الانتخاب الطبيعي
ينشأ الصراع من أجل البقاء حتمًا نتيجة ارتفاع معدل ازدياد الكائنات العضوية. فكل كائن ينتج عددًا من البيض أو البذور خلال مدة حياته، لا بد أن يعاني من الهلاك خلال فترة ما من تاريخ حياته، وخلال فصل ما من فصول السنة أو عام من الأعوام، وإلا فستزداد أعداده، وَفقًا لمبدأ الزيادة بمتتالية الهندسية، بسرعة كبيرة وبشكلٍ مبالغ فيه لدرجة يستحيل معها أن يستطيع أي بلد إعالةَ هذا النتاج. وعليه فإنه نظرًا لأن عدد الأفراد التي نتجت يتجاوز عدد الأفراد الذين يمكنهم البقاء في الواقع، فإنه لا بد أن يكون هناك صراع من أجل البقاء في كل حالة، إما بين الفرد وفرد آخر من نفس النوع، أو بين الفرد وأفراد تابعين لنوع آخر، أو مع ظروف الحياة المادية. يُعد هذا تطبيقًا لقانون مالتوس على نطاق واسع على المملكتين النباتية والحيوانية؛ لأنه في هذه الحالة لا يمكن أن يكون هناك أي زيادة في الغذاء بوسائل اصطناعية أو كبح متعقل للتزاوج. وعلى الرغم من أن بعض الأنواع قد تكون الآن في حالة تزايد سريع إلى حد ما، فإنه لا يتسنى لجميع الأنواع فعل ذلك؛ لأن العالم لن يتسع لاستيعابها جميعًا.
ليس هناك أي استثناء من قاعدة أن كل كائن عضوي يتزايد طبيعيًّا بمعدل مرتفع جدًّا لدرجة أنه إذا لم يتعرض للهلاك، فسرعان ما تصبح الكرة الأرضية مغطَّاة بالذرية الناتجة عن زوج واحد منه. […]
النتيجة الطبيعية المهمة للغاية التي يمكننا استنباطها من الملاحظات السابقة، هي أن تركيب كل كائن عضوي يرتبط بتركيب جميع الكائنات الحية الأخرى التي يتنافس معها على الغذاء أو المسكن، أو تلك التي تفترسه أو التي يفترسها؛ وعلى الرغم من كون هذا الارتباط ضروريًّا للغاية، فإنه غالبًا ما يكون مستترًا أو غير ملحوظ. ويتجلى هذا في تركيب أسنان النمر ومخالبه، وفي تركيب أرجل الطفيلي الذي يتعلق بالشعر الذي يغطي جسم النمر وبراثنه. ولكن في حالة بذور الهندباء الجميلة ذات الريش، والأقدام المفلطحة والمهدَّبة لحشرة خنفساء الماء، يبدو الارتباط بينهما للوهلة الأولى منحصرًا في عنصرَي الماء والهواء. إلا أن الميزة في كون هذه البذور مزوَّدة بالريش ترتبط بلا أدنى شك بحقيقة أن الأرض مغطاة بالفعل بنباتات أخرى بغزارة؛ ومن ثَم تتيح هذه الميزة للبذور الانتشار على نطاق واسع والتناثر على أرض غير مغطاة بالنباتات. في حالة خنفساء الماء، بالإضافة إلى كون تركيب الأرجل مصمَّمًا خصوصًا ليلائم الغوص، فإنه يتيح لها التنافس مع الحشرات المائية الأخرى، والسعي وراء فريستها والهروب من المفترسات التي تستهدفها.
يبدو للوهلة الأولى أن مخزون المواد الغذائية المخزَّن داخل بذور العديد من النباتات ليس له أي صلة بالنباتات الأخرى. إلا أن النمو القوي للنباتات اليافعة التي تنبت من هذه البذور (كالبازلاء والفول)، عند نثرها وسط أعشاب طويلة، يجعلني أعتقد أن الاستخدام الأساسي للمغذيات في البذور هي دعم نمو هذه الشتلات الصغيرة أثناء صراعها مع النباتات الأخرى التي تنمو بقوة حولها. […]
انحراف الصفات. يُعَد المبدأ الذي يشير إليه مصطلح «انحراف الصفات» من الأهمية بمكان بالنسبة إلى نظريتي، كما أنه يفسر، حسبما أعتقد، العديد من الحقائق المهمة.
