التعاقب الجيولوجي
… يُعزى النقص في السجل الجيولوجي في الأساس إلى سبب آخر أهم من أيٍّ من الأسباب المذكورة آنفًا، ألا وهو الفجوات الزمنية الواسعة التي تفصل بين التكوينات الجيولوجية المختلفة. عند ملاحظة التكوينات في الأعمال المكتوبة أو تتبعها في بيئاتها الطبيعية، من العسير الهروب من الانطباع بأنها متعاقبة تعاقبًا متقاربًا. لكننا نعلم، على سبيل المثال، من المؤلَّف العظيم الذي كتبه سير رودريك مرشيسون عن روسيا بوجود فجوات زمنية واسعة في هذا البلد بين التكوينات المتراكبة، وهذا هو الحال في أمريكا الشمالية والعديد من بقاع العالم. حتى أمهر علماء الجيولوجيا، إذا صبُّوا تركيزهم على دراسة مناطق شاسعة معينة فقط، فلن يخطر ببالهم أنه خلال الفترات الخالية من أي نشاط في هذه المناطق، قد تراكمت في مكان آخر طبقاتٌ هائلة من الرواسب، غنية بأشكال جديدة ومميزة من أشكال الحياة. […]
بخصوص الظهور المفاجئ للأنواع المتقاربة في أدنى الطبقات الأحفورية. ثَمة صعوبة أخرى وثيقة الصلة، وهي أكثر أهمية. وأنا هنا أشير إلى الطريقة التي تظهر بها فجأةً أعداد من الأنواع تنتمي للمجموعة نفسها في أدنى الصخور الأحفورية المعروفة. إن معظم الحجج التي أقنعتني بأن جميع الأنواع الموجودة والتي تنتمي لنفس المجموعة قد انحدرت من سلف واحد، تنطبق بنفس القوة تقريبًا على أقدم الأنواع المعروفة. على سبيل المثال، يستحيل أن يساورني الشك في أن ثلاثيات الفصوص التي كانت تنتمي للعصر السيلوري قد انحدرت من حيوان قشري واحد لا بد أنه عاش قبل العصر السيلوري بزمن طويل، ولا بد أنه يختلف كل الاختلاف عن أي حيوان معروف. […] ومن ثَم، إذا كانت نظريتي صحيحة، فمما لا شك فيه أنه قد انقضت فترات طويلة، تعادل في طولها الفترة من العصر السيلوري إلى وقتنا هذا، أو ربما أطول من ذلك، قبل تكوين الطبقات الأولى من الرواسب التي تنتمي للعصر السيلوري، وخلال هذه الفترات الزمنية المديدة وغير المعروفة، كان العالم يزخر بالكائنات الحية.
بخصوص الانقراض. حتى الآن، لم نذكر اختفاء الأنواع ومجموعات الأنواع إلا بإيجاز. في نظرية الانتخاب الطبيعي يرتبط انقراض الأشكال القديمة ونشوء أشكال جديدة ومتطورة ارتباطًا وثيقًا. وبشكلٍ عام تمَّ التخلي عن الفكرة القائلة بأن جميع سكان الأرض قُضي عليهم في فترات متعاقبة بسبب الكوارث، حتى من قِبل علماء جيولوجيا من أمثال إيلي دي بومونت، ومورشيسون، وباراندي، وغيرهم، كان المفترض أن تقودهم وجهات نظرهم العامة إلى هذا الاستنتاج. بدلًا من ذلك، أصبح لدينا كل الأسباب التي تدفعنا، من خلال دراسة تكوينات العصر الثالث، للاعتقاد بأن الأنواع ومجموعات الأنواع تختفي تدريجيًّا، واحدة تلو الأخرى من أحد المناطق، ثم من منطقة أخرى، وأخيرًا من العالم كله. […] فيما يتعلق بالفناء المفاجئ، حسبما يبدو، لفصائل أو رتب بأكملها، كثلاثيات الفصوص في نهاية حقبة الحياة القديمة والأمونيات في نهاية حقبة الحياة الوسطى، من المهم أن نتذكر ما ذكرناه آنفًا حول الفجوات الزمنية الكبيرة المحتملة بين التكوينات الجيولوجية المتعاقبة، وخلال هذه الفجوات، ربما حدث انخفاض تدريجي وبطيء في أعداد الكائنات الحية، وهو ما أفضى في النهاية إلى انقراضها.
