إعادة تشكيل التقليد الكونفوشيوسي بعد عام ١٠٠٠ ميلاديًّا: تعاليم الكونفوشيوسية الجديدة
حدَّد كونفوشيوس ومنشيوس وشون تسي المسار الفلسفي للتقليد الكونفوشيوسي لأكثر من ألف عام. لكن في القرن الحادي عشر ظهرت زمرة من المفكرين الكونفوشيوسيين بدأت تعيد النظر في تعاليم أسلافها الكلاسيكيين. وعُرفت هذه «المدرسة» من الكونفوشيوسية ﺑ «تاو شوي»، أو «تعلُّم الطريق»، ويُشار إليها في كثير من الأحيان بالكونفوشيوسية الجديدة، وسرعان ما هيمنت على الحياة الفكرية والسياسية في الصين. في الحقيقة، بحلول القرن الثالث عشر، أصبحت عقيدةَ الدولة الرسمية — إذ وَضعت المبادئ التي فيما يبدو قام عليها الحكم الإمبراطوري الصيني، وأنظمة اختبار الخدمة المدنية — واحتفظت بهذه المكانة حتى السنوات الأولى من القرن العشرين.
تُمثِّل الكونفوشيوسية الجديدة مراجعة للتقليد الكونفوشيوسي. فهي تدعم القيم والمبادئ الأخلاقية للكونفوشيوسية الكلاسيكية، لكنها تُعيد تشكيل الكونفوشيوسية بطريقتين مهمتين؛ أولًا: أنها تغرس القيم والمبادئ الأخلاقية للكونفوشيوسية الكلاسيكية في نظام دقيق من الميتافيزيقا (أي: تفسير لطبيعة الوجود والمعرفة) ظهر على مدار القرنين الحادي عشر والثاني عشر؛ وثانيًا: أنها تضع برنامجًا منظمًا لتهذيب النفس، على أساس هذا النظام الميتافيزيقي، يفصِّل كيف «يصبح المرء حكيمًا»، خطوةً خطوة.
لمَ ظهرت الكونفوشيوسية الجديدة في ذلك الوقت تحديدًا؟ نظر علماء الكونفوشيوسية الموظفون بالدولة في فترة سونج (٩٦٠–١٢٧٩) حولهم، وإذا الدولة تواجه أزمة سياسية وفكرية وأخلاقية. فمنذ بداية حكم أسرة سونج في القرن العاشر، كانت قد احتلَّت سلسلةٌ من القبائل غير الصينية أجزاءً من سهل الصين الشمالي، الذي يُعَد قلب الحضارة الصينية؛ وفي ١١٢٧، استحوذت آخر هذه القبائل، الجورتشن، على عاصمة دولة سونج، كايفنج، وأسست دولة جين (١١١٥–١٢٣٤)، ثم أجبرت أفراد بلاط دولة سونج على الهرب جنوبًا. تسببت خسارة الشمال في صدمة كبيرة للعلماء الصينيين. فقد اعتبروها أكثر من مجرد هزيمة عسكرية أو سياسية صريحة؛ إذ كانت تعني أن الطريق الحق في حالة انحدار شديد. فلو كان الإمبراطور الصيني ووزراؤه يتصرفون مثل الحكام الفضلاء الممتثلين لمبادئ الكونفوشيوسية، لساد الطريق الحق، وما صار الشمال عُرضة لهجمات «الهمج». فما الذي دفع هؤلاء الأفراد إلى الانحراف عن المسار الكونفوشيوسي القائم على التزكية الأخلاقية والحكم الرشيد؟
توجَّه الكثيرون باللوم إلى غزو «همجي» قديم آخر، وهو البوذية. فقد حققت هذه التعاليم الأجنبية، التي جاءت من الهند في القرن الأول الميلادي، انتشارًا واسعًا في الصين بعد القرن السادس. وكانت جاذبيتها شديدة، لدرجة أن أتباع الكونفوشيوسية قد أقروا بهذه الحقيقة الحزينة، فقالوا: «دخل في كنف البوذية الجميعُ، سواء أكانوا بالغين أم أطفالًا، مسئولين أم مزارعين أم تجارًا، رجالًا أم نساءً.» والأدهى من ذلك أن كثيرًا من العلماء، الذين من المفترض أن تقع على عاتقهم مسئولية بقاء طريق الكونفوشيوسية حيًّا قويًّا، كانوا قد افتتنوا بالبوذية على مدار السنوات (ولا سيما المدارس المرموقة، مثل تشان، التي اشتهرت في الغرب باسم زِن)، وسُحروا ببحثها الفلسفي في الطبيعة البشرية، والعقل، وطرق المعرفة، والوعي بالذات، وعلاقة الإنسان بالكون. وأخذ أتباع الكونفوشيوسية يراقبون عملية انتشارها بانزعاج، خائفين أن ينشغل الأفراد على كل المستويات المجتمعية بعملية تنوير الفرد التي هي محور البوذية، وينسَوا ذلك الالتزام الصيني والكونفوشيوسي الجوهري بتزكية النفس أخلاقيًّا من أجل خدمة المجتمع، وتعزيز رفاهية الآخرين.
