفكَّروا في خلقه»، و«القدر سر الله فلا تخوضوا
فيه»، و«إياكم والتعمُّق فإن مَن كان قبلكم هلك بالتعمُّق». ثم
قال: «إنْ سُئل أهل هذه الدعوى عن الدليل على صحة دعواهم، استطاروا
غضبًا، وهدروا دم مَن يطالبهم بذلك، ونهوا عن النظر، وحرضوا على
قتل مخالفيهم، فمن أجل ذلك اندفن الحق أشد اندفان، وانكتم أشد انكتام.»»٨٣
(١٢٦) وفي ردٍّ آخَر: «من طول الإلف لمذهبهم، ومرِّ الأيام،
والعادة، واغترارهم بلِحَى التيوس المتصدِّرين في المجالس:
يمزِّقون حلوقهم بالأكاذيب والخرافات، وحدثنا فلان عن فلان بالزور
والبهتان، وبروايتهم الأخبار المتناقضة.»٨٤
(١٢٧) بعبارة أخرى فإن الرازي يعزو التديُّن إلى التقليد والتعود
اللذين يُحوِّلان الظاهرة إلى عُرف أو عادة، وسلطة رجال الدين
(الأئمة، الشيوخ، الكهنة، الأكليروس) الذين يظهرون للعامة بأزياء
رسمية تميزهم فيعتادون عليهم بهذه الصفة، وقد وضع رسالةً ذكرها ابن
النديم في «الفهرست» يبدو أنها كانت متَّصلة بهذا الموضوع وإن بشكل
غير مباشر عنوانها: «رسالة في العادة وأنها تحول طبيعة»، كان هيوم
محقًّا: «إن العادة هي دليل الحياة الإنسانية الأكبر.»٨٥
(١٢٨) مثل الورَّاق والرَّاوندي، لم يكن الرَّازي متجهًا بنقده
لدينٍ واحدٍ، بل إلى فكرة الدين في حدِّ ذاتها، أي إلى جميع
الأديان دون استثناء، فما دامت النبوة فاسدة، فإن الدين فاسدٌ
بالتالي. ولكنهم جميعًا لا يقدمون على الخطوة الأخيرة، أي نفي وجود
الله.
(١٢٩) نحو عام ٤٨٤ﻫ وظَّف الغزالي (ت١١١١م) كتابه «تهافت
الفلاسفة» لنقد «المتفلسفة في الإسلام» وذكر منهم الفارابي وابن
سينا، وخصَّصه ﻟ «إبطال ما اختاراه ورأياه الصحيح من مذهب رؤسائهما
في الضلال»، و«بدَّع» المشتغلين بالفلسفة في سبع عشرة مسألة
وكفَّرَهم في ثلاث، مستعينًا بما تيسَّر له من إقذاع، ولم يكُن
نقده سجالًا وجدالًا بقدر ما كان لعَّانًا واتهامًا؛ الفلاسفة في
ديدن الغزالي: «تجمَّلوا باعتقاد الكفر … ترفُّعًا عن مسايرة
الجماهير والدهماء.» وهم «ملاحدة»، «أغبياء»، «شرذمة يسيرة»، «ذوو
عقول منكوسة، وآراء معكوسة»، «من زمرة الشياطين الأشرار»،
والفلاسفة هم الذين «رفضوا وظائف الإسلام»، و«استحقروا شعائر
الدين»، و«استهانوا بتعبدات الشرع وحدوده، ولم يقفوا عند توقيفاته
وقيوده»، و«خلعوا بالكليَّة ربقة الدين»، وأداتهم في ذلك «فنون من
الظنون»، وهم بالمحصلة «ملحدون كفرة»، و«مصدر كفرهم سماعهم أسماء
هائلة، كسقراط وبقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس وأمثالهم»، وإذ يستثني
هؤلاء ﻟ «رزانة عقولهم وغزارة فضلهم» فإنه بالطبع لا يتهاون مع ما
اتصفوا به من إلحاد، فهم «منكرون للشرائع والنِّحَل، وجاحدون
لتفاصيل الأديان والملل، ومعتقدون أنها نواميس مؤلَّفة وحيل مزخرفة.»٨٦ الفلسفة بالنسبة إلى الغزالي حقل يتصل فيه النزاع
بأصول الدين، وموضوع التهافت ليس الفلسفة في حد ذاتها بل الدين
بوصفه موضوعًا للفلسفة، وقد قصر كتابه على محور الإلهيات
والطبيعيات الذي يدور على فكرة ضمنية هي إثبات وجود الله ونفي ما
ينفيه أو ما يخلص إلى التشكيك في إثباته، وهي القضية الرئيسية في
«الفقه الأكبر»،٨٧ بتسمية النعمان، أي علم الكلام الذي بدأ مع النصف
الثاني من القرن الأول الهجري، وازدهر في القرنين الثاني والثالث
الهجريين، وهو «علم» يستخلص المرويَّات فلا يتجاوز النقل، ويستعير
الأدوات المنطقية فيحوِّل وظائفها إلى ألعاب لغوية صفريَّة مجرَّدة
تصير فيها المفاهيم وحدات معدودة تترابط صوريًّا.
(١٣٠) لا أحد الآن يحسب الفارابي ملحدًا، أو ابن سينا. هما في
الحقيقة لم يكونا سوى مفكِّرَين حُرَّين من مُحبي المعرفة الذين لم
يجرءُوا على إنكار وجود الإله.٨٨ بعد سبعة عقود ردَّ ابن رشد (ت١١٩٨م) على الغزالي في
«تهافت التهافت» ووصفه بأنه «شرير جاهل» و«مبرسم»، أي مصاب
بالهذيان. لم يكُن «التهافت» و«تهافت التهافت» أكثر من لحظة وقفت
فيها الفلسفة أمام القضاة في محكمة الشريعة، وكلٌّ منهما يخطب ودَّ
المحلفين، ولكن هؤلاء انتصروا للفقه — سبب وجودهم ومصدر سلطتهم —
وأدانوا الفلسفة.
(١٣١) إن النزعات الشكيَّة الإلحادية لدى ابن المقفع (ت٧٥٩م)
وصالح بن عبدالقدوس (٧٧٧م) وبشار بن برد (٧٨٤م) وجابر بن حيان
(٨١٥م) وابن الوراق (٨٦١م) والكندي (٨٦٦م) والجاحظ (٨٦٩م) وعباس بن
فرناس (٨٨٧م) والراوندي (٩١١م) والحلَّاج (٩٢٢م) والرازي (٩٢٣م)
والفارابي (٩٥٠م) والتوحيدي (١٠٢٣م) وابن سينا (١٠٣٧م) وابن الهيثم
(١٠٤٠م) والمعري (١٠٥٧م) وعمر الخيام (١١٣١م) وابن طفيل (١١٨٥م)
وابن رشد (١١٩٨م) وابن عربي (١٢٤١م) وغيرهم، جعلتهم كفارًا في
محكمة الأكليروس الإسلامي، بالرغم من أن أحدًا منهم لم ينكر وجود الله.٨٩ إنهم من الناحية التقليدية مسلمون، ولكن شبهة الإلحاد
وضعتهم تلقائيًّا في مصاف المرتدين إلى الكفر وحوَّلتهم إلى أعداء
لأنهم وجدوا من الجرأة ما أعلنوا به شكوكهم وعدم ثقتهم في الأعراف
المتوارثة التي يتوجَّب شرعًا مُداراتها وعدم الإفصاح عنها.
(١٣٢) بالرغم من أن علم الكلام خصَّ إثبات وجود الله بدلائل
وبراهين «عقلية»، فإن نفي اللاهوت العربي لم يقارب هذه المسألة إلا
لمامًا، فإذا كان اتهام كالتشكيك في النبوَّة، انتقاد القرآن، نفي
وجود الملائكة والشياطين والجان، نفي الآخرة، نفي الحساب والعقاب،
نفي عذاب القبر، إلى نهاية هذه القائمة الطويلة، كفيلًا بإرسال
صاحبه إلى تخيير نهائي بين التوبة أو الموت، فإن الجرأة على
التصريح بالتشكيك في وجود الله لم يكُن ليؤخذ كشبهة أو اتهام بل
كان إعلان حرب، بل يتطور الأمر مع ابن تيمية الذي يقول في «الفتاوى
الكبرى» الدمويَّة: «أما مَن أظهرَ الإسلام وأبطن الكفر فهو
المنافق الذي يُسميه الفقهاء بالزنديق، فأجمع الفقهاء على أنه
يُقتل وإن تاب.»
(١٣٣) لا يتعلق الأمر في الإسلام بعقائده فحسب، بل يتصل أيضًا
بتصوره عن اليهودية والمسيحية وغيرهما من الديانات «السماوية» التي
يُعتبر الإسلام — بتعبير القرآن — خاتمًا لها، إذ تتخذ منها
الشريعة الموقف نفسه، كالتشكيك في عدم صلب المسيح وقتله، أو في
عذريَّة مريم، وغير ذلك من السرديات المعاد إنتاجها في النسخة
الإسلامية من العهدين القديم والجديد، ولكن بالمثل فإن التكفير،
ومن ثَم القتل، يطال أيضًا القائلين بصحة التوراة أو الإنجيل وعدم
تحريفهما.
١٠
نفي اللاهوت في التاريخ المسيحي، تاريخية النصوص المقدسة،
بروباغاندا ثيوفيلوس، نقد المسيحية الأول، الدِّينُ الدَّيْن، جدار
الدفاع الأخير، الدينويون، الله في صورته البشرية، ليس بالفلسفة
وحدها.
***
(١٣٤) لن نعيد السؤال عما إذا كان موسى وعيسى ومحمد شخصيات
«تاريخية» أم لا! (ولأن معظم الناس لا يبدون مقتنعين بغير ذلك،
فإننا لا نملك إلا أن نتعايش مع هذا الوضع ونتحدث عن بروسبوغرافيا
متخيلة محاولين في الوقت نفسه إثبات تناقضاتها ونفي إمكان وجودها
التاريخي فعلًا)، ولكن دعونا نؤكد في هذا السياق أن أيًّا منهم لم
يكُن مؤلفَ أو مصدرَ الكتاب الذي يُنسب إليه. التوراة لا صلة لها
بموسى بل كتبها أشخاص مختلفون، ويبدو أنهم أكثر من خمسة (وهو عدد
أسفار التوراة). هل ستصدقون أن موسى مثلًا كتب سفر التثنية الذي
ينتهي بالحديث عن موت موسى شخصيًّا ودفنه، بل إنه قارن موسى بمَن
ظهر بعده من الأنبياء العبرانيين؟ أما الأناجيل فلا يُعرف واضعوها
الذين كتبوا عن آراء وعقائد مختلفة، ثم زيدت وتلوَّنت بمرور الوقت،
ولم يكَد ينتهي القرن الميلادي الثاني حتى نُسبت إلى قديسين،
وأصبحت الأناجيل الأربعة المعتمدة تلخِّص المسيحية وحدها (تعود
أقدم مخطوطة إلى ٢٠٠م، وتعود أقدم نسخة كاملة من العهد الجديد إلى
القرن الرابع). أما القرآن فلم يجمعه محمد، بل جُمع بعده مما كُتب
على الجلود ورُقش على الأخشاب والعظام، وكان جمعه ترجيحَ نص بين
نصوص أخرى، وهو ما ألَّف مصحف عثمان بينما أُحرق ما سواه، ولم يظهر
شيء عن جمعه إلا بعد مائتي سنة من وفاة محمد، وأما الأحاديث فلم
يعُد شكٌّ في أنها كُتبت بعد ما لا يقل عن مائة عام من تاريخ وفاته
المرجَّح، وشهدت أوج وضعها وتأليفها في القرن الثالث الهجري —
الثامن والتاسع الميلاديين.٩٠ بيت القصيد هنا أن تلك النصوص جُمعت بعد موت أصحابها
بزمن طويل، وبغض النظر عن كل ذلك يمكننا دائمًا اعتبار الكتب
الثلاثة (التوراة والإنجيل والقرآن) ذروة الإبداع القومي في الشرق
الأدنى القديم بعد انتقاله إلى التوحيد، فالتوراة العبرانية هي أول
كتاب عرفه بنو إسرائيل، مثلما أن القرآن هو أول كتاب عربي، أما
الكتاب الآرامي (العبراني-العربي) فيبدو أصله مفقودًا في قرابة
ثلاثين إنجيلًا متفرقًا.
(١٣٥) تحظى التوراة والإنجيل باعتراف الإسلام على مضضٍ بسبب
إلصاقه شُبهة تحريف الكَلِم بهما. لقد دعا القرآن إلى العودة إلى
الإبراهيمية وهو لا يتردَّد في الإعلان عن تنصُّلِه مما ألحقته
اليهودية والمسيحية بهذا «الأصل الحنيف»، «إن التوحيد يقدِّم نفسه
باعتباره ديانة الكتاب الأوحد، لكن يبدو جليًّا أنه مذهب ثلاثة كتب
نادرًا ما يقبل أحدها الكتابَين الآخَرَين؛ فأتباعُ بولس لا يحبون
التوراة كثيرًا، والمسلمون لا يقدِّرون التلمود والأناجيل حقًّا،
بينما يعتبر محبو التوراة أن العهد الجديد والقرآن تضليل وتدجيل.»٩١ إن جميع المؤلِّهين في العالم يصنِّفون الدين إلى
نوعَين: دينهم أولًا؛ لأنه دين الله الوحيد، ثم كل دين آخَر؛ لأنه
ليس أكثر من بدعة بشرية.
(١٣٦) بعد الورَّاق ﺑ ٨٦٨ سنة تبدأ في تاريخ المسيحية «معجزة
الإلحاد»، كما يقول أونفري، مع الأب جان ميسلي (١٦٦٤–١٧٢٩م) الذي
ألَّف كتابًا ضخمًا بعنوان «الوصيَّة» أعلن فيه مؤكدًا ومبرهنًا
ومحاججًا رؤيته «النبوئية» الإلحادية، وفيه «يُلطِّخ وجه الكنيسة
والدين ويسوع المسيح والله، وكذا الأرستقراطية والملكية والنظام
القديم، ويدين بشدةٍ وعنفٍ كبيرَين الظلمَ الاجتماعي والفكر
المثالي، ومذهب الألم في الأخلاق المسيحية، كما يجاهر في الآن نفسه
بفكرة مشاعية فوضوية (لا سلطوية)، وبفلسفة مادية طليعية وأصلية،
وبنزعة إلحادية استمتاعية حديثة بشكل مبهر.»٩٢ لقد ساهمت سخافة المؤلفات الدينية وضحالتها آنذاك في
ظهور مثل هذه الدعوات الريادية المبكِّرة. يقول أونفري أن أبًا
يسوعيًّا يُدعى غاراس، ويصفه بأنه «لا دين له ولا خلق»،٩٣ نشر في ١٦٢٣م كتابًا بعنوان «العقيدة الغريبة لمحبي
المعرفة والفكر في هذا الزمان أو المدَّعين ذلك»، وهو «مجلد مُفرِط
مغالٍ، يقع فيما يربو عن الألف صفحة، ينمُّ الكاتب فيه ويفتري على
حياة الفلاسفة الأحرار، ويقدِّمهم على أنهم فُجَّار ولوطيون وزناة
وفسَّاق وشَرِهون نَهِمون وناكحو أطفال … وغير ذلك من النعوت
الشيطانية الوحشية، بهدف ثني الناس عن الاستئناس بالمؤلفات ذات
النزوع التقدُّمي … دون أن يغصَّ بالكذب والخسَّة والرمي بالبهتان.»٩٤ تعود هذه اللغة من التشنيع إلى القرن الثاني الميلادي،
القديس ثيوفيلوس في القرن الثاني وكان «سادس أساقفة أنطاكية بعد
الرُّسل»، اتهم الفلاسفة «بالحض على اقتراف فعلة من فعال الرجس
الزنيم، أفلاطون: مشاع النساء والتهتُّك الجنسي، أبيقور: زنى
المحارم، الرواقيين: اللواط، زينون وديوجانس: أكل لحم البشر»، لم
يترك أحدًا؛ هوميروس، هزيودس، أورفيوس، آراتيس، أوريبيدس،
صوفوكليس، مناندرس، أرسوفانس، هيرودتس، ثوقوديدس، فيثاغورس،
ديوجانس، أبيقور، أنباذقلس، سقراط، أفلاطون.٩٥
(١٣٧) قبل هذه «المعجزة» نعثر على نصوص قديمة من اللاهوت المضاد،
أو ما يمكننا تسميته إلحادًا بدائيًّا، في القرن الثاني الميلادي
كان قلسوس الأبيقوري «أول مَن تصدَّى لنقد المسيحية فلسفيًّا وبيان
تعارُضها مع مبدأ العقل في كتابه «البيان الحق»: «لئن نزل الله
بشخصه إلى البشرية، فهذا معناه أنه قد هجر المقام الذي هو مقامه
المعتاد، وهو يكون بذلك قد بلبل الكون، والحال أننا لو غيَّرنا ذرة
واحدة في هذا الكون لآل كل الباقي إلى تداعٍ.» وكان أيضًا قد طعن
في قصة الخلق التوراتية: «أي إنسان صحيح العقل يمكن أن يساوره
الاعتقاد بأنه قد وجد يوم أول وثانٍ وثالث، وصباح ومساء، مع أن
الشمس ما كانت وُجدت بعد، ولا القمر، ولا النجوم!»»٩٦ من الطريف أننا نعثر دائمًا على الحُجَج ذاتها التي لا
تنتهي. بعد ألفَي عام كرَّر عالم الفيزياء الكونية ستيفن هوكينغ
مُتهكِّمًا سؤال قلسوس الأبيقوري: «يخبرنا الكتاب المقدَّس بقصة
صلاة يشوع للشمس والقمر لكي يتوقَّفا في مسارَيهما ليكون لديه
بالتالي مزيد من ضوء النهار لإنهاء قتال العموريين في أرض كنعان.
