الانتخاب الطبيعي وتأثيره على الأمم المتحضرة
ربما يجدر بنا إضافة بعض الملاحظات حول القسم الذي يتناول تأثير الانتخاب الطبيعي على الأمم المتحضرة. في حالة القبائل البدائية، سرعان ما يُقضى على الأفراد ضعاف البدن والعقل، وعادةً ما يتمتع أولئك الذين يتمكنون من النجاة بالصحة والعافية. أما نحن — الأمم المتحضرة — فنبذل قصارى جهدنا كي نعرقل عملية القضاء على الأفراد الضعفاء؛ وذلك من خلال بناء ملاجئ تأوي البُلْهَ والمُقعَدين والمرضى، ووضع قوانين لإعالة الفقراء. ويبذل أطباؤنا قصارى جهدهم لإنقاذ حياة الجميع حتى اللحظة الأخيرة. لدينا سببٌ للاعتقاد بأن اللقاحات الوقائية قد أنقذت الآلاف، الذين كانوا سيروحون في السابق ضحية للإصابة بالجدري بسبب ضعف بنيتهم. وبهذا، يمكن للأفراد الضعفاء في الأمم المتحضرة نشر نسلهم. لن يشك أي شخص لديه خبرة في استيلاد الحيوانات الداجنة في أن مثل هذه الممارسة قد تكون ضارَّة للغاية للجنس البشري. وإنه لمن المدهش كيف يؤدي نقص الرعاية المناسبة أو الرعاية الموجهة توجيهًا خاطئًا، بسرعة شديدة، إلى تدهور جنس داجن؛ ولكن، باستثناء الإنسان نفسه، من الصعب أن تجد أي فرد على درجة من الجهل تجعله يسمح لأضعف حيواناته بالتوالد.
إن المساعدة التي نشعر أن علينا تقديمها للضعفاء هي في الأساس نتيجة عرضية لغريزة التعاطف. […] ولا يمكننا أن نكبح تعاطفنا، رغم أن منطقنا القاسي يدفعنا إلى أن نفعل ذلك، دون أن يحدث تدهور في أكثر الأجزاء سموًّا في طبيعتنا. ربما يكبح الجرَّاح مشاعره أثناء إجراء جراحة؛ لأنه يعلم أنه يعمل لصالح مريضه؛ لكن إذا تعمَّدنا تجاهل الضعفاء والعاجزين، فإن ذلك سيكون بدافع تحقيق مصلحة محتملة فحسب، في حين أن الضرر الناجم عن ذلك حتمي وواقع بالفعل. لذلك يجب علينا أن نتحمل الآثار — التي من المؤكد أن تكون سيئة — الناجمة عن بقاء الضعفاء وانتشار نسلهم؛ ولكن يبدو أن هناك على الأقل عاملًا واحدًا يحدُّ من تكاثر الضعفاء، وهو أن الأفراد الأضعف والأدنى في المجتمع لا يتزوجون بنفس السهولة التي يتزوج بها الأشخاص الأصحَّاء. […] وقد ثبت من خلال مجموعة هائلة من الإحصائيات التي أُجريت خلال عام ١٨٥٣، أن الرجال غير المتزوجين في جميع أنحاء فرنسا، والذين تتراوح أعمارهم بين العشرين والثمانين، يموتون بنسبة أكبر بكثير من المتزوجين: على سبيل المثال، من بين كل ١٠٠٠ رجل غير متزوج، ويقع عمره بين العشرين والثلاثين، يموت ١١٫٣ سنويًّا، بينما يموت من المتزوجين ٦٫٥ فقط. […] يرى الدكتور ستارك أن انخفاض معدل الوفيات هو نتيجة مباشرة لعامل «الزواج والعادات المنزلية الأكثر انتظامًا التي تصاحب ذلك الوضع.» ومع ذلك فهو يعترف بأن فئات المتطرفين والفاسقين والمجرمين، الذين تكون مدة حياتهم منخفضة، لا يتزوجون عادة؛ ويجب أيضًا الاعتراف بأن الرجال ذوي البنية الضعيفة أو الذين يعانون من مرض أو أي عجز كبير في الجسم أو العقل إما أنهم لا يرغبون في الزواج على الأغلب أو أنهم يتعرضون للرفض. […] على العموم، يمكننا أن نستنتج مع دكتور فار أن انخفاض معدل الوفَيات بين المتزوجين عن معدل الوفَيات بين غير المتزوجين، والذي يبدو قانونًا عامًّا، «يرجع بشكل رئيسي إلى القضاء المستمر على الأفراد المعتلِّين، وإلى الانتخاب الماهر للأفراد الأفضل من كل جيل من الأجيال المتعاقبة».
