التهجين والتنوع الحيوي
يرى علماء الطبيعة بوجهٍ عام أن الأنواع، عند تزاوجها معًا، تُمْنى بالعقم؛ وذلك للحيلولة دون اختلاط الأنواع المختلفة. قد تبدو هذه الفكرة للوهلة الأولى ممكنة؛ وذلك لأنه من الصعب الإبقاء على الأنواع التي تعيش معًا في مكان واحد متمايزةً إذا كان بإمكانها التزاوج بعضها من بعض والاختلاط بحرية. أعتقد أن بعض الكُتاب الجدد لم يدركوا أهمية أن تكون الحيوانات المهجَّنة عقيمة بشكلٍ عام. في سياق نظرية الانتخاب الطبيعي تُعد القضية في غاية الأهمية؛ نظرًا لأن عقم الهجائن لا يمكن أن يفيدها بأي شكل من الأشكال؛ ومن ثَم من غير المرجَّح أن يكون قد تطور تدريجيًّا من خلال الانتخاب الطبيعي. ومع ذلك، أتمنى أن أتمكن من إيضاح أن العقم ليس صفةً مكتسَبة أو ممنوحة عمدًا، بل تحدث عرَضًا نتيجةً لبعض الاختلافات المكتسَبة. […]
بالنظر إلى القواعد العديدة التي ذكرناها الآن، والتي تتحكم في خصوبة الهجائن الأولى وخصوبة النسل الهجين، نلاحظ أنه عندما يتحد شكلان من أشكال الحياة، أو على الأحرى نوعان متمايزان جيدان، فإن خصوبتهما تتراوح من الصفر إلى الخصوبة الكاملة أو حتى إلى الخصوبة الزائدة في ظل ظروف معينة. كما نلاحظ أن خصوبتهما، بالإضافة إلى كونها عُرضةً بشكل كبير للظروف المواتية وغير المواتية، فهي متغيرة بالفطرة. وإن الخصوبة لا تكون في أي حال من الأحوال بالدرجة نفسها لدى كلٍّ من الهجائن الأولى والنسل الناتج عن هذه الهجائن. أيضًا نلاحظ أن خصوبة النسل الهجين غير مرتبطة بدرجةِ تشابهه في المظهر الخارجي مع أيٍّ من الوالدين. […]
والسؤال الآن: هل هذه القواعد المعقدة والفريدة تشير إلى أن الأنواع قد أصبحت عقيمة لمنع اختلاطها معًا في الطبيعة؟ لا أظن ذلك. وإلا فلماذا يكون العقم متفاوتًا في الدرجة تمامًا، مع أنه يتعين علينا افتراض أنه عند تزاوج أنواع مختلفة، لا بد من منعها من الاختلاط معًا على حد السواء. لماذا يجب أن تكون درجة العقم متغيرة بالفطرة لدى الأفراد من نفس النوع؟ لماذا تتزاوج بعض الأنواع المختلفة بسهولة ومع ذلك تنجب نسلًا عقيمًا، بينما تتزاوج أخرى بصعوبة ومع ذلك تنجب نسلًا خصبًا إلى حدٍّ ما؟ لماذا تختلف نتائج التزاوج التبادلي بين النوعين عينيهما؟ بل قد يسأل البعض لماذا سُمح بوجود نسل هجين من الأساس؟ يبدو أن منح الأنواع القدرة الخاصة على إنتاج نسل هجين، ثم وقف تكاثر هذا النسل بدرجات مختلفة من العقم، وهو ما لا يرتبط ارتباطًا وثيقًا بسهولة عملية التزاوج الأولى بين والديه، ترتيب غريب. […]
ويمكن الدفع بحجة مقنعة جدًّا، ألا وهي أنه يجب أن يكون هناك تمايز واضح وجوهري بين الأنواع والضروب، وأنه قد يكون هناك خطأ في جميع الملاحظات السابقة؛ لأن الضروب حتى وإن كانت ذات مظهر خارجي متباين، يمكنها أن تتزاوج بسهولة وتنتج ذرية كاملة الخصوبة. […]
تُعَد الخصوبة الكاملة للعديد من الضروب المحلية التي تتباين تباينًا شاسعًا في المظهر، كخصوبة ضروب الحمام أو الكرنب، من الحقائق التي تسترعي الاهتمام؛ لا سيما عند النظر إلى كم الأنواع التي على الرغم من التشابه الشديد بينها، فإنها تصبح عقيمة تمامًا عندما تتزاوج معًا.
