«حجة واحدة ممتدة»
قال داروين ذات مرة عن كتابه «أصل الأنواع» إنه عبارة عن «حجة واحدة ممتدة»، ولكننا نستطيع تقسيمه إلى جزأين يَسهل التحكم فيهما. يدرس أحدهما ما إذا كانت أشكال الحياة الحديثة قد نشأت عن طريق التطور أم عن طريق الخلق المنفصل. طرح داروين قضية التطور. (ومع ذلك، فقد استخدم داروين نفسه تعبير «التحدر مع التعديل» بدلًا من «التطور». بدأ مصطلح «التطور» يُستخدم بعد نشر كتاب داروين عام ١٨٥٩ بقليل.) وفقًا لنظرية التطور، تنحدر جميع أشكال الحياة المختلفة على الأرض، كالأشجار والورود والديدان والحيتان، من أسلاف مشتركة. بدا هؤلاء الأسلاف مختلفين تمامًا عن أحفادهم المعاصرين. وتتمثل وجهة النظر المناهضة لنظرية التطور، والتي عارَضها داروين، في نظرية الخلق المنفصل أو نظرية الخلقوية. وفقًا لنظرية الخلق المنفصل، ثَمة تشابه كبير بين أشكال الحياة الحديثة وأسلافها، كما أن الأشكال المختلفة للحياة الحديثة لها أصول منفصلة وليست مشتركة. يؤكد التناول الديني لنظرية الخلق المنفصل أيضًا على أن كل شكل من أشكال الحياة قد خلقه الله بطريقة خارقة للطبيعة. عارَض داروين نظرية الخلق المنفصل، ولكنه لم يعارض الدين؛ إذ نفى أن الأنواع لها أصول منفصلة ولم ينفِ وجود الله.
يتناول الجزء الثاني من «أصل الأنواع» العملية التي تسبب عملية التطور. أشار داروين إلى أن العملية التي أطلق عليها الانتخاب الطبيعي هي التي قادت إلى عملية التطور. تتداخل هاتان الحجتان؛ أي المؤيدة للتطور والأخرى المؤيدة للانتخاب الطبيعي، في الكتاب. وتركِّز الفصول الأولى من كتاب «أصل الأنواع»، لا سيما الثالث والرابع والسادس والسابع والثامن، على الانتخاب الطبيعي، في حين تركِّز الفصول اللاحقة (من التاسع إلى الرابع عشر) على التطور؛ إلا أن الموضوعَين يَبرُزان في كل فصل من فصول الكتاب.
يناقش أول فصلين في كتاب «أصل الأنواع» الوراثة والتنوع. تشير الوراثة إلى الطريقة التي يشبه بها النسل الآباء في بعض النواحي؛ فمثلًا الآباء الذين يزيد طول قامتهم عن المتوسط ينجبون عادةً نسلًا أطول من المتوسط. وقد خضعت الآليات البيولوجية التي تقوم عليها الوراثة للدراسة والتحليل منذ عصر داروين. أصبح من المعروف الآن أن الوراثة تحدث بسبب الجينات والحمض النووي، لكن في زمن داروين كانت آلية الوراثة مُعضِلة لم تُحَل. يشير التنوع إلى الاختلافات بين الأفراد داخل جماعة (أو داخل عينة). وكما هو موضَّح في الجزء المقتطَف أدناه، يميل داروين لقول «التباينات الفردية»، في حين أن عالم الأحياء الحديث يستخدم كلمة «اختلافات فردية». في كلتا الحالتين، يُستخدم المصطلحان للإشارة إلى الأشكال المتنوعة الموجودة داخل النوع الواحد، دون أن يتقيد أيٌّ منهما بسياق زمني معين. من هذا المنطلَق، يُظهِر الجنس البشري اختلافات فردية من حيث الحجم والشخصية ولون البشرة وما إلى ذلك. وبلغة غير متخصصة، يُطلَق على هذا اسم التنوع، كما تُستخدم كلمات مشتقة من الفعل «يختلف» للإشارة إلى التغيُّر بمرور الزمن. ومع ذلك، توصَّل علماء الأحياء إلى استخدام كلمة «اختلافات فردية» للإشارة إلى الاختلافات بين أفراد النوع الواحد أو الجماعة الواحدة في أي وقت من الأوقات، كما أنهم يميلون لاستخدام كلمة «تنوع» للإشارة إلى الاختلاف بين الأنواع. يشير مصطلح «التنوع البيولوجي» إلى مجموعة كاملة من أشكال الحياة تتراوح من الميكروبات إلى الشعاب المرجانية إلى الغابات الاستوائية.
