الانتخاب الجنسي
فيما يتعلق بالحيوانات التي ينقسم أفرادها إلى جنسين، يختلف الذكور بالضرورة عن الإناث في أعضائهم التناسلية؛ وهذه هي الصفات الجنسية الأساسية. […] في المقابل، ثَمة اختلافات جنسية أخرى غير مرتبطة على الإطلاق بالأعضاء التناسلية الأساسية، وهي تُعَد محور اهتمامنا على وجه الخصوص، مثل الحجم الأكبر والقوة والضراوة التي يتمتع بها الذكور، وأسلحة الهجوم الخاصة بهم ووسائلهم في التميز عن منافسيهم، وألوانهم المبهرجة وغيرها من وسائل الزينة، وقدرتهم على الغناء، وما إلى ذلك من الصفات.
ما يهمُّنا هنا هو الانتخاب الجنسي. وهو يعتمد على الميزة التي يمتلكها بعض الأفراد وتجعلهم متفوقين على باقي الأفراد الذين ينتمون لنفس الجنس والنوع، وذلك فيما يتعلق بالتكاثر فحسب. […] ثَمة العديد من التراكيب والغرائز التي لا بد أن تكون قد تطورت بفعل الانتخاب الجنسي؛ مثل أسلحة الهجوم ووسائل دفاع الذكور التي تمكِّنهم من قتال المنافسين وإبعادهم، وغرائز الشجاعة والضراوة، ووسائل الزينة المختلفة، والطرق التي طوَّروها لإصدار أصوات غنائية أو أصوات أشبه بأصوات الآلات الموسيقية، والغدد المصمَّمة لإفراز الروائح، ومعظم التراكيب الأخيرة تُستخدم فقط بغرض إغراء الأنثى واجتذابها. ومن الواضح أن هذه الصفات نتيجة للانتخاب الجنسي وليس الانتخاب العادي؛ إذ إن الذكور غير المسلحة وغير الجذابة ستنجح بالمثل في معركة البقاء وستتمكن من ترك ذرية، إلا إذا كان هناك ذكور أكثر تميزًا. ويمكننا أن نستنتج صحة ذلك؛ لأن الإناث، على كونها غير مسلحة وغير جذابة، قادرة على النجاة وعلى التكاثر. وسنناقش مثل هذه الصفات الجنسية الثانوية وكل ما يتعلق بها في الفصول الآتية؛ نظرًا لكونها مثيرة للاهتمام في العديد من النواحي، ولكن الأهم أنها تعتمد على إرادة الأفراد من كلا الجنسين واختيارهم وقدرتهم على المنافسة. عندما نشاهد ذكرين يتقاتلان من أجل الاستحواذ على أنثى، أو العديد من ذكور الطيور التي تستعرض ريشها الرائع وتؤدي استعراضات غريبة أمام حشدٍ مجتمِع من الإناث، فإننا لا نملك أن نشك في أنها على الرغم من أنها منقادة عن طريق غريزتها، فإنها تعلم ما هي مُقدِمة عليه وتبذل أقصى قدراتها الذهنية والجسمانية بوعي كامل.
