الملَكات الاجتماعية والأخلاقية
يُعَد كتاب «نشأة الإنسان»، أو لنذكر العنوان كاملًا «نشأة الأنواع والانتخاب الجنسي»، ثاني أهم كتاب لداروين. يبدو الأمر تقريبًا مثل كتابين امتزجا معًا عن طريق الخطأ. يتناول ثُلث الكتاب تقريبًا تطور الإنسان؛ فهو يناقش الدليل على أن البشر قد تطوروا من أسلاف تشبه القرود، كما يتضمن فصولًا حول تطور الملكات العقلية والأخلاقية والاجتماعية. ويتناول الثلثان الآخران من الكتاب ما أطلق عليه داروين «الانتخاب الجنسي». الانتخاب الجنسي هو نظرية وضعها داروين لتفسير الاختلافات الجنسية في جميع أشكال الحياة: لمَ يميل الذكور إلى الصراع أكثر من الإناث، ولمَ يمتلك الذكور في بعض الأنواع مظاهر الزينة مثل الريش الزاهي. يتناول الجزء الخاص بالانتخاب الجنسي في الكتاب قائمةً طويلة من أشكال الحياة غير البشرية، ولا يذكر شيئًا عن التطور البشري على الإطلاق. ولم يربط داروين بين موضوعَيه إلا في قسم مختصر في نهاية الكتاب. فقد أشار إلى أن الانتخاب الجنسي قد يفسر الاختلاف العِرقي البشري في لون البشرة وملامح الوجه. يعتبر بعض النُّقاد أن القسم الأخير الذي يربط بين الموضوعين ليس أكثر من مجرد لفتة لتوحيد كتابين منفصلين بشكلٍ أساسي. في المقابل، يشير آخرون إلى أنه يتعين علينا أن نأخذ تصميم داروين على محمل الجد ونرى الوحدة الأساسية للعمل كليًّا. لن أحاول حل المشكلة هنا. في هذا الفصل والفصلين التاليين، اخترت ثلاثة مقتطفات؛ اثنين عن التطور البشري يليهما واحد عن الانتخاب الجنسي. يرتبط المقتطفان الأول والثاني ارتباطًا وثيقًا، لكن ثَمة صلة ضعيفة تربطهما بالثالث.
عند تنافس قبيلتين من البشر البدائيين تعيشان في البلد نفسه (وفي حالة تساوي جميع الظروف الأخرى)، فإن القبيلة التي تشتمل على عدد كبير من الأفراد الشجعان المتعاطفين المخلصين المستعدين لتحذير أحدهم الآخر من الخطر، ولمساعدة أحدهم الآخر، والدفاع أحدهم عن الآخر، ستحقق مزيدًا من النجاح وتتفوق على الأخرى. وليكن من الراسخ في أذهاننا مقدار الأهمية البالغة للإخلاص والشجاعة في الحروب المستمرة الدائرة بين غير المتمدينين. تنبع الميزة التي يتمتع بها الجنود النظاميون على غير النظاميين بشكلٍ أساسي من الثقة التي يشعر بها كل شخص في رفاقه. […] فالأشخاص الأنانيون المشاكسون لا يمكن أن يتماسكوا، ومن دون التماسك لا يمكن تحقيق أي شيء. ومن شأن قبيلة غنية بالصفات السالف ذكرها أن تسود وتنتصر على القبائل الأخرى، لكن مع مرور الوقت، وبناءً على التاريخ الماضي بأكمله، ستتعرض للهزيمة على يد قبيلة أخرى أكثر تميزًا. وعليه، فإن السمات الاجتماعية والأخلاقية ستميل إلى التقدم والانتشار في جميع أنحاء العالم تدريجيًّا.
