إشكاليَّات في النظرية
أعضاء في منتهى الكمال والتعقيد. إذا افترض أحدهم أن العين، بكل ما فيها من آليات مصممة بعناية لا تضاهى لضبط التركيز وَفقًا للمسافات المختلفة، والسماح بدخول كميات مختلفة من الضوء ولتصحيح الزيغ الكروي واللوني، تكونت عن طريق الانتخاب الطبيعي، فإنني أعترف بأن هذا يبدو سخيفًا لأقصى درجة. ومع ذلك، فإن التفكير المنطقي يشير إلى أنه إذا تمكنا من إثبات أن تركيب العين يتدرج من البساطة والبداءة إلى التعقيد والكمال، وأن كل درجة من هذه الدرجات كانت مفيدة لصاحبها؛ وإذا كانت العين يمكن أن تخضع لتغييرات طفيفة، وهذه التغييرات من شأنها أن تنتقل عن طريق الوراثة، وهو ما يحدث بالفعل؛ وإذا كان أي تباين أو تعديل يطرأ على العضو يكون مفيدًا بالنسبة إلى الحيوان في ظل الظروف المتغيرة لحياته، فليس من المستحيل أن نصدق أن العين الكاملة والمعقدة يمكن أن تتشكل عن طريق الانتخاب الطبيعي، على الرغم من أنه من الصعب علينا أن نتخيل ذلك. […]
عند البحث عن التدرجات التي يمر بها أحد أعضاء الجسم في أي نوع كي يصل إلى حد الكمال، يتعين علينا النظر إلى الأسلاف المباشرة لهذا النوع، إلا أن هذا نادرًا ما يكون ممكنًا؛ ومن ثَم نُضطر في كل حالة إلى النظر إلى أنواع تندرج تحت المجموعة نفسها؛ أي إلى الأنواع القريبة التي تنحدر من نفس الشكل الأبوي الأصلي، لمعرفة التدرجات الممكنة، ومعرفة احتمالية انتقال بعض التدرجات في السمات والتراكيب من الأجيال التي عاشت في الماضي وانحدرت منها الكائنات الحية الحالية دون تغيير أو مع تغيير طفيف. من بين الفقاريات الموجودة، لا نجد سوى قدر صغير من التدرج في تركيب العين، وعندما ندرس الأنواع القديمة أو المتحجرة، فإننا لا نستطيع معرفة شيء عن هذا الموضوع. في حالة هذه الطائفة الهائلة، ربما يتعين علينا النزول إلى ما دون أدنى طبقة أحفورية معروفة لاكتشاف المراحل الأولى التي وصلت من خلالها العين إلى تركيبها الأمثل.
في حالة المفصليات، يمكننا بدء سلسلة التدرجات بعصب بصري مغلف بصبغة فحسب دون أي آليات أخرى؛ ومن هذه المرحلة البدائية يمكننا ملاحظة عدد من التغيرات التدريجية التي طرأت على تركيب العين وتفرعت إلى مسارين مختلفين جوهريًّا، إلى أن نصل إلى مرحلة عالية نسبيًّا من الكمال […] يوجد تنوع تدريجي في أعين القشريات الحية، ومع أخذ مدى قلة عدد الحيوانات الحية مقارنة بتلك التي انقرضت في الاعتبار، لا أجد صعوبة كبيرة في تصديق أن الانتخاب الطبيعي قد حوَّل الجهاز البسيط المتمثل في عصب بصري مغلف بصبغة ومستخدَم من قِبل غشاء شفاف، إلى أداة بصرية مثالية كالتي يمتلكها أي فرد من أفراد طائفة المفصليات العظيمة. […]
ليس من الهين علينا تجنُّب مقارنة العين بالتليسكوب. فإننا نعلم أن هذه الآلة لم تصل إلى ما هي عليه من الكمال، إلا بعد أن بذل كثير ممن نعتبرهم صفوة العقول البشرية جهودًا في سبيل تحسينها، ونحن نستنتج بطبيعة الحال أن العين تكونت من خلال عملية مماثلة. لكن، ألا يكون هذا الاستنتاج متجاسرًا؟ هل يحق لنا الاعتقاد بأن «الخالق» يستخدم قوة عقلية مشابهة لقوة الإنسان؟
