التنوع داخل الكونفوشيوسية القديمة
عند التفكير في نجاح التقليد الكونفوشيوسي، أو في قدرته على الاستمرار على مدار ألفَي عام، وحتى في القرن الحادي والعشرين، لا بد أن نعي هذه الحقيقة البسيطة: أن الكونفوشيوسية كانت تتغير على نحو دائم. وليس هذا مستغربًا البتة؛ إذ استمرت أكبر النُّظم الاعتقادية من خلال التغيير والتنوع. وقلة من الناس، على أي حال، ستزعم أن مسيحية توما الأكويني كانت هي نفس مسيحية القديس بولس، أو أن مسيحية أغناطيوس لويولا كانت هي نفس مسيحية جون كالفن. هذه الرؤى الدينية المختلفة قد انبثقت جميعها، بالتأكيد، من الرؤية العامة الموصوفة في الكتاب المقدس العبراني وفي العهد الجديد؛ لذا فإنها تتشارك بعض المعتقدات الجوهرية. لكن في الوقت نفسه دمج هؤلاء المفكرون، القادمون من أزمنة وأمكنة مختلفة، في تأملاتهم للتعاليم الأساسية بطبيعة الحال سلسلةً من الأولويات الاجتماعية والدينية، مما أدى إلى «مسيحيات» ذات تأكيدات مختلفة، والتي يشتد اختلافها في بعض الأحيان. وقدرة المسيحية هذه على مخاطبة مختلف الأشخاص، ومناسبة جميع الأزمنة والأمكنة، هو ما جنَّبها الاندثار، وحَفظ لها مكانتها المهمة.
وما يَصدُق على المسيحية — واليهودية والإسلام كذلك — يصدق على الكونفوشيوسية أيضًا. لكن حتى أوائل القرن العشرين، كان يَعُد كثير من الغرب الكونفوشيوسيةَ كِيانًا جامدًا مقاومًا للتغيير — أي تقليدًا راكدًا لم يخضع لكثير من التغيير منذ عصر مؤسسها كونفوشيوس — والذي كان مسئولًا عن «تأخر» الصين في القرنين التاسع عشر والعشرين. ولا يدري المرء هل منشأ هذه الرؤية الجهل بالتقليد الكونفوشيوسي، أم الرضا الغربي عن نسخته من التقدم المادي في نفس القرنين، لكن هذه الرؤية أفسحت المجال في القرنين العشرين والحادي والعشرين لفهم مدى أهمية الكونفوشيوسية في تاريخ شرق آسيا عامة، والصين خاصة بشكل أعمق.
تتسم الرؤية التي صاغها كونفوشيوس بقابليتها للتأويلات المختلفة. وهذه التأويلات، وإن كانت قائمة على عددٍ من المعتقدات الجوهرية المشتركة، كانت قابلة للتطور — كما حدث مع المسيحية — والتحول إلى أنواع مختلفة من «الكونفوشيوسية». فنرى الطلاب الصينيين يتحدثون عن الكونفوشيوسية الكلاسيكية، وكونفوشيوسية منشيوس، وكونفوشيوسية شون تسي، وكونفوشيوسية هان، وكونفوشيوسية سونج، والكونفوشيوسية الجديدة، والكونفوشيوسية النفعية، وكونفوشيوسية وانج يانج مينج، وما إلى ذلك. ولا داعي لأن يقلق القارئ؛ فلن أضع قائمة بجميع المدارس المتنوعة داخل الكونفوشيوسية هنا، كما لا أنوي الإسهاب في الحديث عن الاختلافات الجوهرية بينها. أهدف ببساطة إلى إظهار كيف يمكن أن تتجلى رؤية المعلم بأشكال مختلفة في أيدي المؤولين المختلفين. وسيكون التركيز على أهم اثنين من أتباعه الأوائل، وهما منشيوس (القرن الرابع قبل الميلاد)، وشون تسي (القرن الثالث قبل الميلاد)، اللذان سيصمد تأويلاهما «المتنافسان» لرؤية كونفوشيوس عبر التاريخ الصيني الإمبراطوري. (سيعالج الفصل الخامس «الكونفوشيوسية الجديدة» المؤثرة، التي هي إعادة تأويل للكونفوشيوسية، أو التأويل القياسي للتعاليم الكونفوشيوسية في أواخر الحقبة الإمبراطورية.)
لا نعرف التاريخ المحدد لميلاد كلٍّ من منشيوس وشون تسي، لكن يمكننا أن نضع منشيوس بكل يُسر في قلب القرن الرابع قبل الميلاد، وشون تسي في أواخر القرن الرابع، بل القرن الثالث قبل الميلاد. أتى منشيوس من دولة تسو الصغيرة التي تقع في شمال شرق الصين. وانطلق من تسو يبحث عن حاكم يتبنى أفكاره، ولم يستمع إليه سوى قليل من الحكام، كما يشير النص الذي يحمل اسمه. لكنه لم يصل إلى الأذن المُصغية التي كان يتطلع إليها، ولذا لجأ للتدريس مثلما فعل كونفوشيوس من قبله. ويقال إن نص منشيوس، الذي يقع في سبعة «كتب»، عبارة عن تسجيل للمحادثات التي جمعها تلاميذه بين منشيوس وحكام عصره، وتلاميذه، ومحاوريه الفلاسفة.
وُلد شون تسي في تشاو في الجزء الأوسط من شمال الصين. وقضى أغلب سنوات عمره الأخيرة عالمًا في أكاديمية جيشيا، التي هي مركز للجدل الفكري النابض بالحياة، في بلاط تشي في شمال شرق الصين. ويختلف نصُّه، المسمَّى باسمه «شون تسي»، والواقع في اثنين وثلاثين فصلًا أو قسمًا، عن كتابَي «المختارات» و«منشيوس»؛ فهو ليس سجلًّا للمحادثات أو الأقوال المأثورة، بل مجموعة من المقالات القائمة بذاتها، التي يُعتقد أن شون تسي كتبها بنفسه. لذا ما نجده في كتاب «شون تسي» عبارة عن مناقشات متماسكة، أو نص أقل تفككًا بكثير من ناحية التأليف، من «المختارات» أو «منشيوس».
