التعبير عن الانفعالات
إذا نظرنا إلى الإنسان والحيوانات الأخرى جميعها بوصفها مخلوقات مستقلة، فإن هذا المنظور بلا أدنى شك سوف يقف عائقًا في طريق رغبتنا الفطرية في استكشاف أسباب التعبير قدر الإمكان. وفقًا لهذا المبدأ، فإن كل شيء وأي شيء يمكن تفسيره بالمقدار نفسه، وقد ثبت أنه هدَّام فيما يتعلق بالتعبير كما هو الحال في كل فروع التاريخ الطبيعي. في حالة الجنس البشري، لا يمكن فهم بعض التعبيرات مثل انتصاب الشعر تحت تأثير الرعب الشديد أو الكشف عن الأسنان في فورة الغضب، إلا من خلال الاعتقاد بأن الإنسان قد عاش في أحد أطوار حياته في ظروف أشد تدنيًا أو مشابهة لظروف معيشة الحيوانات. يمكننا تفسير بعض التعبيرات المشتركة بين الأنواع المتمايزة التي تكون قريبة الصلة، مثل حركات عضلات الوجه نفسها أثناء الضحك لدى الإنسان وعدد من القردة، بشكل أوضح إذا اعتقدنا بأن هذه الكائنات تنحدر من سلف مشترك. إن من يعتقد بشكلٍ عام أن بنية جميع الحيوانات وطبائعها قد تطورت تدريجيًّا، من شأنه أن ينظر إلى موضوع التعبير برُمَّته بطريقة جديدة وشيقة. […]
سأبدأ بتقديم المبادئ الثلاثة، التي تبدو بالنسبة إليَّ مفسِّرة لمعظم التعبيرات والإيماءات اللاإرادية التي يستخدمها الإنسان والحيوانات الأدنى، تحت تأثير الانفعالات والأحاسيس المختلفة. […]
-
(١)
مبدأ العادات المقترنة النافعة. بعض الأفعال المعقدة تكون ذات فائدة مباشرة أو غير مباشرة في ظل حالات ذهنية محددة، لتخفيف حدة أحاسيس أو إرضاء رغبات معينة، وما إلى ذلك، وكلما استُحثَّت الحالة الذهنية نفسها، ولو بمقدار ضئيل، كان هناك ميل، بحكم قوة العادة والاقتران، لأداء نفس الحركات حتى وإن لم تكن لهذه الحركات حينها فائدة تُذكَر. قد يتمكن الفرد بإرادته من الكبح الجزئي لبعض الأفعال المقترنة لديه، من خلال العادة، بحالات ذهنية محددة، وفي مثل هذه الحالات، تكون العضلات الأقل خضوعًا للسيطرة المنفصلة للإرادة هي الأكثر عرضة للاستجابة، مما يسبب الحركات التي نراها معبرة.
-
(٢)
مبدأ التضاد. يؤدي بعض الحالات الذهنية المعينة إلى أفعال اعتيادية معينة، التي تكون ذات فائدة، كالأفعال التي تندرج تحت المبدأ الأول. أما عندما تُستحَث حالة ذهنية مضادَّة تمامًا، يصبح هناك ميل قوي لا إرادي لأداء حركات لها طبيعة مضادَّة تمامًا، على الرغم من أن هذه الحركات غير ذات فائدة، ومثل هذه الحركات تكون في بعض الحالات معبِّرة على نحوٍ كبير.
-
(٣)
مبدأ التصرفات الناشئة عن تكوين الجهاز العصبي، بشكلٍ مستقل منذ البداية عن الإرادة ومستقل إلى حدٍّ ما عن الاعتياد. عند استثارة الجهاز الحسي استثارة شديدة، يتولد فيضٌ من القوة العصبية، تنتقل في اتجاهات محددة بناءً على ارتباط الخلايا العصبية، وجزئيًّا بناءً على الأنماط أو التصرفات المعتادة، وإلا فسيضطرب سريان القوة العصبية كما يبدو. هذا يؤدي إلى ظهور تأثيرات نسلم بأنها معبرة. يمكن تسمية هذا المبدأ الثالث إيجازًا بالتأثير المباشر للجهاز العصبي.
