الدليل المؤيد للتطور
إذا اعترفنا بأن السجل الجيولوجي غير مكتمل بدرجة مُفرِطة، فعندئذٍ تصبح الحقائق التي يعطيها لنا السجل مؤيدة بشكلٍ قوي لنظرية التحدر مع التعديل. […] يرجع السبب في أن البقايا المتحجرة في كل تكوين تحمل مزيجًا من سمات البقايا المتحجرة الموجودة في التكوينات التي تعلوها والتي تقع أسفل منها إلى أن هذه الأحافير تحتل موقعًا متوسطًا في التسلسل التطوري. إن الحقيقة العظيمة التي مُفادها أن جميع الكائنات العضوية المنقرضة تنتمي إلى النظام التصنيفي نفسه، وأن الكائنات المعاصرة إما تندرج تحت المجموعات نفسها وإما تحت مجموعات متوسطة، تنبع من أن كلًّا من الكائنات الحية والمنقرضة نسل لآباء مشتركين. […]
بالنظر إلى التوزيع الجغرافي […] نحن نرى المعنى الكامل للحقيقة المدهشة التي صدمت كل رحَّالة، وهي بالتحديد أننا نجد على القارة نفسها وتحت تأثير أكثر الظروف تنوعًا، وفي ظل الحرارة والبرودة وعلى الجبال والأراضي المنخفضة وفي الصحاري، أن أغلب الكائنات القاطنة في هذه القارة والمنتمية إلى كل طائفة تكون مرتبطة ارتباطًا واضحًا؛ وذلك لأن هذه الكائنات هي نسل لنفس الأسلاف المشتركين والمستعمرين القدماء. […]
وكما رأينا، يمكن تفسير حقيقة أن جميع الكائنات العضوية القديمة والمعاصرة تشكِّل نظامًا طبيعيًّا هائلًا تكون فيه كل مجموعة تابعة لأخرى، وغالبًا ما تقع المجموعات المنقرضة ما بين المجموعات الحديثة من خلال نظرية الانتخاب الطبيعي بما تتضمنه من أحداث غير متوقعة مثل الانقراض وتطور سمات مختلفة عن الأسلاف. […]
يمكن تفسير حقيقة أن تركيب العظام واحد في يد الإنسان وجناح الخفاش وزعنفة خنزير البحر ورجل الحصان، وأن رقبة كلٍّ من الزرافة والفيل تحتوي على عدد الفقرات نفسه، فضلًا عن عدد لا يُحصى من الحقائق الأخرى معًا من خلال نظرية التحدر الذي يصاحبه تعديلات بطيئة وطفيفة ومتعاقبة. وبالمثل، يمكن تفسير تشابه النمط الموجود في جناح الخفاش ورجله — على الرغم من استخدامهما لأغراض مختلفة — وكذلك تشابه النمط الموجود في فك سرطان البحر ورجله وبتلات الزهرة وأسديتها ومدقاتها من منظور التعديل التدريجي لأجزاء الجسم أو الأعضاء التي كانت متشابهة لدى الأسلاف المبكرة في كل طائفة. بناءً على المبدأ الذي يفيد بأن التغييرات المتعاقبة لا تظهر في مرحلة عمرية مبكرة، بل تُورَّث، لكنها لا تبرز إلا في مرحلة لاحقة من فترة حياة النسل، يمكننا أن نرى بوضوحٍ السبب في كون أجنَّة الثدييات والطيور والأسماك تبدو شديدة التشابه، وأنها تختلف اختلافًا شديدًا عن الأشكال البالغة. وقد لا تعترينا الدهشة لدى رؤية جنين لحيوان ثديي أو طائر يتنفس الهواء ومع ذلك لديه شقوق خياشيمية وشرايين حلقية الشكل كالموجودة في الأسماك التي تتنفس الهواء الذائب في الماء بمساعدة خياشيم تامة النمو.
وكثيرًا ما يؤدي عدم استخدام العضو بمساعدة الانتخاب الطبيعي إلى تقليصه عندما يصبح بلا فائدة بسبب تغير السلوكيات أو تغير ظروف الحياة، وبناءً على ذلك المنظور، يمكننا أن نفهم بوضوحٍ معنى الأعضاء البدائية.