وكما يستطيع الإنسان تحسين سلالات ديوك المصارعة من خلال انتقاء تلك الطيور التي تخرج منتصرة من حلبة مصارعة الديوك، يتضح أن الذكور الأقوى والأكثر عنفوانًا، أو تلك المزوَّدة بأفضل الأسلحة قد سادت بفعل الطبيعة، وأدَّت إلى تحسين السلالة أو النوع الطبيعي. فأي درجة طفيفة من التباين يسفر عنها ميزة، مهما كانت بساطتها، في الصراعات المميتة المتكررة، من شأنها أن تكون كافية لإعمال الانتخاب الجنسي؛ ومن المؤكَّد أن الصفات الجنسية الثانوية متباينة بشكلٍ بارز. وكما يستطيع الإنسان أن يهب الجمال، وفقًا لمستوى ذوقه، لذكور دواجنه، أو على وجه الدقة، يمكنه تعديل سمات الجمال المكتسبة من الأنواع الأبوية، ومنح دجاج «سيبرايت بانتام» ريشًا جديدًا وأنيقًا، ومشية منتصبة مميزة، يتضح أن إناث الطيور الموجودة في البيئة الطبيعية قد أضافت عن طريق الانتقاء الطويل الأمد للذكور الأكثر جاذبية إلى جمالهم أو صفاتهم الجذابة الأخرى. ولا ريب في أن هذا يقتضي وجود قدرات خاصة بالتمييز والذوق عند الأنثى، وهو ما سيبدو أمرًا غير محتمل بالمرة في بادئ الأمر؛ لكن مع الحقائق التي ستُقدَّم لاحقًا، أرجو أن أكون قادرًا على توضيح أن الإناث تتمتع بالفعل بهذه القدرات.
يتمحور الجزء الأكبر من كتاب «نشأة الإنسان» حول نظرية الاختلافات الجنسية، وهي نظرية أطلق عليها هو نظرية الانتخاب الجنسي (ولا يزال هذا الاسم يُطلَق عليها حتى الآن). السؤال الذي صُممت النظرية للإجابة عنه هو: لماذا اكتسب الذكور في العديد من الأنواع سماتٍ تبدو مُضرَّة؛ سمات تقلل من فرصة البقاء؟ يُعَد ذيل الطاووس مثالًا بارزًا على هذه المشكلة. (يُعد «ذيل» الطاووس، بالمعنى الدقيق للكلمة، تطورًا لريش الظهر وليس لريش الذيل؛ لكن من الأسهل الإشارة إليه باسمه الشائع.) الذيل عبارة عن حلية ضخمة ومغالًى فيها. ويُعَد نموه أمرًا مكلفًا؛ فألوانه الزاهية تجذب الحيوانات المفترسة، كما أن حجمه يقلل من كفاءة الطيران. كانت فرصة بقاء الطاووس ستكون أفضل من دونه، ومع ذلك، فقد تطوَّر بطريقة ما.
يبدو أن ذيل الطاووس سمة لا تساعد على التكيف. وقد رأينا في الفصل الأول أن أول اختبار لجأ إليه داروين لتقييم نظرية التطور التي قدمها (أو قدمها غيره) هو معرفة ما إذا كان التطور يفسر التكيف أم لا. تمتلئ الحياة بأمثلة على التكيف؛ وكثيرًا ما استعان داروين بمثال منقار نقار الخشب، ولكننا نستطيع الآن إضافة أمثلة من علم الأحياء الجزيئي أو من مجال السلوك الاجتماعي. لقد اجتاز الانتخاب الطبيعي اختبار داروين الأول لأنه فسر التكيُّف بسهولة.
إلا أن نجاح الانتخاب الطبيعي في تفسير التكيف يمكن أن ينقلب ضده: يبدو أن بعض سمات الكائنات الحية لا تساعدها على التكيف، وهو ما يشير بدوره إلى أن نظرية الانتخاب الطبيعي قد تكون غير صحيحة أو ناقصة بطريقةٍ ما. إذا كان الانتخاب الطبيعي غاية في الفعالية، لَمَا وُجِدت أشياءُ مِثلُ ذيل الطاووس من الأساس. ونظرًا لأن هذه السمات الجنسية المبالغ فيها شكلت تحديًا عميقًا لنظريته، فقد أمضى داروين كثيرًا من الوقت في التفكير فيها وجمع الأدلة عنها. وقد تجسدت ثمار هذا المجهود في ٥٠٠ صفحة أو نحوها من كتاب «نشأة الإنسان».