بدأ داروين كتابه بالوراثة والتباين لأن نظريته بالكامل تعتمد على هذين المفهومين. احتاجت نظرية داروين إلى مفهوم الوراثة؛ فمن دُون انتقال السمات الجديدة (المختلفة) التي تتطور داخل النوع إلى الأجيال المتعاقبة، لن يحدث التطور، وسيصبح الانتخاب الطبيعي غير فعَّال. أوضح داروين وجود الوراثة والاختلاف بأدلة من ضروب المحاصيل الزراعية وسلالات الحمام. وهذا المحتوى ليس أفضل طريقة لتقديم النظرية للقراء المعاصرين. فالمؤلفون المعاصرون سيكتبون عن علم الجينات بدلًا من ذلك. فأكبر فرق بين الطريقة التي نفهم بها التطور الآن، وبين فهم داروين نفسه، يكمن في مفهوم الوراثة. على المستوى المجرد، تُعَد حجة داروين مُحكَمة. فكل ما كان يحتاج إلى توضيحه حقًّا هو أن الوراثة تحدث بطريقة ما، وأن الاختلاف موجود. إلا أن المحتوى الذي قدَّمه بالكامل عن الموضوعين لم يعد مواكبًا للعصر.
عرض داروين نظرية الانتخاب الطبيعي في الفصلين الثالث والرابع. وقد بدأ بربط المحتوى الذي قدَّمه في السابق عن الوراثة والتنوع بالنظرية التي هو بصدد مناقشتها، ثم قدَّم نظرة عامة مسبقة عن نظرية الانتخاب الطبيعي نفسها.
قبل الولوج إلى موضوع هذا الفصل، يتعين عليَّ إبداء بضع ملاحظات أولية لتوضيح تأثير الصراع من أجل البقاء على «الانتخاب الطبيعي». وقد تبين في الفصل السابق وجود درجة من التباين الفردي بين الكائنات العضوية بتأثير من بيئتها الطبيعية، وعلى حد علمي لم يكن هناك خلاف حول هذا الأمر. كما أنه بالنسبة إلينا، لا يُهم أن تُسمى مجموعة مبهمة من أشكال الحياة أنواعًا أو أنواعًا فرعية أو ضروبًا، فعلى سبيل المثال لا يُهم في أي مستوًى تصنيفي تقع النباتات البريطانية المبهمة البالغ عددها مائتين أو ثلاثمائة، ما دمنا نسلم بوجود اختلافات يمكن تمييزها. لكن مجرد وجود تباينات فردية وبضعة اختلافات يمكن تمييزها، على كونه من الضرورات التي تقوم عليها أسس البحث، لا يساعدنا على فهم كيفية نشأة الأنواع في الطبيعة إلا بالنذر اليسير. كيف بلغت كل أوجه التكيف الدقيقة التي تمكِّن الأجزاء المختلفة في تركيب الكائن الحي من العمل معًا في تناغم وتتيح للكائن الحي التكيف مع ظروف الحياة والتعامل مع الكائنات الأخرى هذا الحد من الإتقان؟ نحن نرى أوجه التكيف المشتركة الرائعة هذه أكثر وضوحًا في نقار الخشب وعشب الدبق، وأقل وضوحًا في الطفيليات الأكثر تواضعًا التي تعلق بشعر الكائنات الحية التي تسير على أربع أطراف أو تعلق بريش الطيور، وفي تركيب الخنفساء التي تسبح في الماء، وفي البذور ذات الريش التي تسوقها النسمات الرقيقة؛ باختصار، نحن نرى أوجه تكيف جميلة في كل مكان وفي كل جزء من العالم العضوي.