كرَّس داروين فصلًا في كتاب «أصل الأنواع» عن التهجين. يشير التهجين إلى ما يحدث عند تزاوج أنواع مختلفة أو تهجينها. في كثير من الأحيان يخفق النوعان في إنتاج نسل هجين، أو يولد النسل إلا أنه يكون غير قادر على التكاثر. يهتم علماء الأحياء التطوريون المعاصرون بشكلٍ أساسي بهذا الفصل بسبب صلته بأصل الأنواع. ويُعرِّف العديد من علماء الأحياء المعاصرين (إن لم يكن جميعهم) النوع في ضوء التهجين كالآتي: النوع هو مجموعة من الكائنات الحية القادرة على التزاوج فيما بينها ولا تتزوج من أفراد ينتمون لأنواع أخرى. طبقًا لمفهوم النوع هذا، ينتمي البشر لنوع (يُطلق عليه رسميًّا «الهوموسيبيان» الإنسان العاقل)، في حين ينتمي الشمبانزي لنوع آخر (وهو الذي يطلق عليه «بان تروجلودايتس» أو الشهواني ساكن الكهوف)؛ وذلك لأن البشر يتزوجون من بشر، والشمبانزي يتزوج من شمبانزي، لكن الإنسان لا يتزوج من شمبانزي. يُعتبر فقدُ القدرة على تزاوج الكائنات الحية مع مجموعة مختلفة من الكائنات الحية الخطوةَ الرئيسية في تطور أنواع جديدة. في وقت ما في الماضي كان الأسلاف يندرجون تحت نوع واحد. ثم بطريقة ما، ومع مرور الوقت، يطور بعض الأفراد المنتمين لذلك النوع سمات إنجابية مختلفة عن الأفراد الآخرين المنتمين لذلك النوع. وبهذه الطريقة، يتطور النوع الواحد ليصبح نوعين.
لكن، بالنسبة إلى داروين لم يكن موضوع التهجين؛ أي تكوين نسل هجين من خلال التزاوج بين نوعين مختلفين، أو ضربين متمايزين، وثيق الصلة بأصل الأنواع الجديدة. كان على دراية كاملة بأهمية حدوث التهجين بين أفراد النوع الواحد وعدم حدوثه لبقاء الأنواع في الطبيعة. في الواقع، تشير الجملة الثانية في النص المقتبَس إلى أن الأنواع لن تكون موجودة، كأشكال متمايزة، إذا لم تُمنع من التهجين. وقد عُرِّفت الأنواع في ضوء التهجين قبل زمن داروين بفترة طويلة. على سبيل المثال، عرَّف عالم الطبيعة البريطاني جون راي الأنواع صراحةً بأنها جماعات قادرة على التزاوج فيما بينها وإنتاج نسل، وقد كان يكتب في القرن السابع عشر. كان داروين على علم بهذا التعريف، لكن لا يبدو أنه فكر في النوع باعتباره مجرد مجموعة قادرة على التزاوج فيما بينها وإنتاج نسل. فالاختلاف بين الإنسان والشمبانزي لا يكمن في عدم قدرتهما على التزاوج فيما بينهما فحسب، بل يمتد أيضًا إلى مظهرهما الجسماني. فالإنسان والشمبانزي يبدوان مختلفين شكلًا. ربما كان لدى داروين مفهوم أكثر مرونة واتساعًا لما يعنيه النوع مقارنة بعلماء الأحياء المعاصرين الذين لا يركزون إلا على التزاوج داخل النوع. في الفصل الثاني رأينا كيف ناقش داروين تباعد الأنواع؛ فالمنافسة بين الأشكال الأكثر تماثلًا تدفعها بعيدًا بعضها عن بعض بمرور الزمن. بالنسبة إلى داروين، يرتبط نشوء أنواع جديدة بظهور سمات وأشكال مختلفة داخل النوع بقدر ما يرتبط بعدم قدرة الأفراد التي تنتمي لأنواع مختلفة على التزاوج والتكاثر. يُعَد «التهجين» قضية رئيسية في مفهوم نشوء الأنواع الحديث، لكنه لا يتعدى كونه جزءًا من العملية بالنسبة إلى داروين.