بدأ داروين بتحديد أنواع السمات التي يركز عليها بشكلٍ أكثر دقة. فميَّز بين الصفات الجنسية «الأساسية» و«الثانوية». (استخدم داروين كلمة «صفة» بالمعنى المتعارف عليه في علم الأحياء. فكلمة «صفة» هنا تعني أي سمة أو خاصية تميز الكائن الحي.) تتمثل الصفات الجنسية الأولية في الأعضاء التناسلية؛ الأعضاء التناسلية الظاهرة والمبيضان والخصيتان. ومن غير المدهش أن تختلف هذه الأعضاء بين الجنسين؛ نظرًا لطبيعة التكاثر الجنسي. فقد تشكلت هذه الأعضاء، خلال عملية التطور، عن طريق الانتخاب الطبيعي العادي. أما الصفات الجنسية الثانوية، فهي أعضاء غير لازمة من أجل التكاثر، إلا أنها تختلف ما بين الجنسين، ويبدو أنها تُستخدم بطريقةٍ ما خلال عملية التكاثر. ويُعَد ذيل الطاووس من الصفات الجنسية الثانوية.
ومع ذلك، لا تشكل جميع الاختلافات الجنسية الثانوية لغزًا أمام نظرية الانتخاب الطبيعي. في جزء لم أضفه ضمن الاقتباس، يناقش داروين عدة أنواع من المشابك التي توجد على وجه الخصوص لدى ذكور الحيوانات المائية مثل بعض أنواع القشريات (المجموعة التي تتضمن الجمبري وسرطان البحر). هذه المشابك عبارة عن تراكيب يستخدمها الذكر للإمساك بالأنثى. ربما يلزم وجود هذه المشابك للحيلولة دون انفصال الذكر والأنثى بفعل التيارات المائية قبل اكتمال الجماع. ومن المحتمل أن يكون شكل المشبك تحدد عن طريق الانتخاب الطبيعي. هنالك أيضًا اختلافات أخرى بين الجنسين تبدو منطقية من وجهة نظر نظرية الانتخاب الطبيعي، وهذه أيضًا ليست محل اهتمام داروين. فقد ناقش كيف تختلف المناقير في الذكور عنها في الإناث في بعض أنواع الطيور (لم يُذكر هذا في الاقتباس أيضًا). ربما يكون ذلك نتيجة لأن كلا الجنسين لهما «أساليب حياة» مختلفة؛ فربما يتناولان أطعمة مختلفة، على سبيل المثال. من الممكن أن تكون مناقير الذكور والإناث قد تشكلت بفعل الانتخاب الطبيعي، وذلك لزيادة كفاءة الأفراد من كل جنس في التغذية. ومع ذلك، فإن الانتخاب الطبيعي لا يفسر جميع الاختلافات الجنسية. فقد تُركنا في حيرة من أمرنا أمام لغز «الضراوة التي يتمتع بها الذكور، وأسلحة الهجوم الخاصة بهم»، و«ألوانهم المبهرجة وغيرها من وسائل الزينة، وقدرتهم على الغناء»، وما إلى ذلك.
بعد ذلك، أشار داروين إلى أن هذه الصفات الجنسية الثانوية ليست ناتجة عن الانتخاب الطبيعي العادي. وقد اعتمد منطقه على شكل الإناث في الأنواع المعنية. إذا كانت بعض السمات الذكورية، مثل القرون أو الريش ذي الألوان الزاهية، ضرورية للبقاء، فلا بد أن توجد لدى الإناث أيضًا. ويشير غياب هذه الصفات عن الإناث (خاصةً بعد أن نظرنا أكثر في نظرية الانتخاب الجنسي) إلى أن الوضع الأمثل لأفراد هذا النوع هو الافتقار إلى القرون أو الريش المزخرف. فالذكور سيتمكنون من النجاة بشكل أفضل من دونها. لكن القوى الخاصة بالانتخاب الجنسي تسببت في تطور هذه الصفات، وهو ما أدى إلى تقليل كفاءة الذكور في الأجزاء غير الإنجابية من الحياة.