مرة أخرى، قد يُثار التساؤل: كيف تحولت الضروب، التي سميتها أنواعًا ناشئة، في النهاية إلى أنواع محددة جيدًا ومنفصلة تختلف بوضوح في أغلب الحالات بعضها عن بعض أكثر مما يحدث في الضروب التابعة للنوع نفسه؟ كيف تنشأ هذه المجموعات من الأنواع، التي تكوِّن ما يُسمى بالأجناس المتباينة، والتي تختلف بعضها عن بعض أكثر مما يحدث بين الأنواع التي تندرج تحت الجنس الواحد؟ كل هذه النتائج، كما سيتبين لنا بصورة أكثر اكتمالًا في الفصل التالي، تنشأ حتميًّا عن الصراع من أجل البقاء. وبسبب هذا الصراع من أجل البقاء، فإن أي شكل من أشكال التباين، مهما كان طفيفًا وأيًّا كان سبب انبثاقه، إذا كان مفيدًا بأي درجة لفرد ينتمي لأي نوع، فسيميل إلى حماية هذا الفرد في علاقاته المعقدة بالكائنات العضوية الأخرى، وبالطبيعة وسيُورَّث إلى نسله. وبهذا سيحظى النسل بفرصة أفضل للبقاء؛ نظرًا لأنه من بين الأفراد المتعددة التابعة لأي نوع وتولَد بصورة دورية، لا ينجو سوى النذر اليسير. وقد أطلقت على هذا المبدأ، الذي بموجبه يتم الإبقاء على أي تباين بسيط إذا كان مفيدًا اسم «الانتخاب الطبيعي»؛ كي أبرز علاقته بقدرة الإنسان على الانتخاب. وقد رأينا أن الإنسان يمكنه إحراز نتائج عظيمة عن طريق الانتخاب كما يمكنه تطويع الكائنات العضوية لما فيه فائدة له من خلال تجميع تباينات بسيطة لكنها مفيدة تهبه إياها الطبيعة. لكن الانتخاب الطبيعي، كما سنرى فيما بعد، مستعد للعمل باستمرار، وهو يتخطى القدرات المحدودة للبشر بشكلٍ غير محدود، تمامًا كما تتجاوز إبداعات الطبيعة إبداعات الفن البشري بمراحل.
يبدأ الاقتباس بالفرق بين ما أطلقت عليه اسم الحجتين الرئيسيتين في كتاب «أصل الأنواع»؛ أي بين التطور والانتخاب الطبيعي. ثم انتقل لموضوع التباين أو «التباين الفردي» وعلاقته بالمجموعات التصنيفية الأعلى.
قسَّم علماء الأحياء الكائنات الحية إلى مجموعات موضوعة في تدرُّج هرمي. المجموعات الكبرى تشمل كائنات مثل «الحيوانات» و«النباتات». ثم في المستويات الأدنى توجد مجموعات مثل الفقاريات والثدييات والرئيسيات والقردة والبشر تباعًا. عادةً ما يمثل «النوع» المجموعة التي تقع في أدنى مستوًى تصنيفي (ينتمي البشر إلى مجموعة النوع). إلا أن داروين ذكر مستويين أدنى من النوع، وهما الأنواع الفرعية والضروب. هاتان المجموعتان لا تمثلان مستويات تصنيفية منفصلة تمامًا؛ إذ تشير كلتاهما إلى مجموعات فرعية محددة يمكن تمييزها داخل النوع. وهو يستخدم كلمة ضرب أكثر. الضرب عبارة عن شيء أشبه بسلالة الكلاب (كلاب البودل، وكلاب الترير، وما إلى ذلك) أو عِرق جغرافي. المستوى التالي المباشر الذي يقع فوق النوع هو الجنس. على سبيل المثال، ينتمي البشر للجنس البشراني، الذي يشملنا نحن البشر وبعض الأنواع المنقرضة ذات الصلة الوثيقة بنا.