الاقتباس أعلاه مأخوذ من فصل بعنوان «إشكاليات في النظرية». قدمت الفصول السابقة حججًا تؤيد نظرية التطور عن طريق الانتخاب الطبيعي. والآن يتجه داروين إلى مناقشة ما يعتبره أوجه الاعتراض الرئيسية على نظريته. وقد كان مما يميز داروين أنه يأخذ جميع أوجه الاعتراض على كل نظرية من نظرياته على محمل الجد؛ أو على الأحرى جميع أوجه الاعتراض التي تترامى إلى مسامعه أو التي تخطر على باله. فهو لا يجادل كمُحامٍ يسعى إلى التقليل من شأن الاعتراضات أو تجاهلها أو صرف الانتباه عنها. بل يضع الاعتراضات في بؤرة الضوء ويتفحصها بعناية. وقد أصبحت كتابات داروين مرجعًا مفضَّلًا للكُتاب المعارضين لداروين منذ ذلك الحين؛ فسرعان ما رأوا أن داروين قد جمع معظم الحجج المعارضة لأفكاره والمؤيدة لها. وعلى عكس داروين، تجاهلوا الحجج المؤيدة لنظرياته. كان داروين يبني حجة منطقية بالاستناد إلى مادة علمية غير كاملة وغير مؤكدة؛ فقد كان عمله عبارة عن تمرين عملي على الاستدلال. كان من المنطقي بالنسبة له أن يقيم مدى إحكام استدلاله، من خلال النظر إلى الأفكار المعارضة.
لا تزال الإشكاليات التي ناقشها داروين تُستغل من قِبل النُّقَّاد المؤيدين لنظرية الخلق. فكيف يمكن لنظرية داروين تفسير «الأعضاء التي تكون في منتهى الكمال والتعقيد» كالعين التي تُعَد المثال القياسي عليها؟ شكلت العين مشكلة عامة لأي نظرية في علم الأحياء في زمن داروين، كما مثَّلت مشكلة محددة لنظرية داروين. كان داروين مدركًا للمشكلتين، وكانتا أساسًا لمناقشته.
تمثلت المشكلة العامة في «حجة التصميم»، وهي حجة تعتمد على الملاحظة لتأييد وجود الله. تعود هذه الحجة إلى زمن أفلاطون، وقد صيغت وأعيدت صياغتها لعدد لا حصر له من المرات على يد الفلاسفة المسيحيين في العصور الوسطى. وقد كانت معروفة جيدًا في زمن داروين بالصيغة التي قدَّمها الفيلسوف اللاهوتي البريطاني ويليام بيلي (١٧٤٣–١٨٠٥). كانت كتب بيلي من المقررات الدراسية في جامعة كامبريدج، حيث درس داروين، وقد قُدمت حجة التصميم من منظور بيلي على النحو الآتي. إذا وجدنا آلة معقَّدة مثل الساعة، فيمكننا أن نستنتج أن شخصًا ما؛ أي صانع ساعات، صمَّمها بالتأكيد وصنعها. ومن غير المرجَّح أن تتكون الساعة من تلقاء نفسها بشكلٍ طبيعي؛ فهي لم تكن لتأتي إلى الوجود بشكل عفوي من خلال قُوى الطبيعة العادية التي تؤثر على عناصر الطبيعة. وبالنظر إلى أجزائها، يمكنك معرفة أنها صُنعت لغرض، بالفعل يمكنك معرفة ذلك من ترتيب التروس والزنبركات، حتى لو كنت لا تعرف ما الغرض المحدد منها. ومثلما يمكننا استنتاج وجود مصمِّم من وجود الآلات المعقدة، يمكننا أيضًا استنتاج وجود الإله من وجود الكائنات الحية المعقدة في الطبيعة.