كان الغرض الأساسي الثاني لداروين في كتاب «أصل الأنواع» هو الدفاع عن التطور. لكنه في هذه الحالة، بدلًا من أن يدافع عن الانتخاب الطبيعي باعتباره من آليات التطور، عارَض نظرية الخلقوية التي تفيد بأن كل نوع له أصل منفصل عن الأنواع الأخرى ويظل شكله ثابتًا منذ نشأته. كانت نظرية الخلقوية مستوحاة بشكلٍ أساسي من الدين. يعتقد معظم مؤيدي نظرية الخلقوية أن الله قد خلق كل نوع على حِدة ولم يتغير منذ ذلك الحين. لكن داروين عمد إلى جعل الله خارج المعادلة. فقد تعامل مع مفهوم الخلق باعتباره فرضية علمية تشير إلى أن كل نوع له أصل مستقل. هذه الفكرة المحتملة لا تعتمد على ما إذا كان المنشأ ينتج عن آليات طبيعية أو خارقة. في المناقشات العلمية، عادةً ما يكون استحضار مفهوم الله في الفرضية أمرًا عديم الفائدة، فمجرد القول بأن «الله فعل هذا» لا يضيف سوى النذر اليسير للمناقشة. توضح الأجزاء القليلة التي أثار فيها داروين هذه المسألة أنه كان يعتقد أنه من غير المجدي الإشارة إلى الله بشكلٍ مباشر (أو استخدام بعض الكلمات غير المباشرة للإشارة للذات الإلهية) في حجة علمية.
تختلف نظرية التطور عن نظرية الخلقوية من ناحيتين. إحداهما هي أنه وفقًا لنظرية التطور، تتغير الأنواع بمرور الزمن. فمثلًا سنجد أن سلف أحد الأنواع الحديثة يختلف عن الشكل الحديث للنوع إذا اقتفينا أثره بما يكفي. والأخرى هي أنه وفقًا لنظرية التطور، تتحدر الأنواع الحديثة من أسلاف مشتركين في الماضي. تركز حجة داروين المؤيدة لنظرية التطور على هذه النقطة الثانية. في هذا الصدد، تختلف حجته عن العديد من الحجج الحديثة التي تؤيد نظرية التطور. فعادةً ما يشير علماء الأحياء المعاصرون إلى أمثلة على التغير التطوري الملحوظ على المدى القصير، بالإضافة إلى التشابهات الملحوظة بين الأنواع التي ناقشها داروين والتي توحي بوجود سلف مشترك. على سبيل المثال، يمكننا ملاحظة تطوُّر مقاومة الأدوية في فيروس نقص المناعة المكتسبة (الفيروس المسبب لمرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز)) من يومين إلى ثلاثة أيام لدى مرضى الإيدز. لم يكن لدى داروين دليل كهذا. لم يُكتشف الدليل على التطور المستمر حتى نحو عشرينيات القرن العشرين، وتراكمت الأدلة منذ ذلك الحين. عادةً ما يكون التطور بطيئًا جدًّا بحيث لا يمكن ملاحظته، ولكن في حالات استثنائية (مثل مجموعة من الفيروسات تُسحق باستخدام أدوية مصممة لقتلها) يمكن أن يكون سريعًا بشكل لافت للنظر. علاوةً على ذلك، أصبح لدينا الآن أمثلة على التغير التطوري في سلسلة من التجمعات الأحفورية مع مرور الوقت. الأمثلة نادرة لأنه من غير المعتاد إيجاد سلسلة من المجموعات السكانية محفوظة في السجل الأحفوري، إلا أنها موجودة، وثَمة أدلة واضحة على التطور. لا شك أن داروين كان سيَسعد لو حصل على هذين النوعين من الأدلة التي تشير لحدوث تغيرات للأحياء المعاصرة والتجمعات الأحفورية، لكنه في غيابهما ركَّز على أدلة السلف المشترك.
دافَع داروين عن قضية التطور في سلسلة من الفصول في كتابه «أصل الأنواع»: فصلين حول الدليل الأحفوري، وفصلين حول التوزيع الجغرافي، وما إلى ذلك. كانت الحُجة برُمَّتها واضحة بشكل مثير للإعجاب، كما أنها تظل الدليل الأكثر إثارة للاهتمام على نظرية التطور. صحيحٌ أن مؤلفين آخرين قدموا الحجة نفسها تقريبًا، لكنهم كانوا يفتقرون إلى عقلية داروين الفذة وثِقله التاريخي. بعد إنهاء الفصول الرئيسية، اختتم داروين الكتاب بفصل تلخيصي، يستعرض فيه مراجعة عامة وسريعة للكتاب كليًّا. وقد استخلصتُ هذه الفقرات المقتبسة من الفصل التلخيصي.