ما الانتخاب الجنسي؟ يميز داروين بين نوعين رئيسيين، يشار إليهما الآن بالمنافسة بين الذكور واختيار الإناث. قد يتقاتل الذكور مع بعضهم من أجل الاستحواذ على الإناث. ومن ثَم تزداد احتمالية تكاثر الذكور الأقوى أو الذين لديهم أسلحة أكثر تفوقًا. وعلى مر الأجيال، تطور الذكور أسلحة أقوى شيئًا فشيئًا. ويمكن أن تكون الأسلحة مفيدة تمامًا حتى لو كانت مرهِقة للغاية لدرجة أنها تقلل من معدل نجاة الذكور. في سياق التطور، يمكن تعويض انخفاض احتمالات البقاء من خلال زيادة فرص الإنجاب. فإذا كانت الأسلحة الأكبر حجمًا تقلل من فرصة نجاة الذكر إلى النصف لكنها تُضاعف فرصته في التكاثر بمقدار ثلاثة أضعاف، فسوف تتطور. ومن ثَم، فإن التنافس بين الذكور يمكن أن يبرر بعض الصفات الجنسية الثانوية التي تبدو مناهضة للتكيف.
الأعضاء المستخدَمة في المعارك بين الذكور تتناسب مع وصف داروين للانتخاب الجنسي. يذكر داروين أن تأثير الانتخاب الجنسي يحدث نظرًا لأن بعض الأفراد يتمتعون بصفات تميزهم عن غيرهم من الأفراد الذين ينتمون للجنس نفسه والنوع نفسه خلال عملية التكاثر. في الفصل الثاني، رأينا كم كان تفكير داروين مميزًا حين رأى المنافسة (الصراع من أجل البقاء، على حد تعبيره) تحدث بين الأفراد داخل النوع الواحد. ونظريته في الانتخاب الجنسي لا توضح الموضوع نفسه فحسب، بل تذهب لما هو أبعد من ذلك بخطوة. لا تحدث المنافسة داخل النوع الواحد فحسب. إذا كانت إمدادات الموارد الغذائية قليلة، فسيتنافس الفرد على الطعام عادةً مع جميع أفراد نوعه، وربما يتنافس مع بعض الأفراد المنتمين لأنواع وثيقة الصلة. هذه المنافسة — من أجل البقاء — لا تتأثر كثيرًا بكون الفرد ذكرًا أو أنثى في معظم الحالات. أما التنافس من أجل التكاثر، فيتأثر بالجنس بشكلٍ كبير. لا يتنافس الذكور مع الإناث لاختيار من ينجح في إنتاج النسل؛ بل يتنافس الذكور مع الذكور فقط.
من الناحية الجينية (التي لم تكن متاحة لداروين) يمكننا القول إنه من بين جميع الجينات التي ينقلها أحد الأجيال إلى الجيل الذي يليه، تُنقل نصف الجينات عن طريق الذكور، والنصف الآخر عن طريق الإناث. لا يمكن لأي فعل ذكوري أن يجعل جينات الذكور بديلة عن جينات الإناث في عملية التناسل. وإذا كان الذكر مقاتلًا قويًّا، يمكنه زيادة حصته من الجينات الذكرية التي تنتقل للجيل التالي؛ لكن أي قدر من القتال لن يتيح له أخذ أي حصة من نصيب الأنثى. ومن هذا المنطلق، فإن التنافس من أجل التكاثر ينحصر داخل كل جنس في كل نوع. اختلف داروين عن معظم معاصريه، عندما اقترح أن المنافسة تكون بين الأفراد داخل النوع الواحد، وليس بين الأنواع أو حتى بين النوع والطبيعة الجامدة. لكن في نظريته حول الانتخاب الجنسي، لا تحدث المنافسة داخل النوع الواحد فحسب، بل داخل جنس معين (الذكور أو الإناث) في هذا النوع.