معظم أجزاء كتاب «نشأة الإنسان» التي تدور حول التطور البشري تتعلق بالتطور في الماضي. لم يكن لدى داروين التسلسل الزمني المتاح لنا الآن، لكن كتابه كان يهتم بشكل أساسي بالأحداث التي وقعت في السلالة البشرية منذ نحو ٥ ملايين سنة مضت إلى نحو ٢٥٠٠٠ سنة مضت. خلال ذلك الوقت، طوَّر أسلافنا عدة اختلافات عن القرود الأخرى في سمات مثل الأدمغة الكبيرة والسير بوضعية منتصبة على قدمين. منذ نحو ٢٥٠٠٠ سنة (أو ما يزيد عن ذلك قليلًا أو ينقص، وفقًا للمنطقة من العالم) كان البشر الذين لا يمكن تمييزهم عنا موجودين بالفعل. وعلى الرغم من أن معظم الأجزاء كانت تدور حول التطور في الماضي، فقد أضاف أيضًا جزءًا عن «تأثير الانتخاب الطبيعي على الأمم المتحضرة». ربما كان داروين والقراء المعاصرون له أكثر ثقة بمعنى كلمة «متحضر» من معظم القراء الحاليين، لكن جمله الافتتاحية توضح ما هو حاسم بالنسبة إلى حجته. يؤثر الانتخاب الطبيعي عن طريق الاختلافات في معدلات الوفيات؛ إذ إن بعض الأفراد يموتون ويُنجَّى آخرون، وعن طريق الاختلافات في الخصوبة؛ إذ إن بعض الناجين ينتجون نسلًا أكثر من غيرهم. ويقصد داروين بعبارة «الأمم المتحضرة» المجتمعات التي تتمتع بأنظمة طبية وصحية ورعاية اجتماعية «تُعرقِل عملية القضاء على الأفراد الضعفاء». على سبيل المثال، أبقت اللقاحات الوقائية بعض الأشخاص، الذين كانوا لولاها سيروحون ضحية مرض مُعدٍ ما، على قيد الحياة. ومن ثَم من الممكن إبطاء تأثير الانتخاب الطبيعي أو حتى منع هذا التأثير في بعض المجتمعات.
في الجمل الافتتاحية، يتعين على القراء المعاصرين الانتباه إلى أن التعبيرات والكلمات التي استخدمها داروين قد اكتسبت معاني ودلالات جديدة بمرور الوقت. فتعبيرات مثل «ملاجئ تأوي البُلْهَ» أو «تدهور جنس داجن» تُلمِح إلى موضوعات حساسة تجتذب ما يطلق عليه اللغويون التلطيف اللغوي؛ إذ يستحدث الناس كلمات جديدة لا تحمل الدلالات السلبية التي تحملها الكلمات الموجودة (مثل كلمة البُلْه)، ولكن تلك الكلمات الجديدة نفسها تكتسب بعد ذلك الدلالات السلبية نفسها، وهو ما يؤدي إلى استحداث كلمات أحدث منها لتكون بديلة للكلمات الملطَّفة التي اكتسبت دلالات سلبية. ولا شك في أن القراء بعد ١٣٥ عامًا من الآن سينظرون على الأرجح إلى أي مناقشة حالية حول نفس الموضوع على أنها غير مراعية، تمامًا كما يجد بعض القراء الحاليين أن مناقشة داروين غير مراعية. ما يميز داروين ليس استخدامه للغة، بل قوة حجته. فداروين واحد من أعظم المفكرين في كل العصور، ومعظم قرائه سيرغبون في متابعة حججه وفهمها والاستلهام منها بدلًا من الانصراف إلى لغته.
كانت المناقشات حول ما إذا كان الانتخاب الطبيعي قد انخفض في بعض المجتمعات البشرية مثيرة للجدل منذ عصر داروين حتى يومنا هذا. المدهش (مرة أخرى) هو الطريقة التي حدَّد بها داروين بشكل أساسي جميعَ الموضوعات الرئيسية للمناقشات اللاحقة. فقد حدَّد في الواقع أكثر من كل الموضوعات التي تناولها العديد من كتاب القرنين العشرين والحادي والعشرين المؤيدة لعلم تحسين النسل والمعارضة له.