تبنَّى منشيوس وشون تسي كلاهما معتقدات المعلم الأساسية تمامًا، والمتمثلة في الآتي: أنه يمكن أن يصبح الرجل حكيمًا، وأن الأخلاق الحميدة تنتج من تهذيب النفس، وأن التعلم يُعَد جزءًا من عملية تهذيب النفس، وأنه يلزم وجود نخبة تسعى لنشر الأخلاق بين عامة الناس بالقدوة الحسنة، وأن الحكم الرشيد يعتمد على ورع الحاكم، الذي يوفر الظروف المناسبة التي تُسهِم في صلاح الشعب، وتناغم المجتمع قاطبةً.
لكن كانت هناك اختلافات جوهرية بين هذين المفكرَين الكبيرَين، لا سيما حول مصدر الكمال الأخلاقي للفرد. فمنشيوس يحدِّد مكانه في الطبيعة البشرية، مؤكدًا أن الإنسان ينزع إلى الخير بحكم طبيعته، مثلما يميل الماء للتدفق لأسفل (٦أ: ٢). ومن هنا يجب أن يتعلم الإنسان كيفية تزكية طبيعته الخيِّرة هذه — في وجه القوى الخارجية التي قد تحيد به عن جادَّة الصواب — كي يحقِّق الكمال الأخلاقي. ونجد شون تسي يعارض هذه الفكرة بقوة، فيزعم بوضوح الآتي: «الشر هو أصل الطبيعة البشرية» (قسم ٢٣، «الشر هو أصل الطبيعة البشرية»). ولهذا، على الإنسان أن يبحث خارج نفسه، في بيئته وثقافته، حتى يعثر على الموارد الأخلاقية التي ستساعده في إعادة توجيه طبيعته العاصية. ومع هذه الافتراضات الشديدة التباين بشأن طبيعة الإنسان — وتبعًا لذلك، مصدر الكمال الأخلاقي — لا عجب أن الطرق التي أوصى بها منشيوس وشون تسي بشكل خاص من أجل بلوغ الكمال الأخلاقي تتباعد أيضًا فيما بينها، لا سيما في المجالين المهمين المتمثلين في تهذيب النفس والتعلم.
(١) منشيوس
(١-١) الطبيعة البشرية وتهذيب النفس
لدى جميع البشر عقول وقلوب لا تتحمل رؤية معاناة الآخرين … أقول إن جميع البشر لديهم قلوب وعقول لا تطيق رؤية معاناة الآخرين لما يأتي: لو أن شخصًا، أيًّا كانت ماهيته، رأى فجأة صبيًّا على وشك السقوط في بئر، فسيمتلئ عقله وقلبه بالذعر، وسيتحرك داخلهما شعور بالتعاطف نحوه. ليس ذلك لأنه يسعى لكسب ثناء أبويه، أو لأنه يريد ارتفاع شأنه بين القرويين والأصدقاء، أو لأنه يكره وصف الناس له بالسوء. من ذلك نرى أن الذي يفتقر إلى عقل وقلب متعاطفَين منزوعُ الإنسانية؛ وأن الذي يفتقر إلى عقل وقلب يشعران بالخجل من رؤية صاحبهما يفعل الشر، ويكرهان رؤيته من الآخرين ليس إنسانًا؛ وأن الذي يفتقر إلى عقل وقلب يفيضان بالتواضع والكياسة ليس إنسانًا؛ وأن الذي يفتقر إلى عقل وقلب يميزان الصواب من الخطأ ليس إنسانًا. إن التعاطفَ بُرعمُ الفضيلة الحقَّة (رِن)، والخجل برعم الاستقامة، والتواضع والكياسة برعما قواعد الأدب الطقسية، وتمييز الصواب من الخطأ برعم الحكمة. لدى الناس تلك البراعم الأربعة بداخلهم مثلما يمتلكون أطرافًا أربعة … كلنا لديه تلك البراعم الأربعة بداخله، ولو علم المرء كيفية تنمية كل واحد منها حتى يصل به إلى درجة الكمال، فسيكون الأمر مثل بداية اشتعال نار أو انبثاق ينبوع. مَن يقدر على الوصول بهذه البراعم إلى حد الكمال فهو قادر على النهوض بأعباء كل البلاد؛ ومَن لا يقدر على ذلك، فلن يقدر حتى على العناية بوالديه. (٢أ: ٦)
يرى منشيوس أن كل إنسان مولود بهذه البراعم الأربعة الخاصة بالفضيلة الحقَّة، والاستقامة، وقواعد الآداب الطقسية، والحكمة. وبانعدام هذه البراعم الأربعة تنعدم صفة «الإنسانية» عن الإنسان؛ فهي جزء لا يتجزأ من تركيبته الطبيعية العادية، مثل أطرافه الأربعة. وكي يقنعنا منشيوس بصحة اعتقاده يطلب منَّا — نحن قراءه — أن نتخيل طفلًا عديم الحيلة صغيرًا على وشك السقوط في بئر. ويزعم أن كل واحد منَّا سيتعاطف معه، بحكم الغريزة، ما يدل على أن برعم التعاطف موجود بداخلنا جميعًا.
لكن ربما لاحظ القارئ الحصيف أن منشيوس لم يتعرض في أي مكان من هذه الفقرة لأمر نهوض الجميع لإنقاذ الطفل بعد شعورهم بالتعاطف معه. هذا الأمر لم يحدث من باب السهو. هذا لأنه جوهر موقفه الفلسفي، كما أنه برهان على اعتقاده؛ فهو يؤمن بوجود فجوة بين «البراعم الأربعة» التي تُوهَب لنا عند الولادة، وبين الحاجة إلى نضجها حتى تتجسد في شكل الفضيلة الحقَّة، والاستقامة، وقواعد الآداب الطقسية، والحكمة. فهناك أناس، عندما يرَون طفلًا على وشك الموت بطريقة ما، يتوقفون لتقييم الموقف ويسألون أنفسهم: «هل سأستفيد من إنقاذ الطفل؟» أو «هل سيحدث لي ضرر جسدي في أثناء إنقاذه؟» أو «هل سأتعرض للمساءلة القانونية بسبب وفاته؟» يؤكد منشيوس أن هؤلاء الأشخاص لا يختلفون في طبيعتهم البشرية عن الآخرين؛ فهم أيضًا لديهم براعم الفضيلة الحقَّة، والاستقامة، وقواعد الآداب الطقسية، والحكمة. لكنهم على عكس البقية، الذي يُهرعون لنجدة الطفل بلا حساب أو خوف على سلامتهم، لم يتعهدوا براعم الأخلاق الخاصة بهم، فلم تبلغ مرحلة النضج. هذه هي المساحة التي يؤدي فيها تهذيب النفس دورًا جوهريًّا.