بدايةً من القرنين العاشر والحادي عشر، انهمك العلماء المهتمون بالتقليد الكونفوشيوسي، والواعون بالتحديات التي تهدد هيمنة الطريق الكونفوشيوسي، بالنظر في كيفية التعامل مع هذه التحديات. ولجئوا إلى الكتب الكلاسيكية، بحماسة شبه دينية، وراحوا يفتشون فيها عن التعاليم، أو الحقائق، التي يمكنها التعامل مع القضايا الملحَّة الراهنة بفاعلية، ومن ثَم إحياء ذلك الطريق الذي هو في حالة انحدار شديد. واشترك الكثيرون في عملية البحث هذه التي استمرت في القرنين العاشر والحادي عشر، ساعين من خلالها لإيجاد حلول للتحديات المعاصرة. وكان من بين أبرز هؤلاء المفكرين تشو دون يي (١٠١٧–١٠٧٣)، وتشانج تساي (١٠٢٠–١٠٧٧)، وتشينج هاو (١٠٣٢–١٠٨٥)، وتشينج يي (١٠٣٣–١١٠٧).
لكن هذا التأمل، الذي حدث في أثناء حكم الأسرة سونج، في معنى التقليد الكونفوشيوسي، سيجد له صوتًا مؤثرًا، في القرن التالي، في تشو شي (١١٣٠–١٢٠٠)، أكبر متحدث رسمي عن الكونفوشيوسية الجديدة في حقبة سونج. اعتمد تشو شي على كتابات مفكري حقبة سونج الأوائل هؤلاء، وقدَّم أفكاره عبر مجموعة من التعليقات الألمعية الشارحة للكلاسيكيات الكونفوشيوسية. ولعلَّ عبقريته تتجلى في تقديمه لفلسفة كونفوشيوسية «جديدة»، تستند وترتكز على قراءاته للكتب التي عُدَّت في عصره قديمة، بل عفا عليها الزمن. ومن خلال تأثُّره الشديد بأفكار أسلافه المفكرين في حقبة سونج (وبعض القضايا التي طرحتها وأشاعتها البوذية بلا شك)، شيَّد تشو شي من الكلاسيكيات، باللغة الميتافيزيقية التي شاعت في عصره، عملية منهجية للوعي بالذات، التي إن اتبعها الفرد بدقة فستقوده إلى الحكمة. وهذا الرجل الكامل الفضيلة، في العرف الكونفوشيوسي الصحيح، على عكس البوذي المتنور، ملتزم غاية الالتزام بخدمة مجتمعه وتحقيق الانسجام بين أفراده. ومن خلال جهوده، والكثيرين من أمثاله، يُمكن إحياء الطريق الذي كان عظيمًا فيما مضى.
(١) ميتافيزيقا الكونفوشيوسية الجديدة لتشو شي
يفترض مفكِّرا الكونفوشيوسية الكلاسيكية منشيوس وشون تسي، مع اختلاف أسبابهما، أن الإنسان قادرٌ على الوصول إلى الكمال الأخلاقي. وبالمِثل يفترض تشو شي أن الإنسان يمكنه الوصول إلى الكمال الأخلاقي، لكنه يبتدع ميتافيزيقا ليدعم بها هذا الافتراض، ويستخدم في ذلك مصطلحات فلسفية جديدة، أو بالأحرى مصطلحات قديمة منحَها معاني جديدة. فهو يؤيد — ويدلِّل بأدلة وجودية على — اعتقاد منشيوس أن الطبيعة البشرية خيرة، وأن جميع البشر مولودون ببراعم الفضائل الأساسية الأربعة؛ الفضيلة الحقة، والاستقامة، وقواعد الآداب الطقسية، والحكمة. في الحقيقة، إن تشو شي هو الذي جعل رؤية منشيوس للطبيعة البشرية تتفوق على نظيرتها الخاصة بشون تسي، وتصير هي الاعتقاد السائد. لكن تشو شي يذهب لأبعد من ذلك، إلى تناول السؤال الفلسفي، الذي تركه منشيوس دون إجابة إلى حد كبير: إذا كان البشر خيِّرين بالفطرة، فأين نشأ الشر وكيف؟ وبعد أن يحدد تشو شي مصدر الشر في الإنسان، يضع برنامجًا مفصلًا خطوةً خطوة للقضاء على الشر، وتقوية الخير المتأصل في طبيعة الإنسان.
يتحرك تشي ويتدفق في كل الاتجاهات وبشتى الوسائل. ويتحد عنصراه (القوتان البدائيتان الين واليانج)، وينتجان الأشياء الملموسة. ولهذا ينشأ عنهما ذلك التشعب المتنوع من البشر والأشياء. وبهذا التعاقب المتواصل لعنصرَي الين واليانج هذين يتأسس المعنى الكبير للكون.
تشي، إذن، هو ما يربط جميع الأشياء الموجودة في الكون بعضها ببعض. وهذا الافتراض بوجود تشي كونيٍّ سائد ومشترك له دلالات أخلاقية قوية بالنسبة إلى تشو وزملائه من أنصار الكونفوشيوسية الجديدة. إذ لو كانت كل الأشياء مكونة من تشي، فإن كل الأشياء والأشخاص في الكون تجمعهم علاقات متشابكة. ويفتتح تشانج تساي مقالًا مشهورًا له بالأسطر الآتية:
ينبغي على الناس، المصنوعين من تشي مشتركة، أن يعاملوا الآخرين مثل الأشقاء والشقيقات. ولعلَّ هذه العلاقة شبه البيولوجية بين البشر تساعد في تفسير ذلك الشعور بالتعاطف الذي ينتاب المرء عفويًّا تجاه الآخرين، وهو ما أشار إليه منشيوس منذ قرون عديدة مضت. جميع البشر، في النهاية، ببساطة عائلة واحدة كبيرة.