وعليه، يمكننا أن نقرأ الجزء المقتبس الخاص بالتهجين لنرى ما كان داروين نفسه مهتمًّا به، وما يمكن لعالم الأحياء المعاصر استخلاصه منه. ولا يلزم أن تكون «القراءتان» منفصلتين تمامًا: كان داروين مدركًا جزئيًّا لمفهومنا المعاصر للأنواع، كما أن اهتمامات داروين نفسه لا تزال مثيرة للاهتمام حتى الآن. ومع ذلك، سيكون من المناسب تحليل القراءتين على الترتيب.
أولًا: ما حجة داروين؟ تنتهي الفقرة الأولى المقتبَسة من داروين بالإشارة إلى أنه يهدف إلى توضيح أن العقم بين الأنواع «ليس صفة مكتسَبة أو ممنوحة عمدًا، بل تحدث عرَضًا نتيجة لبعض الاختلافات المكتسَبة.» يمكننا تفسير «مكتسبة» على أنها «متطورة»، أو على الأحرى «متطورة بفعل الانتخاب الطبيعي». (كما ذكرت من قبل، لم يستخدم داروين مصطلح «التطور» في كتاب «أصل الأنواع» باستثناء حالة واحدة. فقد استخدم مصطلحات أخرى بديلة، وهنا استخدم مصطلح «مكتسبة».) وعليه فإن عقم الهجائن لم يتطور بفعل الانتخاب الطبيعي. والسبب أن الانتخاب الطبيعي يفضل السمات التي تزيد من بقاء الكائنات الحية وتكاثرها. والعقم بحكم تعريفه، يقوم بالعكس؛ أي يمنع التكاثر. لذا سيعمل الانتخاب الطبيعي على تقليل العقم أو القضاء عليه، ولن يعمل على إيجاده. وهو ما يجعل عقم النسل الهجين «في غاية الأهمية» بالنسبة إلى النظرية. كان داروين يطرح نظرية للحياة، نظرية تطورت فيها السمات المختلفة للكائنات الحية عن طريق الانتخاب الطبيعي. ومع ذلك، لدينا هنا سمة من سمات الحياة — وهي سمة ضرورية لوجود الأنواع — لا يمكن أن تكون قد تطورت بفعل الانتخاب الطبيعي. وفقًا لمصطلحات داروين، فالعقم ليس شكلًا من أشكال التكيُّف. وثَمة هدفان من أهداف داروين في هذا الفصل؛ الأول هو توضيح أن العقم يفتقر إلى سمات التكيُّف الحقيقي، أما الثاني فهو شرح كيفية تطور العقم مع ذلك على الرغم من أنه ليست له ميزات تكيفية. يؤدي تحقيق الهدف الأول إلى تحقيق الهدف الآخر؛ أي توضيح أن العقم ليس سمة «ممنوحة عمدًا» للنسل الهجين. وهنا يشير داروين إلى ما نطلق عليه الآن نظرية الخلقوية.