شهدت الفترة التي كان داروين يطور فيها نظريته عن التطور أيضًا ذروة أحد أعظم برامج البحث العلمي: تسجيل التاريخ الجيولوجي. ينقسم التاريخ الجيولوجي إلى سلسلة من الحقب الزمنية المسماة: حقبة الحياة الحديثة أو (الكاينوزوي) التي تمتد من ٦٥ مليون سنة حتى وقتنا هذا، وحقبة الحياة المتوسطة (الميزوزوي) التي تمتد من ٢٥٠ مليون سنة حتى ٦٥ مليون سنة، وحقبة الحياة القديمة (الباليوزوي) التي تمتد من ٥٤٠ مليون سنة حتى ٢٥٠ مليون سنة. تشتمل هذه الحقب الثلاث على جميع أشكال الحياة المسجلة في السجل الأحفوري الرئيسي. قبل بدء حقبة الحياة القديمة، ثَمة فترة زمنية طويلة تعود إلى زمن نشأة الأرض منذ نحو ٤٥٠٠ مليون سنة، تُقسم هذه الفترة بطرق مختلفة لكنها غالبًا ما يُشار إليها باسم العصر ما قبل الكمبري. وبدورها، تُقسَّم الحقب الثلاث الطويلة (حقبة الحياة القديمة، وحقبة الحياة المتوسطة، وحقبة الحياة الحديثة) إلى أقسام فرعية؛ فعلى سبيل المثال تُقسَّم حقبة الحياة القديمة إلى العصور الآتية: الكمبري والأوردوفيشي والسيلوري والديفوني والكربوني والبرمي. وخلال الفترة بين منتصف القرن الثامن عشر ومنتصف القرن التاسع عشر، تعلم علماء الجيولوجيا التعرُّف على الصخور المميِّزة لهذه الفترات الجيولوجية. على سبيل المثال، تحتوي الصخور التي ترجع لحقبة الحياة المتوسطة على حيوانات لا فقارية مثل مجموعة الأمونيات المنقرضة الآن بالإضافة إلى حيوانات فقارية مثل الأسماك والزواحف، إلا أنها لا تحتوي إلا على عدد محدود جدًّا من الثدييات. كما وضع الجيولوجيون أيضًا الترتيب التاريخي للحقب الزمنية، وأثناء قيامهم بذلك، وصفوا نشوء الكائنات المختلفة المحفوظة في الصخور الأحفورية واضمحلالها خلال تاريخ الحياة.
ركَّز البحث على ما يُسمى «التكوينات»، وهي عبارة عن نوع محدد من الصخور (مثل الحجر الرملي أو الحجر الجيري) في منطقة معينة. في أماكن استثنائية مثل المنحدرات، يمكن التعرف على سلسلة من التكوينات المتميزة، واحدًا فوق الآخر؛ ولكن في معظم الأماكن لا يظهر سوى تكوين واحد فقط، وهو النوع الصخري الموجود أسفل التربة السطحية. يتطلب إعادة تقييم الأحداث التاريخية وبناؤها من جديدٍ تتبع كيف يتحول أحد التكوينات المميزة لتكوين آخر تدريجيًّا، لكن لا يمكن فعل هذا في منطقة واحدة نظرًا لأنه لن تُحفظ جميع التكوينات في هذه المنطقة. تُسمى الطريقة الرئيسية «المضاهاة»: يبحث الجيولوجيون عن تكوينات متماثلة في بلدان مختلفة، من خلال مقارنة الصخور والتراكيب الأحفورية؛ هذه المقارنة كانت تُسمى «مضاهاة» تكوينين. فمثلًا يتضح أن أحد المناطق تحتوي على ثلاثة تكوينات متتابعة، يمكننا أن نسميها «أ» و«ج» و«ﻫ». وقد تحتوي منطقة أخرى على التكوينين «أ» و«ج»، لكن يوجد بينهما تكوين آخر وهو «ب». وبهذا نضع التسلسل الكامل على النحو الآتي: «أ» و«ب» و«ج» و«ﻫ». ومع دراسة مناطق أكثر، تتكون لدينا صورة أكثر شمولًا ومصداقية للتاريخ الجيولوجي.