إن تفاعل عنصرَي التشي (الين واليانج) يولِّد ويحوِّل الموجودات المتنوعة. وهذه الموجودات تتكاثر وتنتشر، فلا تتوقف عملية التحول على الإطلاق. وحدهم البشر مَن يتلقَّون التشي الأكثر تنقيحًا وتأثيرًا على الروح.
ويشير إلى أنه بالنظر إلى امتلاك الفرد ﻟ «التشي الأكثر تنقيحًا وتأثيرًا على الروح» فهو الوحيد القادر، من بين كل المخلوقات، بشكل استثنائي، على التمييز الأخلاقي، أو معرفة الفرق بين الخير والشر. وتتلقى الشجرة التشي المخصص للأشجار؛ لذا فليست لديها الميزة نفسها.
لكن التشي ليس «مصدر» الخير الغريزي في الإنسان. فكما تتألف جميع الموجودات في الكون منه، فلديها جميعًا أيضًا «لي»، أو جوهر، (والتي تُترجم في بعض الأحيان إلى «مبدأ أخلاقي»). يشرح تشو شي قائلًا: «ليس هناك في الكون وجود لتشي دون جوهر، أو لجوهر دون تشي.» وإذا كان التشي هو ما يمنح التركيبة المادية-الروحية المميزة للشيء، فإن الجوهر المتأصل داخله، بحسب كلام تشو، «علَّة طبيعته الحالية، والقانون الذي ينبغي أن يحتكم إليه.» وكل شيء أو حدث أو علاقة أو مادة أو شأن في الكون له جوهر. فلدى القارب السماتُ أو الأوصاف المعيارية الخاصة بالقوارب، ولدى العربة سمات العربات، ولدى الشجرة سمات الأشجار، ولدى الإنسان السمات الإنسانية، ولدى العلاقة بين الأب والابن سمات العلاقة بين الأب والابن تبعًا للجوهر. ولو كان نوع الإنسان خيِّرًا بحسب الفطرة، فإن ذلك يعود لجوهره الفطري.
فالجوهر، إذن، موجود في كل شيء وحدث. لكن تشو يصرُّ على أنه واحد في النهاية. فيرى أن جوهر القارب والعربة والإنسان والشجرة وعلاقة الأب بالابن ليس إلا تجليًا خاصًّا لجوهر واحد عام. نجده يكرِّر الصيغة: «الجوهر واحد وتجلياته متعددة.» ولعلَّ أفضل طريقة يُفهم بها «الجوهر» هي أنه مثل نموذج أو مخطط ضمني لنظام الكون، مبثوث في كل الموجودات في الكون، وذلك التجلي المعين للجوهر هو ما يحدِّد الدور المنوط بالشيء في تلك الخطة الكونية الموحدة. لنعيد صياغة تعريف تشو الموجز، نقول إن لكل موجود تجلِّيَه الخاص بالجوهر، لكن المخطط أو النموذج الذي تحتكم إليه كل الموجودات في الكون واحدٌ في النهاية، كما هو الحال بالنسبة لعلَّة طبيعة الموجودات الحالية. إن هذا الجوهر، وإن كان بلا شكل أو قوة توليدية، هو الذي يمدُّ الكون، المتألف من التشي المتغير دائمًا، بالانسجام والنظام.
سار تشو شي على خطى منشيوس في فهمه للطبيعة البشرية، ورآها واحدة في جميع الأفراد؛ لأنهم يُمنحون عند ولادتهم الفضائل الأساسية الأربعة نفسها. لكنه عندما تبنَّى فلسفة منشيوس، فيما يخص خيرية الطبيعة البشرية، أعطاها تفسيرًا ميتافيزيقيًّا معاصرًا، فزعم أن البشر لديهم تلك الطبيعة الحالية؛ لأنها تتطابق مع الجوهر داخلهم، وإلى هذا أشار بقوله: «الطبيعة البشرية هي ذلك الجوهر ببساطة.»
لكن إذا كانت الطبيعة البشرية هي الجوهر، وهي واحدة وخيِّرة دائمًا، فما الذي يعلِّل وجود أشخاص «سيئين» وسلوك «سيئ»؟ ذهب تشو شي ورفاقه في الكونفوشيوسية الجديدة إلى ما هو أبعد من فلسفة منشيوس (الذي لم يُجِب حقًّا عن هذا السؤال على نحو مُرضٍ) لتقديم تفسير للشر مرتكز على فهمهم للتشي. والنتيجة التي توصلوا إليها هي أنه على الرغم من أن البشر، المرتبطين بكل الكائنات الأخرى في الكون، يتلقَّون أفضل نوعية من التشي، فإن كلًّا منهم يحصل على حصة مختلفة من التشي؛ إذ تختلف جودة وكمية كلٍّ منها من شخص لآخر، على عكس الطبيعة البشرية الواحدة لدى الجميع. فبعض التشي يكون أنقى وأكثر تنقيحًا وكثافة من البعض الآخر.