بالنسبة إلى داروين، كان تأليف كتاب «نشأة الإنسان» (الذي نُشر عام ١٨٧١) ثم كتاب «التعبير عن الانفعالات» (الذي نُشر عام ١٨٧٢) بمثابة عمل طويل ومتواصل. فبمجرد أن انتهى من مراجعة النسخة النهائية من «نشأة الإنسان»، بدأ في كتابة «التعبير عن الانفعالات». كان داروين آنذاك يبلغ من العمر ٦٣ عامًا، وقد ضعفت صحته منذ سنوات؛ ومن ثَم لا عجب في أن يكون مُنهَكًا بالكامل. ومع ذلك، فقد تعافى ليكتب عدة كتب أخرى في عقده الأخير.
ثَمة ارتباط وثيق بين «نشأة الإنسان» و«التعبير عن الانفعالات». في الواقع، ربما خطَّط داروين لهما في الأساس أن يكونا كتابًا واحدًا. وفُصِل العملان جزئيًّا لأسباب تتعلق بالطول، ولكن أيضًا لأن النظام النظري الكامن وراء كتاب «التعبير عن الانفعالات» اتخذ مسلكًا مستقلًّا. في كتاب «نشأة الإنسان» رأينا (في الفصل السابع) كيف تناول داروين سلسلة من الملَكات الاجتماعية والعقلية للبشر مثل اللغة والأخلاق والدين والتعاون الاجتماعي والتضحية بالذات. كانت هذه الأمور مهمة لأن مؤيدي نظرية الخلقوية، الذين اعتقدوا أن البشر لهم أصول منفصلة عن بقية أشكال الحياة، كانوا يميلون إلى قول إن الملَكات الاجتماعية والعقلية هي ما يميز البشر عن بقية أشكال الحياة. قد تبدو أجسادنا صورة معدَّلة من جسد القرد، لكن (حسب هذه الحجة) ليس لدى القردة شيء يشبه حسَّنا الأخلاقي والاجتماعي والديني. أجاب داروين بإظهار كيف تطورت كل هذه الملكات لدى البشر، عن طريق الانتخاب الطبيعي، من أسلاف في أشكال حياة غير بشرية.
وقد ألهم حافز مماثل في الأصل بحث داروين حول الانفعالات. في عام ١٨٣٨، قرأ كتابًا حول الموضوع ألَّفه أحد الخبراء وهو سير تشارلز بيل. أشار بيل إلى أن هناك بعض عضلات الوجه التي توجد على نحو استثنائي لدى البشر وتلعب دورًا في التعبير الانفعالي. وبالمثل، كانت الحجة الشائعة بين المفكرين الأخلاقيين والسياسيين في القرن الثامن عشر هي أن البشر ينعمون دون غيرهم بسِمة تورُّد الخدَّين. كانت الحياة الاجتماعية البشرية ستصبح مستحيلة إذا كذب الناس بعضهم على بعض طوال الوقت؛ ومن ثَم فإن التورُّد يساعد بدوره على منع أو تقليل الضرر الاجتماعي الناجم عن الكذب. وكان يُعتقد أن التعبير عن الانفعالات هو سمة أخرى، كاللغة والأخلاق، تميز البشر عن بقية أشكال الحياة.
شرع داروين في العمل على جمع المعلومات لأكثر من ثلاثين عامًا قبل أن يؤلف كتابه. لقد كان يعلم بالفعل في عام ١٨٣٨ أن ادعاءات بيل بشأن عضلات الوجه كانت خاطئة. فجميع عضلات الوجه نفسها موجودة لدى البشر والقردة من غير البشر. ولا تزال نسخة داروين من كتاب بيل موجودة وبداخلها تعليقات داروين الهامشية. عند نقطة معينة، تحدَّث بيل عن العضلة التي تجعد أو تغضِّن المنطقة ما بين الحاجبين (العضلة المغضِّنة للحاجب، على وجه الدقة)، وتعبر عما يجول داخل العقل من مشاعر أو أفكار بشكل غير قابل للتفسير لكن لا يمكن مقاومته. علَّق داروين: «هل هذه العضلة موجودة لدى القردة؟ … لقد رأيتها تطورت بالكامل لدى القردة. أظن أنه لم يشرِّح قردًا قط.» مضى داروين في تتبع الروابط بين طرق التعبير عن الانفعالات لدى أشكال الحياة غير البشرية ولدى البشر. واتضح عدم وجود شيء يختص به البشر دون غيرهم على نحو استثنائي فيما يتعلق بالتعبير عن الانفعالات.