لكن من الممكن أن يُثار تساؤل حول كيفية تحلي عدد كبير من أفراد القبيلة بهذه السمات الاجتماعية والأخلاقية وكيفية رفع مستوى التميز. ومن المشكوك فيه أن يكون نسل الآباء الأكثر تعاطفًا والمجبولين على حب الخير أو نسل هؤلاء الذين كانوا أكثر إخلاصًا لرفاقهم أكبر عددًا من نسل الآباء الذين يتسمون بالغدر والأنانية وينتمون للقبيلة نفسها. فالشخص الذي كان على استعداد للتضحية بحياته، كما كان يفعل كثير من غير المتمدينين، بدلًا من خيانة رفاقه، لن يترك من خلفه ذريةً ترث طبيعته النبيلة في أغلب الظن. وأكثر الرجال شجاعة، الذين كانوا دومًا على استعداد للوقوف في الصفوف الأمامية في الحرب، والذين يخاطرون بحياتهم عن طِيب خاطر من أجل الآخرين، من شأنهم أن يهلكوا عادة بأعداد أكبر من الرجال الآخرين. ولهذا السبب، ليس من المحتمل غالبًا أن يكون عدد الرجال الذين حُبُوا بمثل هذه الفضائل، أو الذين كانوا على هذا المستوى من التميز، قد زاد من خلال الانتخاب الطبيعي، أو على الأحرى من خلال البقاء للأصلح؛ إذ إننا لسنا بصدد الحديث عن قبيلة تنتصر على أخرى.
على الرغم من أن الظروف التي تؤدي إلى زيادة عدد من حُبُوا بهذه السمات الطيبة داخل القبيلة نفسها أعقد من أن نتمكن من تتبعها بوضوح، فإننا نستطيع تتبُّع بعض الخطوات المحتملة. بادئَ ذي بدء، عندما تتحسن القدرات المتعلقة بالتفكير المنطقي والبصيرة لدى الإنسان، فسرعان ما سيتعلم أنه إذا ساعد رفاقه من البشر، فعادةً سيتلقى المساعدة في المقابل. ونتيجةً لهذا الدافع المنخفض قد يكتسب عادةً مساعدة رفاقه. […] ثَمة حافز آخر أقوى بكثير يدفع الإنسان لتطوير الفضائل الاجتماعية، يتمثل في المديح أو التوبيخ الصادر عن رفاقه البشر. […] إننا لن نستطيع أبدًا أن نبالغ في تقدير أهمية حب المديح والخوف من التوبيخ في الأوقات العصبية. فالإنسان غير المدفوع بأي مشاعر عميقة وغريزية للتضحية بحياته من أجل مصلحة الآخرين، لكنه أقبل على هذه الأفعال بدافع التفاخر، من شأنه أن يثير بأفعاله نفس الرغبة في التفاخر لدى الأشخاص الآخرين ويقوي عن طريق الممارسة الشعور السامي بالإعجاب. وهو بهذا الشكل يمكن أن يكون قد قدَّم لقبيلته خدمة جليلة أهم بكثير من مجرد أن ينجب ذرية يمكنها أن ترث مبادئه السامية. […]
ينبغي ألا ننسى أن القيم الأخلاقية رفيعة المستوى قد لا تعطي أفضلية للفرد ولأولاده على حساب الأفراد الآخرين في القبيلة نفسها، إلا أن زيادة عدد الأفراد المتمتعين بالخصال الطيبة وارتفاع المستوى الأخلاقي في القبيلة سيعطي القبيلة كليًّا أفضلية هائلة على أي قبيلة أخرى. والقبيلة التي تضم كثيرًا من الأفراد الذين يتحلون بدرجة عالية من روح الانتماء للقبيلة والإخلاص والطاعة والشجاعة والتعاطف؛ ومن ثَم يكونون على استعداد دومًا لمساعدة أحدهم الآخر والتضحية بأنفسهم من أجل الصالح العام، من شأنها الانتصار على معظم القبائل الأخرى؛ وهذا يُعتبر من قبيل الانتخاب الطبيعي.
يهتم داروين هُنا بتطور ما يُسميه علماء الأحياء المعاصرون «الإيثار»، وهو سلوك التضحية بالنفس الذي يساعد فيه الفرد فردًا آخر. بعبارات أكثر دقة، الإيثار هو سلوكٌ يُكلف الشخص المحب للغير لكنه يفيد المتلقي. يُعَد القسم الذي اقتبست منه مرجعًا رائعًا بالنسبة إلى واضع نظرية الإيثار المعاصر؛ وذلك لأنه يحدد كل الأمور التي ما زلنا نعتقد أنها المشكلات الأساسية وجميع الحلول المعترف بها حاليًّا باستثناء حل واحد.