كانت حجة التصميم سندًا مهمًّا للدين في زمن داروين، لا سيما في إنجلترا (هذا إن لم تكن سندًا جوهريًّا أو عالميًّا). وباعتبارها دولة بروتستانتية، لم تتمكن الديانة الرسمية، الأنجليكية، من تبرير أفكارها من خلال إرث لا ينقطع من الكنائس والقساوسة يرجع إلى القديس بطرس؛ فقد كانت تلك الحجة أكثر منطقية في الدول الكاثوليكية الرومانية. حاولت الكنائس البروتستانتية تبرير أفكارها من خلال حجج «أصولية» مستقاة من نص الكتاب المقدس (وذلك بتفسيره وفقًا لما يناسبها). كان أحد تيارات الفكر الأنجليكي يميل إلى النزعة الأصولية في القرنين السادس عشر والسابع عشر، لكنه أصبح مرتبطًا بالنظام الجمهوري، وهُجِر بعد استعادة الملكية عام ١٦٦٠. ظهر مسوِّغٌ منطقي جديد يدعم الأفكار الأنجليكية، كان يُطلق عليه عادةً «الدين العقلاني». ووفقًا له، فإن الحجج المنطقية الناشئة عن مراقبة الطبيعة ستقودك لقبول المسيحية. وتُعَد حجة بيلي مثالًا على ذلك.
لم يكن داروين أول من انتقد حجة التصميم. فقد فعل فلاسفة مثل هيوم وكانط ذلك في القرن السابق له، إلا أنهم لم يتمكنوا إلا من تقديم اعتراضات مبدئية فقط. وقد أشاروا إلى أن حجة التصميم ناقصة. فقد افترضت أنه لا توجد عملية طبيعية يمكنها إنتاج عضو مثل العين. لكن هذه العملية قد تكون موجودة من حيث المبدأ، وعليه ستُقوض دعائم التشبيه بين الساعة والعين. اكتسب هذا الاعتراض قوةً أكبر عندما وصف داروين بالتفصيل مثل هذه الآلية الطبيعية التي تُنتج العين من خلالها. لم يصمد «الدين العقلاني» أمام أفكار داروين.
كانت كتابات داروين تعجُّ بالإشارات الضمنية والانتقادات لحجة التصميم. ولكنه لم يسبق له أن جعل الجدال نفسه صريحًا؛ لأن ذلك كان مفهومًا ضمن السياق الثقافي لقرائه. إلا أنه من الممكن ألا يكون أيٌّ من القراء المعاصرين قد صادَف حجة التصميم أو أي فكرة عن «الدين العقلاني» خلال تعليمهم. ومن ثَم، ينبغي الكشف عن هذا الجدال باعتباره واحدًا من الأسئلة الخفية التي يفكر فيها داروين. وكما هو مبيَّن في نهاية الاقتباس، انتقل داروين لإعادة صياغة دقيقة لحجة التصميم في ضوء التطور عن طريق الانتخاب الطبيعي. فقد بدأ الفقرة الأخيرة بأسلوب بيلي، مُقارنًا العين بآلة من تصميم البشر، وهي التليسكوب. التليسكوبات موجودة لأن أحد الأشخاص فكَّر فيها، ككِيانٍ متكامل عامل، قبل أن يصنع أحدها. الخطوة التالية وفقًا لبيلي هي افتراض أن الله فعل الشيء نفسه مع العين. وقد تساءل داروين، «لكن، كيف عرفنا أن الله يعمل بهذه الطريقة؟» وواصَل حُجته بأنْ وصف عملية الخلق في نظرية التطور عن طريق الانتخاب الطبيعي. بدايةً، تنوعت أجزاء العين، مثل الأنسجة الحساسة للضوء، من حيث السُّمك من فرد لآخر. الأشخاص الذين يتمتعون بنُسخ أكثر تفوقًا يتركون عددًا أكبر من الذرية، وهو ما يؤدي إلى انتشار هذه النسخة بمرور الوقت. تكونت العين تدريجيًّا على مر ملايين السنوات. لم يكن هناك من يحتاج إلى التفكير في تصميمها قبل أن تتكون. وقد شُرحت الحجة الأساسية التي قدمها هيوم وكانط بالتفصيل الدقيق. كانت «حجة التصميم» خاطئة.