بدأ داروين باقتراح أن الانتخاب الطبيعي قد ينخفض في «الأمم المتحضرة». ومقارنةً بالحيوانات الداجنة، من المتوقَّع أن يؤدي هذا إلى تدهور في جودة نسل البشر على مر الأجيال لأن الأفراد الأقل جودة لم يُقضَ عليهم. يتمثل أحد الحلول في العودة للانتخاب الطبيعي، ووقف التدخل الطبي. رفض داروين هذا الخيار لأسباب أخلاقية. فذلك من شأنه أن يمثل «تدهورًا في أكثر الأجزاء سموًّا في طبيعتنا». و«إذا تعمدنا تجاهل الضعفاء والعاجزين، فإن ذلك سيكون بدافع تحقيق مصلحة محتملة فحسب، في حين أن الضرر الناجم عن ذلك حتمي وواقع بالفعل.» تجدر الإشارة إلى هذا الجزء؛ لأن داروين يُتهم أحيانًا بأنه من دعاة تحسين النسل من قِبل مؤلفين ربما لم يقرءوا سوى الجُمل السابقة فقط حول «تدهور الجنس الداجن». لكن من المهم مواصلة القراءة. فقد رفض داروين في الحال أي عودة للانتخاب الطبيعي. فهي تعني التسبب في «ضرر حتمي وواقع بالفعل»، وهذا الضرر يتمثل في معاناة الأشخاص الذين سيُتركون حتى الموت في ظل غياب الدواء والدعم الاجتماعي. ويتضح بالفعل أنه ليس متأكدًا حتى من أن الحضارة قد خلقت الظروف الملائمة للتدهور. فقد ذكر أن إهمال الضعفاء والعاجزين «سيكون بدافع تحقيق مصلحة محتملة فحسب». بمعنى أنه ربما يمنع التدهور وربما لا يمنعه. الاحتمالان قائمان. فإذا انخفض الانتخاب الطبيعي، فمن المرجَّح أن يتبع ذلك التدهور. ولكن هل انخفض الانتخاب لدى البشر؟ يواصل داروين النظر في معدلات الوفيات لدى المتزوجين وغير المتزوجين. كان هناك بالفعل أدلة واسعة النطاق على أن البشر غير المتزوجين يموتون بمعدل أعلى مقارنة بنظرائهم البشر المتزوجين. وفقًا للبيانات المعروفة لدى داروين، يموت الرجال غير المتزوجين بمعدل ضِعف الرجال المتزوجين الذين لهم العمر نفسه ويعيشون في المكان نفسه.
قدَّم داروين تفسيرين محتملين لهذا الفرق في معدلات الوفيات. الأول هو أن الزواج في حد ذاته قد يؤدي إلى انخفاض معدل الوفيات، على سبيل المثال إذا كان المجتمع ينحاز لمصلحة الأفراد المتزوجين على حساب الأفراد غير المتزوجين. والتفسير الثاني هو أن الأفراد الأكثر صحة تكون لهم الأفضلية في سوق الزواج؛ ومن ثَم يبقى الأفراد الأقل صحةً دون زواج. في هذه الحالة، فإن الفرق في معدلات الوفيات بين الأفراد المتزوجين وغير المتزوجين لا ينجم عن التغيير في نوعية الحياة بعد الزواج. بل ينشأ الفرق عن تصنيف سوق الزواج للأفراد وفقًا للجودة. وقد دعم داروين التفسير الثاني في النهاية. وبناءً على هذا الاستنتاج، فإن فكرة أن الانتخاب الطبيعي قد انخفض لدى البشر قد لا يكون لها أساس من الصحة. ربما نكون قد خفضنا بعض أشكال الانتخاب من خلال اللقاحات الوقائية والعمليات الجراحية، إلا أنه لا يزال هناك أشكال أخرى، تتمثل في الطريقة التي نختار بها شركاءنا في الزواج. قد لا يكون البشر المتحضرون على طريق التدهور على الإطلاق.