كانت الأشجار على جبل أوكس وافرة النماء في يوم من الأيام. لكن نظرًا لوجودها على أطراف العاصمة مباشرة، وقعت تحت ضربات الفئوس الواحدة تلو الأخرى. هل بإمكانها أن تظل وافرة رغم هذه الظروف؟ لكن مع التجدد الذي يحدث ليلَ نهار، والتغذية التي يجلبها المطر والندى، كانت تنبثق البراعم والنبتات بصفة مستمرة. لكن كانت تأتي الماشية والخراف لتقتات عليها بعد ذلك. وهذا ما أدى إلى مظهر الجبل الخالي من الزرع. وكلما رآه المارَّة ظنوا أنه ما غطَّته الأشجار قط. لكن هل يمكننا القول إن هذه كانت هي طبيعة الجبل الحقيقية؟
يصدق مِثل هذا الكلام على الطبيعة الإنسانية، هل يمكن حقًّا أن يكون الإنسان بعقل وقلب خاليَين من الفضيلة الحقَّة والاستقامة؟ عندما يتخلى المرء عن عقله وقلبه الخيرين بالفطرة، فحاله شبيه بحال الأشجار التي تقع تحت ضربات الفئوس، فهل ستظل الأشجار وافرة بعد قطعها يومًا تلو الآخر؟ لكن مع عوامل التجدُّد التي تحدث ليلَ نهار، والطاقة الحيوية التجديدية التي تأتي مع الفجر، تظل الأمور التي يستحسنها ويستقبحها عقل المرء وقلبه تَحمِل بعض الشَّبه مع ما يستحسنه ويستقبحه الآخرون. لكن ما يفعله في أثناء النهار سيقيِّدهما ويدمرهما تمامًا. وإذا قُيدا بشكل متكرر، فلن تكفي الطاقة الحيوية التجديدية المنبعثة في الليل للإبقاء عليهما. ولو عجزت الطاقة الحيوية التجديدية المنبعثة في الليل عن الإبقاء عليهما، فلن يكون هناك فارق كبير بينه وبين والحيوان. وعندما يرى الآخرون حيوانًا فسيفترضون أنه ما كانت لديه نزعة خيرة فطرية قط. لكن أيمكن أن تكون هذه هي فطرة المرء حقًّا؟ من هذا يتبيَّن أنك عندما تنمِّي شيئًا فإنه سيكبر، ومن دون ذلك سوف يذوي. قال كونفوشيوس: «إن تعهدتَ شيئًا بالرعاية فستحافظ عليه، وإن أهملته فستفقده …» أليس يتحدث هنا عن العقل والقلب؟ (٦أ: ٨)
يؤكد هذا الاقتباس على حقيقة ولادة جميع البشر بنفس الطبيعة البشرية الميَّالة إلى الخير مهما بدا انحرافهم. ولا استثناء في ذلك حتى للقاتل المتسلسل، وإن كان يصعب تخيل الأمر ببساطة بالنظر إلى حاله. وكما يسلب قطع الأشجار المستمر، وأكل الماشية والخراف للنبتات والبراعم الصغيرة مظاهرَ الطبيعة من جبل أوكس، فالقوى الخارجية يمكنها أن تَئِد براعم الأخلاق في مهدها، وتحرم الإنسان من كل مظاهر الإنسانية. لهذا السبب كانت الحاجة ملحَّة للغاية ﻟ «تعهد» العقل والقلب الفطريَّين بالرعاية؛ هذا لأنهما موطن براعم الفضيلة الأربعة.
إن تعهُّد العقل والقلب الفطريَّين، إذَن، بالرعاية هو ما يميِّز الإنسان الكامل الفضيلة عن غيره. يقول منشيوس إن العقل والقلب هذين هما ما يمنح الإنسان القدرة على التفكير والتأمل؛ فوحدها تلك القدرة هي ما يساعده على الالتزام بطريق الحق — وتجنُّب مزالق العالم الخارجي وشهواته — ما يمنح الفرصة لبراعمه الفطرية الخاصة بالفضيلة الحقَّة، والاستقامة، وقواعد الأدب والحكمة، للنمو والنضج. ويؤدي هذا النضج بدوره إلى وصول الإنسان إلى الكمال الأخلاقي.
(١-٢) الحاكم
إذا افتقرت الرعية إلى وسائل عيش ثابتة، فستفتقر إلى عقل وقلب ثابتَين. وإذا افتقرت إلى عقل وقلب ثابتين، فستصبح طائشة ومنحرفة، وستعيث في الأرض فسادًا. وإذا دُفعت الرعية للجريمة، وتلقَّت العقاب جرَّاء ذلك، فسيكون ذلك مثل من ينصب فخًّا لاصطيادهم. وهل يليق برجل صالح في منصب رفيع أن ينصب فخًّا لرعيته؟ لهذا يجدر بالحاكم الحكيم أن يعمل على تأمين سبل العيش لرعيته، ويتأكد أنها تكفي بحيث يمكنهم إعالة آبائهم وأبنائهم، فيشعرون بالشبع في سنوات الرخاء، ولا يموتون جوعًا في سنوات القحط. حينها فحسب يمكنه أن يحض الرعية على التحلي بالفضيلة، وبهذه الطريقة ستقتدي به الرعية بسهولة. (١أ: ٧)
لا تتدخل في مواسم الزراعة وستكفي المحاصيل حاجة الرعية وتفيض؛ ولا تسمح بإلقاء الشِّباك ذات الثقوب الصغيرة في البرك والبحيرات وستزيد الأسماك والسلاحف عن حاجة المستهلكين؛ واسمح بالاحتطاب في أحراش الجبال في الوقت المناسب وسيزيد الحطب عن حاجة المستخدمين. وعندما تزيد المحاصيل والأسماك والسلاحف عن حاجة المستهلكين، والحطب عن حاجة المستخدمين، فستهتمُّ الرعية بأحيائها، وتحدُّ على أمواتها بنفس مطمئنة. هذا الاهتمام بالأحياء والحداد على الأموات بنفس ساكنة هو بداية الحكم الرشيد. ودع أشجار التوت تُزرع في المنازل التي مساحتها خمسة «مو» وسيرتدي من بلغوا سن الخمسين الحرير؛ ولا تقلل من شأن تربية الدجاج والكلاب والخنازير، ولن يختفي اللحم من وجبات مَن بلغوا سن السبعين. وفي الحقول التي مساحتها مائة «مو»، لا تعرقل مواعيد العمل الزراعي، ولن تتضور العائلات الكبيرة جوعًا. انتبِه إلى التعليم في مدارس القرى، وأَرسِ مبادئ بر الوالدين واحترام الأشقاء، وسيختفي من الطرقات العُجُز الذين علا الشيب رءوسهم، الذين يحملون الأثقال على ظهورهم ورءوسهم. والدولة التي يرتدي فيها ذوو السبعين عامًا الحرير ويتناولون اللحم، ولا يعاني فيها الشباب من الجوع أو البرد؛ يستحيل فيها ألا تصف الرعيةُ حاكمها بالرشيد. لكن عندما تتناول الخنازير الطعام المخصص للبشر دون أن تقدر على الحيلولة بينها وبينه، وعندما يكون هناك مشردون في الطرقات يموتون جوعًا وتعجز عن توزيع المساعدات من مخازن الحبوب، ثم تقول: «لا شأن لي بذلك، العامُ عامُ جدب»؛ فما الفرق بين ما تفعله وبين التمثيل بأحد الأشخاص وقتله ثم القول: «لم أقتله، بل فعَل ذلك السلاحُ.» لا تُلقِ اللوم على نقص المحصول وسيلجأ الناس إليك من كل مكان. (١أ: ٣؛ قارن مع ١أ: ٥، و١أ: ٧)
هذه هي سياسات وممارسات الحاكم الرشيد.