يمثل التباين الفردي؛ أي أنواع الاختلافات التي تراها بين كائنين منفردين، التباين على أصغر نطاق. تشير «الضروب» إلى اختلافات أكبر: يختلف الكلب الترير عن ترير آخر في تفاصيل محددة في حين تختلف كلاب الترير تمامًا عن كلاب سانت برنارد. كان التباين مهمًّا بالنسبة لداروين لأنه يقوِّض نظرية الخلق المنفصل. يميل الأشخاص الذين يرون أن الأنواع خُلقت بشكلٍ منفصل إلى الاعتقاد بأن كل نوع هو شكل منفصل من أشكال الحياة يختلف بشكلٍ ملحوظ عن أشكال الحياة الأخرى. ومع ذلك، تُظهر الضروب المختلفة (من الحمام على سبيل المثال) درجات متفاوتة من الاختلاف. في بعض الحالات، قد يتماثل ضربان، وفي حالات أخرى قد تكون هناك بعض الاختلافات الطفيفة، وفي حالات أخرى، يمكن أن تفوق الفروق بينهما تلك الموجودة بين نوعين مصنفين باستخدام الطرق التقليدية. وعليه، فإن فكرة أن كل نوع كِيانٌ منفصل تمامًا فكرةٌ ساذجة. عندما تنظر من كثب، تجد أن الاختلافات داخل النوع الواحد تتداخل مع الاختلافات بين الأنواع فلا تستطيع تمييزها. إذا حاولت تحديد الكيانات التي خُلقت بشكلٍ منفصل، باعتبارك أحد المؤمنين بنظرية الخلق المنفصل، فسرعان ما ستصاب بالحيرة اليائسة. هل الأنواع أم الضروب أم التباينات الفردية هي التي خُلقت على حِدة؟ ستبدو أي إجابة اعتباطية؛ لأن درجات الاختلاف تتداخل. ليست هناك حدود واضحة وقاطعة تفصل بين الكائنات الحية.
يُعد التباين مهمًّا أيضًا في نظرية الانتخاب الطبيعي. في الجزء المقتبس، عرض داروين المسألة بصورة عامة بطريقة لافتة للنظر. طرح سؤالين؛ أحدهما عن تفسير التكيف، والآخر عن التغير التطوري المستمر. يمكن استخدام هذين السؤالين لتقييم أي نظرية مقترحة حول العوامل الدافعة للتطور. إذا لم تتمكن النظرية من تفسير التكيُّف والتطور المستمر، تصبح غير وافية.
يُعَد التكيف مشكلةً أساسية في علم الأحياء. مرة أخرى، يستخدم داروين (وعلماء الأحياء المعاصرون) الكلمة بشكلٍ متخصص وتقني بمعنًى يختلف قليلًا عن الاستخدام العامي. في الاستخدام العامي، يشير التكيف عادةً إلى التغيُّر بمرور الوقت. قد نتحدث عن شخص ونقول إنه «يتكيف» مع وظيفة جديدة؛ أي يعدل سلوكه ليلائم الظروف الجديدة. عندما تحدَّث داروين عن «كل أوجه التكيف الدقيقة»، كان يشير إلى تراكيب كالأيدي والأعين توجد في شكل مناسب جدًّا بالنظر إلى الحياة التي يعيشها المخلوق. العين، على سبيل المثال، لها تركيب بصري مزوَّد بعدسات وخلايا حساسة للضوء تُمكِّن الكائن من استخدامها للرؤية. تُعَد العين مثالًا على التكيف. يشير التكيف إلى أي جزء من أجزاء جسم الكائن الحي (أو سلوكه) صُمم بعناية من أجل البقاء.
يُعد التكيف حالة خاصة في الطبيعة وغير عشوائية على الإطلاق لم تنشأ من تلقاء نفسها أو بمحض الصدفة. بل تتطلب تفسيرًا. قبل داروين، فسَّرها العديد من الأشخاص على أنها عمل خارق من الإله. قدَّم وجود التكيف في الطبيعة أساسًا فلسفيًّا لدعم حجة وجود الإله، وقد سُميت بحجة التصميم. لكن نظرية الانتخاب الطبيعي لداروين جعلت من غير الضروري افتراضَ وجود الإله، على الأقل لتفسير التكيف في الطبيعة.