في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، تمكَّن العلماء من فهمِ أحدث التكوينات، من العصر الكربوني إلى الوقت الحاضر. بعد ذلك، اتجه البحث إلى أقدم الصخور وأكثرها صعوبة. وخلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن التاسع عشر وُضِع النظام الحديث لتقسيم ما نسميه الآن حقبة الحياة القديمة وتنظيمه. كان المركز الرئيسي لإعداد التقارير ومناقشة العمل هو «الجمعية الجيولوجية في لندن»، وقد كان داروين عضوًا نشطًا للغاية فيها بعد عودته من رحلة البيجل عام ١٨٣٦؛ وقد كانت في الواقع بمثابة مركز حياته الاجتماعية في ذلك الوقت. وبعد زواجه عام ١٨٤٢ ظل عضوًا نشطًا.
يمكن استخدام الحقائق المتعلقة بالتاريخ الجيولوجي لاختبار نظرية التطور بطرق عديدة، وهو ما سنعرفه في هذا الفصل والفصل التالي. لكن الجزء المقتبس يبدأ باكتشافٍ ظهر عندما تمت مضاهاة تكوينات توجد في مناطق مختلفة، هذا الاكتشاف يفيد بأن الصخور في أي مكان تحتوي على سجل غير كامل للتاريخ الجيولوجي. لم يكن هذا الاكتشاف مجرد افتراض صحيح أو استنتاج مبني على النظرية، بل كان في الواقع نتيجة شائعة وواسعة الانتشار في المجال البحثي الذي كان يشغل بال داروين يوميًّا. عند مضاهاة تكوينين في مكانين مختلفين، لا يكونان متطابقين تمامًا؛ إذ من الممكن أن يحتوي أحد التكوينين على طبقة من الصخور أكثر سماكة من الطبقة التي يحتوي عليها التكوين الآخر. كان السير رودريك مورشيسون، المذكور في بداية الجزء المقتبس تقريبًا، رائدًا في الأبحاث المتعلقة بالتاريخ الجيولوجي، وكان داروين يعرفه شخصيًّا. سافر مورشيسون إلى روسيا بحثًا عن الصخور الموجودة ما بين العصرين الكربوني والترياسي، وهما فترتان ممثلتان تمثيلًا جيدًا في الصخور البريطانية. بالقرب من مدينة بيرم في جبال الأورال، وجد تكوينات تتوسط بينهما تُعرف الآن باسم تكوينات العصر البرمي. هناك عدد قليل جدًّا من الصخور التي تعود إلى العصر البرمي في بريطانيا، لكن هذه القلة لا تسمح بفهم هذه الفترة من خلال البحث في بريطانيا وحدها. ومع ذلك، فإن معرفة مورشيسون بالجيولوجيا البريطانية جعلته مدركًا لوجود فجوات زمنية بين التكوينات الصخرية التي وجدها في روسيا.