ووفقًا لكتاب يشوع تمَّ تجميد وضع الشمس لمدة يوم. نحن نعرف أن هذا
يعني توقُّف الأرض عن الدوران، وإذا توقَّفَت الأرض بحسب قوانين
نيوتن، فإن كل شي غير مربوط بالأرض سيظلُّ متحرِّكًا بسرعة الأرض
الأصلية (١١٠٠ ميل في الساعة عند خط الاستواء)، وهذا ثمن باهظ يمكن
تقديمه لتأخير غروب الشمس. لم يزعج شيء من هذا نيوتن نفسه كما
ننزعج منه اليوم، فقد كان نيوتن يعتقد أن الله يمكنه التدخُّل في
أعمال الكون.»٩٧
(١٣٨) إن ما يتحدَّث عنه رجال الدين هو الجزء المتداول بينهم،
المتفق على تفسيره، هم بالكاد يصرُّون على سجلِّ النصوص المجنَّبة
الذي يكتظ بثيولوجيات متناقضة ومتوترة. ربما يكون من المناسب أن
يبتكر البشر دستورًا أنطولوجيًّا جديدًا يُلزمهم بقدر ما يُشعرهم
بالراحة والاستمتاع بالخشوع. أما النصوص المقدَّسة القديمة فمن
العبث حشرها بالمزيد من التطبيقات الهرمينوطيقية.
(١٣٩) الدين بالنسبة إلى المؤلِّه ليس موضوعًا مفارقًا، كفكرة
الله المجرَّدة، وليس ذاتًا محايثًا، بل هو موضوع متذاوت. بقدر ما
يتمكَّن المؤمن من تكوين فكرة قويَّة يُدمجها ضمن تمثُّلاته
كانتماء أخير بقدر ما يندمج بشخصه في أداء الطقوس والخضوع للتعاليم
المرتبطة بهذه التمثلات والمؤدية إلى تثبيتها وتكريس إعجازها
الأزلي. هذا الارتباط يُكسب المؤلِّه إحساسًا بالمسئولية ودورًا
تضامنيًّا في المحيط الاجتماعي
milieu، إنه ليس فردًا بعدُ،
هو جزء من حضور الله في العالَم وهو يسدِّد دَينًا شخصيًّا،
متعهدًا بدفع دَيْن إلى كيان مجهول، أليس الدِّينُ دَينًا؟ لا
يمكننا قولُ دِين (Religion) دون
استدعاء دَيْن (Relic: البقيَّة،
كما في قولنا دَيْن متبقٍّ).
(١٤٠) الثنائية ديني # دنيوي (مقدَّس # بشري) في
الأديان الكبرى هي الترديد الذهني المتكرِّر عبر العصور لتضاد أصلي
أوحَت به ظواهر الطبيعة التي انتزعت من الإنسان هيمنته على المحيط،
وعبَّرت عن الخلل في الأنظمة التي اشترعها لنفسه؛ الظواهر التي لم
يكُن يملك إزاءها سوى المشاهدة والتحليل قبل أن يعترف بعجزه أمامها
فيُسلِّم بقوى أخرى غير مرئية، قادرة على التجسُّد، وقادرة على
التدخل في حياته متى أرادت. بدون هذه الثنائية ليس لأصل الدين أي
تفسير آخر.
(١٤١) الجدار الأخير لدفاع الدين هو الوفاق. إن عدم الانقطاع
والتبتُّل وتكريس الذات الفانية لليوتوبيا البعديَّة الدائمة يمنح
المؤلهين فرصة إثبات وجودهم في الحياة المؤقتة مع ضمان مسبَق للفوز
بخلود فارِه. هؤلاء الذين يلعبون على حبلَين بتوفيق اختيارهم بين
المقدَّس والبشري يريدون أن يكونوا دِينويِّين (يجمعون الدين +
الدنيا) وهم يمارسون نفاقًا تبرِّره الشرائع الموروثة، أما أن
يكونوا بشرًا شفَّافين أنقياء فأمر غير مهم. النفاق التأليهي: حالة
حلميَّة شبه اضطرارية تظهر في شكل استجابة فردية مؤسسة على تمثل
ديني جمعي.
(١٤٢) استدعاءُ الغائب ارتكاسٌ يمارسه المؤلِّهون إذا تضعضعَ
الجدار الأخير. إن الدِّينويِّين يستطيعون إنقاذ أنفسهم دائمًا.
اليهودي والمسيحي والمسلم أمام أوليائهم وقدِّيسيهم مثل التقي من
شعب الزولو الذي يؤمن بوجود إله أزلي يسميه إنكولانكولو
Unkulunkulu، أي «إله قديم
جدًّا»، خلق العالم وجميع الحيوانات والطيور والمياه والجبال
والشمس والقمر، ولكنه إذا تعلَّق الأمر بالتدبير فإنه يتوجه إلى
أسلافه ويُقدِّم لهم قرابين الماشية، معتقدًا أن الأحياء يعتمدون
في رفاهيتهم وسعادتهم على الأموات.
(١٤٣) خلقَ الإنسانُ اللهَ على صورته وأعطاه طبيعةً مغايرة ليكمل
به عجزه؛ نفخَ فيه كل ما يعوزه ويُشعره بالفناء، يقول: أنا على
الأرض، الله يتنقل بين السموات كما يريد؛ أنا أموت، الله خالد لا
يموت؛ أنا محدود القدرة، الله قدير على كل شيء. حقَّق الإنسان بعد
زمن طويل بدأ منذ نهاية العصر الجليدي الأخير دعوة الرب اللاحقة:
«نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا، فيتسلَّطون على سمك البحر وعلى
طير السماء وعلى البهائم، وعلى كل الأرض، وعلى جميع الدبَّابات
التي تدبُّ على الأرض.»٩٨ جدلُ التشكلات الطبيعية لا ينتهي، وقديمًا قال
هيرقليطس: يظن البشر أن الآلهة وُلدوا كما وُلدوا هم، أهل أثيوبيا
يجعلون آلهتهم سود البشرة، فُطس الأنوف، ويجعل التراقيون آلهتهم
زرق العيون، حمر الشعر، ولو كان للثيران والخيول والأسود أيدٍ
وتستطيع أن ترسم لصوَّرت الآلهة على صورة الثيران والخيول والأسود،
ولجعل كل نوع أجسام الآلهة على صورة نوعه.
(١٤٤) ليس بالفلسفة وحدها. كانت الفلسفة إعدادًا للموت، لكنها لم
تلعب هذا الدور طويلًا، فقد تحوَّلت إلى الصيرورة بينما استعار
الدين تلك المهمَّة الانتقاليَّة. الفلسفة والدين يلتقيان في تحديد
لحظة الأين (الإعياء والأسى) الإنسانية، وهذا تمامًا ما يجعلهما
مختلفين كذلك. إنهما يستجيبان معًا، ثم يعرضان حلولًا متباينة.
الفلسفة تُحيل إلى تذويت الوجود، بينما يحيل الدين إلى إله يَعِد
بالانعتاق النهائي. إن تمييز الفلسفة هذا لا صلة له بالطبع
بالمكتبة الكلاسيكية التي صار فيها معظم الفلاسفة اليهود كهنةً
محتفى بهم، والتي صارت فيها الفلسفة العربية خادمة للاهوت
الإسلامي، والفلسفة الأوروبية خادمة للاهوت المسيحي، ﻓ «المسيحية
كالإسلام، دين وحي، ومرجعيتها مثله إلى نص أول مطلق ينزع إلى تأسيس
نفسه في عقيدة قويمة (أرثوذوكسية) تتنافى والروح الفلسفي الذي يقوم
على البحث الشخصي، المستقل والحر، عن الحقيقة.»٩٩ في قرون المسيحية الأولى أُعيدَت صياغة التعريفات
اللاهوتية الأساسية مثل الإيمان والخلاص والمحبة والمغفرة بمقولات
الفلسفة اليونانية وهو الأمر الذي جرى لاحقًا مع الإسلام وقبل ذلك
مع اليهودية. لقد امتصَّت الأديانُ الفلسفةَ وحوَّلَتها إلى لاهوت
عقلي، وصار الفلاسفة المتديِّنون «يتوسَّعون في معنى الكلمات حتى
لا تعود تحتفظ بشيء من دلالتها الأصلية، فتراهم يُرجعون الله إلى
تجريدٍ مُبهَم يبتدعونه لاستعمالهم الخاص»،١٠٠ وما تلك المكتبة في حقيقتها إلا مجرَّد لاهوت عميق
قُدِّم في إهاب فلسفي. لسنا في حاجة إلى التساؤل عن ماهية تلك
الفلسفة التي تكون العقيدة الدينية مصدرها، إن اللاهوت أشبه
بالفوهة السوداء التي تمتص كل ما يقترب من مجال تأثيرها.١٠١
(١٤٥) بدون الإيمان بوجود موازٍ ليس للدين حافز كافٍ لكي ينتشر.
الإلحاد بالمقابل يكتفي ببُعد واحد، ولكنه كافٍ بالنسبة إلى
الكثيرين لكي يعوِّضوا نقص الروحانيات، لأن نبرته الخَلاصيَّة
فرديةٌ وواضحة وهي في المتناول، على سطح الأرض. من باب إرادة
التوازن يمكننا القول إن الوجود الموازي في دلالته على رغبة
الخلاص، وهي متأصِّلة وحاسمة، يُضفي قيمة مزدوجة. لنأخذ مثالَين
يبدوان متعارِضَين، ولكنهما يلتقيان في تأكيد هذه القيمة: «الإحالة
إلى إله خارج العالم، أو إلى القاعدة الداخلية لقانون كونيٍّ، تحرر
العقل الإنساني من قبضة الفيضان المنظم سرديًّا للحوادث تحت سيطرة
قوى أسطورية، ويجعل السعي الفردي إلى الخلاص ممكنًا.» يقول
هابرماس، ولكن أيضًا: «الإلحاد نزيه وغير مشروط» يتيح تنسُّمَ هواء
جديد و«إن هواءَه لهو الوحيد الذي نتنفَّسه، نحن الأناس الأكثر
روحانيةً في هذا العصر» بعبارة نيتشه.١٠٢ إذا نزعنا المظهر الاجتماعي عن الإلحاد (كما في مواجهة
التأليه)، صار تعبيرًا عن إيمان عميق يليق بأناس هم الأشد
ورعًا.
١١
الله بين مقراب ومحراب، العلم من منظور ديني، الدين من منظور
علمي، نظرية كل شيء، ٢٧ أكتوبر ٤٠٤ق.م.، الزمان — المكان والملاء —
الخواء، التضخم الكوني، المفردة، العدم، الطاقة الصفرية، أدبيات
الرِّيبة.
***
(١٤٦) الله بين مقراب ومحراب. عندما يكون العلم والدين خارج
حقلَيهما تعاد «مَفهمة» دورَيْهما بأدوات مختلفة. عندما يكون العلم
بصدد الدين، فإنه يقوم ﺑ «تكتيل» المعتقدات (تحويلها إلى كتلة)،
ويطلق عليها أسماء جديدة، ذلك لا يعني أكثر من اللجوء إلى تفسيرها
باستخدام أدوات صارمة، أو هكذا تبدو. وعندما يكون الدين بصدد العلم
فإنه يقوم ﺑ «تبخير» يقينيَّات العلم (نسبةً إلى بخور) ويطلق عليها
أسماء جديدة، وينتهي إلى إزاحته إلى فضاء أضيق مما يطمح إليه، وهو
لن يعدم في جميع الأحوال حاملي المباخر الذين ينادون بصوت عالٍ:
هللويا، الله أكبر. إن الصراع في جانب منه يتشبَّث ﺑ «حق التسمية»
ويتركَّز في المقام الأول في ادِّعاء إغواءٍ مزدوج قديم، هو
الشمولية Holism والواحدية
Monism.
(١٤٧) العلم بصدد الدين: أركيولوجي جاد لا يرى فيه سوى بقايا
متفحمة. الدين بصدد العلم: أسماني بامتياز يستهويه تحويل المفاهيم
إلى مجرد صدًى فلا يقف وحده ولا يعكس حقيقةً، بَلْه أن ينقذ
واقعًا.
(١٤٨) هل ثمة علاقة بين الدين والعلم؟ يحتاج العلم دائمًا إلى أن
يقف وحده دون أن يكون الدين جزءًا منه، وهذا ما لا يستطيعه الدين.
ليس الدين علمًا، وهو ليس معرفةً أيضًا، قد يكون أسمى أو أدنى من
المعرفة، ولكنه لا يماثل المعرفة. إن حقولًا مختلفة تنتج ثمارًا
مختلفة، فإذا تجاورت فإن حدودًا واضحة تميِّز بينها … بل شجرة تفاح
واحدة تطرح ثمارًا مختلفة، ما من تفاحتَين تتشابهان إلا إذا بلغ بك
الجوع مبلغه.
(١٤٩) بعد أن عرضت الأساطير إجاباتها عن المجهول، قامت الفلسفة
باستيعاب الأساطير، ثم قام الدين باستيعاب الفلسفة، ثم قام العلم
باستيعاب الدين. مع تطور العلوم الصلبة وتحوُّلها إلى بناءات محكمة
مرتبطة بالواقع المادي ارتباطًا ضروريًّا لم يَعُد بإمكان العلوم
الرَّخوة أن تنهض بشكل مستقل أو تستأثر بتصور الحياة وفهمها ولكننا
لا نستطيع أن نهملها كلما مددنا أيدينا ساعين إلى تلمُّس
اللامرئي.
(١٥٠) كلما توسَّعت حدود النظريات العلمية صارت تأمليَّةً أكثر
فأكثر ولا يعود بالإمكان إثباتها، أو التحقق من قابليتها
العمليَّة، أو وقوفها على حدِّ التطبيق … ثم نكاد نعود إلى
الشعر.
(١٥١) هل يحتاج البشر فعلًا إلى نظرية نهائية عن الكون؟ لقد قدمت
العلوم الرخوة مثل هذه النظريات التي ما زالت تحفِّز البشر وتنشِّط
تخيُّلاتهم، لكن أن يتم الوصول إلى «النظرية النهائية التي لا يمكن
تعديلها» أو «نظرية كل شيء» أو
M-theory (حلم هوكينغ)، أو
نظرية «علم التكوين» (حلم جابر بن حيان)، فأشبه بجعل الكون نموذجًا
عقائديًّا جديدًا سوف يصبح «واجب-وجود» أكثر صلابةً نبع وجودُه من
ذاته. حسب النظرية M فإن الكون
وُجد من عدم، ولكنه ليس الكون الوحيد، فهناك عدد كبير من الأكوان
لا يمكن تصوُّره، وهي مختلفة جذريًّا لا تشبه الكون الذي نعيش فيه
ولا تتلاءم مع شكل الحياة الذي نعرفه،١٠٣ ففي بعض الأكوان قد يكون الإلكترون بحجم كرة غولف.١٠٤ بلغة علم الكلام التقليدية: الموجود ممكن وواجبٌ،
الكون موجود، لا-وجود الكون يستلزم وجود عدم، العدم هو اللا-وجود،
وجود اللا-وجود يستلزم وجود الوجود وإلا ما وُجد الكون، إذن الكون
موجود بالضرورة، ولأن الكونَ واجبُ وجودٍ بذاته
Aseity يمكنه أن يتعدد إلى
أكوان لا حصر لها، وتلك هي الحالة
M. بعد ذلك لا بد بالطبع من
البحث عن الكون الأول (= المبدأ القديم، العلة الأولى … إلخ) الذي
لا نعرفه إلا بصوره في الوجود! ألسنا في حاجة إلى حالة الطمأنينة
التي عبَّر عنها روسو في رسالة الكاهن الجبلي: «أجهل لماذا وُجد
الكون ولا أستطيع أن أحدِّد أبعاده، ولكن بمقدوري أن أرى جزءًا
منه، وأنا أعرف كيف يعمل الجزء الذي أراه.»
(١٥٢) تفترض كوسمولوجيا التأليه أن مشيئة الإله هي التي صنعت هذا
الكون. العنايةُ الإلهية، يقول المؤلِّهون، جعلت من الممكن حدوث
الانفجار العظيم١٠٥Big Bang، إنه ببساطة أحد الأدلة
العلميَّة على وجود الإله. لا بد لهذا الكون من خالق، الأشياء لا
تخلق ذاتها، فكيف يستطيع الكون وهو جمادٌ خَلْق ذاتِه؟ وإذا تم
الاقتناع أيضًا بنظرية الانفجار العظيم فمَن هو الذي قرَّر في لحظة
كونيَّة ما أن «يتفرقع» ذلك الشيء؟ إن الإله الذي يحيط بكل شيء
علمًا، بدأَ الكون كما شاءَ وسوف ينهيه كما يشاء. أليس
كذلك؟
(١٥٣) الملحدون بدورهم يتمسكون بالنظريات العلمية التي لم تكُن
متاحة عندما كانت اعتراضاتهم في القرون الماضية تؤدي إلى حالات
دموية عنيفة أصبحت الآن جزءًا من تاريخ الجدل. الآن يتمسكون
بعالمنا، العالم الباريوني Baryonic
World، ويتطلعون إلى عوالم لبتونيَّة
Leptonic أخرى.