في وقت كتابة داروين لكتابه، كان معظم علماء الطبيعة يعتقدون أن كل نوع خُلِق على حِدة بطريقة ما. وأيًّا كانت آلية هذا الخلق، كان من المنطقي، إمداد النسل الهجين بسمة العقم، وإلا كانت الأنواع ستنقرض. ومن ثَم يكون العقم من أوجه التكيف، فهو يفيد الأنواع بنفس الطريقة التي تفيد بها أمثلة التكيف القياسية مثل الأعين والأجنحة. (يمكننا تجاهل السؤال حول ما إذا كانت أوجه التكيف تفيد الأنواع أم الكائنات الفردية؛ لأنه لم يكن سؤالًا يثير اهتمام علماء الطبيعة في ذلك الحين. لكنه كان مهمًّا لداروين كما رأينا وكما سنرى مرةً أخرى في هذا الكتاب.) تعيَّن على داروين توضيح أن عقم النسل الهجين ليس وجهًا من أوجه التكيف؛ وذلك لكي ينقذ نظريته ولكي يدحض رأي المؤيدين لنظرية الخلقوية.
يكون المثال التقليدي على التكيف شيئًا مثل العين؛ فهي عضو معقد يبدو أن تركيبه مصمم لتكوين صور بصرية. من الناحية العملية، من الصعب أن تعطي تعريفًا مجردًا يميز بين سمات الكائنات الحية التي تُعد من أوجه التكيف والسمات التي لا تُعد كذلك. فعلماء الأحياء حتى يومنا هذا لم يتفقوا على تعريف التكيُّف. إذَن، عندما يشير داروين إلى أن عقم النسل الهجين ليس من أوجه التكيُّف، فإنه لم يتمكن من وضع معايير أساسية لما لا يُعَد من أوجه التكيف ثم يستمر في تحليل التفاصيل. لكن بدلًا من ذلك، وصف سلسلة من سمات عقم النسل الهجين التي ستكون غير منطقية إذا كان العقم من أوجه التكيف لإبقاء الأنواع منفصلة. السمة الأولى هي التباين. يختلف شكل العقم لدى النسل الهجين ما بين أزواج الأنواع المختلفة وبعضها البعض، وما بين الأفراد داخل النوع الواحد. لفهم هذه النقطة، قارن هذا بشيء مثل العين. يكون شكل العين متماثلًا تقريبًا لدى جميع الحيوانات الفقارية (الأسماك والضفادع والسحالي والطيور والثدييات). ويرجع ذلك إلى أن قوانين الفيزياء البصرية تقتضي أن تؤدي بعض التراكيب وظيفة العين وألا يفعل البعض الآخر ذلك. يتباين شكل العين إذا نظرنا إلى الحياة الحيوانية كليًّا، إلا أن كل هذه الأشكال عبارة عن تراكيب متخصصة بشكلٍ واضح ومصممة للرؤية. فهي ليست أي ترتيب قديم للخلايا. والتركيب ثابت بشكل لافت للنظر لدى مجموعة واسعة من أشكال الحياة، مثل جميع الفقاريات. أما في حالة العقم لدى النسل الهجين، فنجد نطاقًا حتى ضمن الأشكال وثيقة الارتباط. قد ينتج زوج من الأنواع نسلًا هجينًا عقيمًا تمامًا، بينما ينتج زوج آخر من الأنواع المتقاربة نسلًا هجينًا كامل الخصوبة. وبينهما توجد العديد من الدرجات أيضًا. يبدو الأمر وكأننا وجدنا «عيونًا» بترتيب معين للعدسة والشبكية لدى البشر، لكن هذا الترتيب معكوس لدى الشمبانزي، قد يثير هذا الاستكشاف تساؤلات حول ما إذا كنا قد «منحنا» عمدًا هذه «العيون» من أجل الرؤية.