[…] أعتقد أنه يمكن تطبيق هذا المبدأ على نحوٍ فعَّال، وأنه ينطبق بالفعل، ويرجع ذلك لحقيقة بسيطة مُفادُها أنه كلما زاد التباين بين النسل الذي ينتمي لنوع معين في البنية والتركيب والعادات، تمكَّن النسل من احتلال أماكن متنوعة على نطاق واسع من البيئة الطبيعية، ومن ثَم يتمكن من زيادة أعداده. […] علينا تذكُّر أن المنافسة ستكون بشكلٍ عام أشدَّ عنفًا بين الأشكال التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالعادات أو التركيب أو البنية. ومن ثَم، فإن الأشكال الانتقالية الوسطى بين المراحل الأولى والأخيرة من التطور؛ أي بين الحالة الأقل تطورًا والحالة الأكثر تطورًا للنوع، بالإضافة إلى الأنواع الأصلية، تميل عادةً إلى الانقراض.
يظهر الانتخاب الطبيعي في أي جماعة حيوية تستوفي عددًا من الشروط. أولًا، أن يختلف بعض أفراد الجماعة عن الأفراد الآخرين؛ أي أن تُظهر الجماعة «التباين». ثانيًا، أن يشبه النسل الآباء عادة، وهذا يعني وجود الوراثة. وثالثًا، أن ينتج بعض الأفراد في الجماعة عددًا من النسل أكثر من المتوسط. في الجماعة التي تستوفي هذه الشروط، يحتوي الجيل التالي على نسبة أعلى من نوعية الأفراد الذين أظهروا نجاحًا تناسليًّا في الجيل السابق. دفع الانتخاب الطبيعي مسار التغير التطوري نحو الأمام وفي اتجاه التكيُّف المحسَّن؛ بمعنى أن الأفراد الذين يُظهرون نجاحًا تناسليًّا هم الأفراد الأكثر تكيفًا مع ظروف البيئة المحيطة بهم.
حتى الآن تبدو الحجة متماسكة من الناحية المنطقية إلا أنها غير كاملة. كان على داروين ألا يكتفي بتوضيح فعالية الانتخاب الطبيعي فحسب، بل تعين عليه إثبات انتشاره وقوته التي تجعله قادرًا على تفسير كل وجه من أوجه تكيف الكائنات الحية، بالإضافة إلى توضيح تنوع الحياة بالكامل. ففي النهاية، قد يعترف الناقد بدور الانتخاب الطبيعي، لكنه قد يشكك في أهميته مشيرًا إلى أنه لا يفسر سوى مجرد جزء من التكيف التطوري. ولا يزال بعض النقاد يرون ذلك.
وتُعَد حجة داروين المؤيدة لقوة الانتخاب الطبيعي وانتشاره وفعاليته حجة بيئية. فهي تشير إلى العلاقة بين الكائنات الحية والموارد والمنافسين في البيئات الخارجية. (لم يكن مصطلح «علم البيئة»؛ أي العلم الذي يدرس العلاقة بين الكائنات الحية وبيئاتها، موجودًا آنذاك. فقد ابتُكر على يد أحد أتباع داروين، وهو الألماني إرنست هيكل عام ١٨٧٣، إلا أنه لم يُستخدَم على نطاق واسع حتى منتصف القرن العشرين.) وسَّع داروين قانون مالتوس ليشمل الحياة بالكامل. نشر توماس روبرت مالتوس (١٧٦٦–١٨٣٤) كتابًا بعنوان «مقالة عن مبدأ السكان»، وطُبع الكتاب عدة طبعات من عام ١٧٩٨ إلى عام ١٨٣٠. أشار مالتوس إلى أن عدد السكان سوف يميل إلى الزيادة بمعدل أعلى من الإمدادات الغذائية. حظي كتاب مالتوس بقراءات واسعة في زمن داروين، وقد ذكر داروين نفسه في سيرته الذاتية كيف صادفه بشكلٍ عرضي في أواخر عام ١٨٣٠. هذه القراءة هي التي ألهمت داروين وقادت إلى ابتكاره لنظرية الانتخاب الطبيعي.