ساعدت الفجوات في السجل الجيولوجي على فهم ظاهرتين مرتبطين بتاريخ الحياة يواصل داروين مناقشتهما في الجزء المقتبس، وهما: الظهور المفاجئ والانقراض المفاجئ لمجموعات من الأنواع. ثَمة كلمة واحدة قد تكون محيرة في مناقشة داروين للمشكلة الأولى، وهي كلمة «السيلوري». في الجيولوجيا الحديثة، يعود تاريخ العصر السيلوري إلى الفترة من ٤٤٣ إلى ٤١٧ مليون سنة؛ أي إنه يتوسط حقبة الحياة القديمة تقريبًا. توقع العديد من القراء ممن لهم خلفية علمية أن يستخدم داروين كلمة «الكمبري» بدلًا من ذلك. العصر الكمبري هو أقدم فترة في العصر القديم، ويعود تاريخه إلى الفترة التي تتراوح من ٥٤٢ إلى ٤٩٠ مليون سنة. خلال زمن داروين، ولمدة قرن آخر تقريبًا بعد كتاباته، لم تُكتشف أي حفريات في صخور تنتمي لعصر أقدم من العصر الكمبري: كان العصر الكمبري (وفقًا لمصطلحات داروين) «أدنى الطبقات الأحفورية». ولا يزال الوضع القائم هو أن الغالبية العظمى من الأحافير المعروفة يرجع تاريخها إلى الفترة من العصر الكمبري وحتى وقتنا هذا.
إذن، لماذا قال داروين سيلوري؟ جزء من الإجابة هو أن مصطلح السيلوري، كما قدمه مورشيسون، يشمل السيلوري بالمعنى الحديث والفترة السابقة، الأوردوفيشي. الجزء الآخر من الإجابة هو أن مصطلح «كمبري» كان محل جدل. وذلك لأن علماء الجيولوجيا لم يكونوا قد تعلموا التمييز بين الصخور الكمبرية والصخور السيلورية بعد؛ لذا ربما كان داروين يحاول تلافي الخلاف المتوقع عندما تجنب استخدام مصطلح «الكمبري»، على الرغم من أن هذا هو المصطلح الذي يجب أن نستخدمه الآن.
كانت الأدلة في زمن داروين تشير إلى ظهور مجموعات منفصلة من الحيوانات فجأة نسبيًّا في التكوينات الصخرية الأولى التي تحتوي على حفريات. ولا يزال الدليل يشير إلى استنتاج مشابه في الوقت الحالي إلى حدٍّ ما. يُطلق على هذه الظاهرة الانفجار الكمبري. بالنسبة إلى داروين، يمثل الظهور المفاجئ لمجموعة من الحيوانات مشكلة. وكما ذُكر في جزء من النص يقع بالقرب من الجزء المقتبس، «إذا نشأت العديد من الأنواع التي تنتمي إلى الأجناس أو الفصائل المختلفة فجأة في آن واحد، فسيقوض ذلك دعائم نظرية تحدر الكائنات الذي يصاحبه تعديلات تدريجية وبطيئة بفعل الانتخاب الطبيعي.»
وقد عرض حل هذه المسألة في بداية الجزء المقتبس: التكوينات الصخرية المفقودة. على وجه التحديد، توصل إلى افتراض وجود فترة زمنية طويلة وغير معروفة سبقت ظهور أولى ثلاثيات الفصوص، وخلال هذه الفترة من الممكن أن يكون التطور قد أدى إلى التحول البطيء خلالها من أبسط أشكال الحياة الأولية إلى الحفريات القديمة (مثل ثلاثيات الفصوص) في العصر الكمبري، أو السيلوري على حد ذكر داروين. (ثلاثيات الفصوص هي مجموعة أحفورية من الحيوانات؛ وهي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالعناكب أكثر من ارتباطها بالقشريات مثل السرطان والجمبري. إلا أن العناكب وثلاثيات الفصوص والقشريات كلها متقاربة — فجميعها من المفصليات — ومن الممكن أن يكون سلف ثلاثيات الفصوص غير المعروف حتى الآن يشبه بعض أشكال القشريات.)