وقد ذهبت الفقرة الافتتاحية من الاقتباس إلى أبعد من ذلك. ثَمة اعتراضات عامة على أي منظور غير تطوري للحياة، لكن حين يتعلق الأمر بالانفعالات تنشأ مشكلات محددة. اختُزل حجم أسناننا مقارنة بأسنان القردة العليا ومعظم القردة. تشبه أنياب ذكور البابون الخناجر، فهي أسلحة خطيرة وحتى مميتة يتم الكشف عنها في الصراعات وتُستخدَم في القتال. للشمبانزي أيضًا أنياب ضخمة ويستخدمها في القتال. ومن ثَم، من المنطقي أن يكون أسلافنا قد كشفوا عن أسنانهم، أو كشَّروا عن أنيابهم، باعتبارها وسيلة للتهديد، تعبيرًا عن الغضب أو العدوانية. يستمر البشر في التكشير عن أنيابهم عند التهديد أو السخرية على الرغم من أن أسناننا ليست أسلحة ذات بال. وكما يقول داروين، فإن التكشير عن الأسنان أثناء الغضب «لا يمكن فهمه» إلا من خلال نظرية التطور.
تمثل أحد الأهداف المستمرة لكتاب «التعبير عن الانفعالات» في تتبع طرق للتعبير عن الانفعالات لدى البشر وأشكال الحياة غير البشرية خلال عملية التطور والعلاقة التي تربط بينها. ومع ذلك، أصبح هذا الهدف ثانويًّا، إذ إن داروين ابتكر نظامًا نظريًّا كاملًا لفهم التعبير عن الانفعالات. السؤال الرئيسي الذي يكمن وراء الكتاب هو لماذا يأخذ التعبير عن الانفعالات الشكل الذي هو عليه. لماذا نُعبر عن ارتفاع معنوياتنا من خلال الابتسامة أو الضحكة؟ لماذا نعبر عن الحزن من خلال البكاء، والكدر من خلال تغضُّن ما بين الحاجبين وتجعُّد الجبهة وقلب الشفة؟ لماذا نهزُّ أكتافنا عندما نشعر بالعجز؟ تتناول الفصول الرئيسية للكتاب الحالات الانفعالية، وتصف شكل التعبير عنها وتفكر في سبب اتخاذ التعبير الشكل الذي يتخذه. الكتاب آسر للقراءة، لا سيما بسبب المجموعة المتنوعة من المواد التي جمعها داروين. لقد راقب داروين زملاءه البالغين وراقب نفسه، كما راقب أطفاله بشكل خاص. كانت ولادة أول أطفاله في أربعينيات القرن التاسع عشر حافزًا كبيرًا آخر للعمل. وقد تناول التعبير عن الانفعالات في الرسم والنحت، وكيفية وصفها في الأدب. وتعاون في بحث حُفزت فيه عضلات الوجه كهربيًّا، ليرى مدى تأثير تلك العضلات على شكل الوجه. أرسل استبيانات للأشخاص الذين يعيشون في جميع أنحاء العالم، يسألهم عن كيفية تعبير السكان المحليين عن انفعالاتهم. قادت الإجابات داروين إلى استنتاج أن معظم أشكال التعبير الانفعالي عامة لدى البشر. وقد ثبت أن هذا الاستنتاج مثير للجدل بين بعض علماء الأنثروبولوجيا في القرن العشرين، ولكنه الآن مقبول على نطاق واسع، لا سيما بعد بحث بول إيكمان. ومحتويات كتاب «التعبير عن الانفعالات» ليست متخصصة في الأساس. ومن ثَم كانت مثيرة لاهتمام القراء على المستوى الشخصي وليس الأكاديمي فقط، وهو ما جعل الكتاب من أكثر كتب داروين التي تسهل قراءتها.