ذهب منشيوس لزيارة هوي ملك ليانج. قال الملك: «سيدي! لقد قَدِمت إلى هنا من مكان بعيد جدًّا. لا بد أنك أحضرت شيئًا نافعًا لدولتي، أليس كذلك؟» أجاب منشيوس: «لمَ اخترت الحديث عن المنفعة يا جلالة الملك؟ بالتأكيد لا يوجَد ما هو أنفع من الفضيلة الحقة والاستقامة. عندما يقول الملك: «ما المنفعة التي ستعود على دولتي؟» وكبار المسئولين: «ما المنفعة التي ستعود على عائلتي؟» والنبلاء والعامة: «ما المنفعة التي ستعود عليَّ؟» حينها سيعادي الجميع بعضهم بعضًا، مهما علت مناصبهم أو سفلت، من أجل المنفعة، وستواجه الدولة خطرًا كبيرًا. … يجدر بك القول يا جلالة الملك: «لا يوجَد ما هو أنفع من الفضيلة الحقة والاستقامة.» لمَ اخترت الحديث عن المنفعة يا جلالة الملك؟» (١أ: ١)
عندما يتحدث الحاكم عن المنفعة وينشغل بها، فإنه يشجع رعيته على الحديث عنها واللهث خلفها، وهذا لن يجعل الرعية تضل عن طريق الحق، وتبتعد عن تعهد البراعم الأخلاقية خاصتها بالرعاية فحسب، بل، للمفارقة، لن يعود بالنفع على الحاكم أو دولته. إن وظيفة الحاكم، كما نص كونفوشيوس سابقًا، هي أن يكون قدوة حسنة لرعيته: «عندما يكون الأمير صالحًا سيسير الجميع في طريق الصلاح، وعندما يكون مستقيمًا، سيلزم الجميع طريق الاستقامة» (٤ب: ٥). بإيجاز، يرى منشيوس أن من واجبات الحكومة الرشيدة أن توفر الطعام والمسكن لرعيتها، وأن تكون مثالًا على الأخلاق الحميدة، ما يساهم في خلق بيئة مادية وأخلاقية يمكن أن تترعرع فيها البراعم الفطرية للفضيلة الحقة والاستقامة وقواعد الآداب الطقسية والحكمة بشكل طبيعي دون أن يعوقها عائق.
«هل نفى تانج جيه وقتل الملك وو تشو؟» أجاب منشيوس: «هذا ما تقوله السجلات التاريخية.» قال الملك شوان: «هل يحل لوزيرٍ قتل ملكه؟» ردَّ منشيوس: «إن سالب الفضيلة الحقة يُسمَّى «سارقًا»، وسالب الاستقامة يُسمَّى «مجرمًا». والسارقون والمجرمون كلاهما «عديم الجدوى». وقد سمعت عن العقوبة التي نزلت بتشو العديم الجدوى، ولم أسمع عن ملك قُتل.» (١ب: ٨)
منشيوس، في زعمه أن الملك لا يحظى بلقبه إلا إذا تصرف كحاكم رشيد، يؤكد على دعوة المعلِّم ﻟ «تصحيح الأسماء»؛ أي وجوب موافقة الأسماء لحقيقة الأشياء («المختارات»، ١٣: ٣). فهو لا يصنف حادثة تشو على أنها قتل وزير لملكه، وإنما مجرد حادثة قتل عادية لشخص عديم الجدوى، هجَر الحكم الرشيد فنُزع عنه وصف الملك. فمغزى منشيوس في هذا الموضع، والذي سيتردد صداه بقوة عَبر التاريخ الصيني الإمبراطوري، هو أن الحاكم الذي لا يتصرف كما يملي عليه لقبه، فيهتم بشئون رعاياه برحمة واستقامة، قد يُطاح به من منصبه.
لا يُفهم من هذا الدعوةُ إلى الثورة الشعبية؛ لأن حق الإطاحة بالحكام البغاة خاص بالوزراء وحدهم (قارن مع ٥ب: ٩). لكنه ينص أيضًا على أن عدم التزام الحاكم برعاية مصلحة رعيته — أي توفير بيئة حاضنة لبراعم الفضيلة — سيجلب عليه عقوبة قوية، وهي إزاحته من منصبه بالقوة. وعلى مدار القرون استُشهد بهذه الفقرة في بعض المناسبات — دون دقة تامة كما أشارت — على أنها تدعم حق الرعية في التمرد على حاكمها.