في الواقع كان داروين محقًّا؛ وذلك لأننا إذا تناولنا «أدنى الطبقات الأحفورية» للإشارة إلى نقطة بداية عصر الكمبري؛ أي منذ نحو ٥٤٠ مليون سنة، فسيتضح أن هناك بالفعل فترة أطول بكثير قبلها كان العالم فيها يحتوي على كائنات حية (إن لم يكن قد اكتظ بها بالفعل). تعود أقدم أدلة تشير إلى وجود حياة على الأرض إلى ما يقرب من ٣٥٠٠–٣٨٠٠ مليون سنة. ومن ثَم، فإن السجل الأحفوري الذي ينتمي لعصر ما قبل الكمبري يبلغ نحو ستة أضعاف الفترة التي تمتد من العصر الكمبري للوقت الحالي.
وعلى الرغم من أن السجل الأحفوري لعصر ما قبل الكمبري قد اكتُشف الآن، لا يزال هناك أمرٌ محير. فقد كان السجل محدودًا على نحو ملحوظ؛ إذ لم تُكتشف الحفريات الأولى في عصر ما قبل الكمبري إلا في عام ١٩٥٠ تقريبًا، ومنذ ذلك الحين كان هناك تدفق مستمر من الاكتشافات الإضافية. عُثِر على مخلوقات أحفورية كبيرة نوعًا ما قبل بداية العصر الكمبري؛ أي منذ نحو ٥٦٠ أو ٥٨٠ مليون سنة مضت في أستراليا والصين، لكنها لا تخبرنا الكثير عن المراحل المبكرة من تطور أشكال الحياة في العصر الكمبري مثل ثلاثيات الفصوص. سيكون من المناسب على الأقل لنظرية داروين أن تكشف حفريات عصر ما قبل الكمبري الستار عن بعض المراحل التطورية التي سبقت حفريات العصر الكمبري. لكن حفريات عصر ما قبل الكمبري في الأساس عبارة عن أشكال حياة بسيطة وحيدة الخلية، حتى وإن كانت أكثر تعقيدًا، فلا يبدو أنها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالحيوانات اللاحقة؛ فهي لا تزيل الانطباع بأن الحيوانات المبكرة ظهرت فجأة. ثَمة فكرة شائعة في الوقت الحالي (مجرد فكرة، وليست استنتاجًا مؤكدًا) تفيد بأن العصر الكمبري هو الوقت الذي نشأت فيه «الأجزاء الصلبة». تشمل الأجزاء الصلبة العظام في الحيوانات الفقارية (مثلنا)، والأصداف في الرخويات والدروع في حيوانات مثل السرطان وثلاثيات الفصوص. ومن المرجَّح أن تُحفظ الأجزاء الصلبة في صورة حفريات أكثر من الأجزاء اللينة من الكائنات الحية. وعليه، فإن الظهور المفاجئ لحفريات حيوانات منذ ٥٤٠ مليون سنة لا يعني أن هذه الحيوانات تطورت فجأة — فقد كان داروين محقًّا فيما يتعلق بوجود فترة طويلة من التطور في عصر سابق للعصر الكمبري — بل يشير إلى وجود عامل عزَّز تطور الأجزاء الصلبة في ذلك الوقت. نتيجة لذلك، ثَمة العديد من الفرضيات حول ماهية هذا «العامل». تفيد إحدى الفرضيات الشائعة بأنه من الممكن أن يكون الافتراس قد أصبح أكثر قوة في أواخر عصر ما قبل الكمبري؛ لذا أصبح هناك حاجة إلى أجزاء صلبة يدافع بها الكائن عن نفسه. وفي العصور السابقة، ربما كانت «الحيوانات المفترسة» الرئيسية تلتهم الكائنات الأصغر حجمًا ببساطة، بطريقة مماثلة للطريقة التي تستخدمها الحيتان في الوقت الحالي لتصفية الكائنات الأصغر من الماء. لذا لم تكن الأجزاء الصلبة وسيلة دفاع ذات بال للنجاة من هذا المصير. لكن في نهاية عصر ما قبل الكمبري وأوائل العصر الكمبري، ربما نشأت حيوانات مفترسة ذات مخالب وفكوك قوية. يمكن للدروع الخارجية أن تساعد على التصدي للمفترسات من هذا النوع.