(١٥٤) لنترك التاريخ التأليهي جانبًا، حيث «حدَّد الأسقف آشر
Bishop Ussher كبير أساقف عموم
أيرلندا (١٦٢٥–١٦٥٦م) نشأةَ العالم بدقة: في التاسعة صباحًا من يوم
٢٧ أكتوبر عام ٤٠٤ قبل الميلاد»،١٠٦ ففي نظرية نشأة الكون تقدَّر البداية بأدنى قليلًا من
١٠١٤ سنة، ويبدو هذا أبعث على
الثقة بالرغم من عدم دقته المذهلة كما في المثال السابق، حسنًا،
خلال زمن بلانك،١٠٧ الذي لا يوجد معادل زمني لقياسه، كانت المفردة
(المتفرِّدة) الأوليَّة initial
singularity بالغةَ الصغر والأبعاد، شديدةَ
الكثافة وشديدة الحرارة، وكان لا بد أن تحدث مع انفجارها حالة أولى
من التمدُّد أدَّت إلى البرودة بما يسمح بتكوين بروتونات
ونيوترونات وإلكترونات. تكوَّنت ذرات الهيدروجين والهيليوم بسرعة،
ولكنها استغرقت آلاف السنين لكي تتعادل كهربائيًّا وتكوِّن سحابةً
عملاقة مستعرةً توازنَ وجودُها بفعل التعادل المتولِّد عن
الجاذبية. هذه السحابة الكونية كانت بداية المجرات والنجوم التي
شهدت انصهارًا نجميًّا أدى إلى تخلُّق العناصر الأولية، وما زالت
المجرَّات تتباعد عن بعضها بعضًا مع الزمن. ولتوضيح التمدُّد يعطي
ستيفن هوكينغ في «التصميم العظيم» هذا المثال الواضح: «ما لم تكُن
تعيش في زمبابوي حيث وصل معدَّل تضخُّم العملة حديثًا إلى
٢٠٠٠٠٠٠٠٠ في المائة، فإن هذا المصطلح قد لا يبدو متفجرًا جدًّا،
لكن وفقًا للتقديرات المحافظة حتى الآن فإن الكون قد تمدَّد بمعدل
(١٠٣٠)١٠٨ في (١ / ١٠٣٤)١٠٩ جزء من الثانية أثناء هذا التمدُّد الكوني، كما لو أن
عملة قطرها سنتيمترًا واحدًا قد تضخَّمت بعرض مجرَّة التبانة عشرة
مليون مرَّة.»١١٠
(١٥٥) نظرية نشأة الكون لم تكتمل بعدُ، وهي في انتظار المزيد من
الإجابات التي يمكنها أن تفسِّر الحالة الأوليَّة المبكِّرة جدًّا
للمفردة ووضع الكثافة الذي تفاقم مؤديًا إلى التمدُّد. تبسيطات
البداية هي الثغرة الأساسية هنا، والحديث عن كثافة الطاقة الناشئة
منذ البدء في الفراغ هي نقطة عمياء فعلًا. الناس ينظرون إلى هذا
تارةً، وإلى ذاك تارةً أخرى، هم ينتظرون. أما الملحدون المتشدِّدون
فيكادون يحدِّدون موعدًا في المستقبل القريب تستطيع فيه البشرية
رؤية الله وجهًا لوجه.
(١٥٦) يحتج المؤلِّهون: الذي قدَّم أُسس هذه النظرية هو الكاهن
الكاثوليكي جورج لوميتر١١١ سنة ١٩٢٧م، ليثبت تمدُّد الكون بمشيئة الإله، لمَ
تسلبونه الحيثيَّات، وتستبقون المنهج؟
(١٥٧) الملحدون يؤكدون: لم يكُن الكون في حاجة إلى إله ليحدث
التمدُّد، بهذا أنتم تنزعون من العناصر الأولية خصائصها. إذا كان
بالإمكان نزع الخصائص عن العناصر فهي لا تكون عناصر أبدًا. نظرية
أينشتاين العامة للنسبية تثبت مسار الانفجار العظيم وسيناريو نشأة الكون،١١٢ وعلماء الفيزياء الفلكية يثبتون ذلك بنموذج «لامبدا-سي
دي إم».١١٣ ولكنهم لا يجيبون بالطبع عن السؤال: ولماذا كان هناك
انفجار أصلًا؟ ما الذي جعل المفردة، الذرة، الموناد، ذلك «الشيء» …
إلخ، يوجد ثم ينفجر؟
(١٥٨) تداعيات هذا الطرح الأساسي لا تتوقف، فمن الفلسفة إلى
البحوث التطبيقية، ومن الميثولوجيا إلى الخيال العلمي، ومن
التوقعات قياسًا على مساطر مُحكَمة إلى التوقعات بناء على الانفتاح
على المجهول. في لحظة ما من الجدل تبدو المسافة بين الرأيين أشبه
بطبقة شفافة، لكن الانصهار لا يتحقق، تعود المسافة تتَّسع، ويبدأ
جدار عازل بالنهوض مجددًا.
(١٥٩) المفكِّرون المؤلِّهون لا يرتاحون عادةً للسؤال: لماذا
وُجد الكون أساسًا؟ الإجابات تميل غالبًا إلى فعل المشيئة، وهو
الأمر الذي يرى فيه الملحدون نظرية ساذجة تثبت خرافة الدين دون أن
تجيب عن السؤال. بعض الدينيين الأكثر مرحًا لا يتردَّد: هكذا، فجأة
وجد الإله نفسه وحيدًا. ملَّ صوتَ الصمت، فأراد أن يملأ الكون
ضجيجًا. الملحدون بدورهم لا يقولون شيئًا مثبتًا للإجابة عن هذا
السؤال الذي كان حقله الوحيد فلسفيًّا منذ القِدَم، ويصرُّون على
أن تفسير بنية الكون وقوانين الطبيعة بأنها «مشيئة الله» أو
«سُنَّة الله» لا يفسِّر بنية الكون أو قوانين الطبيعة بل يعرِّف
الخالق بأنه تجسيد لهذه البنية وتلك القوانين التي سبقت تصوُّر هذا
الخالق.
(١٦٠) مصدر الأُسطقسات أو العنصر الأول أو الشيء (شيه)
άρχή الذي
تحدَّث به أناكسيماندر في القرن الخامس قبل الميلاد، وهو يبحث عن
القوانين الدائمة التي تفسِّر الكون المتحرِّك، تم التعبير عنه منذ
ذلك الوقت بكلمة «اللانهائي» (بيرَا). المساران الأكثر انفصالًا
يبدآن من هناك. المؤلِّهون يوظِّفون اللانهائي ليثبتوا الإله،
والملحدون يقومون بذلك، بقدرٍ مساوٍ من الحماس، ليثبتوا النقيض،
«إن كتاب الحياة الكبير قد انمحى شيئًا فشيئًا، وصُحِّح، وكُتب،
وأعيد استخدامه. أعيدت كتابته مثل رقٍّ أثري في كتاب طلاسم قديم.»١١٤
(١٦١) أناكسيماندر وضع خريطة جيدة للعالم المأهول آنذاك، واعتبر
أن القوى الخارقة لا مجال لها في تسيير العالم على الأرض، وهي ليست
مسئولة عن حركة أجرام السماء ونجومها، ولكنه مع هذا الوضوح كان
مضطرًّا لأن يكتفي بتسمية «ذلك الشيء» بهذا الاسم المُلغز:
«اللانهائي». كان باختصار قد أسس ببراعة لجدلٍ دائمٍ لا تبدو له
نهاية، لا لكي يفترق الدين والعلم إلى الأبد بل ليقتربا أيضًا حد
الانصهار في نقطة ما … النقطة العمياء.
(١٦٢) بدأ المكان، ليبدأ الزمان أيضًا. وَضْع الملاء الذي عوَّض
الخواء بعد الانفجار العظيم شكَّل الكون خلال مليارات من السنين.
وفوق تخارجات الزمان الثلاثة (الماضي، الحاضر، المستقبل) يتناوب
الجميع على العودة إلى اصطراع المادية والمثالية، أو ربما إلى
توافقات الثنائية الديكارتية، هذه المرة نحن أقرب إلى التخريج
الكانطي، أو الشيء — في — ذاته، ذلك يعني أيضًا اللجوء إلى
العقلانية لاكتشاف منطق الأشياء بعيدًا عن الملاحظة. ربما تصف
نظرية التضخُّم الكوني حالة ما قبل الانفجار العظيم، بالرغم مما
يعتورها من غموض وعدم اكتمال حتى الآن.
(١٦٣) يحتجُّ المؤلهون: هذه النظرية تنبني على التخمين، لم تثبت
بعد فرضية الفراغ الزائف، الجزم بها مسبقًا ضربٌ من الخيال
العلمي.
(١٦٤) يدافع الملحدون: الافتراضات محكومة بمعطياتها. المعطيات
مؤكدة، ونحن لا نجزم لأننا في انتظار نتائجها، وفي الأثناء نستأنس
بتفسير عملها على قاعدة القوانين الفيزيائية. صحيح أن التضخم
الكوني غامض، لكنه غامض فقط لأنه لم يصبح بعدُ دليلًا تدعمه
المشاهدة المباشرة، وليس ذلك بمستحيل في لحظة ما؛ لأن المستعرات
العظمى لا تتوقف عن الاستعار. وبالنسبة إلى الأصل الكوني فإن
المسألة قياسيَّة أيضًا.
(١٦٥) هل نشأت المفردة من لا شيء؟ من عدم؟ في الحجاج القائم تُعد
الإجابة سلبًا أو إيجابًا على هذا السؤال خطوة متقدمة لصالح
المؤلِّهين الذين يتحدثون عن الوجود (الكينونة) بوصفه كلمة الإله،
فالإله ليس جزءًا من الوجود، بل الوجود تجليَّات الإله، ولا يمكن
للتجليات أن تعي (من وعاء) أو تضم مصدر انبثاقها. غائية الوجود هي
خط الدفاع الثاني في حجاج التأليه. لا يملك الملحدون في هذه الحالة
إلا نزع معطيات الطرح وإعادة توجيهه.
(١٦٦) هل العدم هو حقًّا عدم؟ ما هو اللاشيء؟ قد نتحدَّث عن
المادة والمادة المضادة، نحن لا نعثر على شيء في الفراغ، ويمكننا
أن نصف هذا الفراغ بأنه عدم. لكننا نعرف بالمقابل أن الموجات
الكهرومغناطيسية تملؤه، فلا يوجد حيِّز، مرئي أو مفترض، يخلو من
هذه الموجات، وهي بأطوال مختلفة شديدة التنوُّع، وقد تتجاور،
وبعضها غير قابل للقياس بأدواتنا الحالية. نحن نتحدث عن طاقةٍ ما
عندما نتحدث عن هذه الموجات. نقيس الطاقة التي يمكن تسجيلها، ونعجز
عن قياس الطاقة الصفرية أو طاقة نقطة الصفر
Zero-point energy. إنها
موجودة دائمًا، وجود الطاقة الصفرية وجه آخَر لوجود المفردة
الأولية، وفقًا لمعادلة تكافؤ المادة والطاقة:
.
(١٦٧) افتراض الطاقة الصفرية يعني أن حركة «الفراغ الكمي» ممكنة
جدًّا بتوالي واستمرار ظهور وتلاشي المادة والمادة المضادة بسرعة.
هذا هو الفراغ، اللاشيء، العدم، ويمكننا أن نسميه طاقة سالبة،
ونطلق على الكون كما نعيش فيه طاقة موجبة. يمكننا أن ننطلق من ذلك
للحديث عن الخلق من عدم أيضًا Ex Nihilo
Creation، وعن عوالم أخرى موازية، لأننا إذا
اعتبرنا أن اﻟ ١٠١٤ سنة هي ما نقدِّر
به نشأة الكون كما نعرفه، أمكننا إذن افتراض عوالم أخرى سابقة
امتصتها وتمتصها طاقة مظلمة Dark
Energy. الطاقة المظلمة ليست شكلًا من الطاقة
المعروفة التي نستخدمها في عالمنا الباريوني
Baryonic (الكون كما نعرفه)
والذي لا يشكِّل أكثر من ٤٪ هي كل النسبة التي تجعله مرئيًّا
ومحسوسًا من مجموع نسب «الأشياء» التي توجد فيه (توجد الطاقة
المظلمة بنسبة ٧٤٪، والمادة المظلمة بنسبة ٢٢٪).
(١٦٨) صنعت الحياةَ سرنديبيَّةٌ كونيَّة عن طريق صدفة حدثت منذ
١٠ مليارات سنة وبعد ذلك تخلَّق الإنسان مثل حمل وحيد في جزيرة
تسكنها أسود جائعة، ولكن لم يحدث يومًا أن رآه أحد هذه الضواري.
إذا لم نتصور الحمل مختبئًا في مكانٍ حصينٍ، بل يتحرك بحثًا عن
مرعى، وإذا تصورنا الأسود تذرع الجزيرة ذهابًا إيابًا بحثًا عن
فريسة فإن الحمل في هذه الحالة في حاجة إلى صدفة أخرى تتكرَّر بعدد
المرَّات التي يخرج فيها إلى المرعى بحيث لا يتقاطع مساره مع مسار
أيٍّ من الأسود، ولأن عدم تقاطع المسارات في جزيرة واحدة يبدو
أمرًا مستحيلًا علينا هنا أن نضيف شرطًا ضروريًّا وهو أن يبتعد كل
مسار من مسارات الأسود بمسافة ٥ كيلومترات — أي مع انحناء سطح
الأرض في مجال البصر — عن مسار الحمل … صُدفٌ متكرِّرة ومشروطة!
لكن الكون يبدو أكثر إتقانًا وأجمل من ذلك، ليس لأن إلهًا لا
يحدُّه مكانٌ صنعَ مثل هذا الكون، بل لأن النظريات العلمية — التي
يلخصها مثال الحمل — عاجزة عن تفسيره حتى الآن بالرغم من التقدُّم
الذي عرفته.
(١٦٩) إذا نفكِّر في موقعنا الحقيقي من صورة الوجود سيكون علينا
أن نؤلِّه. إذا نشغل أنفسنا لوقت أطول بقوانين الفيزياء الكونية
علينا أن نُلحد. لكن التأليه ونفي اللاهوت يبدوان من ناحية أخرى،
بالرغم من كل تماسكهما المنطقي، كأنهما استجابة شرطية تستمدُّ
أسبابها من حيثيات محدَّدة لا علاقة لها بصدق الشواهد والبراهين،
بقدر ما تكون ناتجة عن التفضيل الثقافي وتأكيد نظرية أو نموذج في
مقابل نظرية أو نموذج آخرين.
(١٧٠) «مع كل نظريَّة أو نموذج تتغيَّر مفاهيمنا عن الواقع وعن
العناصر الأساسية المكوِّنة للكون.»١١٥ إذا تحدثنا عن الفيزياء الكونية نحن نتحدث عن
الجسيمات، جميع الجسيمات كانت افتراضيَّة، مع تلك النظريات العظيمة
نعرف أن بعض خارطة الجسيمات ما زال كذلك، بينما الجزء الآخر أصبح
ركنًا من ثقافتنا المادية الوجودية.
(١٧١) خريطة الجسيمات الفيزيائية ومعادلات التموُّج الكمي … إلخ،
هذه الثقافة تجيب عن الأصل، وهي تُنهي افتراضَ التأليه الذي لا
تتجاوز خريطته الزمنية ٧٠٠٠ سنة. نتحدث هنا عن مليارات أخرى من
الزمن تسبق اﻟ ١٠١٤ سنة الخاصة بنا.
ولا يعني ذلك أننا نفترض «قوَّةً» ما منفصلة عن الكون ترسل
تجلياتها إليه، بل يعني ذلك أن الكون «مجال» لا ينفصل عن موجات
الطاقة التي تتخلَّله. بهذا المعنى قد يكون الله تعبيرَ استعارةٍ
عن «طاقة الكون»، وهكذا يمكن التفكير في العدم بوصفه وجودًا
سالبًا. «إن العدم في كل الديانات التشاؤمية يُسمى الله»، كما يقول نيتشه،١١٦ بالمقابل يُترك المجال مفتوحًا لنشاط مبدأ
الريبة.
(١٧٢) أن تصبح أدبيَّات مبدأ الريبة١١٧ (أو اللايقين) قانونًا طبيعيًّا ملازمًا للإنسان ليس
أمرًا سيئًا على كل حال. البشر هم جزء من آلات الطبيعة القادرة على
توهم الاستقلالية وحريَّة التصرُّف. محليًّا (بالنسبة إلى الأفراد
والجماعات) ذلك ممكن وقابل للإثبات، خارجيًّا (أي ضمن الصورة
الكبرى أو كليَّة الكون Totality of the
universe الأثيرة لدى سبينوزا) لا تعني
التفاصيل الدقيقة شيئًا مهمًّا لأنها آخر الأمر جزء من مسارٍ واحدٍ
يمتصُّ التحولات.
(١٧٣) يعمل مبدأ الريبة كما لو أنه معادل أخلاقي يمنح سؤال
التأليه إجابته الأكثر واقعية، بالرغم من عدم التصريح بمبرراته
الدقيقة. يعتقد الكثيرون «أن العودة إلى الدين هي الإجابة، لا
بوصفها فعلًا من أفعال الإيمان، بل للهرب من شكٍّ لا سبيل إلى
احتماله، وهؤلاء لا يتخذون هذا القرار تعبُّدًا، بل بحثًا عن
الأمن. دارس المشهد المعاصر الذي لا تعنيه الكنيسة بل تعنيه «روح»
الإنسان يرى في هذه الخطوة عرضًا من أعراض اضطراب الأعصاب.»١١٨ إنها النقطة العمياء التي انطلق منها مساران متضادان
يلخِّصان تاريخ البشرية، وهي النقطة التي تلاحق هذا الجدل إلى
المستقبل … إلى النهاية.
(١٧٤) لا يزول الدين حتى عندما تزول الحاجة إليه. إنه يتطوَّر،
يستعين بأدوات نفي اللاهوت العلميَّة لحماية نفسه فيصبح أكثر
حيويَّة كلما اعتقد المجادلون أنه أوشك على الزوال.
١٢
الإلحاد بوصفه انعكاسًا للدين، الدين ينتقض على ظله، تحليل لغوي،
أفكار وكلمات، جدل المتقابلات، العودة إلى كَلكَامش الجدارة
بالدين/بالدنيا، التطرُّف مظهر انحلال اجتماعي.
***
(١٧٥) يلبي المعتقد حاجات الأفراد إلى المعرفة والإجابة عن أسئلة
لا نهائية، فيُقدِّم لهم حزمةً متَّصلة من الحقائق الإلهية الحاسمة
التي لا مجال لمساءلتها والتي يقبلها المؤلِّهون دون مراجعة،
متخلِّين بذلك عن حياتهم الزائلة في مقابل خلود بعدي يقودهم إليه
كائن مفارق ليسوا في حاجة إلى رؤيته لأنه يتملَّكهم.
(١٧٦) الدين فجوةٌ عميقةٌ بين الحاجة والحرية يملؤها
الخيال.
(١٧٧) الإلحاد ظلُّ الدين.