استهل داروين كتابه بتقديم نظامه التفسيري العام. يتكون النظام من ثلاثة مبادئ، وقد أوضحها النصف الثاني من الجزء المقتبس. يستخدم داروين هذه المبادئ، بطريقة غير صريحة غالبًا، في الفصول الأساسية من الكتاب؛ أي الفصول حول الانفعالات المعينة. لا ترتقي المبادئ الثلاثة لأن تصبح نظامًا نظريًّا قويًّا كما هو الحال في نظرية الانتخاب الطبيعي التي عُرضت في «أصل الأنواع» على سبيل المثال. فقد قدَّم الانتخاب الطبيعي تفسيرًا قويًّا للحقائق التي جمعها عن الأنواع. وفي كتابه «أصل الأنواع» كان يشير باستمرار إلى النظرية أو يطبقها لفهم حقيقة أو أخرى. في المقابل، كانت المبادئ الثلاثة الخاصة بالتعبير الانفعالي منطقية إلى حد بعيد عند تطبيقها على بعض الحقائق، لكنها كانت أقل قابلية للتطبيق على حقائق أخرى. في الكتاب، يبدو أن داروين كان يستخدم المبدأ في بعض النقاط، لكنه يتجاهله بعد ذلك في فقرات طويلة في مكان آخر. وهكذا، فإن الكتاب ليس حجة طويلة لدعم المبادئ الثلاث. بل هو بالأحرى مجموعة من التأملات، تشتمل على نظرية أولية. كان داروين يفضِّل أن تكون لديه فكرة عامة لكي ينظم أي موضوع؛ لكن في حالة الانفعالات، فإن تأملاته حول موضوعات فردية تطغى أحيانًا على حاجته لاختبار صحة نظريته العامة.
ومع ذلك، فإن المبادئ الثلاث هي النظرية المحورية في الكتاب ولها علاقة بكل مناقشات داروين فيه. ومن ثَم فإنها تستحق الفهم. المبدأ الأول في الجزء المقتبس هو ما يسميه داروين «العادات المقترنة النافعة». تتطلب بعض الأفعال منا اتخاذ وضعية معينة قبل أو أثناء القيام بالفعل. على سبيل المثال، في حالة أي خلاف بين فردين قد يفضي إلى قتال، من المنطقي أن تحدق في خصمك بنظرات مباشرة وصارمة وتشد عضلاتك وترفع قبضتك. هذه الوضعيات تُعَد أيضًا من وسائل التعبير عن التهديد أو الغضب. وهي تُعَد مثالًا على ما يعنيه داروين بقوله العادات المقترنة النافعة. هذه العادات «نافعة» بمعنى أنها مفيدة في هذه الظروف. إذا كنت على وشك أن تضرب شخصًا، فعليك أن تتوجه نحو الهدف وتشد عضلاتك ثم تحرك ذراعك. وهي «مقترنة» بانفعالات كالغضب والعدوانية. يرى داروين أنه في الماضي، عندما كان أسلافنا يشعرون بالغضب، كانوا على الأرجح يقومون بأفعال مثل تثبيت أنظارهم على مصدر غضبهم وشد عضلاتهم. بمرور الزمن، أصبحت هذه العادات معبرة عن مشاعر الغضب.
تُعَد تعبيرات الغضب والتهديد مثالًا مباشرًا على العادات المقترنة النافعة، لكن داروين استخدم المبدأ عينه على نطاق أوسع. فهو يقول، في الجزء المقتبس، إنه يمكن القيام بهذه العادات «حتى وإن لم تكن لهذه الحركات حينها فائدة تُذكَر». على سبيل المثال، من الممكن أن يكون إغماض أعيننا من العادات النافعة المقترنة بالعديد من التجارب الكريهة، ربما بغرض حمايتها. لكن داروين لاحظ كيف يمكننا أن نغمض أعيننا حين ترد ببالنا فكرة مروعة، حتى ولو كنا في غرفة مظلمة. فالعادة هُنا (أي إغماض العين) تقترن بالتجارب المروعة وتكون مفيدة في بعض الحالات؛ وبهذا المعنى تكون «نافعة». لكن قد يتم القيام بهذه الحركة المعتادة حتى ولو لم تكن مفيدة. ومع ذلك، استمر داروين في الإشارة إليها بالعادة المقترنة النافعة. وقد أدلى بملاحظات مماثلة حول الكيفية التي نُعرِض بها جسديًّا في كثير من الأحيان عند رفض عرض ما. من المفيد أن نُعرِض، كي نحمي أنفسنا من بعض أنواع الإهانة. تتكرر هذه العادة، من خلال الاقتران، فيما قد يُعتبر نقاشًا لفظيًّا مهذبًا، عندما لا تكون لها فائدة مادية (على الرغم من أنها قد تكون مفيدة في التواصل).