في علم الأحياء البشري الحديث، لا تزال القضايا التي أثارها داروين حية حتى اليوم. كانت الملاحظة الأولى لداروين هي أنه إذا انخفض الانتخاب الطبيعي، فستنخفض جودة أفراد المجتمع بمرور الوقت. يحدث التدهور لأن الانتخاب الطبيعي يعمل على التخلص من الجينات الأقل جودة، التي يُطلق عليها علماء الأحياء الطفرات الضارَّة. فالأفراد الذين يحملون جينات متدنية الجودة يرجح أن يموتوا قبل التناسل، وهو ما يؤدي للقضاء على الجينات المتدنية الجودة لدى المجتمع الأحيائي. ومع ذلك، تظهر جينات ضارَّة جديدة باستمرار عن طريق الطفرات في كل جيل. في معظم مجتمعات الكائنات الحية، ثَمة توازنٌ تقريبي بين ظهور طفرات جديدة والقضاء عليها بفعل الانتخاب الطبيعي. أما في المجتمع الذي لا يُقضى فيه على جينات الطفرات الضارَّة بفعل الانتخاب بنفس المعدل الذي تظهر به، فإن جودة أفراده تتدهور بالضرورة على مر الأجيال. ويُجري علماء الأحياء التجارب على هذه العملية. إذا مُنع الانتخاب الطبيعي من التأثير على ذباب الفاكهة (حيوان المختبر القياسي)، فإن متوسط العمر المتوقع للذباب ينخفض من جيل إلى الجيل الذي يليه. على وجه التحديد، تتناقص قدرة الذباب على البقاء بمقدار نحو نصف بالمائة لكل جيل. وبعد ثلاثين جيلًا دون انتخاب، تنخفض قدرة الذباب الخاضع للتجربة على البقاء نحو ٨٥ بالمائة من قدرتها الأولية.
يعتمد معدل انخفاض الجودة في مجتمع أحيائي لا يؤثر فيه الانتخاب الطبيعي على معدل الطفرات. إذا كانت الطفرات تحدث بمعدل سريع، فإن المجتمع يتدهور بسرعة؛ أما إذا كانت تحدث بمعدل بطيء، فإن التدهور يكون بطيئًا. يختلف علماء الأحياء حاليًّا حول معدل حدوث الطفرات. إذا كان تأثير الانتخاب الطبيعي قد توقف حقًّا على البشر في بعض البلدان، فيمكننا أن نكون على يقين من أن حمضهم النووي سيكون عشوائيًّا بمرور الزمن. ومع ذلك، فإننا لا نعلم ما إذا كانت هذه العشوائية ستتجلى بعد بضعة أجيال أم بعد عشرات أم مئات الأجيال. وفي كل الأحوال فإن ادعاء داروين الأساسي — أن الحياة تتدهور إذا توقف تأثير الانتخاب الطبيعي — لا يزال مقبولًا.
أما الملاحظة الثانية التي أبداها داروين، فكانت ملاحظة أخلاقية، وهي أننا محقُّون في استخدام الأدوية. قد يتعارض ذلك مع الانتخاب الطبيعي، وهذا أمر مؤسف حقًّا. وأعتقد أن الرأي الحديث سيتفق مع داروين بقوة أكبر من رأي معاصريه. منذ ذلك الوقت وحتى الوقت الحالي، زعم بعض علماء تحسين النسل (وإن لم يكن كلهم) أنه يتعين علينا إما استعادة الانتخاب الطبيعي للتغلب على الجينات المتدنية الجودة، وإما استخدام التكنولوجيا لمحاكاة الانتخاب الطبيعي — على سبيل المثال، من خلال تعقيم الأشخاص الذين يُحكم عليهم بأنهم غير لائقين جينيًّا. وقد سُنَّت التشريعات اللازمة للقيام بذلك في عدة بلدان، ونُفِّذت سياسات تحسين النسل. وكانت ألمانيا النازية واحدة من هذه البلدان، لكنها لم تكن الوحيدة؛ بل إن النازيين قد نقلوا هذا التشريع من قوانين الولايات المتحدة الأمريكية. وبدايةً من منتصف القرن العشرين فصاعدًا، فقدت سياسات تحسين النسل شعبيَّتها سياسيًّا وأُلغيت تشريعات تحسين النسل. فالمجتمعات الحديثة، مثلها في ذلك مثل داروين، على استعداد لتقبُّل أي تدهور مستقبلي محتمل في الجينات، سواء أكان البديل هو قانون تحسين النسل أو العودة إلى الانتخاب الطبيعي. تعترض أقلية من الأصوات على ذلك؛ لكنهم في النهاية أقلية، وهم يدركون هذه الحقيقة جيدًا.