ويظل التباين الشديد أحد المعايير التي يستخدمها علماء الأحياء للتعرف على السمات غير التكيفية في الكائنات الحية. على المستوى الجزيئي، يبدو أن العديد من امتدادات الحَمض النووي ليس لها أي غرض تكيفي؛ وغالبًا ما تكون هذه الامتدادات من الحمض النووي غير التكيفية متباينة للغاية بين الكائنات الفردية. إلا أن هذا المعيار ليس قاطعًا، فهناك بعض السمات قد تكون متباينة ولكنها مع ذلك تظل تكيفية. كانت رؤى داروين اقتراحات أكثر من كونها أفكارًا قاطعة. لكنه استمر في تناول السمات الأخرى لعقم النسل الهجين، متوصلًا إلى أن كلًّا منها سيكون ترتيبًا غريبًا إذا كانت من أوجه التكيف. يتراكم كل ذلك ليقدم حجة مقنعة معترفًا بها على نطاق واسع حتى يومنا هذا. عمليًّا، لا يعتقد أيٌّ من علماء الأحياء المعاصرين أن عقم النسل الهجين قد تطور للإبقاء على الأنواع الأبوية متمايزة.
بدلًا من ذلك، رأى داروين أن العقم تطور بشكلٍ غير مقصود «نتيجة لبعض الاختلافات المكتسبة». وقد قال داروين هذه الحجة صراحةً لكن ليس في هذا النص المقتبس. وفقًا للمفهوم الحديث، مع تطور نوعين مختلفين من الكائنات الحية بشكلٍ مستقل بمرور الوقت، فإن الاختلافات بجميع أشكالها تتراكم أثناء تكيُّف كل نوع مع بيئته. ستختلف الجينات الجديدة التي تطورت لدى الإنسان على مدى الخمسة ملايين سنة الماضية عن الجينات الجديدة التي تطورت لدى الشمبانزي. ومن غير المعلوم علميًّا ما سيحدث إذا حاول الإنسان والشمبانزي التزاوج، لكن من المحتمل أن تكون بعض السمات المتطورة حديثًا لدى الإنسان غير متوافقة مع السمات المتطورة حديثًا لدى الشمبانزي عندما تندمج هذه السمات معًا في كائن هجين. ومن ثَم، يكون الكائن الهجين مختلًّا من الناحية الوظيفية. تبدو المشكلة كما لو أنك خلطت مكونات من علامتين تِجاريتين مختلفتين من السيارات. في الغالب لن تعمل السيارة الهجين الناتجة، بسبب عدم التوافق بين مكوناتها. فشل السيارة الهجين في القيام بوظيفتها ليس سمة متعمدة؛ إذ لم يتعمد المهندسون إقحام عدم التوافق لمنع التهجين وجعل علامتهم التجارية متمايزة. ومن ثَم فإن فشل السيارة الهجينة هو نتيجة عرَضية غير مقصودة، فهي تحدث عندما يعمل فريقان من المهندسين بشكلٍ مستقل. وبالمثل، عندما يتطور نوعان بشكلٍ مستقل لفترة، فمن المحتمل أن يتطورا ليكونا غير متوافقين. تتنوع درجة عدم التوافق بين الأنواع بطرق عشوائية. قد يحدث أحيانًا أن تكون أزواج معينة من الأنواع متوافقة، عن طريق المصادفة ليس غير. ومن ثَم سيكون النسل الهجين خصبًا. بينما ستكون أزواج أخرى غير متوافقة تمامًا. تعتمد النتيجة على «المكونات» أو الجينات التي تغيرت أثناء التطور.
تتوافق الطريقة التي طرح بها داروين المسألة واستنتاجه مع التفكير الحديث؛ ولكن ثَمة تعقيدًا واحدًا أضيف. يشير علماء الأحياء الآن إلى فشل نوعين في التزاوج باعتباره «انعزالًا تكاثريًّا». ويمكن تمييز نوعين من الانعزال التكاثري. أحد النوعين هو ذلك الذي شرحه داروين، وهو أن يتزاوج نوعان لكن النسل الهجين لا يتمكن من التكاثر. أما الثاني فهو ألا يتزاوج النوعان من الأساس. على سبيل المثال، قد يستخدم النوعان إشارات مغازلة مختلفة، ومن ثَم لا يرى أيٌّ منهما في الآخر زوجًا محتملًا. ربما تجاهل داروين هذا النوع الثاني من الانعزال لأن الدليل المتاح لديه كان ناتجًا عن التلقيح الاصطناعي للنباتات. ولم يقم أي شخص بإجراء أبحاث حول الأحداث المؤدية للتزاوج حتى نهاية القرن التاسع عشر، بعدما كتب داروين «أصل الأنواع».