يمنح هذا التوزيع للتشي الشكلَ والسمات الفردية المميزة لكل شخص، وهذا يُفسِّر حدوث التفرُّد بين البشر. ويسمح هذا التخصيص للتشي، بحسب درجة نقائه وكثافته، للطبيعة الخيرية الفطرية في الإنسان إما بالتألق، وإما بالاختفاء فلا تتجلى. يقول تشو شي في هذا الشأن لتلامذته: «الطبيعة البشرية هي الجوهر. والسبب وراء وجود صالحين وطالحين هو ببساطة أن كل حصة من التشي لها درجات مختلفة من النقاء والكدارة.»
هذه الهبة المحدَّدة من التشي التي يحصل عليها الفرد عند ولادته مقدَّرة. فأنا قد أحصل على كمية ونوعية من التشي تختلف عما تحصل عليه أنت. لكن — واستيعاب هذا الأمر ضروري إذا كنا نريد أن نفهم طبيعة مشروع الكونفوشيوسية الجديدة — هبتنا من التشي طيِّعة. لذا، بالنظر إلى طبيعة التشي الديناميكية والمتغيرة، وإلى أن السعي الإنساني يمكنه إدارة دفة تغييرها، يُمكن للفرد أن يزكي نفسه، بل أن يصل حتى إلى مرتبة الحكماء. ويمكن أن تتكدر وتتلوث أصفى أنواع التشي وأنقاها في حالة إهمالها، لكن الهبة المكدرة والملوثة يمكن تغييرها إلى شيء أكثر نقاءً وصفاءً. ولعلَّ التحدي الذي يواجه كل إنسان هو مسئولية الاعتناء بحصته من التشي، فيحافظ عليها أو ينقيها وينقحها على نحو مثالي، ما يأذن للخير، المتأصل في طبيعته، بالكشف عن نفسه دون حجب.
تلك القابلية للوصول للكمال تسبب ما يعدُّه أتباع الكونفوشيوسية الجديدة المعضلة الأخلاقية للبشر، والتي تتمثَّل في أن الإنسان في كل العصور لديه من الإمكانات ما يوصله إلى الكمال الأخلاقي، لكنه يجد نفسه عاجزًا عن تحقيق ذلك عادةً. فهو يتمتع بإمكانات أخلاقية فطرية، لكن لا بد له من تحقيقها على نحو فعَّال وواعٍ. ولهذا، عليه أن يتعهد حصته من التشي بالرعاية؛ لأن حالتها هي التي تحدد ما إذا كانت إمكاناته الأخلاقية، باعتباره إنسانًا، ستتجلى في الواقع أم لا. وهكذا يتضح أن تشو شي يتشارك مع منشيوس في رؤيته التي تقول بقدرة الإنسان على الوصول إلى الكمال الأخلاقي، لكنه قدَّم مع زملائه في الكونفوشيوسية الجديدة شرحًا وجوديًّا مفصَّلًا حول كيفية تزكية المرء لنفسه، من خلال التوسع في معنى مفهومَي الجوهر والتشي.
(٢) تهذيب النفس والتفتيش عن حقيقة الأشياء
عندما أراد القدماء … تهذيب أنفسهم، كان أول ما فعلوه هو العزم على اتباع طريق الحق؛ وعندما أرادوا العزم على اتباع طريق الحق، كان أول ما فعلوه هو الصدق مع أنفسهم؛ وعندما أرادوا الصدق مع أنفسهم كان أول ما فعلوه هو توسيع معارفهم لأقصى درجة؛ وتوسيع المعرفة يكمن في التفتيش عن حقيقة الأشياء.
وعلى هذا، يعتمد تهذيب النفس على محاولات التفتيش عن حقيقة الأشياء، وهو مصطلح خلافي قد أثار الجدل لقرون عديدة.
المقصود ﺑ «توسيع المعرفة يكمن في التفتيش عن حقيقة الأشياء» ما يأتي: أننا إذا أردنا توسيع معارفنا لأقصى درجة، فلا بد من تفتيشنا الدقيق عن جوهر الأشياء التي نصادفها. والعقل الإنساني، بما فيه من الفطنة، قادر على اكتساب المعرفة، وفي الوقت نفسه، كل الموجودات في العالم لها جوهر خاص بها. ولا يتحقق للإنسان تمام المعرفة ما لم يفتش عن ذلك الجوهر بدقَّة. لذا نجد الخطوة الأولى من التعليمات، في كتاب «التعليم الكبير»، تحث الطلاب على ضرورة بنائهم على ما يعرفونه بالفعل عن الجوهر، عندما يرَون أي شيء في الوجود، ثم الاستمرار في التفتيش حتى يصلوا إلى ذروة المعرفة. ومع طول الممارسة على هذا النحو، سيصبحون، في يوم من الأيام، نافذي البصيرة، حينها سيتضح لهم الظاهر والباطن، وكذا سمات الأشياء الخفية والواضحة، وسيَستنير العقل، بما يتضمنه من جوهر وعمليات واسعة، بنور المعرفة كليةً. هذا هو المقصود ﺑ «التفتيش عن حقيقة الأشياء». وهو أيضًا المقصود ﺑ «توسيع أو كمال المعرفة».