على الرغم من أن حجة داروين كانت تتمحور حول ما يُطلق عليه الآن التطور والخلقوية، فإنه لم يستخدم أيًّا من الكلمتين. وكما ذكرت في الفصل الأول، استخدم داروين مصطلح «التحدر مع التعديل» للإشارة لمفهوم التطور. لم يستخدم داروين الفعل «يتطور» سوى مرة واحدة في كتاب «أصل الأنواع» — وهي الكلمة الأخيرة في الكتاب — إلا أن داروين وآخرين لم يستخدموا مصطلح «التطور» بالطريقة التي نستخدمها بها الآن إلا في وقت لاحق. وبالمثل، يعد مصطلح «الخلقوية» مصطلحًا حديثًا على الرغم من أن داروين استخدام تعبيرات ذات صلة. إحدى الصعوبات المحتملة التي يواجهها القارئ الذي يطلع على أعمال داروين هي أنه لا يستخدم هذه المصطلحات كثيرًا. تُعتبر نظرية الخلقوية هدفًا ضمنيًّا لحجة داروين في نحو نصف فصول كتاب «أصل الأنواع». فهو لا يشرح دائمًا بالتفصيل كيف أن الدليل نفسه يدحض نظرية الخلق المنفصل. قد يترك للقارئ فرصة كي يفكر في كيفية ظهور مثل هذه الأدلة إذا كان للأنواع أصول منفصلة. لم يتحدث داروين عن الخلقوية بشكلٍ صريح لا سيما في الفصل الأخير الذي اقتبست منه، والذي عرض فيه داروين الجوانب الإيجابية التي تدعم نظرية التطور. يقتضي الفهم الكامل لحجته أن نفكر في وجهة النظر المعارضة التي ذُكرت ضمنيًّا في كتاباته.
في المقابل، إذا كانت الأسماك والبرمائيات والزواحف قد خُلقت بشكلٍ مستقل، فليس هناك سبب لتوقع ظهور المجموعة الوسيطة تشريحيًّا في وقت متوسط في السجل الأحفوري. لا يسَعُ الخلقويين سوى تفسير التطابق باعتباره محض مصادفة.
في حجة داروين الثانية عارض ضمنيًّا تأويلًا من تأويلات الخلقوية كان يحظى بتأييد قوي في وقته، لكنه لم يعد شائعًا في الوقت الحالي. فقد لاحظ أن الأشكال المنقرضة تندرج تحت نفس المجموعات التصنيفية التي تندرج تحتها الكائنات الحية المعاصرة، بعبارة أخرى، الأشكال المنقرضة ليست منفصلة تمامًا عن الحياة الحديثة. وكما رأينا في الفصل الخامس، اقترح علماء الجيولوجيا في السنوات التي سبقت داروين أن تاريخ الحياة يتكون من سلسلة من أحداث الانقراض الناجمة عن كوارث سُحِقت فيها كل أشكال الحياة، متبوعة بدورة خلق تظهر خلالها أشكال حياة جديدة. وإذا كان هذا صحيحًا، فسيتعين علينا أن نتوقع أن الأحافير المنقرضة من إحدى هذه المراحل المبكرة لا علاقة لها بالحياة الحديثة. يمكن ربط الحياة الحديثة بآخر دورة خلق تلت آخر حدث انقراض جماعي للكائنات الحية. ولكن في الواقع، ترتبط الأشكال الأحفورية المنقرضة بالحياة الحديثة. تأتي نظرية الخلقوية بصور وتأويلات عديدة؛ لذا عندما تعارض النظرية لا بد من تعديل الأدلة التي تسوقها لدحض التأويل الذي قد يتبناه قارئك. فمثلًا لا يؤيد الخلقويون المعاصرون حدوث سلسلة من دورات الخلق عقب أحداث الانقراض الناجمة عن كوارث، على الرغم من أن إحدى مدارس الخلقويين في زمن داروين دافعت عن هذا الرأي؛ ومن ثَم تعين على داروين وضع ذلك في اعتباره.