(١٧٨) طائرٌ ينقضُّ على ظلِّه. الإلحاد — بما هو موقف — انعكاسٌ
لهيمنة التديُّن. نفي اللاهوت لا يبادر إلى الهجوم قدر ما يعنيه
التحرر من هيمنة الرؤية الدينية المغلقة. فليكتفِ المتديِّنون بترك
الأمور تجري كما تجري لأن الأشياء منوطة بتطوراتها غير القابلة
للإجهاض مهما اشتدَّت محاولات توثين الهيكل الديني. بقدر ما يزداد
التديُّن شراسةً يتعاظم انتشار نفي اللاهوت بشكل تلقائي، فبالرغم
من تحوُّل الدين إلى مؤسسة اجتماعية راسخة إلا أن الممارسة الدينية
تشهد تراجعًا بين المؤمنين؛ يتعلق الأمر بالسيناغوغ والكنيسة
والجامع، وغيرها من المعابد، وهي هياكل صار الناس ينظرون إليها
بوصفها رموزًا أيقونيَّة غير قادرة على التفاعل والاستجابة
للمتطلبات المتجددة. يتوجب إجراء استبيان عن الرغبات، ولكن ذلك لا
يعني شيئًا مقارنة بإرادة واحدة هي التحوُّل الإرادي الذي يخرج
شيئًا فشيئًا من سيطرة رجال الدين.
(١٧٩) الدين في صوره الكبرى الثلاث الأكثر انتشارًا أشبه ما يكون
بطائر الرفراف الذي ينقضُّ على ظلِّه معتقدًا أنه فريسته، لكنه لا
يحصل على شيءٍ سوى أن يغطس ويبتلَّ ريشه، وهو يزداد بللًا طالما
أنه لم يقتنع بأنه لا يصطاد إلا ظلَّه هو. كذلك الدين الذي ينقضُّ
على الإلحاد، كلما ظنَّ أنه قضى على الإلحاد ازداد غرقًا.
(١٨٠) الدين لعبةُ تحوُّلات هدفها التمكُّن من تثبيت صورة عن
اليقين. إن النصوص المقدَّسة تقترح علينا طيفًا واسعًا من الحركات
اللغوية التي نستطيع أن نُثبت بها تخييلات اللاهوت. اللغة سكنانا
(هيدغر) تجد تطبيقًا فعليًّا في الدين، نصبح كائنات لغوية كما يجب
أن نكون تحت رعاية اللوغوس. تحدر اللوغوس
logos من السومرية «لوغو»
lugu (المكوَّنة من مقطعَين؛
لو lu: إنسان، غو
gu: كلام، أي الإنسان إذا
تكلَّم، أو الإنسان متكلِّمًا) ذلك أيضًا هو أصل كلمتي اللغو
واللغة العربيتين.
(١٨١) لا يمكن نزع الأفكار عن الكلمات. الملحدون الذين يحتجُّون
بالنظريات العلمية يتفكَّهون. النظريات تميل إلى المرح بالرغم من
دقَّتها، أو تلك الدقَّة المؤقتة على كل حال، ولكن المزيد من
النظريات لا يلغي بل يطوِّر، وإذا جئنا إلى اللغة فإنها تستجيب
بهدوء. المؤلِّهون يبدون جادِّين أكثر، لأن ما يجب أن يُقال قد قيل
مسبقًا ويجب الحرص على استعادته دون تحريف، الإثبات والنفي هما
ألعاب لغة صفريَّة، وإدارة مفاهيم وتصورات؛ تلك هي مساحة البحث،
لأن الوجود لم يَعُد لعبةً بسيطةً على كل حال، وتبدُّل اللاعبين
يشترط تبديل قواعد اللعب كل مرة! قليلون هم الكهنة الذين يتميزون
بخفَّة الدم وتطويع اللغة، أما عندما يتصل الأمر بالنصوص المقدسة
فإن اللغةَ جوهرٌ مقدَّس لا يمكن تطويعه، وهو يزداد تجوهرًا كلما
جيء إلى تصور الله. الله لا يمزح، تقريبًا.
(١٨٢) جدل التأليه ونفيه يعتمد البناء على التقابل. سلسلة من
التقابلات اللانهائية تعمل في عمق الخلفية: المادة # المادة
المضادة، الكينونة # العدم، الطاقة # الطاقة
الصفرية، وبدرجة أقل تحديدًا: العيني # المجرَّد، النور
# الظلام، ثم أقل: اليقين # الضلال، ثم أقل: الجوهر
# الصيرورة، ثم أقل: الثبات # الدُّوَلة … إلخ.
ويمكننا في كل هذه الدرجات أن نستبطن ثنائية الله #
الشيطان. تستطيع اللغة أن تحلَّ معضلة الوجود! هل تستطيع؟
(١٨٣) اليهود والمسيحيون يقولون إن البشر عندما أصبحوا مصدرًا
للإزعاج بلبل الإله ألسنتهم فتفرَّقوا: «لذلك دعي اسمها بابل، لأن
الرب هناك بلبل لسان كل الأرض» (١، ١١–٩). المسلمون يقولون أن
الإله أوجدهم متفرقين أصلًا ليتعارفوا، بينما يزجي الوقت يراقبهم
من عليائه، بعد أن عنَّ له أن يخترع «آلة العالم» ويودع فيها من
التلقائية ما جعله غير مضطرٍّ «في كل حين إلى تسوية أجزاء العالم
وإلى أن ينفخ الرُّوح في دواليب تلك الآلة الرائعة.»١١٩ إن التصوُّر الإسلامي يكرِّر الأصل السومري، نقرأ في
ملحمة «إِنْ. مَرْكِر En-marker
وسيِّد أَرَتَّا Aratta»:
التصور اليهودي-المسيحي يتفق مع جَعْل التاريخ يبدأ من سومر
فكأنه يكرِّر وصفَ الملحمة سومر بأنها «متوافقة اللسان»:
eme ha-mun ki-en-gi إِمِي
خَمُن كِنْگي، ثمَّ تشتَّتَ لسان البشر مع بابل. «بلبل» الساميَّة
أي فرق توافق «بابل»، «باب إل» (باب الإله)، كأن اكتظاظ هذه
المدينة بالسكان ثم تفرُّقهم إلى أنحاء مختلفة كان قدرًا إلهيًّا
مسبقًا صنع تاريخ اللغات والأعراق في العالم.
(١٨٤) تقبع خلف جميع الأديان من حيث هي فكرة إنسانية عامة
محاولةُ تفسير وتقنين الحياة والإجابة عن أسئلة ما بعد الموت.
گلگامش (الملحمة التي سبقت الإلياذة بألف وخمسمائة سنة) لم تكُن
تعبيرًا عن البحث عن الخلود فحسب، بل لإعادة تنظيم مشروع الحكم
وإدارة المدينة، وللتسليم آخِر الأمر بأن القوى المجهولة التي
تتحكم في قَدَر البشر استَبْقَتْ لنفسها خاصية غامضة لم تجز
إمكانيتها على الأرض، أي الخلود. في النهاية يخبرنا گلگامش أن خلود
الإنسان هو الكلمة، وأن اللغة سكنانا ومصيرنا. «الكلمة» لم تنجُ في
العصور اللاحقة من فوهة الدين السوداء، وعوض أن تكون حافزًا على
البحث وتقسط الممكنات من أجل سياسة المدينة وتطوُّر الحياة
الإنسانية تحوَّلت بفعل تدخُّل الأديان الشمولي إلى قدر مسطور منذ
الأزل لا سبيل إلى مداهنته إلا بالإيمان. الإيمانُ كلمة تجريدية
تحيل إلى فضاء مفتوح لا تحكمه معايير العلاقات والحدود والمقارنات،
أما على سطح الأرض بدم ولحم فإنه يعني نفي التدبير، يعني
اللاسياسة. إذا كانت السياسة تعني المدينة أصلًا، فإن الإيمان هو
اللامدينة: سريانٌ فوق التاريخ وإفراغ مبدأ الأين من أبعاده
الثلاثة، وبالمحصلة: لا توطِّن. ماذا يحدث عند توطين الإيمان؟
عندما تبتلع مملكة السماء كل ما يقف في طريقها من علاقات وحدود
ومعايير بشرية لا تجد ما تعلن به عن نفسها سوى مملكة الأرض الجديدة
التي لا ضرورة فيها للتدبير أو السياسة، لأن العناية الدائمة التي
لا تغفل عن شيء أقامتها ووطَّدت أركانها. هكذا ينشأ الطغيان باسم
الله. هذا هو معنى تديين السياسة حيث يقصي الوكلاءُ الناسَ عن
إدارة شئونهم، ويحولون السياسة من مشاركة واعية ومتفاعلة إلى شكل
من الجبرية والقدرية.
(١٨٥) ما قبل الحياة موضوع أوَّل للدين في اليهودية، لكي تكون
جديرًا بالدين يجب أن تعرف كيف بدأت الدنيا؛ الحياة موضوع أوَّل
للدين في المسيحية، لكي تكون جديرًا بالدنيا يجب أن تعرف كيف بدأ
الدين؛ ما بعد الحياة موضوع أوَّل للدين في الإسلام؛ لكي تكون
جديرًا بالآخرة يجب أن تعرف على أي نحو تكون عندما تموت، فالدنيا
زائلة، والجسد فانٍ، وأنت راحل إلى حياة لا تزول ولا تفنى، وسوف
يعود الزمان كأنه يبدأ من أوَّله. التشبُّثُ المفرط بفكرة الأصل هو
الذي صنع المصائر وأعطى سمة مختلفة لكل دين حتى بدت هذه الفروع
الثلاثة كأنها تختلف حقًّا.
(١٨٦) منذ بداية القرن العشرين أصبح من المألوف ألا يتم التعبير
عن المصير باسم الدين. صار الدين شفرة تعويضية تمثِّل العجز عن
تمثل انعكاس الإرادة.
(١٨٧) اللاهوت تمثيلي
representative، ألا يبدو نفي
اللاهوت لا تمثليًّا
anti-representationalist!
(١٨٨) منذ منتصف القرن العشرين أصبحت العقائد الصلبة شكلًا من
أشكال الانحلال الاجتماعي يستوجب العلاج.
(١٨٩) الهيمنة البرغماتية (للعلم، الاقتصاد، السياسة، الانشغالات
العملية) على حقول البراكسس الاجتماعي في القرن الحادي والعشرين
تحوِّل الدين والعقائد المتصلة بالحياة والتدبير إلى نظام ثانوي،
وتصبح العودة المتطرفة إلى الدين مظهرًا من مظاهر الانحلال
الاجتماعي يجب استئصاله.
١٣
سياسي وراء الكهنوت، الأصولية الإبراهيمية، مملكة السماء في
الأرض، ظلُّ الله متسلسلًا، الجمهورية الفارابية، اشتراكية الإسلام
المتوهمة، الفئات المضطهدة.
***
(١٩٠) بغض النظر عن الاختلافات الشكلية بين الديانات الثلاث،
والتي قد تبدو «جوهرية» لدى البعض لأنها تغذِّي نزعات عدوانية بين
أتباع كل ديانة، فإن الأصولية١٢١ موجة واحدة تشترك فيها هذه الديانات «الإبراهيمية»،
فالأصوليون اليهود والمسيحيون والمسلمون يشتركون في دفاع مستميت من
أجل تأبيد اللاهوت وإعادة الاعتبار لمملكة الله في الأرض واسترداد
قوة القوانين «المنزلة» الموحى بها، فيتصدَّر الله الدساتير
ويُوطَّن لا بوصفه «مواطن شرف» كما في البروتوكولات المدنيَّة
فحسب، بل يصير مرجعًا قانونيًّا ومسئولًا إداريًّا تُمهَر باسمه
إجراءات الجزاء والعقاب. لنستدعي كانط هنا (وهو لاهوتيٌّ في عمقه،
كما قال نيتشه): إن الدستور الذي يستند في أساسه إلى الثيوقراطية،
وهي أرستقراطية من الكهان أو الزعماء الذين يتفاخرون بالتعليمات
التي يتلقونها مباشرة من الله، يجعل من الله اسمًا معظَّمًا
وممجَّدًا فقط بوصفه حاكمًا دنيويًّا.١٢٢
(١٩١) منحَ «التصوُّرُ الديني للعالم» السلطةَ السياسية
مشروعيَّةً ميتافيزيقية قوامها الطاعة والخضوع، أو لنقل الولاء
(إذا كنَّا متشبثين بهوياتنا القومية). لقد تمَّ تمييه (صنع ماهية)
مملكة الأرض بالتناظر مع متخيلِ مملكةِ السماء. في أوروبا حدث
الانفصال بين المملكتين في القرن الثامن عشر، في العالم الإسلامي
لم يتوقف سجال العالمين العلوي والسفلي في بطن الدولة، في إسرائيل
لفَّق اليهود توفيقًا — تم الاعتراف به أمميًّا — بين تحقيق الوعد
اليهودي وتثبيت الضرورة الجيوسياسية الأسخريوطية وهو التخارج الذي
تجسَّد أخيرًا في مشروع «يهوديَّة الدولة».١٢٣
(١٩٢) سياسيٌّ وراء الكهنوت. ينتج المتشكل سياسيًّا
Politomorphic، حسب ﻫ.
بلومنبرغ H. Blumenberg، عن تفسير
القوانين الطبيعية بوصفها مقرَّرة بإرادة إلهية. إن الدين الشمولي
يضمر صورة الكيان السياسي بوصفه انعكاسًا لاحقًا، أو ظلًّا، أو
ترديدًا اجتماعيًّا، والأشياء (جميع المخلوقات) هي بالتالي موضوعات
للطاعة وبذل الجهد تحت إرادة قوة قديمة وعالية تعبِّر عنها الدولة.
في الانتقال التاريخي مع القرن الثامن عشر من الدولة إلى المجتمع،
وتحت ضغط الاستقلال الاقتصادي فقدَ المتشكل سياسيًّا أسباب وجوده
شيئًا فشيئًا، هكذا جرى تحييد السياسي أمام المجتمعي.
(١٩٣) يبدو أن المشكلة في المجتمعات الإسلامية تتمثَّل في عدم
قدرة اللاهوت على انتزاع نفسه من السياسة، والحياة بشكلٍ مستقلٍ،
وفي حاجته الملحَّة الدائمة إلى اعتراف الآخرين به، والإصرار
الغريب على التدخُّل في شئون الحياة «الدنيوية». يمكننا هنا أن
نلمس جانبًا تعويضيًّا للتغطية على الفقر والبؤس الذاتي من خلال
التوجه إلى ما هو «دنيوي» والتشبُّع به إلى درجة الإفراط. لقد
تراكمت تقاليد ألفيَّة وأدبيَّات وأخلاقيَّات دينيَّة للتحيل
«الشرعي» من أجل الإخضاع والتوجيه والهيمنة باسم الله لهدفٍ واحدٍ
هو «ممارسة السلطة».
(١٩٤) لممارسة السلطة أبعاد متعددة، تبدأ في المجتمعات المسلمة
من السلطان (الملك، الخليفة، الأمير … إلخ) وتستقرُّ حيث يكون كل
شيء، أي شيء، مرتبطًا بالأمر والنهي في ظلال متضاعفة لا تنتهي.
الإمام ظل الله في الأرض ويعتبر هذه المكانة حقًّا إلهيًّا،
والمأموم ظل الإمام، قد يكون رئيسًا فالمرءوسين ظله، أو شيخ قبيلة
فأبناء القبيلة ظله، أو رَب عمل فالعمَّال ظلُّه، وقد يكون زوجًا
فزوجته أو زوجاته ظلُّه، أو يكون أبًا فأبناؤه ظلُّه، والأخ الأكبر
ظلُّ أبيه، والأخوة الأصغر ظلُّ أخيهم، والأخوات ظلال إخوتهنَّ …
إلخ، وعبر هذه السلسلة الذكورية من الظلال المتضاعفة ينال كل رجل
أو فتى نصيبًا من الحق الإلهي الأصلي يسمح له بأن يكون راعيًا
«كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته»، ويحبُ المسلمون أن يفهموا كلمة
مسئول القديمة بمعنى معاصر، إلا أنها ليست كذلك، فالمسئول لغةً هو
الذي يُسأل، كأن يُسأل بيانَ الخبر، أو يُستعطَى، أي يُسأل الفضلَ
والعطاء، وبذلك يكون حافظًا مؤتمنًا، أما المسئول في العربية
المعاصرة فهو صاحب الأمر والنهي الذي لا يُسأل. إن هذا التردِّي
اللغويَّ لاهوتيُّ السبب.
(١٩٥) تحدث الفارابي عن دولة علمانية حرَّة تتساوى فيها فرص
تحقيق الذات واشتراكية المصالح المرسلة. لا يمكن إحلال اللاهوت
والحق المنصوص عليه في تشريعات الجمهورية الفارابيَّة تبريرًا
للاحتكار، فالقدرات الفردية التي أشاد بها هي المعيار الوحيد
لتحديد الحق وتقدير الفعل العام وتثمينه. كان بالإمكان أن تنشأ
أخلاق سياسية جديدة لولا القوة الغاشمة التي نشأت عن تضامن
الأكليروس الإسلامي والأوتوقراط العربي.
(١٩٦) نجح الدين عندما توطَّنَ التشريعات بما هو معيار للحق
البشري. تراجع شيئًا فشيئًا عندما أصبح مجرَّد امتياز لرجال
الدين.
(١٩٧) يفترض الإسلام اشتراكية دينية عمادها المساواة بين البشر،
وهي اشتراكية زائفة من الناحية التطبيقية، فالتسليم بها جزء من
الإيمان بشريعة الله، ولكنها لا تعني شيئًا بالنسبة إلى المجتمع.
الزكاة والصدقة والممالاة أعمال مؤقتة تجسِّد نظامًا رمزيًّا
لإثبات الإيمان، وتمنحه مظهرًا اجتماعيًّا مقبولًا، ولا علاقة لها
بإنقاذ الحياة وازدهارها أو بإحلال التوازن والعدالة الاجتماعية
والمساواة. المتدينون يضفون شرعيةً مقدَّسة على تراتبية النظام
الاجتماعي السائد ويحتكرون مصادر السلطات المادية والرمزية، أما
البشر فهم متساوون (= عبادٌ) في أنصبتهم من الجنة أو النار، لا في
نصيبهم من الدنيا بوصفهم مواطنين.١٢٤
(١٩٨) مثل الهندوسية، حيث الفئات المضطهدة جزء أساسي من المعتقد،
كذلك الإسلام الذي فضَّل بعضًا على بعضٍ في الرزق والمزايا. في
الواقع لا معنى لتعميم المساواة، ولا الحرية أيضًا، في الإسلام
الذي يبقى دينًا قَبَليًّا بامتياز. هذا الترتيب الاجتماعي
الهيراركي ذو الطبيعة اليهودية يسري كذلك على المسيحية.