أدرك داروين أن جميع الكائنات وليس البشر فقط يميلون لإنتاج نسل يفوق الإمدادات الغذائية المتاحة. والنتيجة هي المنافسة من أجل البقاء، أو ما أطلق عليه داروين الصراع من أجل البقاء. وقد أوضح أن كلمة «صراع» تعبير مجازي، وغالبًا لا تأخذ شكل الصراع البدني أو القتال. في كل نوع، لا تنجو سوى أقلية من النسل من كل جيل. تعتمد الصفات التنافسية التي يحتاجها الفرد في نسلٍ ما من أجل البقاء على طريقة حياة ذلك النوع. يختلف شكل التنافس بين البكتيريا في أمعائنا عن التنافس بين المرجان على الشعاب المرجانية، والقرود في الغابة. أوضح داروين معنى كلمة صراع الذي يرمي إليه من خلال تناول كيفية تنافس بذور عشب الدبق معًا، ومع بذور النباتات الأخرى، لكي تلتقطها الطيور وتنثرها. من الواضح أنه ليس هناك قتال بدني صريح بين البذور، بل هناك صراع مجازي.
ثَمة هدف مزدوج يكمن وراء كتابة داروين لفصل الصراع من أجل البقاء. أراد أن يقنع القارئ أن التنافس من أجل البقاء يؤدي إلى الانتخاب الطبيعي. وهذا بدوره يفسر السبب في أننا نرى الكائنات الحية مصمَّمة بطريقة تكيفية، كما يفسر السبب وراء وجود تغيير تطوري. لكنه أراد أيضًا أن يقنعنا بأن الصراع عام وشرس، على الرغم من السلام الظاهري للطبيعة. في تعبير مجازي شهير له قال: «الطبيعة في ظاهرها أشبه بسطح مرن يتغير شكله عندما نحاول أن ندفع بعشرات الآلاف من الأسافين الحادَّة المكدسة معًا بداخله، في بعض الأحيان يُضرَب إسفين يتبعه إسفين آخر يُضرَب بقوة أكبر.» الأسافين في هذه الحالة هي الكائنات التي تتكاثر وتتنافس في الطبيعة. تتشابك الأنظمة الطبيعية بشكلٍ معقَّد ومُحكَم. التكاثر المستمر للكائنات الحية والكائنات المنافسة لها تجعل النظام البيئي أكثر اكتظاظًا وتنافسًا.
علاوةً على ذلك، كان داروين مُدرِكًا تمامًا لشبكة العلاقات البيئية بين الأنواع. كان تحليله الأكثر شهرة في هذا الصدد يتعلق بالعلاقة بين البرسيم، والنحل الطنان (الذي يلقح البرسيم)، والفئران (التي تتغذى على أعشاش النحل الطنان)، والقطط. إذا انتقل مزيد من محبي القطط إلى منطقة معينة، فقد نتوقع أن يكون لهذا تأثير على محصول البرسيم المحلي. وفقًا لنظرة داروين للنظام البيئي، يُنتج كل نوع أعدادًا من النسل تفوق العدد الذي يمكنه النجاة، وهو ما ينتج عنه منافسة شرسة على الأقل داخل النوع الواحد، وبدرجة أقل بين الأنواع المختلفة أيضًا. كذلك يرتبط كل نوع بالعديد من الأنواع الأخرى، وهو ما قد يؤدي إلى ضغوط خفيفة ومفاجئة (عبر شبكات من العلاقات). بهذه الطريقة، يمكن لداروين تقديم تفسير للتصميم التكيفي لكل نوع.