آلية داروين الثانية للانتخاب الجنسي هي اختيار الإناث. يمكن للتنافس بين الذكور تفسير وجود الأعضاء الجنسية الثانوية التي تلعب دورًا في القتال. ومع ذلك، فإن الذكور في بعض الأنواع لديهم أيضًا سمات جمالية، مثل ذيل الطاووس، وهذه السمات قد تكون أسوأ من مجرد كونها عديمة الفائدة في القتال. ولهذه الأسباب، طرح داروين فرضيةً أكثر جرأة: تمامًا كما طوَّر البشر اصطناعيًّا دواجن ذات سمات جمالية معينة، فإن «إناث الطيور الموجودة في البيئة الطبيعية قد أضافت عن طريق الانتقاء الطويل الأمد للذكور الأكثر جاذبية، إلى جمالهم أو صفاتهم الجذابة الأخرى». أدرك علماء الطبيعة قبل داروين أن الذكور يتقاتلون من أجل الحصول على الإناث، ولكن لم يُلمِح أحدهم إطلاقًا إلى شيء يشبه نظرية داروين حول اختيار الأنثى من قبل.
وبالمثل، بعد داروين، وافَق علماء الأحياء عمومًا على أن بعض السمات الذكورية، مثل القوة وامتلاك الأسلحة، ترجع إلى المنافسة بين الذكور. ولكن فرضيته حول اختيار الأنثى كانت أكثر إثارة للجدل. يرجع أحد الأسباب إلى أن داروين عبَّر عن فكرته من منظور الاختيار الجمالي الواعي، وهو موضوع سأعود إليه لاحقًا. ويرجع سبب آخر إلى أنه من غير الواضح، إذا نظرنا إلى الأمور من منظور داروين، لماذا تطورت الإناث من الأساس لتختار الذكور الأكثر جاذبية بالطريقة التي يقترحها داروين. فإذا كانت أنثى الطاووس في الواقع تفضل التزاوج من الطاووس الذي لديه ذيل أكبر حجمًا أو أزهى ألوانًا، فإن ذلك يساعد في تفسير سبب امتلاك الذكور لهذه السمات الجمالية. وبالنسبة إلى الذكور، يُعوَّض انخفاض فرص بقاء الذكور نتيجة امتلاك ذيل ضخم الحجم بالنجاح الفائق في التكاثر. ومن ثَم ستتطور هذه السمات، بفعل الآلية القياسية التي وصفها داروين.
لكن النقاش أثار على الفور التساؤل الآتي: لماذا فضَّل الانتخاب الطبيعي الإناث التي تختار ذكورًا لديها ذيول ضخمة وملونة تقلل من فرص بقائها؟ ولكي تتطور هذه القدرة على الاختيار، كان لا بد أن تترك الإناث التي كانت انتقائية في اختيارها ذريةً أكبر من الإناث التي تزاوجت بشكلٍ عشوائي. ولكي تظل سمة الاختيار موجودة حتى الآن، لا تزال الإناث في حاجة إلى جَنْي بعض المزايا منها. لم يناقش داروين هذه المسألة. فهو بطريقة ما، لم يكن مضطرًّا إلى ذلك. إذا كانت الإناث تختار الذكور ذات الذيل الملون، فستتطور الذكور لتصبح ملونة الذيل. إذَن فسمة الألوان قد فُسِّرَت (على نحو مشروط). للحصول على أي تفسير، يمكنك دائمًا طرح سؤال «لماذا» الذي يعيد المسألة خطوة إلى الوراء — ولا يعيب النظرية أن توقف دورها التفسيري عند مرحلة معينة.