(٢) شون تسي
(٢-١) الطبيعة البشرية وتهذيب النفس
الشر هو أصل الطبيعة البشرية، والخير هو نتاج الجهد الواعي. فالإنسان قد فُطر على حب المنفعة. إن نما هذا الحب، فسيدفعه دفعًا إلى النزاع والخصومة، وستختفي مشاعر الكياسة والتواضع داخله. وقد وُلد بمشاعر الحسد والكراهية، التي لو نمَّاها، فستقوده إلى العنف والجريمة، وستبدِّد مشاعر الوفاء وحسن الظن داخله. كما وُلد بشهوات البصر والسمع، فنجده مولَعًا بكل ما هو جميل من المناظر والأصوات. ولو أنه نمَّى هذه الشهوات، فستقوده إلى الانحلال الأخلاقي والخلاعة، والتخلي عن جميع المبادئ الطقسية والأعراف الصحيحة. وعلى هذا، فأي إنسان يتبع طبيعته البشرية ويستجيب لمشاعره، سيقع في المشاحنة والخصومة حتمًا، وسينتهك أعراف المجتمع وقوانينه، وسينتهي به الحال بالانخراط في الجريمة. (قسم ٢٣، «الشر هو أصل الطبيعة البشرية»)
يُصر شون تسي أن على الإنسان الانسلاخ من طبيعته كي يتصف بالخيرية. ولهذا، فإنه يرى عملية تهذيب النفس في غاية الأهمية مثل سالفه منشيوس. لكن الهدف منها، بالنسبة له، ليس تعزيز فطرة الإنسان، بل محاولة ضبطها وإعادة توجيه نوازعها الفطرية.
ونظرًا لرؤيته حول الطبيعة البشرية والحاجة ﻟ «إصلاحها»، يولِي شون تسي مزيدًا من الأهمية لدور التعلم والمبادئ الطقسية في عملية تهذيب النفس، مقارنةً بسالفه منشيوس. فهو يرى أن التعلم والمبادئ الطقسية أداتان لا بد من توافرهما في عملية تزكية الفرد، وإعادة تشكيل طبيعته المتمردة. لكنهما ليسا بهذه الدرجة من الأهمية بالنسبة لمنشيوس، الذي يفترض أن الطبيعة البشرية ميَّالة إلى الخير فطرةً. ولا يعني ذلك عدم أهميتهما على الإطلاق بالنسبة لمنشيوس، بل هو لا يعطيهما الدرجة نفسها من الأهمية في فلسفته مثل شون تسي، حيث تحتل الرعاية الحانية للبراعم الصاعدة داخل الفرد رأس الأولويات.
لا يجب أن تتوقف عملية التعلم أبدًا. فاللون الأزرق يأتي من نبات النيلة، لكنه أشد زُرقة منها. والثلج يتشكل من الماء، لكنه أشد برودة منه. وقطعة الخشب، التي تشبه خيط الشاقول في استقامتها، قد تتشكل على هيئة دائرة بدقة كأنها مرسومة بفرجار، ولن تعود إلى استقامتها مرة أخرى، حتى بعد جفاف الخشب. فعملية الانحاء قد تركتها على هذه الشاكلة. لذا، إذا ضُغط الخشب تحت لوح تسوية، فيمكن أن يصير مستقيمًا، وإذا وُضع المعدن تحت حجر الرحى، فيمكن أن يصير مشحوذًا، وإذا درس الرجل النبيل كثيرًا، وراقب سلوكه يومًا بعد يوم، فستبرز حكمته، وسيصبح سلوكه خاليًا من العيوب. (قسم ١، «التشجيع على التعلم»)
إذن، للتعلم قوة هائلة من شأنها معالجة مادة الطبيعة البشرية الغليظة الجامحة الأنانية، وتشكيلها — أو قهرها في الحقيقة — لتصبح نسيجًا ذا حساسية أخلاقية.
وكما رأينا، فإن منشيوس، على العكس من شون تسي، لا يعتبر عملية التعلم أداة إصلاحية قوية؛ لسبب بسيط، وهو أن «براعم» الأخلاق داخل الفرد لا تحتاج إلى تلك الإجراءات القاسية من الثني أو الصباغة أو الشحذ، بل إلى التهذيب الحاني لتتمخض عنها الفضيلة الحقة. لهذا، فإنه عندما يشجع الفرد على «كثرة التعلم» (٤ب: ١٥)، مثلما فعل كونفوشيوس (على سبيل المثال، ٦: ٢٧، و٩: ٢)، ويحض الملوك الراشدين على إنشاء مدارس لنشر ثقافة العلاقات الاجتماعية الصحيحة، كما فعل أسلافهم في الأُسر الحاكمة الثلاثة المبجَّلة (٣أ: ٣)، لم يحتل التعلم بمعنى الانضباط أهميةً كبيرة عنده، مقارنة بشون تسي، ولهذا لم يُعطِه اهتمامًا منهجيًّا كبيرًا.
من أين تبدأ عملية التعلم وأين تنتهي؟ حين نتحدث عن البرنامج أرى أن التعليم يبدأ بقراءة الكلاسيكيات، وينتهي بدراسة النصوص الطقسية، والهدف في البداية هو أن يتعلم الفرد كيف يصبح حسنَ الخلق، وفي النهاية كيف يصبح حكيمًا. وإذا أخلص الفرد في جهوده، فسيصل لأعلى المستويات. ويستمر التعلم حتى الموت، حينها فحسب يتوقف. وعلى هذا، يمكننا الحديث عن نهاية برنامج التعلم، لكن يجب ألا يتخلى الفرد عن الهدف من التعلم ولو لحظة واحدة. وبسعي الفرد وراء هذا الهدف يصير إنسانًا، وإذا تخلى عن السعي يصير مثل البهيمة. (قسم ١، «التشجيع على التعلم»)
إن «كتاب التاريخ» سجلٌّ لشئون الحكم، و«كتاب القصائد» مخزنٌ للأصوات الصحيحة، والطقوس ركيزة القانون وأساس الأحكام السابقة. لذلك يصل التعلم إلى ذروته بممارسة الطقوس، إذ يمكن القول إنها تُمثل التعبير الأسمى عن الطريق الحق وفضائله. فمهابة الطقوس وانضباطها، ورشاقة الموسيقى وتناغمها، وشمول «كتاب القصائد» و«كتاب التاريخ»، وتعقيد كتاب «حوليات الربيع والخريف»؛ يشمل كل ذلك ما بين السماء والأرض. (قسم ١، «التشجيع على التعلم»)
تتضح من هذه الفقرة الجهود المبكرة في التقليد الكونفوشيوسي الطويل لوضع برنامج مترابط لتلامذة الطريق الحق.