العملية التي يقترحها تشو هنا استقرائية. فكلما وجد الفرد شيئًا أو مسألة أو علاقة ينبغي أن ينظر إلى ما وراء ظاهره. فيفتش فيه تفتيشًا دقيقًا، ويتأمل تجليات جوهره الأصيل، حتى يصل إلى حقيقته المُضمَرة. ومع الوقت والمِران، ستزداد معرفته بالأشياء رسوخًا واتساعًا، ويتضح تصوره للعالم المحيط به وضوحًا لا وضوح بعده. وبناءً على هذا، تبدأ عملية التفتيش عن الجوهر الخاص، لكنها تنتهي بفهم الجوهر العام الذي يعطي ترابطًا منطقيًّا لجميع الأشياء.
ليس الهدف من هذا التفتيش قطعًا فهم العالم لأجل الفهم ذاته، ولا الاستقصاء العلمي. غاية ما في الأمر أنه إذا فهم الفرد الطبيعة الحقيقية للأشياء والأحداث فهمًا حقيقيًّا، وأدرك سبب وجود الأشياء والأحداث والعلاقات على ما هي عليه إدراكًا لا يشوبه الشك، فسيقدر على التعامل معها عندما يصادفها في العالم بطريقة مثالية. وتؤدي هذه المحاولات لملاحظة التجليات المتعددة للجوهر إلى فهم مستنير للنظام الكوني، ما يَنتُج عنه الوعي الأخلاقي بكيفية توافق الفرد على نحو مثالي مع ما يصادفه من أشياء وأحداث في ذلك النظام الكوني.
وبحسب ما يعتقده تشو، فإن ما يجعل فهم الجوهر ممكنًا للجميع هو أننا مولودون بعقل مُستبصِر، كما زعم شون تسي، وهي حدة في الذهن يستطيع بها الفرد سبر غور الجوهر المستتر للأشياء. لكنه يعترف في الوقت نفسه أنه ليس بوسع الجميع الوصولُ إلى الفهم التام، الذي هو غاية تهذيب النفس. فالعقل، وإن كان مؤهلًا لاستيعاب الجوهر والوصول لفهم كوني، يمكن أيضًا أن ينحرف عن ذلك السبيل، من خلال الإفراط في المشاعر البشرية أو الشهوات الحيوانية. لهذا السبب نرى تشو شي يكرِّر كلمات منشيوس، وينصح تلاميذه كثيرًا ﺑ «الحفاظ على العقل»، أو «استعادة العقل الضائع». يقول في أحد المواضع: «إنَّ تخلي الإنسان عن عقله هو الذي يجعله يقع في الشر.» ويضيف في موضع آخر: «عندما يحافظ الإنسان على عقله، صافيًا لا شائبة فيه، سيقدر على نحو طبيعي على التوحد مع الطريق الحق.» فبالنسبة إلى تشو، ذلك العقل المكوَّن من التشي الأكثر تنقيحًا هو الأساس. فلا بد من رعايته، والمحافظة على نقائه، إذا أراد المرء التصرف كما يليق على نحو يتناغم مع الجوهر.
وما يرشد العقل إلى الطريق الحق هو العزم، ويفسِّره تشو بالنية أو ميل العقل أو، حرفيًّا، «اتجاه الفكر». والمجاهدة ضرورية بالنسبة إلى الفرد حتى لا يتزعزع ذلك العزم؛ إذ لو كان قويًّا ثابتًا، فسيقود العقل حتمًا إلى طريق الحق باتجاه استيعاب الجوهر، ويبعده عن الشهوات المضللة. إن فكرة «تقرير أو عقد العزم»، تتكرر بشكل لافت للنظر في حوارات تشو شي مع تلامذته. ولا شك في أن الأهمية المركزية للعزم قد أُلقيَ الضوء عليها قبل ذلك بفترة طويلة من قِبل المعلِّم، عندما حكى في تعليقه «المقتطف من قصة حياته» في كتاب «المختارات» (٢: ٤) أن أول خطوة اتخذها في رحلته للوصول إلى الكمال الأخلاقي هي عقده العزم على التعلم في سن الخامسة عشرة.
(٣) برنامج تشو شي الخاص بالتعلم
من الممكن التفتيش عن الجوهر، كما وضَّح تشو شي، في أي مكان وفي أي شيء. بوسع الفرد أن يعثر على الجوهر بتأمل العالم الطبيعي وظواهره، والابن البار، وأحداث التاريخ وشخصياته، والعلاقات والخبرات الشخصية. فالجوهر متأصل في كل الأشياء والمسائل على أي حال. لكن يخشى تشو أن اتساع ميدان البحث وعدم تحديده قد يكون طاغيًا وصارفًا للأفراد عن مباشرة التفتيش عن حقيقة الأشياء بشكل جاد. ونراه يرغب في إعطاء تلاميذه تعليمات أكثر تركيزًا، فيقترح «أشياء» معينة ستُفضي، على الأغلب، إلى فهم الجوهر بشكل واضح ومباشر.