لكن، عندما يتعلق الأمر بمسألة اختيار الإناث والتراكيب المكلفة المبالغ فيها كذيل الطاووس، يصبح السؤال مُلِحًّا على نحوٍ خاص. لم يكن لدى داروين أي دليل على اختيار الأنثى. في الواقع، لم يثبت علماء الأحياء إلا مؤخرًا (في التسعينيات من القرن العشرين) أن أنثى الطاووس تتزاوج بشكلٍ تفضيلي من الذكور ذات الذيول الأكبر حجمًا والأزهى ألوانًا. علاوةً على ذلك، فإن فرضية الاختيار التي وضعها داروين تنطوي على مفارقة محيرة. فالأنثى تختار الذكر الذي لديه سمة تقلل من فرص بقائه. وإذا كان الأمر كذلك، فستُورث السمة لأبنائها وتقلل من فرص بقائهم. ومن ثَم، إذا اختارت الأنثى شريكًا للتزاوج أقل جمالًا، فسيحظى أبناؤها بفرصة أفضل للبقاء وسيزداد نتاجها التناسلي. يبدو أن الانتخاب الطبيعي له تأثير معاكس لاختيار الأنثى الذي افترضه داروين.
استحوذت هذه المسألة؛ أي تطوُّر اختيار الأنثى للذكر، على تفكير علماء الأحياء قرابة قرن من الزمان. اقترح آر. إيه. فيشر أحد الحلول عام ١٩١٦. أشار إلى أن اختيار الأنثى للذكر من الممكن أن يتطور خلال «عملية تطور جامح» ينتج عنها اختيار الذكور المفرطة الزينة. بمجرد أن تختار جميع الإناث في جماعة ما بطريقة معينة، فإن تفضيل الأغلبية يكون بمثابة نوع من الفخاخ التي لا يمكن لأيِّها الفكاك منها. إذا اختارت إحدى الإناث ذكرًا يتمتع بمظاهر زينة أقل، فسيكون لدى أبنائها بالفعل فرصة أعلى للبقاء؛ ولكن عندما يكبرون سيكونون في مجتمع تتحيز فيه معظم الإناث ضد الذكور التي تتمتع بمظاهر زينة أقل. ومن ثَم، يجب على كل أنثى أن تختار رفيقًا مُفرِط الزينة، من أجل إنجاب أبناء ينجحون لاحقًا في التزاوج.
نوقشت فكرة فيشر كثيرًا. ولا يزال بعض علماء الأحياء يدعمونها، وبعضهم يرفضها، وكثير منهم غير متأكدين من صحتها أو خطئها. تقترح أفكار أخرى أن مظاهر الزينة التي تتطور لدى الذكور تكشف سمات مرغوبًا فيها مثل جودة الجينات أو مقاومة الأمراض. ويمكن للأنثى التي تختار رفيقًا يتمتع بمظاهر زينة مُفرِطة أن تنتج ذرية سليمة ذات جودة عالية في جيناتها مثل الأب. ظلت هذه الأفكار محل جدل. في المجمل، لا يزال مفهوم اختيار الأنثى للذكر، كما اقترح داروين، أفضل تفسير لسمات الذكور الجمالية التي لا تلعب دورًا في المنافسة بين الذكور. والآن لدينا دليل، كان داروين يفتقر إليه، يفيد بأن الإناث في الواقع تكون متحيزة عند التزاوج، وتفضل أنواعًا معينة من الذكور. ومع ذلك، فإن اللغز المتعلق بالسبب الذي يجعل الإناث في بعض الأنواع تفضل الذكور ذوي السمات الجمالية المبالغ فيها؛ أي لغز تطور اختيار الإناث للذكر، لم يُحَل بعد. اقتُرحت ودُرِست أفكار جيدة، ولكن لم يحظَ أيٌّ منها بقبول واسع بين علماء الأحياء.