(١٩٩) كل دين قَبَليٌّ بالضرورة، إلا إذا استثنيا الأديان
الحديثة؛ أديان الساحات العامة والشوارع، وهي قليلة على كل حال ولا
تخضع لسلطة إله.
(٢٠٠) منذ زمنٍ بعيدٍ — أقترحُ عصرَ أبي عيسى الورَّاق — بدا
للملحدين أن حربهم تكمن أساسًا في مواجهة وكلاء المقدس، وليس
المقدَّس في حدِّ ذاته. الملحدون ليسوا معنيِّين بتفريغ المخيلة من
المعتقد قدر عنايتهم بالحرب على تحويل المعتقد إلى سلطة معرفية
يخضع أمامها البشر المؤهلون بطبيعتهم لاجتراح وسائل النجاة والحلم
بإنقاذ الحياة وصناعة نظام متجدد من المعاني والرموز.
١٤
تصوف فردي يُرمِّز الذات والعالم والأشياء، الخلاص الذاتي، حدود
الخاص والعام، جذور الحلول الصوفي، لا جزاء ولا عقاب، صوغ نظام
رمزي بديل.
***
(٢٠١) لا يتوقف نفي اللاهوت على سلب الدين، ربما تلك هي عتبة
الإيجابية التي يتسم بها الإلحاد كطابع فردي، أعني تحوُّل نقض
الإيمان الجماعي إلى إيمان مضاد هو أقرب إلى التصوُّف الفردي
الجديد للبحث الخاص عن طريق للخلاص الذاتي.
(٢٠٢) لا يكون الدين (المعتقد العام) إلا جمعيًّا، في مقابل
التصوُّف (المعتقد الخاص) الذي قد يكون تجربة دينية فردية، فإذا
انتقل التصوف إلى آخرين عن المصدر ذاته (رمزًا أو نمطًا معتقديًّا)
يصبح بدوره دينًا، أو جزءًا من دين. من المناسب هنا أن نستعيد
ملاحظة ذكية من مانهايم: «حين تتوجه الممارسة الدينية الحماسية إلى
الداخل، فإنها تظل تُمثِّل خطرًا على النظام [الاجتماعي] القائم
لأنها تظل أمام الإغراء بأن تعبِّر عن نفسها خارجيًّا، وهي لا
تتحوَّل إلى تصوُّف هادئ إلا بعد انضباط وكبت طويلين.»١٢٥ نماذج تاريخية عديدة تؤكد هذا الرأي.
(٢٠٣) من المهم دائمًا أن نفكر في حدود الخاص والعام، فبقدر ما
يبدو التأليه مندفعًا بكل شجاعة وجنون لكي يستحوذ على العام، يبدو
الإلحاد راضيًا بكونه اختيارًا خاصًّا. في هذا الاندفاع ينتفي
الأساس الفردي، أو مشيئة الإيمان والكفر الخاصة. إن المؤلِّه لا
يريد — أو ربما لا يستطيع — أن يفهم ذلك.
(٢٠٤) يبدأ المعتقد كقبول فردي، قد يكون مستقلًّا وقد يكون
موروثًا أو بتأثير المحيط الاجتماعي، وهو بالتالي ليس في حاجة إلى
أساس عقلاني. المعتقد ليس تجريبيًّا (أمبريقيًّا)، وليس على
المعتقِد أن يُثبته بأدوات من خارجه، ففكرته في حدِّ ذاتها تحقِّق
ما يكفي من الرضى والقبول. هكذا يولد كلُّ منزَّه ومقدَّس، ويولد
الولاء والرغبة في ترك الحياة والاتحاد بالمطلق: غاية الوجود
القصوى.
(٢٠٥) الحلول الصوفي صورة إسلامية من الاستنارة الكاملة في
النيرفانا البوذية، ومن الموسكا الهندوسية. عندما اتجه الكامي
الشنتوي غربًا صار نيرفانا وموسكا وعندما أوغل في الغرب صار حلولًا
صوفيًّا. يبدو الكامي الياباني قادرًا بشكل ما على التوفيق عن طريق
الصمت والتأمل بين الخفاء والتجلِّي، وبين السر والعلن؛ إنه مثال
قوي على ترك القوى غير المرئية (الطبيعية والمجهولة في الوقت نفسه)
تواصل حضورها بإيجابية في صلابة الحياة اليومية بنوع من التأليف
بين الواقع والممكن، بين الحاجة والضرورة، وبين المتاح
والرغبة.
(٢٠٦) الخلاص الشنتوي (لأنه البدائي) لا يقترح جنةً أو جحيمًا.
فكرة ما بعد الحياة بوصفها صفقةً بين بائع ومشترٍ وُلدت عندما
انتقلت الشنتوية إلى الغرب وأضفت عليها أمم الشرق الأدنى التجارية
طابعًا اقتصاديًّا حيث ينال البائع (الله) ما يرضيه، وينال المشتري
(المؤلِّه) أضعاف ما بذل في تجارة لا خسارة فيها. «هات وخذ»:
اقتصاديات الآخرة، أو «اقتصاد النذور» كما يسميه بورديو، فكرة
يهودية صميمة لم تجد لها المسيحية، أو الإسلام، بديلًا
مقنعًا.
(٢٠٧) قاعدة الجزاء البَعدي المفترض، بالمنطق المسيحي، هي أيضًا
ما يقوله الإسلام: تجارة لا خسارة فيها، لأنك في سوق العقيدة سوف
تربح عشرة أضعاف (على الأقل) عن كل ما دفعت، ماديًّا بالفعل أو رمزيًّا.١٢٦
(٢٠٨) تدَّعي جميع الأديان أن الخلاص لا يكون إلا فرديًّا. أليس
الإيمان الخاص اختيارًا شخصيًّا يناقض فكرة الدين؟
(٢٠٩) لا نستطيع الحديث عن إحلال بديل للمتعاليات في نفي اللاهوت
بما هو عملية عقلية فردية. إن أقصى ما يمكن اقتراحه في هذه الحالة
هو نوع من خلق نظام من شبه المتعاليات، أي ذلك التصوُّر غير
المفارق للعالم، ولكن غير المتَّصل في الوقت نفسه، دون تصورِ
ماديَّةٍ مطلقة، ولكن بالتردد في منطقة وسطى بين مقتضيات الترميز
ومقتضيات العقلنة، كضرورتين متجاورتين في الذات. هذه المنطقة هي
الفضاء الذي ينتج فيه العقل تصوراته، ويبحث فيه عن ممكناته.
(٢١٠) يبدو أن مشكلة نفي اللاهوت تتقشع في أحيان كثيرة عن رغبته
في صوغ نظام رمزي بديل. إذا تركَ الإلحاد حقله المعرفي (العقلاني)
الخاص وأراد أن يبتكر مثل هذا النظام فهو لا يفعل شيئًا أكثر من
ابتكار المزيد من الآلهة تحت أسماء مختلفة.
(٢١١) إن نقد رمزية الدين لا يتوخى إحلال نظام رمزي بديل، بقدر
ما يسعى إلى شخصنة وفردنة عملية الترميز إزاء الذات والعالم
والأشياء، وإزاء المجهول، من خلال تصوُّرٍ عقلاني شبه
متعالٍ.
(٢١٢) الله لا يموت، شأنه شأن الاستيهامات الكبرى والتخييلات
التي شكَّلت قابلية الإنسان للتسليم بصور الرجاء تحت وطأة البؤس.
يتجدَّدُ مثل طائر الفينيق بين ظهراني البؤساء والمصابين بالكآبة.
إن الفلسفة المسمومة، مهما كانت درجة سمِّيتها، لن تقضي سوى على
الآلهة التي لا تُحسن تصوير الخلاص.
١٥
حروب الآلهة ضد البشر، التداخل بين الدين والإلحاد، ثأريَّة
الأصوليين، استقلال الأخلاقي عن الدين، ممارسة الشعائر ومعنى
الإيمان، ونفي اللاهوت عملية دائمة لا نهاية لها، فكرة الأذى
الإلهي في التصور اللاهوتي، إمكانيات متناقضة.
***
(٢١٣) قبل البشر بزمنٍ طويلٍ، طويل جدًّا، وُلدت كما يقول نيتشه
«الحماقات المتهورة للميتافيزيقا»، لا يقتصر الأمر على
الفلسفة.
(٢١٤) تستمر الآن حروب الآلهة من أجل احتلال الأرض. إنها
المهمَّة الدائمة في الديانات التوحيدية الشرقية الثلاث للقضاء على
آخر المعاقل البشرية، ولكن ذلك يجب أن يُنجَز باسم جيش واحد، أوله
في الأرض وآخر في السماء، ألا وهو تحالف اليهودية-المسيحية أو
الإسلام. هي لم تكن أبدًا حرب الإنسان من أجل الحياة، بل حربٌ من
أجل توطين مملكة السماء على كوكب الأرض الذي وُلدت وترعرعت فيه
الآلهة. كلٌّ من هذه الأديان يستند إلى حقٍّ إلهيٍّ لا يقبل
التفاوض، فاليهود هم الشعب المختار «فطردَ شعوبًا كثيرةً من أمامك
… لأنك شعبٌ مقدَّس»، ويعطيهم هذا الاصطفاء حق تجريد الأغيار من
أرضهم وتشريدهم وتغذية حقد مقدَّس لديهم، والمسيح جاء لحمل السيف
«أتظنون أني جئت لأعطي سلامًا على الأرض، كلا أقول لكم بل
انقسامًا»، ويعطيهم هذا الإيعاز حقَّ شنِّ الحروب الصليبية١٢٧ والإبادة العرقية وإقامة المجازر، أما المسلمون فقد
جمعوا «الميزتين»، الاصطفاء: لأن «الله أظهر تجاه شعبه المختار
قدرًا من عرفان الجميل أكبر من ذاك الذي أظهره يَهْوه تجاه شعبه»،١٢٨ كما يقول فرويد، وحمل السيف: حيث أمرهم القرآن بسحق
الكفَّار أينما كانوا قَاتِلُوا الَّذِينَ
يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ، ويعطيهم هذا
الإيعاز تبريرًا للقتل والتنكيل والأعمال الدموية. لكن هرمجدون لا
تأتي بعدُ. فالمتحاربون فيما بينهم توحِّدهم جبهة أخرى ضد الإلحاد.
قضت التعاليم أن مائتي مليون جندي سوف يسقط بينهم النبي الكاذب
مضرجًا بدمه بينما تلتهمه نيران الرب، «ارتعدوا يا جميع سكان
العالم، يوم الرب مقبل». إن هذه الأسطورة توحد الأديان الثلاثة ضد
الإلحاد، وتمنح أتباع كل دين يقينًا قدريًّا بأنهم وحدهم المؤهلون
في آخر الزمان لكسب حرب الآلهة ضد البشر. تتشتَّت مذاهب كل دين١٢٩ إذَن تعلُّق الأمر بالاعتراف وإثبات الذات، وتتصارع
الأديان وتفتخر بالحقد المقدس، ولكنها تتحالف في حرب ملحميَّة
متخيَّلة ضد نفي اللاهوت. لن تجد في نهاية المطاف يهودية-مسيحية
تتغذى من جذور يونانية ورومانية غربية ضد إسلام شرقي يدَّعي وراثة
اللوغوس الإبراهيمي بل هو اللاهوت القديم متعدِّد الوجوه ضد
المستقبل. إن صورهم قياسًا بتمايز كلٍّ منهم عن الآخر تبدو
متفرِّدة لا يعوزها الاستقلال وقوة الدفاع، أما قياسًا بموقع كل
منهم بالنسبة إلى الآخَر ضمن حدود هويته فعليًّا فإنها تتطابق
تمامًا. ضع على الطرف الأول من هذه المعادلة المشاريع اللاهوتية
الثلاثة، والمُحاجَجات الأخلاقية، واسمع نفير المعركة الأخيرة كما
تصوِّره الأدبيات المتوارثة … إلخ، وضع على الطرف الثاني مناطق
النفوذ وثروات الأمم التي تعود بها المشاريع، والألعاب الصفريَّة
التي تنبني عليها المحاججات، واسمع صرخة النشاز الأخيرة كما
يردِّدها حاخام أو كاهن أو إمام، سوف تجد نفسك أمام المسرحية
ذاتها. إن البِنَى والآليات والأساليب والأهداف لا تكاد تختلف. لا
تحفِّز أدرينالينك، لم تَعُد المسرحية تستحق المشاهدة.
(٢١٥) كلما فشلت حرب الآلهة على البشر فإن الأصوليين يصحبون
ثأريين وتدفعهم حدة العمى العقلي الذي يصابون به إلى ارتكاب أفعال
مخيفة ضد المجتمعات التي يعيشون فيها. إن الأصولية تنشأ لأن
المتدينين يصبحون غير قادرين على تجديد حجاجهم باسم العودة إلى
الأصل، فيبعث فيهم فشلهم هذا رغبة مفرطة في الانتقام وتدمير الزمن
الذي عجزوا عن إعادة توجيه مساره.
(٢١٦) هذا ما يعبِّر عنه نفي اللاهوت: ثقافةٌ بلا أحقاد.
(٢١٧) كانت التشريعات الدينية مصدرًا وحيدًا للقوانين، ثم صارت
مصدرًا أساسيًّا، حدث هذا على مرِّ العصور إلى أن استقلَّت الأخلاق
عن الدين، وأصبح التقنين ضرورة أخلاقية بشرية لا تتطلَّع إلى
السماء، ولكنها مهتمة أقصى اهتمام بأن تتأكَّد من سطح الأرض التي
تخطو عليها. لم تَعُد الأجوبة اليقينية التي تشرح البدهيات
اللاهوتية تعني شيئًا بالنسبة إلى السؤال الإنساني الذي تتبدَّل
إحداثياته باستمرار. إن الموقف التشريعي من مختلف جوانب الحياة لا
يجب أن ينشغل بنماذج قَبْليَّة من الماضي قدرَ انشغاله بالممكنات
التي تعني المستقبل.
(٢١٨) إن الأخلاق ضروريَّة ما دام الإنسان لا يستطيع الحياة من
أجل نفسه إلا بمشاركة الآخرين، فهل يقتضي ذلك تصورًا لاهوتيًّا؟ إن
مثل هذا التصور ينقل الأخلاق إلى مصافٍ واجبٍ ملزِم يشكِّل الأفق
النهائي للوجود، ويجرِّدها بالتالي من طبيعتها البشرية. الطبيعة
البشرية ليست غاية اللاهوت. البشر في التصور اللاهوتي يمثِّلون
مادة الوسط المحايدة التي يتجاذبها قطبان هما: الأخلاقي المطلق،
ونقيضه اللاأخلاقي المطلق. المجتمع بالتالي هو ساحة احتدام، وهو
غير قادرٍ على التصرف بإرادة عاقلة مستقلة. الإنسان في هذا التصور
يبقى من طبيعة صلصاليَّة لا ينتهي عجنها وتشكيلها.
(٢١٩) المجتمعات التي تقع تحت وطأة التشريعات الدينية والتي تسعى
في نفس الوقت إلى الالتحاق بأخلاقيات القرن الثامن عشر تعيش وضعًا
مركَّبًا، فحاجتها إلى النظر إلى المستقبل تتطلب منها الالتفات إلى
الماضي لتدارك أربعة قرون مفقودة.
(٢٢٠) عدم الإقبال على ممارسة الشعائر الدينية لا يعني عدم
الإيمان بالدين. فالوسط الغالب — إذا صحَّ الافتراض بأن الأكثرية
لا يأبهون بارتياد المعابد والكنائس والمساجد — يبقى متديِّنًا دون
احتراف، وهو ليس محايدًا في السجال بين التأليه ونفي اللاهوت، لأنه
يحيا في مجتمع أعلن عن دينه الرسمي، أو شبه الرسمي، دون اعتراض.
هذا الوسط يُمثِّل ساحةً عامةً لا ترفض عدم الإيمان، ولكنها لا
تقبل أيضًا نفي الدين. ربما على نفي اللاهوت هنا أن يكون
دونكيشوتيًّا واعيًا لكي يحارب أيضًا ظلال الدين، لا مادته فقط؛ أن
يتتبع رأسماله الرمزي الأكثر انتشارًا وتعمقًا لا شعوريًّا في
أذهان الناس، لا بضاعته الهستيرية المعروضة في المعابد الفخمة
فقط.
(٢٢١) إذا تصوَّرنا مجتمعًا ملحدًا تعوزه الراحة، فإن أقرب حلول
المشكلة الأنطولوجية سوف يكون الدين. أما في المجتمعات التي تعاني
من وطأة الدين وهيمنة اللاهوت فإن الحل الوحيد لمشكلاته سوف يكون
نفي الدين. فرضيَّةُ هذا السِّجال: لا يزول الدين (أو الإلحاد) حتى
عندما تزول الحاجة إليه. إنه يتطوَّر، وهو يصبح أكثر حيويَّة كلما
اعتقد الملحدون (أو المؤلِّهون) أنه أوشك على الزوال.
(٢٢٢) لن ينتهي الدين أو الحاجة النفسيَّة إليه. هناك عدد من
الآلهة بعدد البشر الأحياء، وبعض الآلهة يبقى حيًّا حتى بعد موت
صاحبه، سنقول مع أونفري أن آخر إله سيختفي مع آخر إنسان على الأرض،
و«سيختفي معه الخوف والذعر والقلق [الوجودي] وكل تلك الآلات
المنتجة للآلهة … إن موت الله يفترض تطويع العدم وإيلافه، لكننا ما
زلنا بعيدين عن هذا التقدم الأنطولوجي الوجودي … سيدوم الله بدوام
العقول التي تخلقه وبدوام منكريه كذلك.»١٣٠ ولكننا لا يجب أن نتفق معه على عبثية البحث في أصول
المفهوم، أو تاريخ ميلاد الله أو تاريخ نفي وجوده. نعم، لن تنتهي
الحاجة إلى الدين بشكل أو بآخر، ولكن ذلك لا يعني ألا نكشف مكونات
التركيبة السريَّة التي سجرت العالم، كما لا يعني أن نقبل الشرور
التي تتم باسم الله، ونتعايش معها، أو أن نؤمن بشرٍّ مطلق. لا شر
مطلق وُجد في العالم، لا خير مطلق.