نجحت نظرية الانتخاب الطبيعي في تفسير التكيف، كما تشير النظرة العامة الموجزة في الاقتباس أعلاه (وكما سنرى في الفصلين الثاني والثالث). وقد طُرحَ العديد من النظريات الأخرى لتفسير التطور، ولم ينجح معظمها في اجتياز هذا الاختبار بنجاح. على سبيل المثال، اقترح بعض علماء الأحياء، بعد داروين، أن التطور يحدث من خلال قفزات كبيرة، هذه القفزات تكون مدفوعة بأنواع خاصة من التغيرات الجينية الكبيرة والنادرة (تُسمى أحيانًا الطفرات الكبرى). ولكن التغيرات في الحمض النووي لا تُفضي بالضرورة إلى التكيف؛ فمن المرجَّح أن تفضي هذه التغيرات إلى تأثيرات سلبية بقدر ما تفضي إلى تحسينات. (بل إن التغيير الكبير في المخلوقات التي تكون بالفعل على قدرٍ جيد من التكيف، من المرجَّح أن يكون تغييرًا نحو الأسوأ.) ومن ثَم تعجز نظريات التطور عبر الطفرات الكبرى عن تفسير عمليات التكيف، وسرعان ما تتعثر عند أول عقبة، بالمقارنة بنظرية داروين.
في بعض النواحي، يركز علماء الأحياء المعاصرين بشكلٍ أقل على اختبار داروين الأول — ما إذا كانت النظرية تفسر التكيف — مقارنة بما فعل داروين. كما أنهم يولون مزيدًا من الاهتمام للتغيير التطوري العشوائي أكثر مما كان يفعل. والآن، ثَمة عمليتان رئيسيتان مقبولتان لإحداث التغيير التطوري: الانتخاب الطبيعي والانحراف الوراثي العشوائي. وهذا يعني أن التطور لا يمكن أن يكون مدفوعًا بالانتخاب فقط، كما أشار داروين؛ بل من الممكن أن يحدث بالصدفة في حالة وجود نسختين متساويتين من حيث الجودة من الجين الواحد (أو من امتداد الحمض النووي) وتكون إحداهما أكثر حظًّا من الأخرى أثناء التكاثر عبر الأجيال. ويُعَد التركيز الحديث على التغيير التطوري العشوائي نتيجة لاكتشاف الحمض النووي. كانت معرفة داروين تقتصر على السمات الملحوظة للكائنات الحية، وكان مهتمًّا بالتطور الذي يحدث في هذه السمات. وجميع صفات الكائنات الحية الملحوظة عبارة عن أشكال من التكيف. وعليه، فإنه من المؤكَّد أن هذه الصفات تطورت عن طريق الانتخاب الطبيعي. ولا يمكن للانحراف الوراثي العشوائي أن يؤدي إلى التطور التكيفي؛ وذلك لأن التكيف بحكم طبيعته ليس عشوائيًّا. ومع ذلك، فقد تبين أن التطور التكيفي لا يُعزى إليه سوى النذر اليسير من التغيرات التي تحدث في الحمض النووي للكائن الحي. من الممكن أن تكون نسبة لا تزيد عن ٥٪ فقط من الحمض النووي للإنسان هي التي تُعتبر بالفعل شفرة الجسم. أما النسبة المتبقية؛ أي ٩٥٪ منه، فقد تمثل بشكلٍ أساسي «حمضًا نوويًّا غير مشفِّر أو خردة» (لكن هذا غير مؤكد): بمعنى أنه حمض نووي ينتقل من الآباء إلى النسل ولا يسبب أي أذًى، لكنه في الوقت نفسه ليس له فائدة على الإطلاق. ويُعَد التطور في هذا الحمض النووي غير المشفِّر غير تكيفي وعشوائيًّا. ومن الطبيعي ألا تكون هذه التغيرات تكيفية؛ لأن الحمض النووي غير المشفِّر لا يحمل شفرة أي وظيفة في الجسم.