لا تحتاج قطعة الخشب المستقيمة إلى لوح التسوية؛ لأن طبيعتها تتمثل في الاستقامة. لكن قطعة الخشب الملتوية لا بد لها من لوح التسوية حتى تغير من شكلها وتصبح مستقيمة؛ لأن الالتواء طبيعتها. بالمثل، بما أن أصل الطبيعة البشرية هو الشر، فلا بد أن ينهل الفرد من القوة التقويمية للملوك الحكماء، والقوة التحويلية للمبادئ الطقسية، حينها فقط يمكن أن يحقِّق الانضباط ويتحلى بالصلاح. (قسم ٢٣، «الشر هو أصل الطبيعة البشرية»)
أنهى شون تسي الفقرة بفكرة متكررة عَبر كتابته، وهي الجهد الواعي المقصود لإصلاح أو إعادة توجيه طبيعتنا الشريرة بالفطرة، فقال: «يتضح من ذلك، إذن، أن الشر هو أصل الطبيعة البشرية، وأن الخير هو ثمرة الجهد الواعي.»
ولا تتسم الطقوس بنفس التأثير «التصحيحي» أو التقييدي عند منشيوس، كما قد نتوقع؛ إذ لا حاجة إلى هذا التقييد في فلسفته القائمة على خيرية الطبيعة البشرية. فبحسب اعتقاده، الممارسة الطقسية الصحيحة، مثل الفضيلة الحقة والاستقامة والحكمة، ليست سوى التجسيد الفعلي لطبيعة الإنسان الخيِّرة، إنها «تزيين» للفضيلة الحقة والاستقامة، على حد تعبيره (٤أ: ٢٧؛ قارن مع ٧أ: ٢١)، لا أداة تتمخض عنها تلك الفضائل.
لكن الطقوس بالنسبة لشون تسي جزءٌ ضروري من عملية تهذيب النفس. فهي، كما يشرح في الفقرة المذكورة أعلاه، تقوِّم الفطرة، وتدعم الفرد شعوريًّا ونفسيًّا. فالممارسة الطقسية الصحيحة تمنح الفرد فرصة للتعبير عن مشاعره دون المخاطرة بتعطيل النظام المجتمعي. كما تساعده في تحقيق الانسجام بين عالمه الوجداني والعالم الكبير من حوله، من خلال ضبط أو «تهذيب» شهواته ومشاعره ورغباته الشريرة بالفطرة، وإلى هذا يشير شون تسي فيقول: «تُقلِّم الطقوس كل ما هو بالغ الطول، وتبسط كل ما هو بالغ القِصَر، وتُزيل الزائد وتَجبُر الناقص، وتوسِّع أشكال الحب والتوقير، وشيئًا فشيئًا تؤدي إلى ظهور السلوك القويم» (قسم ١٩، «نقاش حول الطقوس»). هكذا تُشبِع الطقوس الفرد عاطفيًّا حتى وهي تقيِّد نزواته الأكثر عاطفية وفوضوية. يعلق شون تسي: «تبدأ الطقوس ببساطة، وتصل إلى الذروة بأناقة، ثم تنتهي في بهجة. فعند أداء الطقوس بأرقى أسلوب يحدث إشباع للمشاعر والصور المجسدة لها بشكل كلِّي» (قسم ١٩، «نقاش حول الطقوس»). وهكذا يصبح للطقوس، عند أدائها كما ينبغي، جمال شديد؛ أي طابع جمالي يسمو بروح المرء، ويعزِّز من استقراره العاطفي.
إذا تساوت المراتب فلن تكفي الموارد الجميع، وإذا تساوت السلطات فستنعدم الوحدة، وإذا تشابه الجميع فسيكون من المستحيل استعمالهم بشكل فعال. … وإذا تساوى الناس في السلطة والمرتبة، وتشابهوا فيما يحبونه ويكرهونه؛ فلن يكون هناك ما يكفي من موارد لسدِّ احتياجاتهم، وسيتنازعون في نهاية المطاف. هذا النزاع سيقود حتمًا إلى الفوضى التي ستؤدي بدورها إلى استنزاف المجتمع. ولطالما كره الملوك الأوائل مِثل هذه الفوضى، فوضعوا المبادئ الطقسية من أجل وضع الرتب الاجتماعية. (قسم ٩، «قواعد الحكم»)
تدعم الطقوس النظام الهرمي للمجتمع. فتُضفي عليه سمة الترابط والاستقرار، ما يشجع جميع أفراد المجتمع — «أغنيائهم وفقرائهم»، «أرفعهم وأدناهم مقامًا» — على أداء أدوارهم كما ينبغي.
(٢-٢) الكمال العقلي والأخلاقي
بإمكان الإنسان العادي أن يصير «يو» [ملكًا حكيمًا]. … فهو يمتلك الملَكات الأساسية المطلوبة لفهم الفضيلة الحقَّة والاستقامة والمعايير الصحيحة، وكذلك تلك القدرة الكامنة على وضعها حيِّز التنفيذ. لذا من الواضح أنه يستطيع أن يصبح «يو». (قسم ٢٣، «الشر هو أصل الطبيعة البشرية»)
بإيجاز، هذا يرجع إلى أن الإنسان مولود ولديه قدرة على التعلم وتمييز الصواب من الخطأ، بحيث تمكِّنه من إدراك الأخلاق الحميدة من بيئته. ولو كانت فطرة الإنسان هي أكثر ما يميِّزه عن الحيوان بالنسبة لمنشيوس، فشون تسي يرى أن قدرة الإنسان على التعلم ووضع ما يتعلمه قيد التنفيذ، من خلال الأفعال الواعية، هي أكثر ما يميزه عن الكائنات الأخرى.
كل مَن يرغب في فعل الخير لا يفعل ذلك على وجه التحديد بسبب طبيعته الشريرة. فالخسيس يتوق إلى العظمة، والقبيح يتوق إلى الجمال، ومَن يعيش في منزل صغير يتوق إلى منزل كبير، والفقير يتوق إلى الغنى، والوضيع يتوق إلى الرفعة. ما يفتقده الإنسان في نفسه سيبحث عنه بالخارج. لكن الغني لن يتلهف إلى الثروة، والعظيم لن يتلهف إلى مزيد من السلطة. فما يجده المرء في نفسه لن يعبأ بالتفتيش عنه في الخارج. ومن هذا نرى أن الذين يرغبون في فعل الخير لا يفعلون ذلك تحديدًا إلا لأن طبيعتهم شريرة. (قسم ٢٣، «الشر هو أصل الطبيعة البشرية»)
إننا بسبب الرغبات الأنانية، ومشاعر الحسد والغيرة التي فُطرنا عليها، نسعى سعيًا حثيثًا إلى الاتصاف بالخير الذي ليس من طبيعتنا. فلا يسعى الإنسان وراء الخير من أجل الخير لذاته، في البداية على الأقل، بل ليكمل نقصًا يراه في نفسه. وعلى هذا، فإن رغبة الفرد لاكتساب الأخلاق الحميدة منشؤها، للمفارقة، الأنانية والجشع.