إذا كان لديك رؤية مبسطة للصراع من أجل البقاء، يمكنك فهم المغزى من أسنان النمر ومخالبه. لكن يتعين عليك التفكير بجدية في العلاقات البيئية داخل كل نوع بالكامل لفهم الأسباب الكامنة وراء السمات التكيفية الأكثر دقة. حجم البذرة، على سبيل المثال، يعكس حجم الغذاء الذي وفَّره لها النبات الأبوي. يمكن للبذرة المزوَّدة بالعناصر الغذائية بشكلٍ أفضل أن تنمو أسرع وتتفوق على البذور الأخرى في الصراع على الضوء والمساحة المحدودة للنمو في حقل مكتظ بالبذور بالفعل. تُمثِّل العلاقات البيئية والأشكال العديدة للمنافسة بالنسبة إلى داروين المفتاح لفهم كل الصفات التكيفية في الطبيعة.
كانت رؤية داروين للنظام البيئي جديدة آنذاك. لم يكتب أيٌّ من معاصريه عن الموضوع بالطريقة نفسها، ويرجع ذلك أساسًا لأن معظم علماء الأحياء يتمتعون بخلفية تعليمية في مجال الطب. لذا كانوا أكثر دراية بتشريح العظام الميتة مقارنةً بدرايتهم بالكائنات الحية. كما أنهم لم ينظروا إلى كل نوع بوصفه جزءًا من شبكة من العلاقات مع أنواع وقوًى أخرى في البيئة الطبيعية. أما داروين، فقد رأى كيف تكيف كل نوع خصوصًا للتعامل مع أعدائه الطبيعيين مثل الطفيليات والتعامل مع منافسيه ومع إمدادات الموارد. وقد صارت هذه الرؤية الداروينية شائعة ومقبولةً الآن. حتى إن البرامج التي تتحدث عن الطبيعة على شاشة التليفزيون عادةً ما تكون مصحوبة بتعليقات داروينية إلى حدٍّ ما. ويمكن إرجاع أصول علم البيئة الأكاديمي إلى الفصل الثالث من كتاب «أصل الأنواع». في هذا الصدد، أعرَبَ مؤلفو أحد الكتب الدراسية الجامعية الحديثة في علم البيئة بطريقة شبه فكاهية عن رغبتهم في إعادة طباعة فصل داروين كما هو باعتباره الفصل الأول من كتابهم. لذا، حتى وإن لم يضع داروين نظرية التطور، كان سيظل معروفًا بأنه رائد ومبتكر علم البيئة.
سار علماء الأحياء المعاصرون على خُطا داروين فيما يتعلق بالاستعانة بالتنافس البيئي لفهم أشكال التكيف في الطبيعة. وبهذا أصبح الاتجاه السائد في الأبحاث العلمية حول التكيف هو تعميق أسلوب داروين في التفكير وتعميمه بدلًا من مراجعته بشكلٍ جِدِّي. على سبيل المثال، ثَمة مرحلة من المنافسة حتى قبل نمو النباتات الصغيرة من البذور ناقشها داروين. قبل أن تُنتَج البذور، لا بد من إخصاب البويضات. في النباتات، يحدث ذلك بعد أن تتجمع حبوب اللقاح فوق الأجزاء الأنثوية للنبات. كل حبة لقاح تنمو إلى ما يُعرَف باسم «أنبوب اللقاح» الذي يمتد نحو البويضة. وعندما يصل الأنبوب إلى البويضة، يمكنه نقل الحمض النووي الذكري من حبة اللقاح ويمكن أن يُحدِث الإخصاب. ومع ذلك، لا تجري الأمور بهذه السهولة. فأي نبات قد يتلقى حبوب لقاح من أكثر من نبات آخر. وقد تبدأ العديد من حبوب اللقاح في تكوين أنابيب لقاح ومدها نحو البويضة نفسها. والنتيجة هي منافسة بين حبوب اللقاح، حتى قبل أن تنتج البذور. طورت حبوب اللقاح آليات تكيف لتكوين أنابيب اللقاح بسرعة، وربما حتى استخدام بعض «الحيل القذرة» مثل القدرة على منع نمو أنابيب اللقاح الأخرى.