إن تحول التركيز نحو التطور العشوائي منذ زمن داروين وحتى الوقت الحاضر كان نتاجًا لمنظورنا المعاصر الذي يتناول التطور من حيث التغيرات في الحمض النووي. ومن المرجَّح أن داروين كان سيؤيد فكرة أن معظم التطور ينبع من عمليات عشوائية بدلًا من الانتخاب الطبيعي لو علم ما نعرفه الآن عن الحمض النووي. على سبيل المثال، نُسخت جميع تتابعات الحمض النووي بالكامل لكلٍّ من البشر والفئران. ومن بين ٣٠٠٠ مليون حرف أو نحو ذلك من الحمض النووي البشري، تغير نحو السدس، أو ٥٠٠ مليون حرف، خلال ١٠٠ مليون سنة أو نحو ذلك منذ أن كان سلفنا المشترك مع الفئران يتجول في عصر الديناصورات. على نحو تقريبي، ربما لم نكن نحتاج إلا إلى ٢٥ مليون تغيير أو أقل فقط من هذه التغييرات لكي يتحول هذا الحيوان الثديي القديم إلى إنسان. وأغلب هذه التغييرات البالغ عددها ٢٥ مليونًا قد تكون مدفوعة بالانتخاب الطبيعي. في مقابل ذلك، حدث أكثر من ٤٧٥ مليون تغيير بفعل التطور العشوائي. وصحيح أن الانتخاب الطبيعي لا يزال يفسر سبب تطور أجسادنا لتكون حسنة التصميم، لكننا لن نستطيع التغاضي عن هذا الكم الضخم من العمليات التطورية العشوائية التي حدثت لنا. لم يكن هذا معروفًا عندما كان داروين يدون أفكاره.
أما السؤال الثاني الذي يطرحه داروين وفي الوقت نفسه الاختبار الثاني الذي يقيم أي نظرية مقترحة حول التطور، فيتمثل فيما إذا كانت النظرية تفسر التغيُّر التطوري أم لا. على وجه التحديد، ينبغي أن تكون أي نظرية تطور قادرة على تفسير تنوع الحياة بالكامل. تكون النظرية قاصرة إذا كانت قادرة على تفسير التطور على مستوًى محدود، أو التطور بنمط مختلف عن نمط الحياة على سطح الأرض كما نعرفه. للتنوع البيولوجي نمطٌ هرمي، ينعكس في التصنيف الهرمي إلى أنواع وأجناس وما إلى ذلك. ومن المفترَض أن يكون السبب وراء هذا النمط هو أن الأشكال المختلفة تميل إلى التطور بشكل منفصل بعضها عن بعض أو التباعد مع مرور الوقت. فالأشكال المختلفة التي لها سلف مشترك حديث لا تزال متشابهة نسبيًّا، في حين أن الأشكال التي لها سلف مشترك أبعد زمنيًّا تصبح أكثر اختلافًا. ومن ثَم، كان داروين يبحث عن نظرية تتطور فيها الأشكال المختلفة بشكل منفصل بعضها عن بعض، وربما يبعد أحدها عن الآخر بمرور الوقت. هذا المسعى يشكل الأساس للعديد من ملاحظات داروين عندما يناقش «الصراع من أجل البقاء». تفرَّد داروين باستيعاب أن المنافسة تكون أقوى بين الأفراد داخل الجماعة الواحدة مقارنةً بالمنافسة بين الأجناس أو الأنواع. وكما سنرى في الفصل القادم، قادَه ذلك نحو «مبدأ التباعد» الذي مكَّنه من الإجابة عن سؤاله الثاني حول التطور.
في نهاية الجزء المقتبَس، تجدر ملاحظة كيف أشار داروين للعلاقة بين «الانتخاب» في الطبيعة و«الانتخاب» الذي يقوم به الإنسان. يستولد البشر المحاصيل الزراعية والحيوانات المنزلية (مثل الحمام)، عن طريق انتقاء أفراد ذات إنتاجية عالية من الحليب أو تتمتع بشكل رائع للريش وتزويجها. وقد كان داروين خبيرًا في هذا الموضوع، وكان كثيرًا ما يضرب أمثلة من الانتخاب البشري «الاصطناعي» عند حديثه عن الانتخاب الطبيعي. نادرًا ما يقدم الكُتاب المعاصرون نظرية الانتخاب الطبيعي بهذه الطريقة؛ ربما لأنها أصبحت أقل شيوعًا. لكن سرعان ما ينتقل قارئ داروين إلى عالم يتكاتف فيه العلم والزراعة بقوة ويتكاملان بدلًا من أن يتعارضا.