بالنسبة إلى تشو شي، تتمثل هذه «الأشياء» في كتب الحكماء الأقدمين، أي كلاسيكيات التقليد الكونفوشيوسي؛ لذا نراه يقول في هذا الشأن: «لكل الموجودات في الكون جوهر خاص بها، لكن لُب الجوهر مبثوثٌ في أعمال الحكماء والنبلاء. لهذا يجب اللجوء إلى تلك الأعمال في سعينا لفهم الجوهر.» فنظرًا لأن الكلاسيكيات قد كتبها كبار الحكماء الأقدمين — وهم رجالٌ هذبوا التشي الخاص بهم في حياتهم، وفهموا الجوهر فهمًا تامًّا — فسيتجلى الجوهر فيها بشكل واضح سهل. قد تكون هناك طرائق أخرى للتفتيش عن الجوهر، لكن دراسة مؤلفات الحكماء هي ببساطة الطريقةُ الأكثر فاعلية بينها.
ابدأ عند القراءة بالفقرات السهلة الاستيعاب. فعلى سبيل المثال، يتضح مفهوم الجوهر بشكل بارع في الكتب الأربعة الآتية؛ «التعليم الكبير» و«المختارات» و«منشيوس» و«الحفاظ على التوازن المثالي». كل ما في الأمر أن لا أحد يقرؤها. لكن إذا فُهمت هذه النصوص، فسيسهِّل على الفرد قراءة أي كتب، والتفتيش عن أي جوهر، والتعامل مع أي شأن.
وبعد إتقان هذه الكتب الأربعة، يتحوَّل الطلاب إلى ما يُسمَّى بالكلاسيكيات الخمسة، التي ظلَّت الأعمالَ المحورية للتقليد الكونفوشيوسي، لمدة ألف وخمسمائة عام منذ عهد الأسرة هان، وهي: «كتاب التغيرات»، و«كتاب القصائد»، و«كتاب التاريخ»، و«كتاب الطقوس»، و«حوليات الربيع والخريف».
ذلك التحوُّل في التركيز الذي يقوم به تشو هنا، وينجم عنه الابتعاد عن الكلاسيكيات الخمسة، والاتجاه إلى الكتب الأربعة؛ يبرز نقطةً واضحة في حد ذاتها، لكن ينبغي إبرازها: كما يقدم الإنجيل المسيحي مجموعة مختلفة من التعاليم التي تدعو القراء إلى استخلاص مجموعة مختلفة من المعاني، فهكذا تفعل الكلاسيكيات الكونفوشيوسية الثلاثة عشر، بما تشتمل عليه من كتابات متعددة، تختلف في المحتوى والتأكيدات. فقد تتشارك الكلاسيكيات الخمسة والكتب الأربعة في رؤية سياسية واجتماعية وأخلاقية جوهرية، لكن التعبير عنها يأخذ أشكالًا مختلفة نسبيًّا في المجموعتين.
بوجه عام، تشرح الكلاسيكيات الخمسة مبادئ الأخلاق الكونفوشيوسية، من خلال سرد الأمثلة والعِبَر من التاريخ القديم؛ وتحدِّد المؤسسات وطرائق الحكم المثالية المستخلصة من الماضي؛ وتصف بالتفصيل كيف يجب أن يتصرف الفرد في مختلف المواقف الحياتية؛ وتنص بالتفصيل على الممارسات الطقسية من أجل الحفاظ على مجتمع جيد التنظيم. ومن هذه الكتب الخمسة يتعلم الحاكم كيفية الحكم، والوزير كيفية إدارة عمله، والأب والأم كيفية تربية الأبناء، والأبناء كيفية التعبير عن برِّهم للآباء، والكبار والصغار كيفية إظهار الاحترام المتبادل، والأصدقاء كيفية المصادقة.
أما الكتب الأربعة فإنها تميل إلى الاعتماد بشكل أقل على التاريخ والوصف والوقائع. وتنشغل بشكل رئيسي بطبيعة الإنسان، ومصدر أخلاقه الداخلي، وعلاقته بالكون الكبير، وفي سبيل ذلك تعرض وتوضح المبادئ العامة للسلوك والأفعال القويمة، دون الحاجة إلى المعرفة التفصيلية، والمبهمة في كثير من الأحيان، بالممارسات الاجتماعية والمؤسسات الصينية القديمة التي لا بد منها من أجل فهم الكلاسيكيات الخمسة.
ولا يُعَد التحوُّل من الكلاسيكيات الخمسة إلى الكتب الأربعة تحولًا منهجيًّا عاديًّا، بل هو تحول فلسفي كبير في التقليد الكونفوشيوسي إلى «الداخل»، باتجاه التعاليم في الأعمال التراثية التي تضع مزيدًا من التأكيد على نحو كبير على عالم الأخلاق الإنسانية الداخلي، وعلى عملية تهذيب النفس البالغة الأهمية. وستشكل هذه الكتب الأربعة، بداية من القرن الثالث عشر فصاعدًا، مع شروحات تشو الممزوجة بالنص الأصلي، «المنهج الأساسي» في التقليد الكونفوشيوسي، والمدخل إلى تحقيق الذات وإلى الفهم الحقيقي.