أما الفئة الثانية من الأدلة، فتأتي من التوزيعات الجغرافية للكائنات الحية. (مرة أخرى، بحث داروين أنواعًا عديدة من الأدلة، لكنني استشهدت بواحد هنا على سبيل المثال.) إذا نظرنا للحياة في منطقة محددة في العالم، فغالبًا ما سنجد أن الأنواع التي تعيش في هذه المنطقة تكون مرتبطة ارتباطًا وثيقًا؛ أكثر ارتباطًا مما قد يتوقعه الفرد إذا خُلقت هذه الأنواع بشكلٍ منفصل. أشهر الأمثلة التي ساقها داروين هو مثال على مجموعة من الطيور يُطلق عليها الآن «شرشوريات داروين»، وتعيش في جزر جالاباجوس. ثَمة نحو اثنَي عشر نوعًا، جميعها مرتبط ارتباطًا وثيقًا. وهي تُصنَّف معًا باعتبارها مجموعة منفصلة من الأنواع، وهو ما يعني أن كل واحد من عصافير داروين يرتبط بعصافير داروين الأخرى أكثر مما يرتبط بأي نوع آخر من أنواع الحياة على الأرض. ومع ذلك، فإن مجموعة الأنواع تضم عددًا من الكائنات المتنوعة: بعضها، على سبيل المثال، يعيش مثل الشرشوريات ويلتقط البذور ليتغذى عليها؛ والبعض الآخر تطوَّر ليشبه نقار الخشب. لدى طيور نقار الخشب الحقيقية ألسنة ومناقير طويلة قادرة على الثقب والاختراق تستخدمها لاستخراج الحشرات من لحاء الشجر. في المقابل، تستخدم الشرشوريات التي تشبه نقار الخشب عصيانًا تخترق الثقوب الموجودة في الأشجار كي تتغذى بطريقةٍ تشبه طريقة نقار الخشب. لا يوجد أي نقار خشب طبيعي أو أصلي في جزر جالاباجوس. وفقًا لنظرية التطور، تبدو هذه الحقائق منطقية. في الماضي، استوطن أحد أسلاف الشرشوريات جزر جالاباجوس. ولم تكن هناك طيور أخرى على هذه الجزر (أو كان هناك قليل من الطيور). وقد تطور هذا النوع السلفي كما ينبغي إلى عدد من الأنواع السليلة، مع تنوع أساليب الحياة التي يتبعها كل نوع بما في ذلك أسلوب «نقار الخشب».
أما إذا كانت هذه الأنواع قد خُلقت كلٌّ على حدة، فستبدو الحقائق على درجة أقل من المنطقية. في بقاع أخرى من الأرض، يتكيف نقار الخشب تمامًا مع نمط حياته. وهذا يدفعنا إلى التساؤل: إذا كان نقار الخشب قادرًا على التكيف مع بيئته ونمط حياته في مناطق أخرى، فلماذا لم يُخلق نقار الخشب في جزر جالاباجوس؟ لماذا وُجدت شرشوريات معدَّلة كنقار الخشب يصادف أنها تشبه الشرشوريات الأخرى في الجزيرة؟ يمكننا تطبيق هذه الحجة نفسها في جميع أنحاء العالم. وقد كانت مهمة بشكل خاص بالنسبة إلى داروين: فقد كان الدليل المتعلق بالتوزيعات الجغرافية (لا المتعلق بالأحافير أو الموضوعات التي سنصل إليها أدناه) هو أول ما أقنعه بالتطور.
تتعلق حجة داروين التالية بما أطلق عليه «النظام الطبيعي». كانت كلمة «نظام» في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تشير إلى ما نطلق عليه الآن «تصنيفًا». (ما زالت الكلمة مستخدمة حتى الآن بهذا المعنى في «النظاميات»، وهو علم التصنيف الحيوي.) يكون تصنيف الحياة هرميًّا؛ أي أنه يوجد «مجموعات داخل مجموعات»، كما قال داروين. بمعنى أن المجموعات الفرعية كالقطط والقرود تندرج تحت مجموعة أكبر وهي الثدييات. هذا التركيب الهرمي هو ما يجب أن نتوقعه إذا كانت الحياة قد تطورت من سلف مشترك. في الواقع، يتطابق التصنيف الهرمي إلى حدٍّ ما مع الهيكل المتفرع لتاريخ الحياة. إذا تتبعنا التاريخ التطوري للقطط الحديثة، فسنصل قريبًا إلى سلف مشترك للقطط جميعًا. وإذا تعقبنا التاريخ التطوري لهذا السلف المشترك، فسنصل إلى السلف المشترك لجميع الثدييات … وبعد ذلك نصل إلى السلف المشترك لكل الحيوانات، وأخيرًا السلف المشترك لكل أشكال الحياة على الأرض. لكن التدرج الهرمي لمجموعات داخل مجموعات هو بالضبط ما لا يُفترض بنا أن نتوقع وجوده إذا كان كل نوع قد خُلق بشكلٍ منفصل. فكل نوع سيكون له سمات فردية. وإذا صنَّفنا هذه الأنواع، فمن الممكن أن يتخذ التصنيف أي شكل تقريبًا، بناءً على عملية الخلق. قد يناسب الأنواع نظام مثل الجدول الدوري في الكيمياء، أو مجرد الفهرس الأبجدي لكتاب. لا يوجد سبب محدد لتوقع «نظام طبيعي» إذا كان كل نوع قد خُلِق بشكلٍ مستقل.