في زمن داروين، لاقت نظريتا التطور والانتخاب الطبيعي اللتان قدَّمهما ردود أفعال متباينة. وقد اقتُرحت فكرة التطور، القائلة بأن الأنواع تتغير بمرور الزمن، عدة مرات قبل ذلك. فقد وُجدت في كتابات اليونانيين القدماء، وقد تعرَّضت للنقد وخضعت للمناقشة كما أعيد إحياؤها مرات عديدة منذ ذلك الحين. رأى العديد من علماء الأحياء، وربما معظمهم، أن الملاحظات والأدلة التي قدمها داروين فيما يتعلق بنظرية التطور مقنعة بدرجة كبيرة. في أوائل القرن التاسع عشر ومنتصفه، قبِل عددٌ قليل من علماء الأحياء بفكرة التطور علنًا؛ وفي أواخر القرن التاسع عشر، لم يعارض هذه الفكرةَ علانيةً سوى أقلية منهم، وكان هذا التغيير يرجع أساسًا إلى داروين. يختلف الشكل المحدد الذي اتخذه التطور في نظرية داروين بالفعل عن النظريات التطورية الأخرى، إلا أن هذه الاختلافات كانت مجرد تفاصيل؛ فقد أصبح التطور نفسه جزءًا من الاتجاه البيولوجي السائد.
كان الانتخاب الطبيعي فكرة مبتكرة تمامًا. ثَمة بعض الآثار البدائية لها قبل داروين، لكن نادرًا ما حظيت بالمناقشة والتفكير فيها، ولم يكن لها أي تأثير عمليًّا. رأى داروين كيف يمكن للانتخاب الطبيعي أن يعمل بوصفه قوةً إبداعية ويفسر بشكلٍ أساسي كل أشكال التطور في الحياة؛ وهذه الفكرة لم تخطر لأحد من قبل. ومن ثَم لم يفهم فكرة الانتخاب الطبيعي سوى قِلة من الناس حين طرحها داروين، وقد قوبلت بالرفض العام أو التجاهل. لم يبدأ علماء الأحياء في أخذ الانتخاب الطبيعي على محمل الجد تدريجيًّا إلا في النصف الأول من القرن العشرين. ولم تُقبل على نطاق واسع، باعتبارها تفسيرًا للتطور، حتى عام ١٩٥٠.
ثَمة استثناء واحد مثير للاهتمام. ابتكر داروين فكرة الانتخاب الطبيعي في أواخر ثلاثينيات القرن التاسع عشر، لكنه ظل صامتًا ولم يفصح عنها. فقد كان يستعدُّ لتأليف كتاب ضخم حول الموضوع، وقد استغرق وقتًا. وفي عام ١٨٥٧، تلقَّى خطابًا من ألفريد راسل والاس، الذي توصَّل إلى الفكرة نفسها تقريبًا. كان والاس (١٨٢٣–١٩١٣) عالم طبيعة بريطانيًّا آخر جابَ أنحاء العالم مثل داروين تمامًا. كتب والاس لداروين من مالايا. وحثَّ خطابه داروين على العمل، فطرحا نظرية التطور عن طريق الانتخاب الطبيعي علنًا لأول مرة في ورقة بحثية مشتركة باسم داروين ووالاس في عام ١٨٥٨. قوبلت الورقة البحثية بالتجاهل. في هذه الأثناء، بدأ داروين في كتابة النظرية في كتاب طويل، فيما أسماه ملخصًا ﻟ «كتاب الأنواع الكبيرة» الذي كان يعمل عليه. هذا الملخص المشار إليه هو «أصل الأنواع»، وعلى عكس الورقة البحثية السابقة، أحدث الكتاب ضجة كبيرة. كان والاس دائمًا كريمًا في منح الفضل لداروين باعتباره المؤلف والمبدع الرئيسي لنظرية التطور عن طريق الانتخاب الطبيعي؛ ولكن يجدر بنا أن نتذكر أنه على الرغم من تفرُّد داروين وقدرته على الإبداع، ثَمة شخص آخر كان لديه نفس الفكرة بعده بفترة قصيرة.