وهكذا، في برنامج التعلم الذي وضعه تشو، هناك مجموعة كتب محددة يتعين على الفرد قراءتها، وتسلسل محدَّد لا بد من قراءتها به. لكن لا يقل أهميةً عن هذا وذلك أن هناك طريقة محدَّدة لقراءتها. ونرى تشو، على مدار سنوات كثيرة، يبتكر لتلامذته منهجًا محكمًا للتأويل (أو القراءة بحسب تعبيره)، وهو نظرية وطريقة شاملة لقراءة الكتب التراثية. كما نجده يحذر القارئ من مجرد تمرير العينين على المكتوب؛ إذ لن يثمر فهمًا حقيقيًّا للنص. فهو يحض القارئ على الإقبال على النص بعزم صادق وعقل متفتِّح حتى تكشف له كتابات الحكماء عن أسرارها. ولا بد أن يكون القارئ غاية في اليقظة، بعيدًا عن المخاوف والمشتتات، وإلى هذا يشير بقوله: «تحتاج في القراءة إلى ولوج الجسد والعقل في النص. لا تشغل نفسك بما يحدث في مكان آخر، وسترى الجوهر الموجود في الفقرة.» ولهذه الغاية يدعم تشو ممارسة الجلوس في هدوء أو التأمل؛ لأنها تُسكِّن عقل القارئ وتصفِّيه، وتتركه منفتحًا تمامًا وعلى استعداد لتلقي رسالة الحكماء.
ينبغي على القارئ تلاوة النص الكلاسيكي مرةً تلو الأخرى؛ حتى لا يراه كينونة «أخرى» منفصلة عنه. هذه التلاوة المتكررة ستؤدي إلى حفظ النص، لكنه حفظٌ غير ميكانيكي ولا خالٍ من الفهم؛ إذ كلما ردَّد القارئ النص فهمه فهمًا عميقًا ودقيقًا وقريبًا من روحه. ولا توجَد عدد مرات محددة لقراءة النص، بحسب ما يرى تشو، الذي لم يعلق إلا بقوله: «عندما يصبح التكرار كافيًا توقف»، لكنه يقرُّ بأن قراءة النص في بعض المناسبات خمسين أو مائة مرة قد لا يكون كثيرًا. إن هدف تشو شي التأويلي واضح؛ أن يتشرب أو يجسد متبع الطريق كلام الحكماء عَبر تلاوة الكلاسيكيات وحفظها. وعندما يمتلك القارئ ناصية كلام الحكماء يمكنه التشبُّه بهم.
يجب التوضيح أن دراسة الكتب التراثية، بالنسبة إلى تشو شي، عملية مهمة لا باعتبارها مرانًا عقليًّا، بل لأنها السبيل العقلي لغاية أخلاقية وحتى روحية. فمن خلال الكتب التراثية، ولا سيما الكتب الأربعة، يستطيع القارئ المتفاعل التوصلَ إلى الجوهر الذي يقوم عليه الكون؛ ومن ثَم، بحسب قول تشو، «يلتزم الطريقَ بكل قوته، فيدخل في عالم الحكماء والعظماء.» على هذا النحو، يمكن توجيه التفتيش عن حقيقة الأشياء إلى الموجودات في العالم «الخارجي»، خاصةً الكتب الأربعة، لكن بهدف التزكية الأخلاقية الداخلية في النهاية. وعندما يفهم المرء الجوهر المتأصل في الأشياء، فإنه يوقظ الجوهر، الذي هو أصل طبيعته البشرية، إيقاظًا كاملًا، وعلى هذا، يعبر بوضوح في أنشطته اليومية عن الفضيلة الحقَّة والاستقامة وقواعد الآداب الطقسية والحكمة التي فُطر عليها هو وجميع البشر. فالبحث عن الجوهر حتى «الذروة» يعني وصول المرء إلى الكمال الأخلاقي ببساطة.
(٤) الجديد في الكونفوشيوسية الجديدة
لا يندثر تقليد ديني أو فلسفي ما دام يقدر على التكيف والاستجابة للمستجدات على مرِّ الزمان. والتقليد الذي يعجز عن الاستجابة للعالم المتغيِّر يفقد فاعليته بالضرورة. ولعلَّ طول عمر التقليد الكونفوشيوسي يعود، بشكل كبير، إلى مرونته وفاعليته في تشكيل رسالته لمعالجة القضايا الملحَّة الخاصة بالعصور المختلفة. ويجسد «تعلُّم الطريق» أو الكونفوشيوسية الجديدة، قدرة المدرسة الكونفوشيوسية على الانخراط في عملية إعادة تفسير مستمرة لتعاليمها الجوهرية. فقد أفضى تأمل التقليد الكونفوشيوسي والكتب التراثية المقدسة، في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، إلى فهم لتلك الرسالة الكونفشيوسية فهمًا بنَّاءً وصالحًا لجمهور هذين القرنين. فألِفَ هذا الجمهور — في أعقاب ظهور المدارس الأخرى، مثل «التعلم المبهم» (التي يُشار إليها في الغالب بالتاوية الجديدة) والبوذية، في الألفية الأولى بعد الميلاد — تدبُّرَ الطبيعة الميتافيزيقية للكون، وموضع الإنسان داخله، وقدرة الإنسان على فهم واستيعاب الجوهر الحقيقي للكون.