بعد ذلك انتقل داروين لما سيعتبره معظم علماء الأحياء المعاصرين أقوى دليل على التطور، وهو التنادُّ. يمكن القول إن جميع فئات الأدلة التي يسوقها داروين هي أشكال مختلفة من حجة عامة تستند إلى التنادِّ. من الصعب بعضَ الشيء تعريفُ التنادِّ هنا، لأنه يُعرَّف الآن عادةً في ضوء التطور. يشير التنادُّ إلى وجود سمة في نوعين، وتكون هذه السمة أيضًا موجودة لدى السلف المشترك لهذين النوعين. فالعمود الفقري، على سبيل المثال، موجود لدى كلٍّ من الإنسان والشمبانزي. كما أن السلف المشترك للنوعين أيضًا كان لديه عمود فقري. ومن ثَم، فإن العمود الفقري لدى البشر والشمبانزي يُعَد مثالًا على التنادِّ. ويُعَد هذا التنادُّ ذا طبيعة سلفية؛ أي أنه يحدث نتيجةً لتوريث تراكيب من سلف مشترك. ومع ذلك، فإن التعريف الحديث يُعَد تفسيرًا للحقائق التي كانت معروفة في علم الأحياء ما قبل التطوري من منظور التطور. في ذلك الوقت، كان التنادُّ يشير إلى أوجه التشابه بين الأنواع، بما في ذلك أوجه التشابه التي لا يمكن تفسيرها بسهولة استنادًا لأسلوب حياة هذه الأنواع.
قدَّم داروين مثالًا على يد الإنسان والتركيب المتنادِّ لدى الأنواع المرتبطة الأخرى. تتكون اليد من خمسة أصابع، وتحتوي على ترتيب معين للعظام. ونحن نستخدم أيادينا لاستعمال الأشياء والإمساك بها. ومع ذلك، فإن الأصابع الخمسة نفسها بترتيب العظام نفسه موجودة أيضًا في جناح الخفاش وزعنفة خنزير البحر وموجودة بشكل معدَّل في قدم الحصان، على الرغم من أن هذه التراكيب تُستخدم بطريقة مختلفة تمامًا عن استخدام يد الإنسان. يبدو من غير المحتمل أن تكون هناك حاجة إلى نفس عدد الأصابع ونفس ترتيب العظام في جميع الأنواع. هذا التشابه في التركيب يطلق عليه التنادُّ. وهو يفيد بأن التطور قد حدث؛ لأنه إذا كانت خنازير البحر والخفافيش والبشر والخيول قد خُلِقت بشكلٍ منفصل، فلن يكون لديها جميعًا نفس التركيب الأساسي للأطراف. فنظرًا للاختلافات في طريقة استخدام هذه الكائنات لأطرافها، كان من المفترض أن تُخلق بتصميمات مختلفة. وبالمثل، ناقش داروين أوجه التشابه بين أجنة مختلف الأنواع، مثل المراحل التي تبدو شبيهة بالأسماك في تطورنا الجنيني. وقد ناقش أيضًا أوجه التشابه بين الأعضاء البدائية في بعض الأنواع والأعضاء المكتملة النمو في أنواع أخرى.
حين كتب داروين، كان يعرف بعض أمثلة التنادِّ التي ربطت بين مجموعة متنوعة من أشكال الحياة: على سبيل المثال، ثَمة عظام متنادَّة مشتركة بين جميع الأسماك والبرمائيات والزواحف والطيور والثدييات؛ ومن ثَم، فمن المحتمل أن كل هذه المخلوقات تشترك في سلف مشترك. لكنه كان يفتقر إلى أمثلة التنادِّ «العامة» التي كانت جميع أشكال الحياة تشترك فيها. وكان سيسعد بالعثور على أمثلة التنادِّ الجزيئي مثل الشفرة الجينية. فهذه أفضل دليل لدينا على أن الحياة على الأرض كلها تفرعت من سلف مشترك.