والسؤال هو كيف تمكَّن البشر من تطوير كل أنواع السلوك التعاوني الذي نراه في المجتمعات البشرية، والذي يقوم عليه المجتمع. كانت حجة داروين، بأن هذه «الملَكات الاجتماعية والأخلاقية» قد تطورت عن طريق الانتخاب الطبيعي، مثيرة للجدل خاصةً في عصره. من منظور ديني، قدرتنا العقلية وحسُّنا الأخلاقي هما ما يميزاننا عن المخلوقات غير البشرية: قد تكون أجسادنا مشابهة لأجساد الحيوانات جزئيًّا، لكنَّ حسَّنا الأخلاقي يختلف تمامًا عن أي شيء يُرى في الحيوانات غير البشرية وهو صفة ربانية، ينفرد بها البشر عن أشكال الحياة على كوكب الأرض. رد داروين على ذلك من خلال تتبع أصول الأخلاق في الحيوانات غير البشرية، ومن خلال توضيح أن الأخلاق يمكنها أن تتطور على مراحل لدى البشر.
أشار داروين إلى مِيزة التعاون في وقت الحرب؛ ومن ثَم إلى الحس الأخلاقي الذي جعل التعاون بين البشر ممكنًا. إذا تنازعت قبيلتان، فمن المتوقع أن تنتصر القبيلة التي يتعاون أفرادها بشكلٍ أفضل. أما القبيلة التي تضم أفرادًا أنانيين، فسرعان ما تُهزَم ويُقضى عليها. وقد انتشرت الأخلاق بفضل الميزة التي تقدمها في المعارك.
قد يكون الأمر كذلك، بشكلٍ جزئي على الأقل، لكن لا يزال هناك تناقض. كيف يمكن للانتخاب الطبيعي تفضيل فرد يضع حياته فداءً لقبيلته. فأكثر الأفراد جسارةً أكثرُ عُرضةً للقتل؛ ولهذا السبب سينتجون نسلًا أقل في المتوسط. «ولهذا السبب، ليس من المحتمل غالبًا أن يكون عدد الرجال الذين حُبُوا بمثل هذه الفضائل، أو الذين كانوا على هذا المستوى من التميز، قد زاد من خلال الانتخاب الطبيعي.» وحتى يومنا هذا، تبدأ المناقشات حول الإيثار بهذه النقطة الأساسية. يبدو أن أي سلوك ينطوي على التضحية بالنفس يتعارض مع الانتخاب الطبيعي؛ وهو ما يثير تساؤلًا حول الكيفية التي يمكن بها للإيثار أن ينشأ من الأساس. وهذا هو التساؤل الذي يحاول داروين الإجابة عنه في بقية الجزء المقتبس. قدَّم داروين ثلاث إجابات محتملة.
الإجابة الأولى هي ما يمكن أن يُسمى الآن تبادل المصالح. إذا ساعد رجل «أ» رجلًا آخر «ب» الآن، فربما يقوم «ب» بمساعدة «أ» فيما بعد في المقابل. يختلف منظور داروين لتبادل المصالح عن الكتَّاب المعاصرين؛ إذ يعتمد منظوره على الحسابات العقلانية: أي على «القدرات المتعلقة بالتفكير المنطقي والبصيرة». وقد أطلق على هذا «دافعًا منخفضًا». ومع ذلك، فإن تبادل المصالح لا يتطلب تفكيرًا منطقيًّا أو بصيرة على الإطلاق. فما يتطلبه حقيقةً هو اعتراف الفرد بأفضال الآخرين عليه أو شيء كهذا. على سبيل المثال، تناولت أشهر دراسة حديثة للإيثار المتبادل الخفافيش مصَّاصة الدماء. تعيش الخفافيش مصاصة الدماء في مجاثم تحتوي على العديد من الأفراد. فهي تطير ليلًا بحثًا عن فرائس مثل الحيوانات الأليفة التي تمتص دماءها. في أي ليلة، قد لا يحالف أحد الخفافيش الحظ ولا يتمكن من العثور على الطعام. وحين يعود للمجثم، قد يتقيأ أحد الخفافيش التي نجحت في الصيد وجبة دم للفرد الجائع. وفي