-
استخدام لغة ميتافيزيقية
-
الحديث عن موضع الإنسان في كون قائم على الجوهر والتشي
-
تقديم فكرة «التفتيش في حقيقة الأشياء»، أو البحث عن الجوهر، واعتبارها أساسًا لعملية تهذيب النفس الكونفوشيوسية
-
تضييق منظور التفتيش، مع التركيز على العالم الداخلي للإنسان
-
وضع برنامج تعليمي محدد، مع تفضيل الكتب الأربعة على الكلاسيكيات الخمسة.
-
أن الإنسان قادر على الوصول إلى الكمال الأخلاقي
-
أن التعلم هو أساس التزكية الأخلاقية
-
أن الحكماء الأقدمين قدموا طريقًا للأخلاق والسلوك القويمَين في المجتمع
-
أن الرجل الكامل الفضيلة له تأثير تحويلي على الآخرين («التعليم الكبير»، الفصل الرابع)
-
أن التناغم الاجتماعي هو نتيجة أداء الأفراد لما تمليه عليهم أدوارهم من مسئوليات أخلاقية.
وبناءً على هذا، قد تدمج المدرسة الكونفوشيوسية الجديدة في تعاليمها المصطلحَين الميتافيزيقيَّين الخاصَّين بالجوهر والتشي، لكنها بالأساس تعيد التأكيد على تلك التعاليم الروحية والأخلاقية التي هي لُب الكونفوشيوسية التقليدية لكونفوشيوس ومنشيوس وشون تسي، وتنشرها بين جمهور القرنين الحادي عشر والثاني عشر.
(٥) الكونفوشيوسية الجديدة بعد تشو شي
على مدار القرنين الثالث عشر والرابع عشر، نصَّبَت توليفة الكونفوشيوسية الجديدة، لتشو شي، نفسها مذهبًا سياسيًّا وفكريًّا للصين. لكن تعاليمها واجهت تحديات. ولعل أبرز هذه التحديات ظهر في القرن الخامس عشر، عندما طوَّر وانج يانج مينج (١٤٧٢–١٥٢٩) نسخة منافسة من الفكر الكونفوشيوسي الجديد. فقد خلَص وانج، الذي كان متبعًا لتعاليم تشو شي وبرنامجه لتهذيب النفس في البداية، إلى أن منهجية تشو للوصول إلى الكمال الأخلاقي نظرية جدًّا، وكُلفة عملية التفتيش عن حقيقة الأشياء باهظة جدًّا. وزعم أن «الجوهر يتطابق مع العقل»، لا الطبيعة البشرية، مثلما كان يُصرُّ تشو.
كان لهذا التوجه تبعاتٌ مهمة. فلم يَعُد التلاميذ بحاجة إلى الانشغال بالدراسة الطويلة للكتب التراثية أو محاولة فهم جوهر العالم «الخارجي». ومفهوم «توسيع المعرفة» المأخوذ من كتاب «التعليم الكبير»، بحسب فهم وانج، ما كان يشير إلى سعة معرفة الفرد بالجوهر عَبر التفتيش في الموجودات الخارجية. فقد كان يُقصَد به، بدلًا من ذلك، توسيع أو إعمال المرء لعقله الأخلاقي الفطري — أي القدرة الفطرية على تمييز الصواب من الخطأ حسب الفكر الكونفوشيوسي — في كل شيء، وفي كل شأن، وفي كل مناسبة تَعرِض للفرد. ومعرفة الصواب والخطأ، بالنسبة إلى وانج، وحسن التصرف في كل المواقف الحياتية، لا يعتمدان على الخضوع إلى ذلك البرنامج التعليمي الشاق، كل ما في الأمر هو أن يُقدِم المرء على أفعاله في يقظة، ويستخدم ذلك الضمير الأخلاقي — الكونفوشيوسي — الخيِّر، الذي وُلد به كل إنسان على سطح البسيطة.
من المميزات الواضحة لمدرسة وانج يانج مينج أنها جعلت عملية تحقيق الذات الأخلاقية ممكنة بشكل أكبر، مقارنةً بمدرسة تشو؛ إذ لم تَعُد الدراسة والثقافة التراثية أمرًا ضروريًّا. وكانت مدرسة تشو شي قد زعمت، من الناحية النظرية، أن كل فرد بوسعه تحقيق الكمال الأخلاقي، لكن كان برنامجها التعليمي الكلاسيكي الصارم، من الناحية العملية، مقتصرًا على مَن يملكون المال والوسائل والرفاهية لتكريس أنفسهم للدراسة. بإيجاز، وفَّرت تعاليم وانج — نظريًّا على الأقل — إمكانية تهذيب النفس الكونفوشيوسية للأمِّيين، أو الجهَّال من الرجال والنساء، بحسب تعبير وانج نفسه.
ستُهيمن مدرسة الكونفوشيوسية الجديدة الخاصة بتشو شي على الصين في العقود الأولى من القرن العشرين، وستشكِّل مبادئها وشروحاتها أُسس المنهج التعليمي. لكن ستحظى مدرسة وانج أيضًا بشعبية كبيرة، لا سيما في السنوات الأخيرة من عهد الأسرة مينج (١٣٦٨–١٦٤٤). ومع شَق تعاليمهما طريقها إلى كوريا واليابان، ستجد المدرستان أتباعًا متحمسين وأوفياء فيما وراء حدود المملكة الوسطى.