مضى داروين خلال الجزء المقتبس في تطبيق المبدأ في الحالات التي يمكن فيها الاستعانة بالإرادة لقمع جزء من العادة المقترنة بحالة معينة. وقد قدمت مناقشته اللاحقة لانفعال الأسى مثالًا على ذلك. قد يكون الصراخ أو البكاء أحد ردود الفعل الناجمة عن تجربة تؤدي إلى الشعور بالأسى. عند القيام بذلك، نقبض عدة عضلات حول العينين. يفسر داروين هذا بأنه يحمي العينين من الاحتقان بالدم، وهو ما قد يحدث أثناء الصراخ. وقد ناقش العواقب في أثناء تحليله للبكاء بوصفه تعبيرًا عن الحزن. ثم استفاد من هذه الحجة في تفسيره للأسى.
غالبًا ما يُعبَّر عن الأسى من خلال تجعيد الجبهة بشكل لافت وخفض الحاجبين للأسفل في منتصف الجبهة. كان تفسير داروين هو أن «عضلات الأسى» تلعب دورًا لا إراديًّا عندما نحاول «منع نوبة بكاء من الحدوث» أو إيقاف نوبة بكاء بدأت بالفعل. ربما أراد أسلافنا فعل هذا لأسباب متعددة. لكن، أيًّا كانت هذه الأسباب، إذا حاولنا التوقف عن البكاء، فسيكون لذلك آثار على عضلات الوجه. نتوقف عن قبض العضلات الموجودة حول أعيننا المرتبطة بالبكاء. إحدى هذه العضلات هي العضلة الهرمية للأنف. تُرتَّب عضلات الجسم غالبًا على صورة أزواج متضادَّة مثل العضلة الثنائية الرءوس والعضلة الثلاثية الرءوس في الذراع. فعند انقباض إحداهما تنبسط الأخرى. العضلات التي تعمل بشكلٍ مضاد للعضلة الهرمية هي العضلات المرتبطة بتعبيرات «الأسى» والموجودة فوق الحاجبين وبينهما. يمكننا إرخاء العضلة الهرمية من خلال تقليص عضلات الأسى.
كان داروين يراقب الأطفال عن كثب حين كانوا يشرعون في البكاء أو حين يتوقفون عن البكاء. «سرعان ما وجدتُ أن عضلات الأسى تُفعَّل في هذه الحالات.» وقد أعطى العديد من الأمثلة. تعرضت فتاةٌ صغيرة للمضايقة من أطفال آخرين وانفجرت في البكاء. قبل أن تفعل هذا مباشرة، اتخذ حاجباها وضعية «الأسى» المميزة، لكنها حين انفجرت في البكاء تلاشى تعبير الأسى. اقترح داروين أن الطفلة قبل أن تشرع في البكاء حاولت كبح ذلك. وقد رأى التعبير الذي ظهر على وجهها لوقت قصير أثناء ذلك. وبالمثل، رأى طفلًا صغيرًا كان يصرخ ويبكي بعنف بعد تطعيمه. فأعطاه الطبيب برتقالة، «وقد أسعد هذا الطفل كثيرًا؛ وبمجرد أن توقف عن البكاء لوحظت جميع الحركات المميزة، بما في ذلك تكوُّن تغضنات مستطيلة الشكل في منتصف الجبهة».
ومن ثَم، يمكن فهم التعبير عن الأسى باعتباره عادة مقترنة مفيدة، لكن الحجة أكثر تعقيدًا بكثير مما كانت عليه الحال بالنسبة إلى الغضب. إذ تنشأ تعبيرات الوجه المميزة للأسى عندما يحاول الشخص كبح البكاء. هذه المحاولة تؤدي إلى تفعيل مجموعة من العضلات المقترنة بمحاولة كبح البكاء وليست مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بالبكاء. وينشأ تجعد منتصف الجبهة وانخفاض الحاجبان نتيجة لذلك.