ثَمة سبب آخر (متصل بالموضوع) لاختيار داروين لتناول العين في النقاش، وهو أن العين تبدو وكأنها نوع من التراكيب المعقدة التي لا يمكن أن تتطور عن طريق الانتخاب الطبيعي. في نظرية داروين، تتطور تراكيب جديدة عبر العديد من الخطوات الصغيرة، ويجب أن تكون كل خطوة مفيدة. في سياق العين، قد يبدو أن التغيير في أحد الأجزاء يتطلب حدوث التغييرات الصحيحة في الأجزاء الأخرى كي يصبح مفيدًا. فمثلًا إذا تغيَّر شكل العدسة، فلا بد أن تغيِّر الشبكية والعضلات المحيطة بالعدسة وضعها أيضًا. وإذا تغيَّر حجم فتحة العدسة، فلا بد من حدوث تغييرات في الخلايا الحساسة للضوء في الشبكية. وهكذا دَوالَيك. وهكذا يتضح أن أي تغيير سيتطلب تغييرات أخرى ذات صلة.
مع ذلك، لا يمكن للعضو أن يتطور من خلال الانتخاب الطبيعي إذا كان يتطلب حدوث العديد من التغييرات المستقلة في الوقت نفسه. يكون كل تغيير، مثل تغيير شكل العدسة، نادرًا عندما يظهر لأول مرة؛ إذ يُعثَر عليه لدى فرد أو اثنين. ومن غير المحتمل أن يكون لدى هذين الفردين التغيير المناسب في سمة أخرى مستقلة من سمات العين، مثل المسافة بين العدسة والشبكية. وإذا لم يكن التغيير في شكل العدسة مصحوبًا بالتغييرات المناسبة ذات الصلة، فلن يكون مفيدًا. ومن ثَم، لن يُفضِّله الانتخاب الطبيعي. لهذا السبب قد يبدو أن العين لا يمكن أن تتطور عن طريق الانتخاب الطبيعي. تكمن المسألة في الضرورة الواضحة لحدوث تغييرات متزامنة ومنسَّقة في عدة أجزاء. هذه هي الخاصية التي جعلت العين دراسة حالة لِما يُسميه داروين «إشكاليات في النظرية». تمثَّل رد داروين في أنه إذا فكرت في المشكلة، فستجد أن العين يمكن أن تكون في الواقع قد تطورت خلال العديد من المراحل الصغيرة. ليس من الضروري أن تتغير جميع مكونات العين (أو معظمها) في آنٍ واحد بالطريقة الصحيحة. تناول داروين عيون مجموعة من الأنواع المختلفة. بعض الأنواع لديها منطقة واحدة حساسة للضوء، وبعضها لديه عين أشبه بالكاميرا ذات الثَّقب الدقيق (أي إنها يمكنها تكوين صورة لكن دون عدسة)، والبعض الآخر لديه أعين بعدسات. كانت مجموعة أشكال الأعين التي وُجدت في الأنواع المختلفة كبيرة، كما أظهرت العديد من المراحل المختلفة المحتملة التي من الممكن أن تكون أعين البشر مثلًا قد مرت بها أثناء التطور حتى تصل إلى ما هي عليه حاليًّا.