لكن ليست الطبيعة الأنانية هي التفسير الوحيد لسعي الفرد وراء الخير. فعقله يدرك أنه لو عَبَّر عن ميوله الشريرة الفطرية، دون قيد أو شرط، فسيؤدي ذلك إلى «الفوضى والخراب المتبادل» (قسم ٢٣، «الشر هو أصل الطبيعة البشرية»). وبعدما يستنتج العقل أن الفوضى والخراب المتبادل لن يصبَّا في مصلحته، ولن يساعداه في إشباع رغباته في نهاية المطاف، سيحاول كبح هذه الميول الفطرية، والتحوُّل إلى المبادئ الطقسية والتعاليم الكلاسيكية، من أجل الحصول على التوجيه والإرشاد.
(٢-٣) الحاكم
يرى شون تسي أن مسئولية الحاكم هي إرساء النظام الذي تبغضه الرعية بفطرتها. فهو يدرك أنه لا بد من تقييد شهوات الرعية ورغباتها، التي هي جزء أصيل من فطرتها، إذا ما أراد تحقيق النظام والتناغم في المجتمع. ويسعى، من خلال الممارسة المنتظمة للطقوس، إلى تقييد هذه الرغبات والشهوات، ما يؤدي إلى غرس نموذج من السلوكيات الملائمة اجتماعيًّا في الناس.
ومع ذلك، يعترف شون تسي أن بعض الرعية، الذين لا تكفي في إصلاحهم القوة الطقسية الحانية نسبيًّا، بسبب جموح رغباتهم مقارنةً بغيرهم، بحاجة إلى وسائل ضابطة أخرى أكثر حزمًا. لهذا السبب يرى أن على الحاكم أيضًا تسخير القانون والعقوبات للمحافظة على النظام. فالمجتمع المثالي، بالنسبة إلى شون تسي، هو الذي يتوفر فيه النظام والانسجام، وكذلك وسائل الحفاظ عليهما، التي تعتمد بشكل كبير على قوة الممارسات الطقسية التحويلية، لكنها عندما تفشل في العلاج، فلا مفر من اعتماد الحاكم على أدوات أكثر قهرًا، والتي تتمثل في القانون والعقوبات.
ولا سبيل إلى تحقيق المجتمع المثالي إلا ﺑ «حاكم رشيد». فالحاكم الرشيد المستقيم هو الوحيد القادر على اتخاذ أنسب الإجراءات لرعيته، وتحديد أنجع الوسائل لتقييد ميلها الفطري إلى المنفعة الشخصية. إن الحاكم مثل قاضٍ حريص عادل، يَعلَم علمًا لا يشوبه خطأ متى يقود رعيته بالتعاليم الطقسية، ومتى يقهرها بالقوانين والعقوبات. وتمنحه رعيته، بسبب حنوِّه وعطفه في التعامل معها، دعمها طواعيةً لا كراهةً.
وقد كان شون تسي غاية في الواقعية في توقعه أن يأتي إلى سُدَّة الحكم بالفعل في عصره «حاكم رشيد». فعلى عكس منشيوس، الذي قضى معظم حياته في إقناع حكام عصره بالتحلي بالفضيلة الحقة، أقر شون تسي بأن أفضل ما يمكن أن يرجوه المرء هو أن يأتي إلى الحكم شخصٌ قادر على فرض النظام — من خلال القانون والعقوبات أو القوة العسكرية — في دولته. واختتم كلامه قائلًا إن عصر الحكام الحكماء قد ولى منذ زمن بعيد، فالمطلوب الآن حاكم قوي أو رجل قوي يستطيع، على الأقل، توفير حكومة مستقرة ونظام هرمي اجتماعي مُرتَّب، إن لم يكن مجتمعًا مثاليًّا أخلاقيًّا، ومتناغمًا من خلال الالتزام بالطقوس.
(٣) الإنسان والسماء عند منشيوس وشون تسي
زعم منشيوس، في القرن الرابع قبل الميلاد، أن السماء كِيان أخلاقي. وبعده بفترة قصيرة، تبلغ قرنًا من الزمان، جاء شون تسي ووصفها بالكيان الطبيعي الذي يعمل وفقًا لإيقاعاته الداخلية دون أن يكون له صلة بالدوافع الأخلاقية؛ فالسماء، بالنسبة إليه، تشبه «الطبيعة» أو «النظام الطبيعي». وبالنظر إلى هاتين الرؤيتين المتعارضتين، فليس ثَمة غرابة في أن هذين الفيلسوفين قد فهما الدور الذي تؤديه السماء في حياة الإنسان على نحو مختلف أيضًا.
هناك امتيازات تمنحها السماء، وامتيازات يمنحها الإنسان. فالفضيلة الحقة، والاستقامة، ويقظة الضمير، والأمانة، والفرح الدائم بالخير؛ هي الامتيازات التي تمنحها السماء. (٦أ: ١٦)
فالسماء مسئولة عما هو أخلاقي في الإنسان. ومنها يتلقى براعم الفضيلة الخاصة به. ولو أراد أن يكون كامل الفضيلة، وكامل الإنسانية، فعليه أن يتعهد هذه البراعم بالرعاية. وبفعله هذا يمتثل للخطة الأخلاقية التي وضعتها السماء من أجله وينفِّذها. فالسماء، بهذا المعنى، تملي على الإنسان قواعد السلوك، من خلال فطرته.
كي يفهم الإنسان عقله وقلبه على نحو كامل، لا بد أن يتعرَّف طبيعتَه البشرية، وإذا تعرَّف طبيعته، فسيتعرف السماء. وعندما يحافظ على تكامل عقله وقلبه ويهذِّب نفسه فهو بذلك يخدم السماء. (٧أ: ١)
يهدف منشيوس هنا إلى أن يغرس في نفوس أتباعه وجود ارتباط أخلاقي وثيق بين الإنسان والسماء. وإذا كانت السماء مصدر الأخلاق بالنسبة للإنسان، والإمكانات الأخلاقية المتجذرة في عقله وقلبه، فإن تحقُّق هذه الأخلاق يُلقي الضوء على خطة السماء. فالإنسان يتعرف السماء بهذه الطريقة. وعندما يُنجز المهمة التي كلَّفَته بها عند ولادته، وينفِّذ المسئوليات الأخلاقية التي تغرسها في نفسه، فإنه يقوم على خدمتها. ويذكِّرنا مصطلح «يخدم» أيضًا أننا خاضعون، في نهاية المطاف، لسلطة السماء التشريعية الأخلاقية.