قبل أن تصل حبة اللقاح إلى وجهتها، لا بد أن تلتقطها حشرة ملقِّحة (وذلك إذا استبعدنا النباتات التي تعتمد على الرياح أو الماء لنقل حبوب اللقاح). تتنافس النباتات على جذب انتباه الحشرات من خلال تكوين زهور ملوَّنة تمتلئ بالرحيق كمكافأة للحشرات الزائرة. يرى علماء الأحياء الآن الزهور باعتبارها أوجُهَ تكيفٍ مثلها في ذلك مثل تصميمات الريش الملون للطيور الذكور مثل الطاووس. سيعرض الفصل التاسع من هذا الكتاب أفكار داروين حول هذا الموضوع.
لقد رأينا كيف بدأ داروين مناقشته للانتخاب الطبيعي بسؤالين يرتبطان بمعيارين لتقييم أي نظرية مقترحة للتطور، وهما: هل تفسر هذه النظرية التكيُّف؟ وهل تفسر تنوع أشكال الحياة الذي يتخذ هيكلًا شجريًّا؟ ربما تكون حجة داروين حول التكيف، والتي كنت أتناولها حتى الآن، هي الأكثر شهرة بين الاثنين. ولا يزال علماء الأحياء المعاصرون يفكرون بالطريقة نفسها التي فكَّر بها داروين في التكيُّف والتنافس البيئي. ربما تكون حجة داروين حول التنوع أقل شهرة. ولكن هذه الحجة التي أطلق عليها «مبدأ التباعد» كانت مهمة بالنسبة إليه بوضوح. فقد خصَّص لها مساحة في كتابه «أصل الأنواع» كما فعل مع التكيُّف. أدرك داروين على الفور كيف أن الانتخاب الطبيعي سيفسر التكيُّف عندما فكَّر في الانتخاب الطبيعي لأول مرة في أواخر ثلاثينيات القرن التاسع عشر. وقد كتب مقالين حول التطور عن طريق الانتخاب الطبيعي في بداية أربعينيات القرن التاسع عشر، وعلى الرغم من أنهما لم يُنشرا، لا تزال المخطوطات باقية. يمكننا ملاحظة أن داروين في عام ١٨٤٠ كان لديه تقريبًا النظرية نفسها التي نُشرت أخيرًا في كتاب «أصل الأنواع» عام ١٨٥٩. الفرق الكبير الوحيد هو أن المقالتين المكتوبتين في أربعينيات القرن التاسع عشر تفتقران إلى مبدأ التباعد. وقد وصف في سيرته الذاتية كيف أن تطويره لهذا المبدأ قد سدَّ ما اعتبره الثغرة الرئيسية في نظريته. ومن ثَم، من المستحيل فهم «أصل الأنواع» دون فهم مبدأ التباعد.