لا تدَّعي حجةٌ مقارنة كهذه معرفةَ التسلسل الدقيق للمراحل المبكرة التي مر بها العضو خلال عملية التطور. والمفصليات التي ذكرها داروين ليست أسلاف البشر أو أي فقاريات أخرى. كما أن مصطلح «المفصليات» لم يعد يُستخدم بكثرة الآن. فهو يشير تقريبًا إلى ما نُسميه بمفصليات الأرجل، كالحشرات والقشريات (مثل السرطان والجمبري) والعنكبوتيات (مثل العناكب). وللمفصليات سطح خارجي صلب يعمل بمثابة «هيكل خارجي». وليس لديها عظام داخلية. أما الفقاريات فتتكون من الأسماك والبرمائيات والزواحف والطيور والثدييات. ولدى الفقاريات هيكلٌ داخلي مكونٌ من العظام، أما سطحها الخارجي فعادةً ما يكون ليِّنًا. وبشكلٍ عام، إذا نظرنا إلى عين أي كائن من الكائنات المعاصرة، فإننا لا نرى عينًا لها تركيب العين السابق الذي تطورت منه أعيننا. وليس لدينا دليل مباشر على التركيب الدقيق للعين لدى أسلافنا. فالأعين عبارة عن أنسجة رخوة ولا تُحفَظ في الحفريات. ومن ثَم، فإننا حتى لو كان لدينا سلسلة من الحفريات لأسلاف البشر البعيدين جدًّا، فلن نتمكن من دراسة الأعين فيها. ولكن الأدلة المقارنة تقدم لنا حجة يمكننا أن نعتبرها تأسيسية فحسب. فهي توضح أن عين الإنسان المعقدة قد تكون تطورت على مراحل من بدايات بسيطة، وذلك من خلال تقديم دليل على المراحل. وسيُدحض رأي الناقد الذي قال إن العين لتكون نافعة لصاحبها لا بد أن تكون بهذا التعقيد، عن طريق الدليل الذي يشير لوجود أعين بسيطة لكائنات أخرى وتكون مفيدة لأصحابها. فمثلًا المنطقة الحساسة للضوء من الجلد في بعض الكائنات تُعد جهازًا بصريًّا أقل تقدمًا من العين يمكنه تكوين صورة، لكنه مع ذلك يقدم معلومات قد تكون فارقة لإنقاذ حياة حامله.
يمكن دراسة تسلسل التغييرات نظريًّا؛ لأنه يمكننا بناء نموذج هندسي يقيس حدة البصر للأعين والأعين البدائية بكل الأشكال الممكنة. يمكننا بعد ذلك معرفة ما إذا كان من الممكن إيجاد تغيير بسيط يحسِّن حدة البصر بالفعل في كل مرحلة أم لا. أشار داروين ضمنيًّا إلى هذا النوع من الحجج النظرية في الجزء الافتتاحي من النص المقتبَس، لكنها بعد ذلك طُوِّرت بالكامل. أوضحت الأبحاث في مطلع تسعينيات القرن العشرين أنه يمكن لعين معقدة كأعيننا أن تتطور خلال سلسلة من المراحل الصغيرة (من الناحية النظرية، يمكن لهذه المراحل أن تكون متناهية الصغر) من خلية أولية حساسة للضوء. وعليه، لا يتطلب تطور العين حدوث العديد من التغييرات المنسقة في آن واحد. يمكن أن تطورها تدريجيًّا، بحيث يكون كل تغيير في جزء واحد مفيدًا في حد ذاته.