الليلة التي تليها، قد تُعكس الأدوار. يتطلب نظام كهذا شروطًا عديدة: لا بد أن تمتلك الخفافيش القدرة على التعرف أحدها على الآخر، وعلى تقييم درجة الاحتياج النسبية. وإلا، فإن الخفاش الذي يتبرع بجزء من وجبته ربما لا يُرَدُّ له الجميل لاحقًا، إلا عن طريق المصادفة، أو ربما يوجِّه مساعدته لمن لا يستحق. ومع ذلك، فإن هذا النظام لا يتطلب أي نوع من أنواع الحسابات العقلانية أو البصيرة. قد تكون الخفافيش قادرة على القيام بالأمرين، إلا أن نظام المساعدة المتبادلة لديها المتمثل في تقيؤ الدم المتبادل لا يتطلب سوى أن تساعد الخفافيش أحدها الآخر حين ينجح أحد الخفافيش ويفشل آخر. يفضل الانتخاب الطبيعي الخفاش الذي يعطي جزءًا من وجبته بشرط أن يُرَد له الدَّين لاحقًا حين يكون في حاجة لذلك. ربما كان داروين على دراية بهذه النقطة العامة (على الرغم من أنه لم يكن على علم بالبحث المحدد الذي يتناول الخفافيش مصاصة الدماء). فقد قال: «سرعان ما سيتعلم الإنسان أنه إذا ساعد رفاقه من البشر، فسيتلقى عادةً المساعدة في المقابل.» يبدو لي أن هذا يعني ضمنًا أن مبدأ تبادل المصالح كان موجودًا مسبقًا ويمكن التعرف عليه. ربما كان داروين يقترح إمكانية استخدام التفكير العقلاني والبصيرة لتطوير نظام تبادل المصالح الموجود بالفعل. ومع ذلك، فإن التفسير الحرفي للنص يشير إلى أن داروين قد ربط مفهوم تبادل المصالح بالتفكير العقلاني. يتفق علماء الأحياء المعاصرون على أن تبادل المصالح هي إحدى الطرق التي يمكن من خلالها للانتخاب الطبيعي أن يفضل الإيثار، لكنهم يعارضون فكرة أن الإيثار يرتكز على التفكير العقلاني الواعي.
انتقل داروين بعد ذلك إلى عامل آخر، وهو المدح والتوبيخ الصادر عن رفاقنا البشر. يبدو لي أنه يناقش كيف يمكن للعوامل الاجتماعية أو الثقافية، في وجود الانتخاب الطبيعي أو دون وجوده، أن تؤدي إلى التضحية بالنفس. ولديَّ طريقتان أساسيتان للتعبير عن هذه الحجة بمصطلحات حديثة. أولًا: الانتخاب الطبيعي لا يفضل التضحية بالنفس بشكلٍ مباشر. يمكن أن تكون حساسيتنا للمدح والتوبيخ قد تطورت في البداية عن طريق الانتخاب الطبيعي. فالأفراد الحساسون للمشاعر التي يعبر عنها الآخرون في مجتمعهم يمكن أن ينتجوا مزيدًا من النسل. لكن بمجرد أن تتطور هذه الحساسية، فإنها قد تدفع الأفراد للتضحية بأنفسهم لنيل درجة أعظم من المجد الاجتماعي. (بدلًا من ذلك، قد يقوم أفرادٌ آخرون في المجتمع بتوجيه المدح أو التوبيخ بطريقة معينة من شأنها أن تتلاعب بأحد الأفراد وتدفعه إلى التضحية بنفسه.) وعندئذٍ، قد يُقدِم الفرد على فعل شيء يتعارض مع الانتخاب الطبيعي بسبب التأثيرات الثقافية. ومثال آخر على ذلك هو التبتُّل الديني. من المفترَض أن التبتل — باعتبار أنه مرتبط بعدم التكاثر — يتعارض مع الانتخاب الطبيعي. ومع ذلك لا يزال الأفراد يقررون الامتناع عن ممارسة الجنس نظرًا لمعتقداتهم الدينية. قد تتعارض القرارات الفردية والتأثيرات الثقافية مع الانتخاب الطبيعي.