لا يزال علماء الأحياء يتفقون مع داروين على أن عقم الهجائن تطور بشكلٍ عرَضي غير متعمد نتيجةً لتغيير أجزاء في الكائن الحي. لكن ثَمة مدرستين فكريتين تتعلقان بالشكل الأولي للانعزال النابع من عوامل مثل المغازلة. يعتقد بعض علماء الأحياء أنه من الممكن أن يكون هذا الشكل قد تطوَّر باعتباره «سمة مكتسبة بشكل متعمد»؛ بمعنى أن إشارات المغازلة المختلفة قد تكون تطورت لدى الأنواع لتجنب إنتاج سلالات هجينة. فيما يعتقد البعض أنه قد تطور باعتباره نتيجة عرَضية شأنه في ذلك شأن عقم الهجائن. وقد تتطور الإشارات بشكلٍ منفصل لدى نوعين لسبب آخر غير الحيلولة دون التهجين بين النوعين. عندما يكون سلوك المغازلة بين النوعين مختلفًا بدرجة كافية، يتوقف أفراد كل نوع عن رؤية أفراد النوع الآخر باعتبارهم أزواجًا محتملين. لذا، عندما تناول علماء الأحياء المعاصرون الفصل الذي كتبه داروين، رأوا نفس الفرق (بين السمات الممنوحة بشكلٍ متعمد والسمة التي نشأت عرضيًّا نتيجة لاختلافات مكتسبة أخرى) الذي لا يزالون يهتمون به. وبعد ذلك اتفقوا مع استنتاج داروين إما جزئيًّا أو كليًّا، بناءً على منظورهم حول الانعزال التكاثري النابع من المغازلة (وبعض العوامل ذات الصلة)، وهو ما لم يضعه داروين في الاعتبار.
بعد ذلك، يتناول داروين تحديًا آخر يمثله عقم الهجائن لنظريته. فقد تبين، من خلال فحص بسيط للحقائق، أن عمليات التهجين بين الأنواع المختلفة لم تنتج قَطُّ أي سلالات هجينة خصبة، في حين أن عمليات التهجين بين الضروب داخل النوع الواحد كانت دائمًا خصبة. وهذا يضر ظاهريًّا بادعاء مهم في نظرية داروين، وأيضًا بطريقته الجدلية المفضلة. في نظرية داروين، لا يوجد اختلاف كبير بين الضروب والأنواع. فالضروب تختلف بمقدار محدد، بينما تختلف الأنواع بمقدار أكبر. وعلى حد تعبير داروين، فإن الضروب هي أنواع أولية. فالعمليات التي تتمخض عنها ضروب جديدة، إذا استمرت لفترة أطول، سينتج عنها أنواع جديدة. إذَن، تتنبأ نظرية داروين بأن الضروب ستتحول إلى أنواع؛ وهو ما يعني أنه ليس هناك معيار واضح يمكننا من خلاله التمييز بين الضروب والأنواع.