عندما تسقط النجوم أو تصدر الأشجار أصواتًا غريبة، يهلع جميع مَن في البلاد ويتجولون في الأنحاء متسائلين: «لمَ حدث ذلك؟» وأجيب أنها تفعل ذلك بلا سبب معيَّن. وتفسير ذلك بسيط، وهو أن التغيرات الحادثة في السماء والأرض، وكذلك التغيرات الواقعة في الين واليانج، تُحدِث مثل هذه الأمور بين الحين والآخر. لذا من الممكن أن تتعجب منها، لكن لا يجب أن تثير في نفسك الخوف. (قسم ١٧، «نقاش حول السماء»)
تُمثل السماء هنا النظام الطبيعي. وإن تجلياتها هي فقط «التغيرات الواقعة في الين واليانج» الطبيعية لا أكثر. فالمسألة هنا لا تتعلق ﺑ «تواصل» السماء، التي تتصف بالاهتمام والإرادة، مع البشر أو استجابتها لأفعالهم. وتُصرُّ كتابات شون تسي على الانتقاد اللاذع لهؤلاء الذين يرَون السماء كيانًا يستجيب إلى تضرعاتهم، فتقول: «يدعو المرء من أجل نزول المطر فيهطل المطر. لماذا حدث ذلك؟ أرى أنه لا يوجَد سبب معيَّن. فقد لا تدعو لنزول المطر فينزل المطر على أي حال.» ويذكِّرهم شون تسي قائلًا: «لا تُنهي السماء الشتاء لأن البشر يكرهون البرد» (قسم ١٧، «نقاش حول السماء»). ويشير إصرار شون تسي على تفنيد هذه الاعتقادات إلى إيمانه بانتشار تلك الممارسات والمعتقدات «الخرافية» في عصره. لهذا يأمل إلى نقل رسالة قاطعة إلى أبناء عصره، مفادها أن السماء لا تكترث بشئون الإنسان!
ولعدم وجود سماء ترتبط مع الإنسان من الناحية الأخلاقية أو تكترث به، لا بُد أن يلجأ إلى الحكماء والطقوس التي وضعوها، كي يحصل على الهداية الأخلاقية. إذ لا تقدِّم السماء أي هبات أو مساعدات أخلاقية من أي نوع. في الحقيقة يرى شون تسي أن ما منح حكماءَ الماضي — مثل ياو وشون ويو — ذلك التبجيل والثناء هو أنهم وحدهم أدركوا حاجة الإنسان إلى مجموعة من المبادئ الطقسية، والتعاليم التي تُمده بالتوجيهات الأخلاقية.
هل النظام والفوضى من فِعل السماء؟ أجيبُ بأن الشمس والقمر والنجوم والمجموعات النجمية كانت تدور في عهد الحكيم يو بالطريقة نفسها التي كانت تدور بها في عهد الطاغية جيه. الحكيم يو هو مَن حقَّق النظام، والطاغية جيه هو مَن تسبب في الفوضى. وعلى هذا، مَن يتسبب في النظام والفوضى ليس السماء. (قسم ١٧، «نقاش حول السماء»)
سعي الإنسان هو ببساطة ما يحدد قدره.
على الرغم من أن السماء ليست موجودة من أجل إعالة الإنسان، يقرُّ شون تسي أنها في «التغيرات الواقعة في الين واليانج» الخاصة بها تؤثر فيه بشدة. لذا نراه يحض الإنسان على الانتباه لهذه التأثيرات والانتفاع بها قدر الإمكان.
يرى شون تسي أن السماء كيان منفصل مستقل، لا يكترث بعالم الإنسان ولا برفاهيته، لكنه قد يجد في تأثيراتها، المتمثلة في تغيراتها المستمرة، والتغيرات في الين واليانج، الكثيرَ من المنافع التي قد يستفيد بها في حياته، وذلك من خلال بذل الجهود الواعية الموصوفة هنا.
باختصار، يتفق منشيوس وشون تسي، المؤسسان لأكبر توجُّهَين متشعبَين عن الكونفوشيوسية القديمة، في الأمرين الآتيين؛ أن الإنسان قادر على الوصول إلى الكمال الأخلاقي، وأن تحقيق الكمال الأخلاقي يستلزم تهذيب النفس. لكن مصدر الإمكانات الأخلاقية، بالنسبة لمنشيوس، داخلي متأصل في طبيعة الإنسان، في حين أنه خارجي بالنسبة لشون تسي، ويوجَد في الثقافة، ولا سيما مجموعة الطقوس التي وضعها الحكماء القدماء. وعلى هذا، يرى منشيوس أن تهذيب النفس عملية تربية حانية للإنسان في معظمها، تنجم عنها حماية براعم الخير النامية داخله من التأثيرات الضارة والمفسدة للمجتمع، لكنها عملية أكثر شمولًا وعدوانية بالضرورة بالنسبة لشون تسي، وهي تلجأ إلى المجتمع مباشرة من أجل العثور على أدوات تساعد في «تصحيح» أو إعادة تشكيل طبيعة الإنسان الملتوية بحكم خلقته. يؤمن منشيوس أن الحاكم المثالي مسئول عن توفير بيئة صالحة أخلاقيًّا وماديًّا لرعاياه، يمكن أن تزدهر فيها إمكاناتهم الأخلاقية بشكل طبيعي دون أن تعوِّقها معوقات، في حين يؤمن شون تسي أن الحاكم عبارة عن سلطة توجِّه بفاعليةٍ سلوك رعاياه، وتعرِّفهم بمجموعة من الأدوات التثقيفية — الطقوس والقوانين والعقوبات — الضرورية من أجل كبح نزواتهم، واعتياد الخير الذي هو غريب عن طبيعتهم.
إن إيمان شون تسي بالقوة التحويلية للتعلم والطقوس كان له تأثير لا يُنسى على التعليم والممارسات الاجتماعية عبر التاريخ الصيني. لكن تأثير منشيوس كان أكبر؛ فالمفكرون المسئولون عن إعادة الصياغة الكبرى للتقليد الفكري الكونفوشيوسي بعد ظهوره بألف عام رفضوا رؤية شون تسي للطبيعة البشرية، وتبنَّوا رؤية منشيوس الأكثر تفاؤلًا، التي ترى أن الإنسان مولود وبداخله براعم الفضيلة الحقة.