أخيرًا، تساءل داروين عما إذا كان الانتخاب قد انخفض بالفعل في أي مجتمع بشري أم لا. ربما يكون الطب قد خفَّف أثر بعض قُوى الانتخاب، ولكن سوق الزواج ربما لا يزال يعمل من أجل التخلص من الجينات السيئة. وقد دعمت الأبحاث اللاحقة داروين بشكل كبير في وجهة نظره الواقعية حول وفيات الأشخاص المتزوجين وغير المتزوجين. وتوثق الدراسات المسحية، حتى ستينيات القرن العشرين، الفرق بما لا يدع مجالًا للشك. والفرق موجود في جميع البلدان التي تناولتها الدراسات، وفي كلٍّ من الرجال والنساء. في المتوسط، الرجال غير المتزوجين أكثر عُرضةً للوفاة بنحو ١٫٨ مرة من نظرائهم المتزوجين. ويصل الفرق إلى ١٫٥ مرة بالنسبة إلى النساء غير المتزوجات مقارنة بالمتزوجات. وبعد عام ١٩٧٠ أو نحو ذلك، أصبحت الإحصائيات أقل إثارة للاهتمام. فقد أصبح الإنجاب خارج إطار الزواج أكثر شيوعًا في العديد من البلدان، وكذلك الزواج دون إنجاب. بالنسبة لآلية عمل الانتخاب الطبيعي، ما يُهمُّ هو الفرق في جودة الجينات بين الأشخاص الذين يتكاثرون والأشخاص الذين لا يتكاثرون. في زمن داروين، ولعدة عقود بعده، كانت معدلات الوفيات النسبية للأشخاص المتزوجين وغير المتزوجين طريقةً أولية لكنها فعَّالة لدراسة هذه المسألة. وسيكون من الأصعب دراستها لدى المجتمع الحالي للولايات المتحدة الأمريكية أو أي دولة أوروبية على سبيل المثال. فسيتعين علينا معرفة معدلات الوفيات النسبية للرجال الذين أصبحوا آباءً، مقارنة بالرجال الذين لم يصبحوا آباءً؛ والنساء اللاتي أصبحن أمهات، مقارنة بالنساء اللاتي لم يصبحن أمهات.
على الرغم من أن الفرق في معدل الوفيات بين الأشخاص غير المتزوجين والمتزوجين أصبح موثقًا بشكل أفضل في القرن الذي جاء بعد زمن داروين، فإن تفسيره لم يصبح أكثر وضوحًا. وقد استمر علماء الأحياء وعلماء الاجتماع في التجادل بشأن التفسيرين اللذين قدمهما داروين. فإما أن الزواج يقلل من احتمالية وفاتك، وإما أن كونك أقل عرضة للوفاة يزيد من فرص زواجك. لقد رأينا أن داروين كان يعتقد أن العامل الثاني أكثر أهمية. إلا أن حجته (لم تُقتبَس بالكامل هنا) كانت أكثر اقتضابًا من أن تكون مقنعة. ومن المستحيل عمليًّا الحصول على أدلة حاسمة في حالة البشر. بالنسبة إلى غير البشر، وجد علماء الأحياء أدلة حاسمة من العديد من الأنواع على أن الأفراد ذوي الجينات المتفوقة هم الأنجح في سوق التزاوج. وهذا يقدم بعض الدعم لتفسير داروين، ولكنه ربما لا يكفي لإقناع المتشككين. من الممكن أنه في حالة البشر، يكون الفرق في معدل الوفيات بين الأفراد المتزوجين وغير المتزوجين نتيجة لكونهم متزوجين، أو على الأحرى في الأزمنة المعاصرة، نتيجةً لكونهم في علاقة ما ربما تكون داخل أو خارج إطار الزواج.
هناك جانب آخر من حجة داروين جدير بالملاحظة: فهو يفترض أن الفرق في معدل الوفيات بين المتزوجين وغير المتزوجين له سبب جيني. لا يمكن للانتخاب الطبيعي أن يؤثر من خلال سوق الزواج إلا إذا فشل الأشخاص الذين لديهم جينات متدنية الجودة في الزواج. من الممكن أن يكون زواج الأشخاص الذين يعانون من اعتلال في الحالة الصحية أقل احتمالية، لكن هذه الفروق الصحية ربما ترجع بالكامل إلى عوامل غير جينية. ومن ثَم فإن سوق الزواج سيكون منحازًا ضد الأشخاص غير الأصحاء، وليس ضد الجينات السيئة. إن من المنطقي أن نفترض أن الجينات لها بعض التأثير على الصحة ومعدلات الوفيات — فلدينا كثير من الأدلة على الأمراض الوراثية، على سبيل المثال — إلا أن هذا يظل افتراضًا. وهو افتراض سيكون من الصعب اختبار صحته. فلا يمكننا إجراء التجارِب التي نحتاجها لإثبات أن الفرق في معدل الوفيات بين المتزوجين وغير المتزوجين ينطوي على عنصر وراثي.