ومع ذلك، يتضح أن القدرة على التزاوج وإنتاج نسل خصب تقدِّم هذا المعيار. يبدو أن الضروب قد تكون أشكالًا مختلفة قادرة على التزاوج فيما بينها وإنتاج نسل خصب، أما الأنواع فهي أشكال مختلفة غير قادرة على التزاوج فيما بينها وإنتاج نسل خصب. ومن ثَم، قد تكون الضروب كيانات مختلفة عن الأنواع، ومن ثَم سيكون من غير الآمن استخلاص استنتاجات من أحدها وتطبيقها على الآخر. ومع ذلك، كانت هذه هي الطريقة التي يحب داروين أن يفكر بها. لقد أجرى مقارنة بين الانتخاب الاصطناعي الذي يمارسه البشر، عند إنتاج محاصيل وسلالات محلية وزراعية جديدة، والانتخاب الذي يحدث في الطبيعة. لكن الضروب المحلية الناتجة عن التدخل البشري تظل ضروبًا. وقد قال داروين (في الجزء المقتبس) إن هذه «من الحقائق التي تسترعي الاهتمام». وعلى الرغم من ذلك، فضروب الحمام التي قد تُصنَّف على أنها أنواع مختلفة بناءً على مظهرها، تكون قادرة على التزاوج وإنتاج نسل خصب. قد يستغل الناقد الذي يعتقد أن الأنواع قد خُلقت بشكلٍ منفصلٍ هذه الحقيقة. من الممكن أن يكون هذا النوع من العمليات التطورية التي ناقشها داروين فعَّالًا على نطاق ضيق؛ أي داخل النوع الواحد؛ إلا أنها لن تمضي قُدمًا بما يكفي لتكوين أنواع منفصلة تمامًا لا يمكنها التزاوج وإنتاج ذرية خصبة.
أثار داروين عدة اعتراضات. أحد هذه الاعتراضات هو أن الأمر يعتمد على التعريف، بمعنى أننا نُسمي الأشياء ضروبًا إذا كان يمكنها التزاوج وإنتاج نسل خصب، ونُسميها أنواعًا إذا كانت لا تفعل ذلك. ربما يُظهر الواقع المجرد فرقًا أقل وضوحًا. تمكَّن داروين من الإشارة إلى أدلة انطوت على «ضروب» داخل النوع الواحد كانت أقل قدرة على التزاوج فيما بينها وإنتاج نسل خصب كما انطوت على بعض «الأنواع» القادرة على التزاوج فيما بينها وإنتاج نسل خصب. إلا أن الأدلة كانت محدودة في عصره، كما أنها لم تتناسب بدقة مع نظريته؛ إذ إن العديد من الضروب المحلية، سواء أكانت من المحاصيل أو من الكلاب أو من الحمام، لم تُظهر أي علامة على انخفاض الخصوبة عند تزاوج العديد من الأشكال المختلفة للغاية. وقد تنبأت نظريته بوضوح لا لَبْس فيه بأنه عند مرحلة معينة لا بد أن تنخفض الخصوبة عند تزاوج الضروب التي تطورت بشكلٍ منفصل.
تدعم الأدلة الحديثة تنبؤات داروين على نحوٍ أفضل من الأدلة التي كانت لديه في ذلك الوقت. وقد أجرى علماء الأحياء الآن العديد من التجارب التي اختاروا فيها عينات فرعية مختلفة من جماعة أولية بطرق مختلفة، بحيث تتطور العينات الفرعية بشكلٍ منفصل مع مرور الوقت. بعد ذلك، عقب عدد من الأجيال، يمكننا قياس ما إذا كان هناك أي انعزال تكاثري قد تطور بينها. في الواقع، عادةً ما تتطور درجة من الانعزال التكاثري؛ لكن الأمر يتطلب تجرِبةً مصمَّمة بعناية لاكتشافه. ربما كانت الملاحظات التي استند إليها داروين بُدائية لدرجة أنها لم تكن قادرة على الكشف عن الانخفاض الطفيف في قدرة الضروب على التزاوج بينها وإنتاج نسل خصب. ويظل هناك ادعاء دارويني مهم يفيد بعدم وجود فوارق نوعية بين الضروب والأنواع. ومن ثَم، فإن هذا الجزء في كتاب «أصل الأنواع» مهم نظرًا للطريقة التي صاغ بها المسألة. كما أنه يحدد النوع الصحيح من الأدلة التي يلزم استخدامها لاختبار صحة الادعاء. ومع ذلك، يتضح أن داروين قد واجه صعوبات لأن الأدلة التي كانت متاحة لديه كانت بدائية ومحدودة للغاية.