تقديم الكتاب
مُؤلِّف هذا الكتاب «أريك فروم» عالِم نَفسانِي دَرَس علوم الاجتماع والنفس في جامعات ألمانيا، وكرَّس حياته للبحث في هذه العلوم منذ عام ١٩٢٦م. وهو اليوم مُواطن أمريكي يتنقَّل بين جامعات أمريكا المختلفة لإلقاء المحاضرات.
وكتابه هذا «المجتمع السليم» يُناقش مشكلة الإنسان الحديث في مُجتمَع يُركِّز كل هَمِّه في الإنتاج الاقتصادي، ولا يَعبأُ بتنمية العلاقات الإنسانية الصحيحة بين أفراد المجتمع، حتَّى فَقَد الإنسان مكانةَ السيادة في المجتمع، وأصبح خاضعًا لمختلف العوامل يتأثَّر بها ولا يُؤثِّر فيها. ذلك أنَّ الإنسان الحديث في رأي أريك فروم قد خَلَق لنفسه عالَمًا من النُّظم المختلفة، ثمَّ فَصَل نفسه عن هذه النُّظم، فلم يَعُد جزءًا منها، مُنسجِمًا معها، بل باتت على كاهله عبئًا ثقيلًا، كما فَصَل نفسه عن إخوانه في الإنسانية، وعن الأشياء التي يستخدمها ويستهلكها، وعن الحكومة التي تُدبِّر له أمره، بل لقد انفصل عن نفسه. وأمسى «شخصية مسيَّرة» ليس له أن يختار. وإذا سارَت الأمور على هذا النَّسق بغير إصلاح فسينتهي الإنسان حتمًا — كما يرى المُؤلِّف — إلى مجتمع مختلٍّ في توازنه وفي عقله — إن كان للمجتمع عقل — وكل فرد في هذا المجتمع ذَرة منفصلة لا يمسكه بغيره رباط.
فماذا عسانا نفعل في هذا الجو الفاسد المضطرب؟ لقد فَشِل النظام الرأسمالي، كما فشلت الاشتراكية المادية في رد المجتمع إلى صوابه والفرد إلى طمأنينته. ولا يبشر بحل الأزمة الإنسانية التي نمرُّ بها إلَّا أن ننهج طريقًا آخر، لا هو طريق الرأسمالية، ولا هو طريق الاشتراكية المادية. إنَّه طريق «الاشتراكية الاجتماعية» كما يُسمِّيها مُؤلِّف الكتاب، ويُسهب في شرحها، وبيان ما يقصده من ورائها. فهذه الاشتراكية الجديدة هي التي تكفُل للمجتمع سلامة العقل، ولا تجعل الفرد وسيلة لتحقيق أغراض غيره من الناس. وفي هذا المجتمع الجديد يتركَّز الاهتمام في النواحي الإنسانية، وتخضع جميع النواحي الاقتصادية والسياسية والثقافية لهدف واحد؛ هو نمو الإنسان. ويُفيض المُؤلِّف في تحليل هذا الرأي، ثمَّ يختتم كتابه باقتراحات عملية في الإصلاح الاجتماعي الذي يرمي إلى القضاء على هذه الحياة الآلية التي نحياها، وينتهي بنا إلى مجتمع سليم العقل، كل فرد فيه إنسان مُنتِج مسئول.
وقد صدر هذا الكتاب في عام ١٩٥٦م، ويُعتبر مُتمِّمًا لكتاب آخَر لنفس المُؤلِّف عنوانه «الخوف من الحرية» أخرجه قبل هذا بنحو خمسة عشر عامًا. وفي كتاب «الخوف من الحرية» حاول أريك فروم أن يُبيِّن أنَّ حكم الاستبداد يتَّفق مع ميل عميق في نفس الإنسان إلى الفرار من الحرية التي تحقَّقت للناس في العصر الحديث. ويرى المُؤلِّف أنَّ الإنسان الحديث الذي تحرَّر من قيود العصور الوسطى لم يتحرَّر لبناء حياة جديدة لها معنًى وتقوم على أساس العقل والمحبة. ومن ثمَّ فهو يبحث عن وسيلة من الوسائل تكفُل له الأمن وطمأنينة النفس، ويلتمس هذه الوسيلة في خضوعه لزعيم قوي أو لدولة مُتحكِّمة أو لاتجاه عنصري.
وفي كتاب «المجتمع السليم» يُحاول أريك فروم أن يُبيِّن لنا أنَّ الحياة في ديمقراطية القرن العشرين ما هي إلَّا مُحاوَلة التهرُّب من المسئولية التي أَلقَت بها الحرية على عواتقنا بِشتَّى الطُّرق والوسائل. ويشغل حيزًا كبيرًا من الكتاب في تحليل طرق الهروب المختلفة التي تتركَّز كلها حول فكرة الحياة الانفصالية التي يحياها إنسان العصر الحاضر. والتي يعيش فيها منفصلًا عن رغباته الحقيقية وطبيعته الإنسانية.
والفكرة الأساسية التي تسود كل ما ألَّف فروم من كُتب ورسائل هي أنَّ الميول الأساسية للإنسان لا تنبثق من غرائزه كما يزعم فرويد ومن لَفَّ لفه من علماء النفس، وإنَّما تنبثق من الظروف الخاصة بالوجود البشري، وهي الظروف التي عزلته عن بقية الكائنات لِمَا اتصف به من وعي ويقظة وعقلية، وأرغمته على البحث عن علاقة جديدة تربطه بالطبيعة، بعد ما فقد العلاقة الأولى التي كانت قائمة في المرحلة الحيوانية التي سبقت ظهور البشرية.
ويُمكن تحليل البحث الذي يُقدِّمه فروم في هذا الكتاب إلى ثلاث مراحلَ؛ في المرحلة الأولى يُشخِّص أمراض المجتمع ويعرض علينا ما يراه فيه من عِللٍ وعيوبٍ، وفي المرحلة الثانية يشرح المؤلف ما ارتآه الإنسان من حلول للمشكلات التي يُعانيها؛ وهي حلول تتركَّز كلها حول إصلاح النظام الرأسمالي، وقيام الحكم الدكتاتوري، والأخذ بمبدأ الاشتراكية المادية. وكلها حلول عرجاء لا تُعالج المشكلة من أساسها. ثمَّ يتقدَّم المُؤلِّف في المرحلة الثالثة بما يراه من أسباب العلاج في ميادين الاقتصاد والثقافة والسياسة. ويرى أنَّ الإصلاح ينبغي أن يعمَّ هذه الميادين جميعًا في وقت واحدٍ؛ لأنَّ التقدُّم في ناحية واحدة هادِم للحياة في النواحي الأخرى.
وقد رأيت أن أنْقُل ما حوَى هذا الكتاب من آراء إلى اللغة العربية، مستهدفًا تفسير ما غمض وتبسيط ما تعقَّد، مُستخلِصًا النظريات دون التفصيلات، والجواهر دون الأعراض. وسيجد القارئ فيما نُقدِّمه إليه مجموعة من الآراء الحديثة الجريئة التي تُحفِّزه إلى التفكير في نفسه وفي حياته وفي المجتمع الذي يعيش فيه.
نفعنا الله بكل علمٍ صحيحٍ، ونسأله الهدايةَ والتوفيق.