(٢٢٣) الثابت الوحيد في الدين هو غياب التجربة وعدم القابلية
للتبدُّل. لهذا السبب يبدو نفي اللاهوت أكثر قدرة على المناورة
واكتساب حقول جديدة، لكنه — بالطبع — سرعان ما يفقدها لأن دفاع
الدين ثابت لا تتغيَّر فيه سوى الأدوات. إن الثروة الرمزية التي
يمنح منها الدين دفاعاته تظل ثابتةً وهي تمنح المتديِّنين حقًّا
موروثًا وتؤهِّلهم لبسط سلطتهم وإعادة إنتاجها في أشكال اجتماعية
جديدة.
(٢٢٤) تنبع فكرة الأذى الإلهي في التصور الديني من أن الإنسان
حاملٌ بطبيعته للألم الذي لا يمكن التحرُّر منه، ومن أن المعصية من
الممكن أن تكون موجبة للعقاب في الدنيا، فضلًا عن الدينونة. الله
قادرٌ، وهو خير مطلق، ولكن الشر يوجدُ. وأيضًا: كلُّ أذًى مقدَّر،
ومن هنا فإن الإيمان بالقدر، خيره وشرِّه، السعادة (أو الطمأنينة)
والألم (أو الأذى)، جزءٌ من الإيمان بالله. إن طبيعة الأذى مبهمةٌ
في الديانات، فالعدل الإلهي يتحوَّل في الثيوديسيات إلى منطق
مجرَّد لا يخلو من مغالطة حول الشرط الإنساني. تمامًا كما حدث في
علم الكلام؛ في المحاجة الأولى، لأن الشرَّ نزوع طبيعي، وهو أصل
الخطيئة الأولى، فإن العقاب مضمرٌ، ولا سبيل للانعتاق دون الاقتداء
بتضحية الرب لاستقبال الموت والعبور كما ينبغي. وفي المحاجَّة
الثانية، لأن الشرَّ إثم أصلي متربِّص بالإنسان، فإن العقاب
الأخروي تطهر مؤلم لا ريب فيه، ولكنه لا ينفي الرحمة الواسعة.١٣١ الله هو سيد كل شيء، الخير والشر، ولكن يجري نفي
أوليَّة جوهر الشر، إذ ليس ثمة إنسان مجبول على هذا الجوهر، ولكي
يتماسك هذا الاعتقاد جرى خلق الشيطان في البدء قبل الإنساني، وبذلك
تأسَّس الصراع قبل الهبوط، أليست الثنويَّة مانوية بابلية بعينها؟
ولكن الهبوط استتباع للحرمان، لقد بُني الجدل الثيوديسي على أن
الشرور لا تنتهي: هل كان الحرمان خيرًا أم شرًّا؟ لنتذكر مفارقة
كيركجور: إذا لم يكن آدم يعرف شيئًا قبل أن يأكل من شجرة معرفة
الخير والشر، فكيف أدرك أن الأكل من تلك الشجرة شر يجب أن
يتجنَّبه؟ لنَعُد أيضًا — دون ملل — إلى معضلة يوثيبرو: أأمر الله
بالخير لأنه خير؟ أم إن الخير خير لأن الله أمر به؟ سوف يظل سؤال
أفلاطون هذا إلى الأبد لأن بناءه ليس سوى لعبة لغوية صفريَّة.
ملازمةُ الحرمان للإنسان كانت بسبب وضعه أمام إرادته. هل خُلقت
الإرادة ناقصةً لارتباطها بالحرمان؟ لا، لأن الإرادة المطلقة لا
تكون إلا الله ذاته. على مَن تقع تَبِعة الإثم إذن؟ لا تستطيع أن
تسأل عن الشرِّ هكذا، بل نحن نسأل عن إقدام شخص ما على فعل الشر،
فالشرُّ ليس أصلًا، وهو لا يوجد إلا كموضوع لإرادة الإنسان … إلخ.
إن البحث عن إجابة يتم دائمًا عبر الانفتاح على سؤال آخر، مدارًا
إثر مدار تتَّسع الدائرة التأويلية وتتابع الثيوديسيات، حيث تخرج
من الأجوبة أسئلة جديدة وفروض وأوضاع واحتمالات، حتى — كما يقول
نيتشه في «جنيالوجيا الأخلاق»: «يصير لدي في النهاية بلادٌ خاصَّة،
وأرضٌ لي؛ عالمٌ مصمتٌ، متنامٍ، مزدهر، وحدائق سريَّة على نحو ما
لم تخطر على قلب بشر». إن ما يتبقَّى هو لعبة صفريَّة تقترحها لغة
لا يصيبها الإعياء، لغة ذات قدرة على إنهاك التأمُّل الذي يراكم ما
يكفي من الأوهام والأخطاء، واحدًا إثر آخر.
(٢٢٥) بالدين أو بدونه، هناك دائمًا خير وشر. إلى ذلك فإن شرًّا
قد يصبح خيرًا إذا أمر به الدين، ولكنه لا يصبح كذلك برغبة الإنسان
وحده.
(٢٢٦) القابليَّة، التي يمكن وصفها بالفطريَّة، أو ما يُسميه
كانط: الأساس الأوَّل غير المكشوف، تعني أن الإنسان يحتفظ في
أعماقه بإمكانيات متناقضة: «حين نقول: الإنسان هو بالطبيعة خيِّر،
أو هو بالطبيعة شرير، فإن ذلك لا يعني سوى أنه ينطوي على أساس
أوَّل للقبول بمسلمات حسنة أو للقبول بمسلَّمات سيئة.»١٣٢ إن أشنع أنواعِ تمثل الشَّر، وفقًا لكانط، هو «أن
نتمثَّله بوصفه شيئًا وصل إلينا عبر الوراثة من آبائنا الأُول.»١٣٣ المتحسِّرون منذ زمن هوراس حتى الآن لا يكفُّون عن
التأكيد لأنفسهم على أن الأجداد هم الخيِّرون حقًّا، ثم الآباء وهم
أدنى قليلًا، ثم الأبناء وهم سيئون، ثم الأحفاد الذين سيكونون
الأسواء على الإطلاق. إننا غالبًا ما نرى الشرَّ من خلال
الإحداثيات التي تصنع الفعل، أي كحدثٍ نهتمُّ بما يترتَّب عنه من
آثار موجبة للمسئولية الأخلاقية، ونهمله كممكن، أو كقوة مسبقة
متداخلة مع الإرادة، موجبةٍ للمسئولية العقلية. هذا الوضع هو الذي
نخفيه عادةً وراء تشبثنا بالمساءلة القانونية وتفسير النوازع.
لنتذكر أيضًا حوار التوحيدي ومسكويه؛ سأل التوحيدي: «ما الذي حرَّك
الزنديق والدهري على الخير، وإيثار الجميل، وأداء الأمانة، ومواصلة
البر، ورحمة المبتلى، ومعونة الصريخ، ومغوثة الملتجئ إليه،
والشَّاكي بين يديه؟ هذا وهو لا يرجو ثوابًا، ولا ينتظر مآبًا، ولا
يخاف حسابًا.» أجاب ابن مسكويه: «للإنسان — بما هو إنسان — أفعال
وهِممٌ وسجايا وشيم قبل ورود الشرع، وله بداية في رأيه، وأوائل في
عقله لا يحتاج فيها إلى شرع، بل إنما تأتيه الشريعة بتأكيد ما
عنده، والتنبيه عليه»، و«كل مَن له نصيب من الإنسانية ففيه حركة
إلى الفضائل، وشوق إلى المحاسن، لا لشيء آخَر أكثر من الفضائل
والمحاسن التي يقتضيها العقل، وتُوجِبها الإنسانية»، ولكنه لا
يكتفي بهذا الشرط الإنساني، إذ لا بد له أن يؤكد مثل كل فيلسوف
مسلم، أصلَ الخير الإلهي الواحد: «ولولا أن الخالق تعالى واحدٌ
لَما تَساوَت هذه الحال بالنَّاس، ولا استجاب أحدٌ لمَن دعا إليها،
وحضَّ عليها إذا لم يجد في نفسه شاهدًا لها، ومصدِّقًا بها. ولعمري
إن هذا أوضح دليل على توحيد الله!»١٣٤
١٦
دعوة إلى التفكير في الحياة بمعزل عن صراع التأليه ونفي اللاهوت،
عودة إلى حيثيات نشأة الدين، تماهي النصوص المقدسة في لغة
الأساطير، الحرب من أجل تديين العالم والعكسن ميثولوجيا المستقبل،
العالم يتقلب ولن يتغير.
***
(٢٢٧) فَهم نشأة الدين يقتضي تتبُّع نشأة الأساطير في الشرق
الأدنى القديم، نحتاج هنا إلى الميثولوجيا الدينيَّة. فَهْم الدين
كممارسة اجتماعية يقتضي تحليل اضطرابات العصاب الوظيفية، نحتاج إلى
علمِ نفسٍ دينيٍّ تطبيقي. فَهْم السجلات التاريخية لا يمكن إنجازه
بغير الاستعانة بعمل المخيِّلة. إن البروسوبوغرافيا النبويَّة لا
تترك لنا من سِيَر الأنبياء الكبار سوى شذرات حكَميَّة والقليل من
الأحداث العابرة.
(٢٢٨) تتماهى النصوص المقدَّسة في لغة الأساطير، على هذا النحو
يؤمن المؤلِّه بعالم من الكائنات الخارقة والقوة غير المرئية
القادرة على كل شي وليس كمثلها شيء، وهي التي تخلق أو تبدل الخلق
متى شاءت، لا رادَّ لقضائها، الطوفان — مثلًا — هو تجديد عهد الإله
وإعادة الخلق كرَّةً ثانيةً، وهو يتكرَّر منذ أن تصوَّر الإنسانُ
العالمَ على هذا البناء الذي لا يختلف كثيرًا بين دين وآخَر، إنه
عهد الإله آنو، ثم يهوه، ثم الرب، ثم الله؛ في الأسطورة السومرية
(ثم البابلية): «إنَّا مرسلون طوفانًا مطرًا يُهلك البشر»، قال
زيوسودرا: «قضى ربي إنكي Enki أن
أصنع فُلكًا»، و«جعلتها ست طبقات تباعًا، قسمتها سبعًا، وكل قسمٍ
تسعًا، ثم أدخلتها أهلي وذويَّ وأنعام البريَّة ووحشها». ونقرأ في
العهد القديم: «في الشهر الثاني في اليوم السابع عشر من الشهر في
ذلك اليوم انفجرت كل ينابيع الغمر العظيم وانفتحت طاقات السماء.
وكان المطر على الأرض أربعين يومًا وأربعين ليلة» (تكوين، ٧،
١١-١٢). «أقيم ميثاقي معكم فلا ينقرض كل ذي جسد أيضًا بمياه
الطوفان، ولا يكون أيضًا طوفان ليخرب الأرض» (تكوين، ٩، ١١). وفي
العهد الجديد: «وكما كانت أيام نوح كذلك يكون أيضًا مجيء ابن
الإنسان. لأنه كما كانوا في الأيام التي قبل الطوفان يأكلون
ويشربون ويتزوجون ويزوجون إلى اليوم الذي دخل فيه نوح الفلك، ولم
يعلموا حتى جاء الطوفان وأخذ الجميع. كذلك يكون أيضًا مجيء ابن
الإنسان» (متى، ٢٤، ٣٧-٣٨-٣٩). وفي القرآن: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا
احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ
إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا
آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (هود، ٤٠)، فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ
الْبَاقِينَ (الشعراء، ١١٩-١٢٠). ولكن اللغة الأسطورية
الدينية، لغة اللاهوت، لا تكتفي مثل الأساطير بأزمنة بائدة أو
متخيَّلة بل تستوعب التاريخ وتعيد إنتاج الماضي وتعرضه كأدلة
وقرائن صلبة لا يتطرَّق إليه الشك تبرهن على كلمة الله. المفارقة
التي تصنعها هذه الآلية هي محاولة إثبات المطلق عن طريق النسبي،
والخالد عن طريق الفاني، والإلهي عن طريق البشري. قد لا يعيد
التاريخ نفسه، ولكن الدين مبنيٌّ على هذا الأساس بالذات: العود
الأبدي (كأن الزمان يعود إلى أوله).
(٢٢٩) منذ نهاية العصر الجليدي الأخير صنعت الدورات الحضارية
الكبرى مثل: السومرية-الأكدية، الكونفوشيوسية-البوذية،
اليونانية-الرومانية، اليهودية-المسيحية، العربية-الإسلامية،
عصورًا دينيَّة متواصلة تبادلت الأقانيم العقدية وبدَّلتها
وطوَّرتها، وبعد ما يمكن أن نسميه الدورة الحضارية التوحيدية التي
ما زالت تتكرَّر أطيافها في المسيحية والإسلام لألفيات ثلاث، يحدث
أن تتحرك الصفائح التكتونيَّة الكبرى والصغرى لتُعيد تشكيل وجه
الله المعبود. إن أفضل ما يمكن أن يقوم به البشر الآن هو تفكيك هذه
المنظومة وإتاحة مجال أوسع — معترف به ولكنه لن يكون الوحيد — أمام
نفي اللاهوت. إن هذا الفعل الإنساني الذي ظلَّ مجنبًا ومنبوذًا قد
راكم تراثًا عظيمًا من الشكِّ وإعادة القراءة وأصبح لديه من
المعطيات ما يمنحه القوة لأن يُوجَد بشكلٍ مستقلٍّ.
(٢٣٠) كان الوجود في الأدبيات السومرية سؤالًا عن الميلاد والموت
وترويض الطبيعة، وفي اليونان تركَّز فهم الحياة في سؤال العقل
وإدارة المدينة، ثم انشغل اللاهوت الشرقي القديم بسؤال الدينونة
والمآل، وعاد ثانيةً، بطريقة مختلفة، إلى سؤال الموت. إن نفي
اللاهوت يعود بهذه الأقانيم الثلاثة (الوجود، العقل، المابعد) إلى
مفهوم واحد هو التاريخ حيث الإنسان هو تجسيد الإرادة الوحيد في
الكون.
(٢٣١) يمكننا دائمًا تتبع النقلات الدرامية في سرديات نشأة
الأديان وتطورها وسير الأنبياء والموالين، تمامًا كما هو الحال في
تتبع تحولات البنية السردية في الأسطورة. إن أساطير الآلهة
السومرية والبابلية، ثم اليونانية والرومانية، تتكرر بهذا الشكل أو
ذاك فيما يُعتقد أنه تاريخ نشأة اليهودية والمسيحية
والإسلام.
(٢٣٢) الحرب من أجل تديين العالم ستظل مستعرة، إلى أن يدرك الدين
أنه قد انتهى فعلًا. أعني الاحتمالَين معًا، أن يُدرك الدين أنه
أنهى مهمَّتَه، وهذه مسألة مستحيل إثباتها، أو أن يدرك أن دوره
انتهى فعلًا أي اكتملَ، وهذه مسألة مستحيلٌ إنكارها. النهايات سلبٌ
وكمال.
(٢٣٣) عصرنا ليس ملحدًا بعدُ، نفيُ اللاهوت لم ينتصر، ولكنه
يُوجَد. إن ما شهده الإلحاد في النصف الثاني من القرن العشرين، بدأ
يفقده بشكل متسارع في النصف الأول من القرن الحادي والعشرين، لكن
مثل هذه الجولات متناوبة بين الطرفين، لا يموت الذئب ولا تفنى
الغنم، وإذا كنَّا نصف مئويين ونعد بالخمسين يمكننا أن نتابع هذا
التشابك المثير، أو فلنترك حصاد النهائيات إلى كل مئة، كما يفضِّل
المسلمون أن يفعلوا، أو إلى كل ألفيَّة كما يفضِّل المسيحيون،
ولنكتفي بتأريخ الحوليات العظيمة. إن الضربات الأصولية المتتالية
التي تحاول الإجهاز على الإلحاد تجد صداها في مسارح مختلفة. في
الإسلام يظل المسرح المفضَّل دائمًا هو السياسة، بما تعنيه من سوس
الجموع والتحكم في المجتمعات، وفي المسيحية فإن الإلحاد بالتضامن
مع العلمانية يحوِّل الصراع إلى انشغالات برغماتية حول مسائل يومية
مثل الإجهاض والمثلية، وانشغالات أخرى ليست أقل سفسطائية مثل صراع
الكاثوليكية ضد البروتستانتية، وفي اليهودية فإن المسرح يبدو
جيوسياسيًّا طالما أن «الوعد الإلهي» ما زال في حاجة إلى الدفاع عن
الأرض وكسب المزيد من ممتلكات الأغيار واستقطاب عقولهم. مثل
المؤلِّهين تمامًا يبدو الملحدون شديدي الرأفة، وهم جميعًا يدَّعون
الحقيقة المطلقة. لكننا خارج هذه الصورة الكبرى في رسم مساريِّ
الجدل، يمكننا تركيز النظر على تفاصيل صغيرة، ولكنها تحدث، حسنًا،
إن انتصار الملحد غير المعلن عنه يجد صداه في مسارح أخرى: الفلسفة،
التفكير الحر، الأدب، السينما ومختلف فضاءات الترفيه الثقافي.١٣٥ يستطيع غير المهتمين بتسلسل الجدل العنيف الصامت أن
يواصلوا ادِّعاء الطمأنينة، فهم لا يرون إلا الصخب، ولكن ذلك لا
ينفي أن المسار العام قد تكشف منذ زمن ليس قصيرًا عن رغبة مفرطة في
الإعلان عن تحقيق الذات مهما كان الثمن. هنا أعتقد أن الأسوياء
يمكنهم الاكتفاء بالمشاهدة في انتظار «ميثولوجيا المستقبل».