قد يجادل النقاد في أنه إذا كانت حساسيتنا للمدح والتوبيخ أو معتقداتنا الدينية تؤدي إلى تقليل النسل، لكان الانتخاب الطبيعي سيغير عملياتنا العقلية منذ وقت طويل. فلا يزال بإمكاننا أن نكون حساسين اجتماعيًّا، ونتمسك بمعتقدات دينية، ولكن ليس بطريقة تتعارض مع الانتخاب الطبيعي. ولا شك في أن الانتخاب الطبيعي يمكن أن يؤثر، بل إنه يؤثر بالفعل، على العمليات التي تحدث في دماغنا إذا كانت هذه العمليات تعيق التكاثر الفعَّال. ومع ذلك، فإن حجة داروين (بناءً على التأويل الذي نستكشفه) لا تزال صالحة. فالانتخاب الطبيعي يُعَد عملية بطيئة إذا ما قُورِنَ بالتغيرات الثقافية والاختيار البشري الفردي. ومهما كانت العمليات العقلية التي زُوِّدنا بها، فسيكون هناك طرق للأفراد لاختيار القيام بأشياء تقلل من إنجابيتهم. ربما يعمل الانتخاب الطبيعي على إعادة ضبط أدمغتنا باستمرار، لكن العوامل الثقافية لا تقف ساكنة، وقد تقود أيضًا بعضنا باستمرار إلى التصرف بطرق تُقلل من تكاثرنا.
أما الطريقة الثانية لتفسير حجة داروين، فتنفي وجود أي تعارض بين الثقافة والانتخاب الطبيعي. بشكلٍ عام، ربما يحقق الأفراد الذين يسعون لنيل المجد الاجتماعي، من خلال التضحية بأنفسهم، نفعًا من وراء ذلك. فمقابل كل فرد يموت، قد ينجو فردٌ آخر يتصرف بنفس الطريقة ويجني ثمرة أفعاله على الأرض. وإذا تجاوزت مكاسب الناجي خسائر الفرد الذي يموت، فإن السعي لتحقيق المجد من خلال التضحية بالنفس يكون مُجديًا في المتوسط (بالمعنى التطوري).
هذان التفسيران ليسا الطريقتين الوحيدتين اللتين يمكن من خلالهما الربط بين الثقافة والقرارات الفردية والانتخاب الطبيعي. ليس من المعروف أيهما على صواب (إن كان أيٌّ منهما كذلك)، وعليه فإنَّ فهمنا للسلوك البشري محكوم عليه بعدم اليقين الأبدي. ومع ذلك، فإن حجة داروين لا تزال صالحة (وفقًا لأكثر من تفسير). تتأثر قرارات الإنسان بالعوامل الثقافية، وهذا قد يدفعنا إلى أعمال التضحية بالنفس.
وأخيرًا، يشرح داروين التضحية بالنفس باستخدام ما نشير إليه الآن باسم «انتخاب المجموعة». فالقبيلة التي كان أعضاؤها أكثر ميلًا إلى التضحية بالنفس سوف تتفوق على قبيلة من الأفراد الأكثر أنانية وفوضوية. هذه الميزة على مستوى المجموعة (أو القبيلة)، حسبما يقول داروين، «ستكون انتخابًا طبيعيًّا». فالفرد الذي يضحي بنفسه من أجل مصلحة قبيلته يكون خاسرًا داخل القبيلة مقارنةً بمن يستفيدون من تضحيته. لكن على مستوى القبيلة بأكملها، فإن الفائدة التي تعود على القبيلة من وجود عدد أكبر من الأعضاء الذين يضحون بأنفسهم، تفوق الخسارة الفردية. إذَن، فقد تطور الإيثار بفعل الانتخاب الطبيعي بسبب نفعه للمجموعة.
معظم العلماء المعاصرين المتخصصين في علم الأحياء التطوري، وليس جميعهم، يلجئون للانتخاب الجماعي بوصفه تفسيرًا محتملًا لسلوك الإيثار، لكنهم غير متأكدين من صحة هذا التفسير على أرض الواقع. والسبب في ذلك هو أنه عندما تتعارض مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة (كما هو الحال في أوقات الحرب، على سبيل المثال)، يؤثر الانتخاب الطبيعي عادةً بقوة أكبر على مستوى الفرد منه على مستوى الجماعة. فالانتخاب الطبيعي يفضل ما هو نافع للفرد على مدى الأجيال في كل قبيلة. بمعنى أنه عندما يُنتج الفرد الأناني، الذي يتهرب من فرص التضحية بالنفس، ذريةً أكثر من أفراد القبيلة الذين يضحون بأنفسهم من أجل الصالح العام، فإن وتيرة السلوك الأناني ترتفع. أما السمات النافعة للقبيلة فستكون مفضلة على مدار «الأجيال» القبلية. بمعنى أنه عندما تُقتَل قبيلة تضم أفرادًا أنانيين على يد قبيلة من المحبين للآخرين، فإن أعداد المحبين للآخرين ترتفع. ومع ذلك، فإن «موت» القبيلة حدثٌ أكثر ندرة من موت الفرد. ومن ثَم، ينتهي المطاف بالانتخاب الطبيعي بتعزيز السمات التي تُرجَّح كفتها خلال عملية الانتخاب السريعة والمستمرة التي تحدث على المستوى الفردي بدلًا من عملية الانتخاب البطيئة، والتي تحدث بشكلٍ متقطع على المستوى الجماعي.