والعين ليست العضو الوحيد الذي يمكن الجدال حوله بهذه الطريقة. بشكلٍ عام، خلص داروين إلى أنه «يجب علينا الانتباه جيدًا عند استنتاج أن العضو لا يمكن أن يكون قد تطور عن طريق سلسلة متدرجة وانتقالية من التغيرات من نوع ما.» بالنسبة إلى معظم الأعضاء، ثَمة دليل مقارَن يقترح نقطة البداية الأساسية لتطور العضو. لكن حتى وإن لم نكن على دراية بالدليل المقارن، ولا يسعنا التفكير في المرحلة الأولية الأبسط، فإن هذا لا يعني عدم وجود هذه المرحلة الأبسط. ربما تكون معرفتنا محدودة. وقد أظهرت الأبحاث باستمرار أنه إذا خضع الأمر للتناول والبحث، يمكننا العثور على سلسلة من المراحل الانتقالية المؤدية إلى أي عضو معقد. لا تزال حجة داروين الأساسية حول «الأعضاء التي تكون في منتهى الكمال والتعقيد» صامدة.
وقد أوضحت الأبحاث الحديثة حول تطور العين نقطة أخرى من النقاط التي أثارها داروين. عندما نفكر جميعًا — أو معظمنا — للوهلة الأولى في كيفية تطور العين، يبدو وكأن الأمر يتطلب عددًا ضخمًا من التغييرات التي لا بد أن تكون قد استغرقت وقتًا طويلًا جدًّا (نظرًا لأن كل تغيير حدث من خلال طفرة عشوائية صغيرة تعيَّن عليها الانتشار فيما بعدُ عن طريق الانتخاب الطبيعي). إلا أنه يتضح أننا لا نستطيع الاعتماد على تصوراتنا فحسب. أشارت الدراسة التي أُجريت في تسعينيات القرن العشرين التي أشرت إليها آنفًا إلى أن عملية تطور العين بالكامل يمكن أن تحدث على مدى نحو نصف مليون جيل. من الناحية التطورية، هذا وقت قصير جدًّا. فالتطور على كوكب الأرض بدأ منذ أربعة آلاف مليون سنة ولا يزال مستمرًّا، علمًا بأن عمر الجيل في العديد من أشكال الحياة لا يتجاوز عامًا. في النص المقتبَس يقول داروين إنه «ليس من المستحيل أن نصدق أن العين الكاملة والمعقدة يمكن أن تتشكل عن طريق الانتخاب الطبيعي، على الرغم من أنه من الصعب علينا أن نتخيل ذلك.» وقد ذكر في سياق آخر أن مثل هذه الإشكاليات مصدرها فقر الخيال لا العقل.
يكمن جزء من صعوبة التخيل في مقدار الوقت الذي استمر فيه التطور. فهذه المدة تتجاوز أي إطار زمني في نطاق التجربة الإنسانية. يكمن جزء آخر من المشكلة في أننا نميل إلى الاستخفاف بقوة الانتخاب الطبيعي. والانتخاب الطبيعي قوي للغاية لأنه تراكمي. ففي عملية تطور عضو معقد، بمجرد انتهاء المرحلة الأولى من التطور، فإنها تصبح نقطة بداية لتحسينات تالية. على سبيل المثال، بمجرد تكوُّن تقعر للأسفل نتيجة لانغماد الخلايا، قد يكون من المفيد ملء التقعر بسائل. وفي وقت لاحق، قد يُستبدل جزء من السائل وتحل محله عدسة. وبهذا فإن العدسة لا تتطور من تلقاء نفسها. ولا تتطور عندما يوجد سطح مستوٍ من الخلايا الحساسة للضوء. فهي لا تتطور إلا بعد أن يكتمل معظم تركيب العين. ومن ثَم، فإن احتمالات تطوُّر شيء معقد مثل العين في خطوة واحدة ضئيلة للغاية. لكن إذا حدث التطور على مراحل تدريجية، مع إضافة كل مرحلة جديدة إلى ما أُنجِز بالفعل، تصبح الاحتمالات أكبر بكثير. عندما نقرأ مناقشة داروين حول الأعضاء المعقدة الشديدة الكمال، نتعرف على قوة الهندسة التدريجية.