يُعد مبدأ العادات المقترنة النافعة المبدأ الأكثر استخدامًا في كتاب داروين. ويمكن أن نلاحظ استخدامه في بعض الأحيان على نطاق موسَّع للغاية كما رأينا للتو، حتى عندما لا يستدعيه داروين صراحةً. أما المبدأ الثاني؛ أي التضاد، فعكس المبدأ الأول. عندما نكون في حالة انفعالية معاكسة لإحدى الحالات التي تقترن ببعض الأفعال الاعتيادية النافعة، فإننا نقوم بأفعال مضادة. يعرض داروين في أشهر أمثلته على هذا المبدأ أزواجًا من الصور لقطط وكلاب. إحداها تبين كلبًا «يقترب من كلب آخر بنيَّاتٍ عدائية»، ويفعل ذلك بتعبير يمكن فهمه على أنه عادة مقترنة نافعة. فالكلب منتصب يرفع ذيله لأعلى ويشد عضلاته. أما الصورة الأخرى فتعرض الكلب نفسه «في حالة وداعة ولطف». كان الكلب يقترب بهدوء وهو مُنحنٍ وقد أخفض ذيله لأسفل وأرخى عضلاته. لم يكن يحدق بنظرات حادَّة نحو الأمام. أما صورتا القطة، فكانت إحداهما لقطة في «حالة عدائية ومتأهبة للقتال»، والأخرى «في حالة وديعة»، وقد أوضحت هاتان الصورتان تباينًا مماثلًا.
إحدى الطرق لفهم مبدأ التضاد هي اعتباره وسيلة لتجنب حدوث سوء الفهم، ولكن داروين لم يذكر هذا في كتابه. إذا كنت غاضبًا من شخص ما، فإنك تتخذ وضعية معينة. وإذا كنت راضيًا عنه، فلن ترغب في أن يعتقد هذا الشخص الآخر أنك غاضب منه. إحدى الطرق لتقليل احتمالية اعتقاده أنك غاضب هي القيام بتعبير مُعاكِس تمامًا للغضب. هذه الحجة تتجاوز داروين بخطوة. فقد كان داروين مهتمًّا ببساطة بالتعبير عن الانفعالات. وقد حفَّز الكتَّاب اللاحقين الذين اهتموا بالتواصل. فالتعبير عن الانفعالات والتواصل موضوعان وثيقا الصلة، لكن اهتمام داروين كان منصبًّا على التعبير. في بعض الأحيان، يتعين على القراء المعاصرين الذين يرغبون في فهم أفكار داروين أن يُنحوا جانبًا معرفتهم بالتواصل عند قراءة كتاب داروين، لتجنب خطر إسقاط الأفكار المحدثة على ما يقوله داروين.
أما المبدأ الثالث لداروين، فأطلق عليه التأثير المباشر للجهاز العصبي. كان داروين أقل رضًا عن هذا المبدأ مقارنة بالمبدأين الآخرين. ومع ذلك، كان هناك بعض الأفعال، كالارتعاش عند الخوف، التي لم يستطع تفسيرها من خلال مبدأ العادات المقترنة النافعة أو مبدأ التضاد. وكما يذكر في الفقرة المقتبسة، كان يعتقد أن الجهاز العصبي يمكن أن يصبح في بعض الظروف مستثارًا للغاية لدرجة أن يؤثر تأثيرات مباشرة على الجسم. يمكن اعتبار هذه التأثيرات تعبيرات عن الانفعالات.
لا تزال الانفعالات تأسر ألباب المفكرين المعاصرين. وتأثير داروين في تشكيل الفكر الحديث فيما يتعلق بالانفعالات لم يكن كتأثير نظريته حول التطور في علم الأحياء. لكن مبدأَي العادات المقترنة النافعة والتضاد اللذَين قدمهما لا يزالان مؤثرَين. يقرأ الناس كتاب «التعبير عن الانفعالات» في الوقت الحالي للتعرف على عقل داروين الفريد من نوعه المفتون بالمعرفة. فقد جمع داروين ملاحظات حول هذا الموضوع، إما بشكل عابر كلما تحيَّنت الفرصة لذلك وإما بشكل منهجي، في فترة امتدت نحو أربعة عقود. عندما تقرأ، ستدرك أن عقل داروين كان دائم النشاط. أينما وُجد داروين — سواء أكان على مائدة العشاء ويراقب الناس يضحكون ويقضون وقتًا ممتعًا، أو يزور الطبيب مع أطفاله — كان يراقب بعناية ويتأمل، ويتساءل، ويدمج أفكاره مُشكِّلًا إطارًا نظريًّا كبيرًا.