تساءل داروين عن السبب في أن التطور يؤدي إلى تفرُّع الأنواع وتباعدها؛ أي لماذا ينقسم الفرع الواحد من وقت لآخر مُكوِّنًا مسارين مختلفين للتطور يتباعدان بمرور الوقت؟ ينعكس هذا التباعد في التصنيف البيولوجي. وقد اخترع عالم الطبيعة السويدي الذي كان يُوقِّع اسمه مستخدِمًا الاسم اللاتيني كارلوس لينيوس تصنيفات الكائنات الحية في القرن الثامن عشر. وكانت تصنيفات لينيوس هرمية؛ وعلى حد تعبير داروين، فإن هذه التصنيفات كانت تتضمن «مجموعات داخل مجموعات»: حيث يُصنَّف العديد من الأنواع في جنس واحد، والعديد من الأجناس في فصيلة واحدة، وهكذا. وينشأ هذا النمط عن سلالات تطورية تتباعد مع مرور الوقت. تشترك الأنواع الموجودة داخل الجنس في سلف مشترك قريب ولم تتباعد إلا قليلًا. وتشترك الأجناس الموجودة داخل الفصيلة في سلف مشترك أبعد وقد تباعدت أكثر. وكان سؤال داروين هو: ما الذي يفرض هذا النمط العام من التباعد؟ لماذا لا تتطور الأنواع متباعدةً بدرجة معينة وتبقى ثابتة على هذه الدرجة من التباعد؟ أو لماذا لا تعود لتصبح أكثر تشابهًا مرة أخرى بعد فترة من الزمن؟
كان التدرج الهرمي لأشكال الحياة؛ أي نمط لينيوس المكون من مجموعات فرعية تندرج تحت مجموعات أكبر، موضوعًا حيويًّا في بداية القرن التاسع عشر. ومن المحتمل أن يرجع جزء من هوس داروين بشرحه إلى حقيقة أنه كان موضوعًا مثيرًا للجدل آنذاك. يعتقد بعض علماء الأحياء المعاصرين أن الهيكل الشجري المتباعد للتطور حتميٌّ تقريبًا. فإذا كانت جميع أشكال الحياة على الأرض تنحدر من سلف مشترك واحد، فإن أي تطور لاحق سيؤدي إلى تباعد أشكال الحياة وتفرعها في النهاية. ثَمة استثناءات محدَّدة لم يعرفها داروين. قد تتحد بعض الفروع التطورية التي تختلف تمامًا بعضها عن بعض، كما لو أن فرعين منفصلين في أعلى الشجرة ينموان معًا ثم يندمجان ليصبحا فرعًا واحدًا. عند مراحل معيَّنة من التطور، تندمج بعض أشكال الحياة لتشكل كِيانًا واحدًا. تحتوي جميع الخلايا في جسم الإنسان (أو أغلبها) على الحمض النووي في تركيبين فرعيين من تراكيب الخلية. يوجد معظم الحمض النووي في نواة الخلية. لكن بعض الحمض النووي يوجد في تراكيب أخرى داخل الخلية تُسمى الميتوكوندريا. ويرجع السبب في ذلك إلى أن الميتوكوندريا تنحدر من بكتيريا كانت تعيش حرة، هذه البكتيريا غزت خلايا أخرى وعاشت داخلها منذ ٢٠٠٠ مليون سنة مضت. وقد أدى ذلك إلى تركيب هجين مكوَّن من خلية داخل خلية، وتعود نشأةُ كلٍّ من البشر وجميع الحيوانات إلى حدث الاندماج هذا. وهذا يعني أن التطور لا يتخذ نمط التباعد دائمًا، لكنه عادةً ما يفعل ذلك؛ لذا يجدُر بنا فهم أفكار داروين حول سبب حدوث التباعد في التطور.
يتعلق مبدأ التباعد لداروين بشدة المنافسة. على سبيل المثال، في حالة طائر مثل أبو الحناء، يمكننا أن نأخذ شدة التنافس مع طيور أبو الحناء الأخرى ومع كائنات بعيدة الصلة مثل السحالي أو الأسماك أو الحشرات أو النباتات في الاعتبار. بشكلٍ عام، يمكننا أخذ شدة تنافس أي فرد مع أفراد مماثلين له في النوع ومع الأنواع المختلفة عنه من الكائنات في الاعتبار. ستكون المنافسة بين الفرد والأفراد المماثلين له بشكلٍ عام أشد ضراوة؛ نظرًا لأن هؤلاء الأفراد يستغلون الموارد نفسها. قد يتنافس الطائر مع آخر على البذور أو الحشرات التي يتغذى عليها، أو على مواقع لبناء العش. لكن الطائر لا يتنافس مع النبات على ضوء الشمس أو مع آكلات اللحوم على الفرائس. السبيل لتجنُّب المنافسة في بيئة مكتظة هو أن تتطور لتصبح مختلفًا عن أشكال الحياة الأخرى التي تماثلك. اقترح داروين أن المنافسة بين الضروب داخل النوع الواحد قد تدفعها إلى التباعد بعضها عن بعضٍ أكثر، إلى أن تصبح أنواعًا مختلفة. بعد ذلك، ستؤدي المنافسة بين نوعين إلى تباعدهما إلى أن يصبحا جنسين مختلفين. ومن ثَم، فإن مبدأ التباعد يدفع جميع السلالات التطورية بعيدًا بعضها عن بعض، وينتج عنه على نطاق واسع النمط الشجري للتطور.