(٢٣٤) القضية منذ الآن فصاعدًا هي «مسرحة» الحرب بين التأليه
ونفي اللاهوت، المؤله والملحد، الديني والعلماني، الثيو
Theo والديمو
Demo. إنها ليست حربًا محدودة
تنتهي بنصر أو هزيمة، هي حرب دائمة يترامى فيها الطرفان بقذائف
متشابهة ويحرص كل منهما على الاستفادة من مساحة ما بعد الصدمة التي
يظن أنه أوقع فيها خصمه، معتقدًا أن البشر ينتظرون متلهفين مشهد
النهاية. مسرحة الحرب هي أفضل الطرق لفهم حبكة التشابك الدورية
التي ينتهي إليها أحد الطرفين كأنه استُهلكَ تمامًا، قبل أن ينهض
مجدَّدًا كأنه خُلق للتو، تلك هي القضية، لا العودة إلى المصادر
Ad fontes، وادعاء العثور على
منابع التعقد. باسكال مرَّة أخرى: «ها هي الحرب معلنة بين البشر
بحيث يتعيَّن على كلٍّ منهم أن يعقد النية حتمًا إما إلى أهل
المعتقد وإما إلى المشككين، لأن مَن ظن بإمكان بقائه على الحياد
فهو بحكم حياده متشكِّك.»١٣٦ وهولدرلين أيضًا في دور الحالم الذي ينتظر ظهور ديانة
جديدة تخاطب القلب والعقل، وتلبي حاجة الجمهور والفيلسوف في آنٍ
واحدٍ: «هاكم ما نحن بحاجة إليه، وسوف أتكلم هنا عن فكرة لم تخطر
على حدِّ علمي، ببال أحد من الناس … ينبغي أن نمتلك ميثولوجيا
جديدة، لكن هذه الميثولوجيا يجب أن تكون في خدمة الأفكار، يجب أن
تصبح ميثولوجيا للعقل.»١٣٧ لكن هولدرلين لم يجازف مثل هوميروس وهزيود باقتراح
بانثيون محددًا. سيكون انتظارًا طويلًا. إن الطرفين يتنازعان
فضاءَين واسعين، أبرز ممثِّلي الأول منهما ثلاثة أبطال لا يتوقفون
عن التجاذب والتنافر؛ يهودي يتمايل ويهتز عند حائط المَبْكى، وهو
يرمق مسيحيًّا يجثو عند المَقدَس، وهذا ينظر شزرًا إلى مسلم يسجد
ميمِّمًا صوبَ مكة، ولكنهم جميعًا يتضامنون سرًّا أو علنًا كلما
أمكن ذلك ضد نظرائهم في الفضاء المقابل الذي يتوزَّع بين أبطال
كُثر: مفكرون أحرار، علمانيون، ملحدون، غنوصيون، إنسانيون،
مشكِّكون، هراطقة، زنادقة … إلخ. ما يمتاز به هؤلاء أنهم أقل
تنافرًا من نظرائهم أبطال الفضاء الأول فهم لا يأبهون ماذا تكون
قدر ما يعنيهم ماذا تفعل!
(٢٣٥) «من فم الله» كما تقول التوراة، هي كلمات الكتب المقدَّسة،
قال روسو: «بما أن الخالق تواضعَ إلى حدِّ مخاطبة البشر، فما باله
يحتاج إلى ترجمة؟»١٣٨ وسواء بالنسبة إلى التوراة أو الإنجيل أو القرآن فإننا
نعثر على أساليب أدبية متنوعة نستطيع تمييزها بخصائص مختلفة.
تعدَّدَ الكتبةُ عبر الأزمنة، ولم يَعُد شكٌّ في أن مؤرخين رواة،
ومشرِّعين، وحكَّائين، وآخرين تناقلوا حِكمَ التراث الشفوية
وحكايات الآباء وجعلوها منها دروسًا مستفادة وعبرًا تروى فدوَّنوها
عبر أجيال متعدِّدة دون أن يتذكر أو يذكر أحد مَن أنشأها ومتى، أما
اضطرابات الكتب المقدسة وتناقضاتها فقد أصبحت مقبولةً تمامًا؛ ليس
من المهم الانخراط في حفريَّات نصيَّة لإثبات صحتها التاريخية من
عدمها، ولا يشترط تعلُّمها والإيمان بها دقَّةً وثائقية لإثبات
أصالتها. الحكمة لا زمن لها، والكتب المقدَّسة جزء من صوت الخلود
الذي نكتفي به لأننا في حاجة إليه في جميع الأزمنة. لم يعد الدحض
(ولا الدفاع) ذو اللغة اليقينية الحاسمة مبرَّرًا. إن المؤلِّهين
والملحدين يلتقون، وهم سواءٌ في عدم حاجتنا إليهم.
(٢٣٦) أيها المؤلِّهون، دعوا الحياة جانبًا واهتموا بترقية صورة
الله، إن الحياة ليست مسرحًا للغيبيَّات الأزلية. أيها الملحدون،
دعوا الدين جانبًا واهتموا بترقية صورة العالم، إن الدين ليس
مسرحًا للتجربة.
(٢٣٧) لا تصر اليهودية على تفعيل عوامل الانتشار، وهي تكتفي
برصيدها الأممي دون القيام بمراجعة فعلية لإحداثيات ومراحل تكوُّن
هذا الرصيد. المسيحية التي أصبحت دينًا عالميًّا بعد مرور تاريخ
طويل على نشأتها كانت قد تطوَّرت تدريجيًّا بفعل عوامل خارجية
(الكثلكة لغويًّا هي الكونَنة)، وبفعل عوامل داخلية (نشأة تيارات
كبيرة داخلها كالبروتستانتية وانتشارها قاريًّا). الإسلام بدوره
يبدو مقبلًا على مرحلة جديدة (لم يتوقف هذا الدين عبر التاريخ عن
التطور والتغير المتناوب بين الانفتاح والتحجُّر)، وهو يتشكَّل
بالاستجابة لشروط مختلفة، وتحت تأثير إحداثيات متغيرة، الأمر الذي
سينتج آخر الأمر طبعة جديدة منه تكون مقبولةً أكثر لدى الأغيار.
الإسلام الجديد سيتخلص من عقدة «نَسْخ الأديان» والرغبة في تملُّك
العالم، وسوف يتجنَّب الفوهات السوداء مثل كتب البخاري ومسلم
وغيرهما، كما تجنبت المسيحية كتب القديس أوغسطين وتوما الأكويني.
وسوف يكون آخر الأمر أكثر انفتاحًا وإنسانيةً. هكذا سوف يمضي
ويتجدَّد. بعد ذلك ليس هناك مفر من أن يتحدث المؤلِّهون أنفسهم
يومًا ما عن شيخوخة فكرة الله، عن موتها، وعن الحاجة إلى تدويرها
وإعادة إنتاجها.
(٢٣٨) يواصل الدين شيئًا فشيئًا تحوُّله ليأخذ في المستقبل شكلًا
فرديًّا خالصًا. إن البشر لا يستطيعون بطبعهم التخلِّي عن المعتقد
الديني كضرورة رجوية، ولكن من الواضح أن أداء الطقوس والمشاركة
فيها ينخفض تدريجيًّا في كل مكان مع زيادة التعقد الاجتماعي،
وبانخفاض وتيرة التديُّن التقليدية تفقد المؤسسة الأكليروسية
نفوذها لتصبح أشبه بالنوادي الخاصة التي تتيح لأعضائها قدرًا
معيَّنًا من الاتفاق والارتياح لرؤية مشتركة حول الوجود
والحياة.
(٢٣٩) صار نفي اللاهوت في بعض أشكاله موقفًا عقائديًّا، مثل
التأليه تمامًا. أليست العقيدة في جانب منها هي أن يؤمن المرء بما
لا يعرف وما لا يُثبت؟ ألا يفتقد نفي اللاهوت أيضًا إلى أدلَّة
واضحة؟ إن عجز المؤلِّهين يفسح المجال أمام المزيد من الإلحاد،
وعجز الملحدين يفسح المجال أمام المزيد من التأليه، وفي هذه الحرب
العُوار تنشأ منطقة وسطى شاسعة يصنعها أولئك الذين لا يدَّعون أكثر
من حدودهم الإنسانية. يمكنك أن ترى اللاهوت ونفي اللاهوت يتشاركان
مبدأ الواحدية Monism، يتبادلان
الآليات والاستراتيجيات، يتحاكيان ويتآثران، ويتغاضيان عن لعبة
«الإثبات بالنفي» الضرورية لكليهما. كل منهما يتعاطف مع تقنيات
الآخر وهو يقاومها ويتصدَّى لها. إنهما توءم على كل حال، ومن
الحصافة أن تختار بمعزل عنهما. ترتاح وتستفيد كثيرًا إذا أزحتهما
جانبًا وصنعت سويَّتكَ بيديك.
(٢٤٠) ميثولوجيا المستقبل تتخلق شيئًا فشيئًا، وفي الأثناء
تتمدَّد الحدود والمفاهيم في منطقةٍ وُسطى، ينصهر الكائن المفارق،
الجوهر الكلي، المونوس أو الموناد الأول، مبدأ الوجود، واجب
الوجود، الوجود السابق على الكون، الما قبل، الأزل، الكون الذي لا
يقبل الفساد، وأخيرًا المفردة، في مفهوم واحدٍ مرن. آنذاك سوف يصبح
الله والشيطان، الخير والشر، الكون والفساد، الوجود والوجود
الموازي، المادة والمادة المضادة، الطاقة والطاقة الصفرية، الجوهر
والصيرورة، الثبات والدُّوَلة … إلى آخر الثنائيات المتقابلة،
ترديدًا ذهنيًّا دائمًا يستجيب لمختلف الأحداثيات الإنسانية
المحدودة التي تتطوَّر مع الزمن، متخلِّصًا من ألعاب اللغة
الصفرية، مبتكرًا في الآن ذاته منطقه الخاص، غير القوي، ولكن
الطبيعي، غير الملزِم، ولكن المفضَّل. منطقٌ ديدنه المسامتة لا
التعارض، والبحث لا التمكُّن. منطقٌ غير يقيني، منفتحٌ على
الممكنات، وناقصٌ كما يجب أن تكون الحياة.
(٢٤١) العالم لا يتغير، بل يتقلَّب، نحن الذين نتغيَّر. إنه ليس
العالم، بل كيف نراه، وكيف ننخرط في نظام زمني جديد يعيد ترتيب
أولويات الحضارة مع كل قضية عامة تأخذ طابعًا كونيًّا. مع هذه
الكوننة تتغيَّر أنظمة الحقيقة، وقد وضعتنا التجارب على مرِّ
العصور في خضم صراعٍ بين الوهم والحقيقة تجلَّت عنه تحولات الحياة
الإنسانية، وصار التسليم بالحقيقة مشروطًا بقابليته ترتيبَ العلاقة
بالأشياء والمحيط، وبدرجة أولى فهم الآخَر وتحيين التداول
والاستجابة الليِّنة للزمن، وهي تحوُّلات أنتجت خلاصةً، تستثنيها
أو تهملها أدبيات اللاهوت ونفي اللاهوت معًا، تقول: «لا حقيقةَ
مطلقة بعدُ، ولا نملك إلَّا أنْ نتعايشَ مع ذلك.»
١
شفرة (أو نصل) أوكام Occam’s
razor: مبدأ في التحليل والاستنتاج
مفاده أن أبسط الطُّرق هو أصوبها. يُنسب إلى الفيلسوف
الثيولوجي وليام الأوكامي.
٢٤
«الشهادة» مفهوم حديث في الثقافة العربية، أما في التراث
العربي الديني (الإسلامي) فلا نعثر على صفة «شهيد» أو
التعبير «مات شهيدًا» أو «استشهد» بمعنى التضحية
والفداء.
٢٦
تجيب الأديان بطريقة سهلة وقطعيَّة عن سؤال الخلق: البشر
هم طين شكَّلته الآلهة التي هبطت من السماء في المعتقدات
السومرية والأكدية «سوف نصنعهم شَبَه الآلهة»، ثم اليهودية
والمسيحية والإسلام، وهم منيُّ الله في المعتقد المصري
القديم، ودموعه أحيانًا، وهم قيء الله في معتقد شعب
البوشونغو Boshongo،
الإفريقي، أما الإنسان المخلوق من الطين في معتقدات شعب
المايا فكان تجربة فاشلة لذا قرَّرت الآلهة صنعه من الخشب،
وفشلت هذه التجربة أيضًا فصنعته أخيرًا من الذَّرة، وفي
عقائد ألاسكا هبط رجل وامرأة من السماء، ثم نحَتَ الرجل
عاجًا في خمس صور فصارت خمسة أبناء أقوياء ونحت خشبًا في
خمس صور فصارت خمس بنات ليِّنات.
٢٧
انظر التأكيد الموجود في كتابي «ما قبل اللغة» أن خلق
المرأة من ضلع آدم لم يكُن سوى خطأ لغوي ارتكبه الشرَّاح
اليهود نقلًا عن اللغة السومرية، عندما استشكلت عليهم كلمة
تِ ti التي تفيد معنيي:
ضلع وحياة.
٣٢
تخصص التوراة العدد ١٢ لأسباط بني إسرائيل (هؤلاء هم
أسباط إسرائيل الاثنا عشر)، ويؤكِّد القرآن ذلك وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ
أَسْبَاطًا أُمَمًا، كما تجعله عدد قبائل بني
إسماعيل (هؤلاء هم بنو إسماعيل … اثنا عشر رئيسًا حسب
قبائلهم)، ويخصصه العهد الجديد لحواريي المسيح الاثني
عشر.
٣٣
رسم توما الأكويني (١٢٢٥–١٢٧٤م) قديسًا ولُقِّب بالدكتور
الملائكي وراعي المدارس الكاثوليكية. كان أرسطيًّا في أهم
مؤلفاته مثل «الخلاصة اللاهوتية» و«خلاصة الرد على
الكفَّار والأمم»، وتأثر بشروح ابن سينا وابن رشد وابن
ميمون لأرسطو.
٣٤
ترجمه من اللاتينية إلى العربية الخوري بولس عوَّاد،
كاتب أسرار القصادة الرسوليَّة في سوريا، ونُشر سنة ١٨٨١م،
وبادر البابا لاون (ليو) الثالث عشر Leo
XIII إلى منحه بركةً فكتب إليه:
«عربونًا للنعم السماوية نمنحك من صميم الفؤاد أيها الابن
الحبيب البركةَ الرسوليَّة.» ويؤرِّخ لهذه الهبة قائلًا:
«في روما بقرب القديس بطرس في ٢٥ نوفمبر سنة ١٨٨٧م وهي
السنة العاشرة لحبريتنا.»
٣٧
يُعتبر القديس Albertus
Magnus أول لاهوتي في القرون الوسطى
طبَّق فلسفة أرسطو في الفكر المسيحي. لُقِّب دكتور
الكنيسة، وهو مكتشف عنصر الزرنيخ، وكان يدعو للتوفيق بين
العلم والدين. أصبح قبره مزارًا لطلب الشفاء.
٣٨
بدأت جامعة باريس سنة ١٢٥٥م حمايةَ الفكر الأرسطي، وابن
رشد ضمنًا، من هجوم الكنيسة.
٤٠
نشأ علم الكلام تعريبًا لكلمة لوغوس، مستعيرًا أدوات
المنطق؛ للبرهنة على ما لا يمكن إثباته أو نفيه، وابتكر
سلسلة من القضايا تنحو إلى افتراض «فلسفة دينية» باستعارة
مفاهيم الفلسفة اليونانية وأدواتها، وإعادة صوغها في قالب
إسلامي.
٤٢
بدوي، فلسفة العصور، (١٤١–١٤٥). ويعلِّق بدوي بعد ذلك
على هذا البرهان قائلًا (ص١٤٦): هو أهم البراهين [في نظر
توما] من حيث إنه استطاع عن طريق هذا البرهان أن يستنتج
أهم صفات الله: البساطة، والفعل المحض، والثبات. كل هذه
الصفات تُستنتَج مباشرةً من كون الله محرِّكًا أول. فهو
فعل محض لأنه محرِّك أول، وبالتالي لا توجد فيه قوة، وإلا
لما وُجِد شي أو لَمَا كان شيءٌ موجودًا، وإذا كان فعلًا
محضًا فهو بسيط؛ لأن مبدأ التركيب إنما يأتي عن وجود القوة
أو الهيولى. وهو ثابت لأن التغيُّر ينشأ عن وجود القوة،
فما هو عارٍ عن القوة غير قابل للتغير. وبهذا كله تُستنتَج
صفات الله الرئيسية من كونه محرِّكًا. ومن هنا كانت
الأهمية الكبرى التي جعلها توما لهذا البرهان، وهذا ما
بيَّنَه بوضوح في رسالته «موجز اللاهوت
Compendium
Theolgiae».
٦٧
دور المرأة بوصفها سببًا بدئيًّا في شقاء الإنسان، هو
دور متشابه الدلالة بين الأساطير والنصوص المذكورة، أما
إذا عُدنا إلى أسطورة آدم وحواء التوراتية التي تكرَّرَت
بعد ذلك في العهد الجديد والقرآن فإننا نجد لها عدة أصول
سومرية أهمهما بحث غلغامش عن نبتة (أو ثمرة) الخلود وكيف
نالتها حيَّة بدلًا عنه، وكذلك أسطورة أدبا (= آدم) الذي
لم يقيض له الأكل من طعام الآلهة فيصبح خالدًا، وأسطورة
خلق الإلهة ننتي Nin-ti،
أي سيدة الضلع، ويعني اسمها أيضًا سيدة الحياة (أو حواء)
وقد اعتمد كتبة التوراة على هذين المعنيين ليصنعوا أسطورة
خلق حواء.
٧١
ثمَّة دلالة مُغيَّبة في كون الإسلام دينًا متصلًا في
ثلاث حلقات أو دوائر تاريخية، هذا ما يكرِّره القرآن
مرارًا، حيث الدين نُسَخٌ عَدَدٌ بتعداد عصور الأنبياء،
فلا نقرأ عن أحد من الأنبياء إلا ورأينا صفة الإسلام
تلحقه، فالموسويون مسلمون، والعيسويون مسلمون، والمحمديون
مسلمون، وهم جميعًا على دين إبراهيم. إبراهيم وذريته من
أمة الشرق اتخذوا الإسلام دينًا، وواصل أبناؤه دعوته بشكل
أو بآخَر … ذلك دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إذ وصى يعقوب
بنيه، وعيسى، ثم الأميون أي العرب الذين ألحقهم محمد بأهل
الكتاب عن طريق القرآن. هكذا يستطيع الموسوي أن يكون
عيسويًّا أو محمديًّا، كما يستطيع هذان أن يكونا موسويين،
دون أن يرتدَّ المرء، بل هو يختار من الثالوث الإبراهيمي.