السمة الأخرى المثيرة للجدل في نظرية داروين هي أنه عبَّر عنها من منظور القوى العقلية الواعية. «عندما نشاهد ذكرين … أو العديد من ذكور الطيور التي تستعرض ريشها الرائع وتؤدي استعراضات غريبة أمام حشد مجتمِع من الإناث، فإننا لا نملك أن نشك في أنها … تعلم ما هي مُقدِمة عليه وتبذل أقصى قدراتها الذهنية والجسمانية بوعي كامل.» وبالمثل، اعتقد داروين أن اختيار الأنثى للذكر اختيار واعٍ، مبني على «وجود قدرات خاصة بالتمييز والذوق». عندما كتب داروين «لا نملك أن نشك …» كان يذكر شيئًا سرعان ما شكَّك فيه علماء الأحياء وعلماء النفس بشدة. ففي مطلع القرن العشرين بدأ تأسيس علم السلوك. وقد كان، عمليًّا، مبنيًّا على رفض أفكار مثل أفكار داروين، حول الوعي الحيواني. فقد أدرك العلماء أن السلوك الذي يبدو معقدًا، مثل اختيار شريك للتزاوج، يمكن أن ينتج عن آليات بسيطة. ورفض علماء السلوك المحدثون في القرن العشرين فكرة امتلاك قوًى عقلية «عليا» مثل التفكير الواعي.
وقد أتى الرفض على صورتين. بالنسبة إلى بعض العلماء، كان الرفض منهجيًّا. من المستحيل دراسة الوعي علميًّا عند الحيوانات. ومن ثَم، فإننا نتجاهله لأغراض علمية. وندرس جوانب السلوك الأخرى التي يمكن استخدام المناهج العلمية فيها. ربما يستخدم غير البشر التفكير الواعي، وربما لا يفعلون ذلك؛ ولكننا لسنا مضطرين للإجابة عن هذا السؤال من أجل تحقيق أنواع مختلفة من التقدم العلمي. اتخذ علماء آخرون موقفًا أكثر تشددًا، وجادلوا بأن الوعي يقتصر على البشر. وفي كلتا الحالتين، بالعودة لكتابات داروين، نجد أن صياغته تبدو غير موفَّقة. من المهم ملاحظة أن حججه الرئيسية لم تقم على فكرة وجود وعي لدى الحيوانات غير البشرية. ومن الواضح أنه اعتقد أن الطيور وأشكال الحياة الأخرى تبذل جهودًا واعية مثلنا. لكن حتى وإن لم تكن تفعل، تظل ملاحظات داروين صحيحة. وسواء أكانت الذكور التي تستعرض نفسها تسعى بوعي أو بغير وعي إلى إقناع الإناث والتفوق على الذكور الأخرى، فستكون النتيجة التطورية لذلك أنواع الأعضاء الذكرية التي نراها ونرغب في تفسير وجودها. وسواء أكانت الإناث تختار شركاء التزاوج بإصدار أحكام جمالية واعية أو آليات اتخاذ قرار غير واعية، فإن عملية الاختيار، بطريقة ما، ستفسر سمات معينة للذكور. وهكذا، فإنَّ فهمنا الحديث للسلوك الجنسي يختلف من إحدى النواحي عن فهم داروين. بالنسبة إلى داروين، كان التزاوج في العديد من الحيوانات، بما في ذلك الطيور وربما حتى الحشرات وكذلك البشر، عالمًا من التنافس الواعي والاختيار على أسس جمالية. أما بالنسبة إلى معظم المفكرين المعاصرين، فإن استعراض الذكور واختيار الإناث أمر آلي. فقد استُبعدت تصريحات داروين حول الوعي من التفسيرات الحديثة للانتخاب الجنسي، على الرغم من أن نظريته لا تزال تُستخدم لتفسير الاختلافات بين الجنسين، بما في ذلك الصفات الغريبة مثل ذيل الطاووس. من هذا المنطلق، نستطيع أن نقول إن داروين قد ابتكر نظرية ناجحة للغاية. لكن الطريقة التي تُستخدم بها النظرية في أيامنا هذه تتجاهل عاملًا واحدًا — أي الوعي — هذا العامل كان حاسمًا بالنسبة إلى داروين.