ومع ذلك، يمكن تصوُّر الظروف النظرية التي ينتصر فيها الانتخاب الجماعي على الانتخاب الفردي. ليس بالضرورة أن يكون اقتراح داروين خاطئًا أو غير متسق. ولكن منذ أن ألَّف هذا الكتاب، أصبح علماء الأحياء أكثر اهتمامًا بالشروط الدقيقة اللازمة لكي يكون انتخاب المجموعة فعالًا. ستُثير حجج داروين جدلًا بين أتباعه المعاصرين يفوق ما توحي به كلماته البريئة. ومع ذلك، فمن المثير للدهشة كيف حدَّد داروين الصراع بين المزايا الفردية والجماعية في تطور «الملكات الاجتماعية والأخلاقية». ولا يزال اقتراحه بأن الكائنات تطورت عن طريق انتخاب المجموعة ممكنًا، حتى ولو أصبح مثيرًا للجدل.
أضاف علماء الأحياء الذين جاءوا بعد داروين عاملًا آخر غير موجود في قائمته المذكورة هنا. يُطلق على هذا العامل عادةً انتخاب الأقارب. يمكن للانتخاب الطبيعي ترجيح كفة التضحية بالنفس إذا كانت مفيدة للأقارب الذين يشتركون مع الفرد الذي يضحي بنفسه في المادة الوراثية. فالجينات الموجودة لدى الفرد موجودة أيضًا، إلى حدٍّ ما، لدى إخوته وأبناء عمومته. تبلغ احتمالية أن يكون الجين مشتركًا بين الأشقاء جميعًا خمسين بالمائة. وعليه، إذا ضحى الفرد بحياته ولكن بطريقة تجعل تكاثر أشقائه يتضاعف في نهاية المطاف، فسيرجح الانتخاب الطبيعي التضحية بالنفس.
من المؤكد تقريبًا أن داروين لم يفكر قَط في انتخاب الأقارب. ثَمة جزء في كتاب «أصل الأنواع» حول الأفراد العقيمة لدى النمل كان يُعتقد أنه يُلمح لهذا الأمر، إلا أن القراءة المتأنية لهذا الجزء توضح أنه يشير لموضوع مختلف تمامًا. لم تَظهر المنشورات الرئيسية حول انتخاب الأقارب حتى عام ١٩٦٤، وقد كُتبت على يد دابليو دي هاملتون. وبشكلٍ عام، لا يزال علماء الأحياء يعتبرون سلوك التضحية بالنفس تحديًا كبيرًا لنظرية الانتخاب الطبيعي لداروين. ويناقشون الآن أربعة حلول محتملة: انتخاب الأقارب والإيثار المتبادل وانتخاب المجموعة والعوامل الثقافية. في التفسير الثقافي، لا يفضل الانتخاب الطبيعي سمة التضحية بالنفس؛ وهي موجودة بسبب عوامل ثقافية ما، مثل فكرة «المدح والتوبيخ» التي ساقها لنا داروين. وتتضمن مناقشة داروين تلميحات لثلاثة على الأقل من هذه التفسيرات؛ أما انتخاب الأقارب فمن الواضح أنه التفسير الوحيد الذي تم اكتشافه بعد زمن داروين. ويختلف علماء الأحياء المعاصرون عن داروين في أنهم لا يبنون مبدأ تبادل المصالح على الحسابات العقلانية والبصيرة، كما أنهم أكثر تشككًا في قوة انتخاب المجموعة. وعلى الرغم من هذه الاختلافات، فإن تحليل داروين من الناحية المفاهيمية، وعلى الرغم من أسلوب كتابته المتأثر بالأسلوب الفيكتوري، يشبه إلى حدٍّ كبيرٍ التحليل الحديث.