وكما ذكرت في مداخلة سابقة فإننا لا نعرف أن قومًا شاطروا
العرب كتابَ الله غير اليهود الذين تكلَّموا لسان كنعان،
ثم لسان آرام. وإذا لم نخصِّص كلمة «الزَّبور» لدورةٍ
مستقلَّةٍ يمكننا أن نجعلها دالَّة على التوراة والإنجيل
والقرآن جميعًا. مثل هذه الدلالات كفيلة بإعادة أقلمة
الأديان و«تجريد العقيدة» من هرطقة اللاهوت، بَيْد أنها لا
تصمد واقعيًّا أمام «السياسات الدينية».
٧٢
في ١٤٩٩م مع تهجير المسلمين من إسبانيا، ومنح صلاحيات
كاملة باسم الرب لمحاكم التفتيش، أصبحت أوروبا خالية من
المسلمين، سوى من قبل التعميد مختارًا، أما لإخلائها من
اليهود — وهو ما كان إيزابيلا وفرديناند يسعيان إليه
بإصدار مرسومهما الشهير — فقد رُحِّل ثمانون ألفًا منهم
إلى البرتغال، وعبرَ العدوةَ خمسون ألفًا إلى شواطئ
المغرب، ليصبحوا سفارديم، وفضَّل آخرون أن يبقوا في
الأندلس وأن يسترضوا يهوه في الوقت نفسه فأخفوا يهوديتهم
وأعلنوا تنصَّرهم. انتهت خمسمائة عام من تعايُش الأديان
الثلاثة، واشتدَّ فرزٌ تأليهي مقدَّس لم يُبقِ سوى على وجه
واحد من صورة الإله المثلَّثة.
٧٣
من الأمثلة: حرقَ المسلمون كتب ابن رشد بعد أن اتهمه
الخليفة بالكفر. وفي مثال مشهور يقول ابن خلدون «إن
المسلمين لما افتتحوا بلاد فارس وأصابوا من كتبهم وصحائف
علومهم، كتبَ سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب ليستأذنه
في شأنها وتلقينها للمسلمين، فكتبَ إليه عمر أن اطرحوها في
الماء فإن يكُن ما فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منه، وإن
يكُن ضلالًا فقد كفانا الله، فطرحوها في الماء أو في
النار، وذهبت علوم الفرس فيها عن أن تصل إلينا» (ابن خلدون
ج٢، ٢٤٩-٢٥٠). هذا المثال يُشبه تمامًا حَرْق المسيحيين
الإسبان مخطوطات حضارة المايا. الديانتان تتفقان في محو كل
أثر لا يخضع للعقيدة. من أمثلة الانشقاقات التاريخية وهي
كثيرة حَرْق الكنيسة بأمرٍ من الإمبراطور قسطنطين الأول
كُتُب الأريوسيين (الإريسين). أُحيلُ هنا إلى عبارة ذكرها
أونفري (٢٥٧): «الاستمتاع المسيحي بحرق الكتب منذ بداية
الدولة الشمولية المسيحية (القرن الرابع) وحتى خلق فهرس
الكتب المحرمة الذي لم يُلغَ أبدًا.»
٧٤
من الممتع التفكير مع ميشيل أنفري (نفي اللاهوت، ٩٦) في
هذه المسألة: «حين نتأمل الأحاديث التي ترخِّص بتطهير
القدم من فوق الخف، وحين يتم التصريح بأن العملية ممكنة
حتى مع الاحتفاظ بالجوارب، فمن المؤكَّد أن لله أسبابًا
أخرى غير أسباب النظافة الصحية الخالصة!» ربما لا تفسير
لذلك سوى الإمعان في تطبيق قانون الإيمان والإلزام به وإنْ
في الضرورات التي تبيح المحظورات. ليست النظافة بالتأكيد
هي الغاية، إن المتدين يستطيع باسم الإيمان أن يقنع نفسه
بكل شيء، من التأفُّف الأرستقراطي إلى تقديس القذارة
(سأذكر هذه الأمثلة: شنَّت الكنيسة حربًا ضد الغُسل
والاستحمام لأنه جسدي وشهواني يذكِّر المتدينين بعادات
الوثنيين. طائفة من المسلمين يشربون بول البعير ويتطهرون
به، وعامتهم يلعقون لُعاب المباركين الذي يرشونه عليه.
الهندوس يغتسلون ببول البقر ويتطهرون بروثه. في التيبت
يأخذون غائط اللاما ويجعلون منه تمائم يعلِّقونها على
صدورهم).
٧٦
بدوي، من تاريخ الإلحاد، ٢٢٧. وكان جابر بن حيان «يريد
من وراء «علم التكوين» — كما يسميه — أن «يكوِّن» أي يخلق
بالصناعة أنواعًا من الكائنات تنتسب إلى الممالك الطبيعية
الثلاث، وخصوصًا المملكة الحيوانية. فإذا كان بوسع
الكيمياء أن تستنبط مواد جديدة بتركيب الأجسام بعضها مع
بعض، فلِمَ لا تقوم أيضًا بإنتاج النبات والحيوان، بل بخلق
الإنسان الصناعي؟» بدوي، ٢٢٧-٢٢٦.
٧٧
تتبعتُ هذه الإحالات في كتابي «فتنة الورَّاق، نقد الفكر
الديني في القرن الثالث الهجري» (٢٠١٣م).
٨٧
أو علم أصول الدين، علم العقيدة، علم التوحيد، أو «الفقه
الأكبر» وفقًا لتسمية ابتكرها أبو حذيفة النعمان (ت٧٦٧م)
ويعني أحكام الاعتقاد تمييزًا لها عن أحكام التعبد في
الفقه العام.
٨٨
من النادر وجود فيلسوف إسلامي ملحد فعلًا (بغض النظر عن
متناقضة العقل والنقل)، توجد شكوك إلحادية النزعة أنتجت
عبر التاريخ الإسلامي «مفكرين أحرارًا» لم ينكروا وجود
الله ولكنهم عبروا عن استيائهم بشكل مباشر أو غير مباشر من
الأوهام والخرافات التي تمثل تصورًا دينيًّا كونيًّا،
ورفضوا سيطرة الفقه ومصادراته، وواجهوا الفقهاء الذين
كانوا يتحدثون باسم الله.
٨٩
بالمثل، نجد في المسيحية كما يقول أونفري (٤٤) أن
«الأبيقورية عند أيراسم أو مونتيني، والمسيحية الشَّكيَّة
عند بيين شارون، والنزعة الإلهية الفلسفية عند
البروتستانتي بايل وعند الأنجليكاني هوبس، تجعل أصحابها
يعتبرون كفارًا، ولكنه نعت غير مناسب، فهم بالفعل مؤمنون
مبتدعون ومفكرون أحرار، ولكنهم مسيحيون.»
٩٠
أقدَمُ كتب السيرة ثلاثة، دوَّنها ابن إسحاق
(ت١٥١ﻫ–٧٦٩م)، ثم الواقدي (ت٢٠٧ﻫ–٨٢٣م)، ثم ابن سعد
(ت٢٣٠ﻫ–٨٤٤م)، غير أن أول مَن تتبَّع جمع القرآن كان ابن
سعد في كتابه «الطبقات».
١٠١
يتساءل طرابيشي (مصائر الفلسفة، ٦٦): «هل نبالغ إذا قلنا
إن العقيدة القويمة والمسننة لمسيحية القرون الأولى قتلت
الفلسفة مرَّتَين: أولًا باجتتاثها الفلسفة اليونانية من
أرومتها، وثانيًا بحُئولها دون ازدراع فلسفة مسيحية وريثة
أو بديلة»، ثم يضيف (٨٢): «إن الأسباب التاريخية التي ماتت
بها الفلسفة في الإسلام هي عَيْنُها الأسباب التي أدَّت في
مسيحية القرون الأولى إلى دفن الفلسفة اليونانية وحالت دون
مولد فلسفة مسيحية، فما قتل الفلسفة مرتين في مسيحية
القرون الأولى قتلها للمرة الثالثة في إسلام القرون
المتأخرة: تسنين العقيدة القويمة.» ليس من المهم التساؤل
عن ماهية تلك «الفلسفة المسيحية الوريثة أو البديلة» التي
حالت الأرثوذوكسية دون «ازدراعها»، فأي فلسفة مصدرها الدين
لن تكون سوى لاهوت يدَّعي الفلسفة، ولكن من المؤكَّد أن
الجميع يتفقون معه على أن الأرثوذوكسية قتلت الفلسفة
ودفنتها في المسيحية والإسلام. لقد بدأت الأرثوذوكسية
بأحمد بن حنبل (٢٤١–٢٩٠ﻫ) وبلغت أوجها مع ابن تيمية
(٦٦١–٧٢٨ﻫ) الذي لُقِّب بمجدِّد الحنبلية في القرن الثامن،
وأنزل الفلاسفة منزلة أعداء الإسلام حكمهم حكم الزنادقة
والملاحدة والكفار، يُستتابون ثم يُقتلون وإن تابوا. انظر
أيضًا: طرابيشي، مصائر الفلسفة، ٨٢.
١٠٥
تسمية ابتكرها الفلكي فريد هويل Fred
Hoyle (١٩١٥–٢٠٠١م) بطريقة ساخرة عام
١٩٤٩م. يقول ستيفن هوكينغ (التصميم العظيم، ١٥٨): «يمكن
التفكير في صورة الانفجار الكبير كوصف يصلح للأزمنة
المبكرة، ومن الخطأ أخذ الانفجار الكبير حرفيًّا، كما أنه
لا يجب التفكير في نظرية أينشتاين باعتبارها تُعطينا
الصورة الحقيقية عن نشأة الكون، لأن النسبية العامة تتنبأ
بوجود نقطة في الزمن تكون فيها درجة الحرارة وكثافة الكون
وانحناؤه لا نهائيات، في حالة تُسمى رياضيًّا «المفردة».
بالنسبة لعالم الفيزياء فإن هذه يعني أن نظرية أينشتاين
تتحطَّم عند تلك النقطة ولهذا لا يمكن استخدامها للتنبؤ
بالكيفية التي بدأ بها الكون، ولكن فقط بطريقة تطوره فيما
بعد.»
١٠٧
بدأ الكون بحجم يُسمَّى حجم بلانك Plank
size، أي جزء من مليار تريليون ترليون
من سنتيمتر، لأنه يعتبر أقصر فترة زمنية أمكن قياسها، وهو
يساوي ٥٫٤ × ١٠-٤٤ ثانية، أي:
٠٫٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٥٤ ثانية.
١٠٨
أي بمعدَّل ١٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠مرة.
١٠٩
أي ٠٠٫٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠١ جزء من
الثانية.
١١١
جورج لومتر Georges
Lemaître (١٨٩٤–١٩٦٦م) كاهن كاثوليكي
وعالم فلك بلجيكي الأصل، ابتكر «افتراض الذرة الأولية»
الذي سُمِّي فيما بعد نظرية الانفجار العظيم لنشأة الكون،
وضمَّن هذا الافتراض بحثًا نشره عام ١٩٢٧م بعنوان «كون
متجانس ذو كتلة ثابتة ويتسع مسببًا دوران السدم خارج
المجرة». A homogeneous Universe of constant mass
and growing radius accounting for the radial
velocity of extragalactic
nebulae.
١١٢
في ١٩٦٤م تم اكتشاف الخلفية الإشعاعية للكون ويتطابق
طيفها مع الإشعاع الحراري للأجسام السوداء.
١١٣ Lambda-CDM model نموذج
للمادة المظلمة الباردة Cold Dark
Matter لمحاكاة وتفسير تمدُّد الكون
المستمر وتعيين معدلاته عن طريق فحص المستعرات الكونية في
المجرات البعيدة.
١١٧
مبدأ الريبة Uncertainty
principle أحد أهم المبادئ في نظرية
الكم Quantum، وهو ينعكس
على علم الفيزياء وجميع التوقعات المرتبطة بها ويسمها
بالقصور عن التحديد. كل ما نستطيع القيام به هو التغاضي عن
الفروق الضئيلة لكي تستمر الملاحظة وتحقيق النتائج،
فالتوقعات تتحقق وإن كانت بهذا القدر أو ذاك من عدم
التحديد.
١٢١
تبدو التيارات الأصولية المسيحية والإسلامية أكثر
استجابة لمفهوم العولمة لأنها تتمثَّل كيانًا عالميًّا
يتجاوز الهويات الثقافية والقومية. الكاثوليكية حرفيًّا هي
الكونيَّة (الشكل الديني للتوسع الإمبراطوري الروماني)،
المثال الإسلامي المقابل هو الإخوان المسلمون وهو تنظيم
سُنِّي تأسَّس في ظل الإمبراطورية البريطانية، وما زالت
بريطانيا هي حليفه الأول أو الراعي الرسمي له حتى هذا
الوقت، لأنه في العمق يمثِّل صدًى دينيًّا للتوسع
الإمبراطوري العابر للقوميات، وهو يعتبر نفسه جزءًا من
التراث الثقافي البريطاني.
١٢٣
بغض النظر عن التأطيرات الميتافيزيقية يمكننا من الناحية
الواقعية تفسير «يهودية الدولة» بأنه قانون إسرائيلي يعتمد
على سلب حق الانتخاب من مواطني إسرائيل غير اليهود، أي منع
غير اليهود من حق تقرير المصير. من المفيد تذكُّر كانط
(الدين، ٢٠٧) في هذا الشأن: «اليهودية في الحقيقة ليست
دينًا، بل مجرد اتحاد بين جمهرة من الناس، وبما أنهم
ينتمون إلى سلالة خاصة فإنهم يؤلِّفون كيانًا مشتركًا تحت
مجرد قوانين سياسية، وبالتالي فإنهم لا يؤلِّفون كنيسة
أبدًا، بل بالحري هي يجب أن تكون مجرَّد دولة دنيوية».
١٢٤
ثَمَّة متدينون حذَّاق يمارسون إيمانًا مشروطًا، من حيث
هو إيمان سوسيولوجي، فلا هم يعيشون إيمانًا نقيًّا أو
صافيًا، كالمتصوفة، ولا هم يعيشون حياة أرضيَّة حقيقية
كالملحدين. في واقع الأمر هم لا يريدون خسارة ما يمكن سواء
في العالم أو في السماء. أطلقنا عليهم سابقًا اسم
«دِينويِّين».
١٢٦
في المقابل فإن الغنيمة أو الجزاء الدنيوي خاص بالوكلاء
الرسميين، أو ممثلي الكيانات الدينية، الذين يديرون
«اقتصاد النذور» وينظِّمون الصفقات التجارية بين المعبد
والأتباع، ومثال ذلك الضرائب والرسوم الدينية في اليهودية
والمسيحية والأوقاف والزكاة في الإسلام.
١٢٧
الحروب الصليبية بمفهومٍ عامٍّ، وهي عملية رمزية متواصلة
لا تنتهي، ﻓ «جند الرب» Milites
Christi لا ينسحب إلا ليعود، وتمثِّل
جزءًا أصيلًا من المعتقد المسيحي، ولكنها لم تقف دائمًا
بالطبع عند هذا المفهوم «التطهري». بدأت الحروب الصليبية
في الشرق تاريخيًّا بخطبة وجهها البابا أوربان الثاني عام
١٠٩٥م، قال فيها: «طهروا قلوبكم من أدران الحقد، واقضوا
على ما داخل نفوسكم من بغضاء، وشدُّوا الرحال إلى الأرض
المقدسة فانتزعوها من ذلك الجنس الخبيث [المسلمون]
وتملكوها أنتم. إن أورشليم أرض لا نظير لها»، وبالتوجُّه
إلى هدف خارجي استطاعت الكنيسة تجميع فرسان أوروبا
المتصارعين وتم تفريغ الممالك الأوروبية من نوازع الصراع
والاقتتال وتوحيد قدراتهم الحربية تحت إمرة إلهية واحدة.
ولم يأنف جند الرب في سبيل إحراز الانتصار من التحالف مع
«الوثنيين»، كما في التحالف مع المغول واستثارة التتر
للتقدم من الشرق، حيث كانت الاتصالات والمراسلات تقضي
بالإطباق على الأرض الوسطى «المقدسة» من كل اتجاه. أما صفة
«الصليبية» في الحروب الحالية فعادةً ما يتم إضافتها بحذر
كلما أحرز جيش الولايات المتحدة نصرًا عسكريًّا في الشرق
الإسلامي.
١٣١
تظهر في الإسلام صورة من العذاب التطهري في الآية وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا
وَارِدُهَا (مريم، ٧١). وفي التصوير الحسي
للآخرة يقول المفسرون إن المسلمين تحديدًا يعبرون جسر
الصراط وهو درب يمرُّ فوق جهنم، فيجتازون كلمح البصر أو
كالريح أو كخبب الجواد وهم في طريقهم إلى جنة الخلد
الممتعة. إن المحمَّديين — يقول كانط — يعرفون حقًّا كيف
يمنحون وصفَ فردوسهم، المرسوم بكل شهوة حسيَّة، معنى
روحيًّا جدًّا. (الدين في حدود العقل، ص١٨٧)، وتقابل هذا
التصوُّر في المسيحية «النزعة الألفية» حيث يقضي الأخيار —
بعد يوم الحساب — ألف سنة على الأرض يتمتعون بمختلف أنواع
الملذات.
١٣٥
يأخذ منتجو الكوميكس ومصممو ألعاب الكمبيوتر من الأفكار
الكبرى كائنات «عينية» يؤسِّسون عليها حكايات نمطية تبدو
سطحيَّةً في الغالب، ولا تهتمُّ بشيء قَدْر اهتمامها
بالتلاعب بمستويات الأدرينالين. هذا في حدِّ ذاته مظهر
إيجابي وهو يؤسِّس بطريقة هامشية توقُّعًا فنيًّا لشكل من
أشكال نفي اللاهوت وميثولوجيا المستقبل، خاصةً أن جمهوره
من الفتيان والصغار الذين ينشئون — أو يربُّون أنفسهم
ذاتيًّا — على الانفتاح والقبول بعناصر ميثية ويوتوبية
عابرة، ولهذه العناصر بشكل أو بآخر تأثيرها على طرق
التفكير والقابليات الذهنية.