تمثَّلت مشكلة داروين الثانية في الانقراض المفاجئ. طوَّر داروين وجهات نظره الجيولوجية تحت تأثير النظام النظري الذي وضعه تشارلز لايل. أطلق معارضو لايل عليه اسم «مؤيد لنظرية الوتيرة الواحدة»، وما زالت هذه الكلمة مستخدمة حتى الآن. يفسِّر المؤيدون لنظرية الوتيرة الواحدة الماضي الجيولوجي بناءً على العمليات الملاحَظة التي تحدث في العالم اليوم؛ فهم لا يستندون إلى عوامل افتراضية غير قابلة للملاحظة. حين كان داروين يكتب أفكاره، كانت مدرسة الفكر المؤيد لنظرية «الكارثة» في طريقها نحو الأفول، وذلك في الوقت الذي يسطع فيه تأثير نظرية «الوتيرة الواحدة» للايل. ادعى مؤيدو نظرية «الكارثة» أنه خلال تاريخ الحياة، كانت هناك سلسلة من الكوارث انقرضت فيها جميع الأنواع الموجودة على الأرض ثم نشأت مجموعة جديدة من الأنواع. وفقًا لتفكير العوام، كانت أحدث هذه الكوارث كارثة الطوفان المذكورة في الكتاب المقدس.
استهل داروين بملاحظة أنه تم التخلي بشكلٍ عام عن «المفهوم القديم» المتعلق بالانقراض الناجم عن كارثة. ثم ذكر أننا لدينا أدلة دامغة على أحداث الانقراض التدريجي أكثر من الأدلة على أحداث الانقراض الناتج عن كوارث. رأى داروين أنه وفقًا لنظرية الانتخاب الطبيعي، يجب أن يكون الانقراض تدريجيًّا. لم يعطِ الجزء المقتبس إلا تلميحًا لفكرته، لكنه أوضحها بمزيد من التفصيل في جزء مجاور. يشير داروين إلى أن الانقراض يحدث عندما ينشأ نوع جديد يتمتع «ببعض المزايا التي تعطيه أفضلية على الأنواع الأخرى التي يدخل في منافسة معها». تتراجع أعداد النوع الأدنى مع انتشار النوع الجديد في أنحاء منطقته الجغرافية. كانت هذه هي العملية التي تدور في ذهن داروين عندما قال (في الجزء المقتبس) إن انقراض الأشكال القديمة وثيق الارتباط بنشوء أشكال جديدة.
إذا كانت نظرية داروين حول الانقراض صحيحة، فمن المحير أن تبدو مجموعات كاملة من الأنواع وكأنها انقرضت فجأة وفي وقت واحد. يحتوي السجل الأحفوري على أمثلة، كما يعترف داروين: على سبيل المثال، ثلاثيات الفصوص في نهاية حقبة الحياة القديمة والأمونيات في نهاية العصر الثانوي. مرة أخرى، تختلف المصطلحات التي استخدمها داروين للإشارة للفترات الزمنية عن تلك المستخدمة الآن. يتسق مصطلح حقبة الحياة القديمة الذي استخدمه داروين مع الاستخدام الحالي؛ فهو يشير إلى أولى المراحل العظمى الثلاث: حقبة الحياة القديمة وحقبة الحياة المتوسطة وحقبة الحياة الحديثة. لكن ثَمة مجموعة أخرى أقدم من المصطلحات تتداخل مع هذه المصطلحات، وهي: العصر الأول والثاني والثالث. (سيلاحظ بعض القراء باللغة الإنجليزية الذين يتمتعون بملاحظة عالية أن القواعد المقبولة لكتابة الأحرف الكبيرة في اللغة الإنجليزية قد تغيرت الآن عما كانت عليه في عصر داروين.) بتبسيط ذلك، العصر الأول يقابل عصر ما قبل الكمبري، والعصر الثاني يقابل الفترة التي تمتد من العصر السيلوري كما قدمه مورشيسون إلى نهاية العصر الطباشيري. لا يزال مصطلح العصر الثالث مستخدمًا، ويشمل جزءًا كبيرًا من حقبة الحياة الحديثة. وعليه، فإن أحداث الانقراض التي حدثت بنهاية العصر الثاني كانت، بالمصطلحات الحديثة، عند حدود العصر الطباشيري-الثالث (أو ط-ث)، وقد وافق ذلك وقت انقراض الديناصورات.