كان لداروين طريقة مميزة في التفكير في المنافسة. فقد كان يفكر في المنافسة باعتبارها عملية داخلية؛ أي تحدث بين الأفراد داخل جماعة حيوية واحدة. فكَّر بعض المعاصرين لداروين في المنافسة، وكيفية تأثيرها على الحياة، إلا أنهم اعتادوا على التفكير في المنافسة باعتبارها بين الأنواع، أو ربما بين الأعراق التي تندرج ضمن الأنواع. لم يكن لديهم في الأساس مفهوم داروين الذي يفيد بأن الأفراد تتنافس فيما بينها على نقل جيناتها للجيل التالي. وبالفعل يبدو أن ألفريد راسل والاس، المشارك في اكتشاف الانتخاب الطبيعي، قد فكَّر في المنافسة بين الضروب، وليس بين الأفراد. وهذا أمرٌ مهم؛ لأنه لا يمكن فهم العديد من سمات الحياة إلا في ضوء المنافسة بين الأفراد داخل جماعة حيوية. في الفصل التاسع، سنرى كيف طوَّر داروين مفهوم المنافسة داخل النوع في نظريته حول الانتخاب الجنسي.
يهتم القسم الخاص بمبدأ التباعد اهتمامًا وثيقًا بأصل الأنواع. خلال القرن العشرين، شاع رأيٌ يُشير، بطريقةٍ مازحةٍ بعض الشيء، إلى أن أصل الأنواع كان الموضوع الوحيد في التطور الذي لم يناقشه داروين في كتابه، وهو ما يجعل عنوان الكتاب مُضلِّلًا. لكن من الواضح جدًّا أن داروين مهتم بالموضوع في هذا القسم. فقد تساءل: «إذَن، كيف تتطور التباينات البسيطة داخل الضروب وتزداد لتصبح اختلافات كبيرة بين الأنواع؟» أظن أنه لا يمكنه أن يكون مباشرًا أكثر من ذلك. ومع ذلك، فإن إجابة داروين، في ضوء التنافس داخل النوع، ليست الإجابة التي سيقدمها معظم علماء الأحياء في أواخر القرن العشرين. سنرى المزيد حول هذا الموضوع في الفصل الرابع. ربما يكون النقاد الذين أشاروا إلى أن داروين كان صامتًا بشأن أصل الأنواع قد أغفلوا المناقشة لأنها مختلفة تمامًا عن أفكارهم الخاصة.
والسؤال هو: كيف يَنظر علماء الأحياء في يومنا هذا إلى مبدأ التباعد؟ من الصعب الإجابة عن هذا السؤال. فعلى عكس التكيف، الذي لا يزال موضوعًا للبحث بين علماء الأحياء، لم يخضع مبدأ التباعد كثيرًا للنقاش والدراسة والنقد على مر الزمن. فمن وقت لآخر، كان أحدهم «يعيد اكتشافه» ويكتب عنه، ولكن لم يكن هناك اهتمام مستمر وواسع النطاق به في المجتمع البيولوجي. ولم يجاهد علماء الأحياء من أجل تفسير سبب اتخاذ التطور، على نطاق واسع، هذا الهيكل الشجري. ولكنك إذا أردت الاستفسار عن ذلك، فربما يُقرُّ كثيرٌ من علماء الأحياء بأن إجابة داروين المقترَحة تُعَد تفسيرًا وجيهًا مثلها مثل التفسيرات الأخرى، ولكن قد تكون هناك بعض العمليات الأخرى التي تُسهِم في ذلك أيضًا. وبقدر ما يهدف مبدأ التباعد إلى تفسير تطور الأنواع الجديدة، فإنه لم يعد التفسير التقليدي الشائع.