وقد حدد علماء الأحياء أيضًا طرقًا أخرى يمكن أن يؤثر بها الانتخاب الطبيعي على البشر. ثَمة احتمال آخر، بجانب سوق الزواج، وهو الانتخاب في وقت مبكر من دورة الحياة، بما في ذلك الانتخاب من بين الحيوانات المنوية والانتخاب من بين البويضات. تهتم معظم مجالات الطب بالمسنين، وهذا يجعلها غير قادرة على إحداث فرق كبير في كيفية تأثير الانتخاب على المجتمعات الأحيائية. فقد تجاوز المسنون سن الإنجاب. ومن ثَم، إذا أبقى الطب شخصًا مسنًّا على قيد الحياة لمدة عشر سنوات إضافية، فلن يكون لذلك أي تأثير على التركيب الوراثي للمجتمع الأحيائي في الجيل التالي. يكون الطب مهمًّا (في هذه المناقشة) عندما يُبقي على حياة شخص يمكنه التكاثر فيما بعد؛ لذا يمكننا تجاهل كل الأنشطة الطبية التي تُمارس على الأشخاص في سن ما بعد الإنجاب.
قد يحدث جزء كبير من الانتخاب الطبيعي المناهض للجينات السيئة في وقت مبكر جدًّا من دورة الحياة. تُنتج النساء ملايين الخلايا التي يمكنها أن تتطور إلى بويضات، إلا أن عشرات قليلة منها فقط تصبح بويضات. ومن بين تلك التي تتطور إلى بويضات، يُخصَّب عدد قليل منها فقط ويبدأ في التطور. لا يتحول سوى نحو ٣٠٪ فقط من البويضات المخصبة (أي اللاقحات أو الزيجوت بالمصطلحات البيولوجية) إلى أجنة، في حين يهلك ٧٠٪ منها. وبالمثل، يُنتج الرجال مليارات الحيوانات المنوية، ولكن أقلية صغيرة منها فقط، على الأكثر، هي التي تنجح في نقل حمضها النووي إلى الجيل التالي. ثَمة خسائر هائلة تحدث في الحيوانات المنوية والبويضات، وفي المراحل المبكرة من التطور الجنيني. ونحن لا نعرف نسبة الخسارة التي يتسبب فيها الانتخاب الطبيعي، لكننا نعرف بالتأكيد أنه يتسبب في بعضها. ربما يعمل الانتخاب الطبيعي بشكلٍ رئيسي على القضاء على الجينات السيئة وإزالتها من المجتمعات البشرية عن طريق فشل بعض الأمشاج في التحول إلى بويضات مخصبة وفشل بعض البويضات المخصبة في التطور إلى أجنة. ولم يفعل الطب شيئًا تقريبًا للحد من هذا النوع من الوفيات. فإذا كان الطب قد خفض من الانتخاب الطبيعي، فقد فعل ذلك في مراحل لاحقة؛ أي ما بين الولادة (أو قبل ذلك بقليل) والشيخوخة. ومن ثَم، فالانتخاب الطبيعي ربما يؤثر على «الأمم المتحضرة» بنفس الطريقة التي كان يؤثر بها دائمًا أثناء التطور البشري.
خلاصة القول، يظل موضوعُ ما إذا كان الانتخاب الطبيعي قد انخفض تأثيره، أو حتى توقف، لدى البشر بسبب الطب والرعاية الاجتماعية، موضع اهتمام مُلِح. يفترض بعض المؤلفين أن الانتخاب الطبيعي قد انخفض تأثيره لدى البشر. وقد يكونون على حق، وقد يكون البشر (في بعض البلدان) قد انطلقوا في رحلة تطورية فريدة من نوعها، حيث تصبح التسلسلات في حمضهم النووي عشوائية بمرور الوقت. وفي هذه الحالة، فإن الحضارة ستقودنا نحو الانقراض. على أي حال، لسنا على يقين من أن الانتخاب قد انخفض تأثيره لدى البشر. وكما لاحظ داروين، يمكن أن يؤثر الانتخاب عن طريق سوق التزاوج. وهناك احتمال إضافي أن يكون الانتخاب يعمل في المراحل المبكرة من دورة الحياة. وفي هذه الحالة، يمكن للحضارة أن تعبِّر عن «أكثر الأجزاء سموًّا في طبيعتنا»، ولكن دون تخفيف قوة الانتخاب الطبيعي أو التسبب في تدهور تركيبنا الجيني.