أول تفسير وضعه داروين لحالات الفناء التي تبدو مفاجئةً هذه هو وجود ثغرات في السجل الأحفوري. من الممكن أن يكون هناك تكوين صخري مفقود يمثل فترة زمنية شهدت انخفاضًا تدريجيًّا في الأمونيات أو ثلاثيات الفصوص. كان هذا تفسيرًا معقولًا في ذلك الوقت، لكنه أصبح أقل معقولية الآن؛ لأن لدينا تواريخ قطعية للعديد من الصخور. يمكن استخدام النظائر المشعة لتحديد أعمار الصخور من نهاية العصر الطباشيري لبداية العصر الثالث. ما نجده هو أن الصخور، على الأقل في بعض المواقع، تظهر تسلسلًا مستمرًّا للأزمنة؛ لا توجد فجوة بين صخور العصر الطباشيري وصخور العصر الثالث. لذا يتضح أن أحداث الانقراض آنذاك قد حدثت فجأة. ومنذ عام ١٩٨٠، ارتبطت أحداث الانقراض المفاجئ باصطدام الأرض بكويكب خارج الأرض.
لدى معظم علماء الأحياء والجيولوجيا المعاصرين وجهات نظر تختلف عن داروين حول الانقراض. فقد كان متشككًا في حقيقة حالات الانقراض الجماعي؛ وفسَّر حالات الانقراض في ضوء المنافسة بين الأنواع الجديدة المتفوقة والأنواع القديمة المتدنية. في حين يقبل معظم العلماء المعاصرين وقوع بعض أحداث الانقراض الجماعي على الأقل. كما يقبلون أيضًا أن بعض أحداث الانقراض قد نجمت عن التنافس البيولوجي. لكن الآراء تختلف حول هذين العاملين. فعدد أحداث الانقراض الجماعي التي حدثت خلال تاريخ الحياة غير مؤكد. تتراوح التقديرات من ٢ إلى ما يصل إلى ١٣. قد يوضح التفسير الأساسي لداروين — المتعلق بالتذبذبات في السجل الرسوبي — بعض أحداث الانقراض الجماعي المثيرة للجدل، حتى لو لم يفسرها كلها. كما أن أهمية المنافسة البيولوجية في التسبب في الانقراض لا تزال غير معروفة، لأسباب من أهمها صعوبة دراستها في الحفريات.
على الرغم من أن العلماء المعاصرين يعتقدون أن «أحداث الانقراض المفاجئ» تُعَد عاملًا أكثر أهمية بالنسبة إلى موضوع الانقراض من الانتخاب الطبيعي، وذلك على عكس اعتقاد داروين، فإنني أشك في أن داروين كان سيرفض هذا التغيير. لم يتعرض أي جانب عميق في نظريته للتشكيك. عارض داروين، شأنه في ذلك شأن لايل، التفسيرات المستندة إلى حدوث كوارث مفاجئة؛ وذلك لأن هذه التفسيرات تستند إلى عمليات لا يمكن دراستها دراسة علمية. في العلم الحديث، يمكن استخدام عدة أدلة موضوعية لاستنتاج تأثيرات كارثية خارج كوكب الأرض وحساب العواقب. ربما كان داروين، مثل معظم المفكرين المعاصرين، قد رأى في هذا إضافة تستحق الترحيب لنظريته الأساسية.